لا أبالغ إذا قلت إن كثيراً من البرامج التي تقدمها فضائيات العالم العربي إعلام مسموم غايته ترسيخ المعلومات المزيفة، وزرع أفكار ومعتقدات خطيرة ومؤذية في عقول ونفوس المشاهدين. غير أن مُقدم البرنامج ليس وحده المسؤول عن هذا الانحطاط، بل هناك شبكة ذات نفوذ كبير توجه الإعلام إلى الانحطاط، معتمدة على أشخاص ارتضوا أن يكونوا خدماً لأصحاب وممولي تلك البرامج.
في الواقع ترددت أن أكتب عن تلك البرامج لكن لاحظت أن الكثيرين يتابعونهم ويتأثرون بها بل يطلبون رأيهم في مشاكل شخصية جداً (مثلاً زوجة تسأل مقدمة البرنامج السيدة ياسمين عز التي تقدم برنامج – كلام الناس – على MBC مصر): “هل زوجي يحبني؟” ياسمين عز سيدة جميلة جداً تملك كاريزما بسبب طريقتها في الكلام إذ تبدو واثقة جداً من نفسها ودوماً تقول إنها تعتمد على مراجع علمية – لكنها ولا مرة قالت اسم المرجع – تقدم برنامج – كلام الناس – الذي هو بإختصار تحقير لإنسانية المرأة (قبل أنوثتها)، وإعلاء كبير للرجل الذي تسميه فرعون، للأسف لديها متابعين خاصة من النساء اللاتي تقدم لهن نصائح تدعي أنها مثبته علمياً دون أي إثبات. على سبيل المثال، في إحدى حلقاتها تحدثت بحماسة أن أكبر خطر على العلاقة الزوجية أن تقدم الزوجة صحن السلطة للزوج وقد خلطت البندورة (المؤنثة) مع الخيار (المذكر)، وأن لديها مراجع علمية حديثة تؤكد كلامها لكن لا مجال لذكرها الآن. تستفيض مي عز بشرح خطورة تقديم صحن السلطة بخلط البندورة (المؤنثة) مع الخيار (المذكر). كلام لا يقبله عقل ولا منطق، ومع ذلك تلك الحسناء مي عز تدعمها شبكة إعلامية مهمة (MBC مصر)، وأفترض أن المسؤولين عن برنامجها يُعدون لها الحلقات، التي تُقدمها بحماسة معتمدة على جمالها وأنوثتها وصباها. تقول مي للمرأة: “عليك أن تطيعي فرعونك (قصدها الرجل الزوج) وتحثها من باب الواجب أن تستيقظ كل ربع ساعة في الليل لتُقبل زوجها من رأسه! لم تذكر بضرورة وجود منبه! ومن حسن الحظ أنها اختارت رأس فرعون (الزوج لتقبيله بدل عضو آخر!). مي عز تعتمد على الاستفزاز، وحده الاستفزاز يصطاد الناس ويوقعهم في شباك التفاهة والتخلف واللا منطق. وهفي كل حلقاتها تلقي اللوم على الزوجة، فمثلاً تقول للزوجة: “عيب عليك تقولي لفرعونك يكفي ما أكلت، عيب دعيه يأكل ومحل ما يسري يمري، وصحة وهنا على قلبك.” يعني مش مهم أن كان الزوج يشكو من ارتفاع الكولسترول أو سكر الدم أو أمراض أخرى، فالزوجة يجب أن تبتهج أن فرعونها يأكل حتى لو أكل خروفاً، حتى لو تسبب الأكل في موته مثلاً!
المُخزي أن كثيراً من الإعلاميين المشهورين والمعروفين بتنورهم طلبوا إجراء حوار مع (مي عز) ربما لإحراجها في المواضيع التي تطرحها أو لسؤالها عن المراجع العلمية التي تعتمد عليها دون ذكرها علناً. وكم أحسست بالخيبة حين دعاها نيشان (وهو مُعد برامج عديدة وإعلامي له تاريخ مهني مُشرف) إلى برنامجه (في دبي)، حيث احتشد الناس في القاعة لكن مي عز لم تأت! لم تحترم الجمهور ولا نيشان اكتفت بأن تحججت بوجود أسباب منعتها. هذا الغياب استفز نيشان للتحدث عن عدم احترامها للناس، وقال كلاماً عنها لا أريد ذكره؛ فرفعت مي عز دعوى تشهير بها ضد نيشان في دبي وربحت الدعوى. وأجرت حلقة خاصة تتباهى فيها أن القضاء العادل في دبي أنصفها. هنا لا يُمكن أن نتجاهل أي قضاء ينصف ويدعم دجالة ومحتقرة للمرأة، لكن القضاء الإماراتي وقف إلى جانب مي عز. وكم أحس بالذهول حين يُفتح باب الأسئلة وتبدأ السيدات بسؤال مي عز: “هل زوجي يحبني؟”، “هل أسامحه على خيانته؟” ومي عز تسامح الرجل (الفرعون على خيانته) وتقول بحماسة: “احتياجات زوجك غير احتياجاتك والزمي الصمت وإياك أن تعاتبيه كي لا يُطلقك.”
بالتأكيد لا أستطيع تغطية برامج ترسيخ التخلف والعودة إلى عصر الجواري؛ فهناك أكثر من مئتي قناة دينية واجتماعية تقدم إعلاماً مسموماً، ثمة برنامج يقدمه شيخ يبدو ورعاً ويدعو إلى الفضيلة، وفي كل حلقة يتناول موضوعاً (بالغ الأهمية برأيه). الحلقة التي قدمها لمدة ساعة لجمهوره العريض المسحور بكلامه وخشوعه المنافق كان عنوانها (القبلة) وبدأ كلامه بالأسف الشديد على الانحطاط الأخلاقي في الوسط الفني وتأثير هذا الانحطاط في جيل من الشباب والشابات ودفعهم إلى الرذيلة. واستهجن بشراسة تبادل القبل بين الممثلين وقال هذا “عهر،” وأكمل بسر خطير مدعياً أن الممثلين الرجال يقولون عن الممثلات النساء اللواتي يقبلن تبادل القبل مع الممثل الرجل (عاهرات)! وإن عادل إمام الذي تبادل القُبل مع كل الممثلات رفض أن تدخل ابنته الوسط الفني لأنه وسط عاهر يسمح بالتعري والإغراء والقُبل.
لو يسأل أحد هذا الشيخ ما رأيه بالعظيمة فاتن حمامة أو شاديا وغيرهن ماذا سيقول عنهن! فاتن حمامة أثرت في أجيال من نساء في عمرها وحتى أثرت في المراهقين وبينت لهم معنى الكرامة واحترام المرأة. فيلمها الرائع (الخيط الرفيع) الذي أبدعت فيه في طرح تنمر الزوج وإذلاله لزوجته بعدم منحها الطلاق أثار موجة من الحماسة والفكر واستطاعت العديد من الزوجات الحصول على الطلاق بسبب الحماسة والحق الذي ولده في أنفسهن ونفوس القضاة هذا الفيلم. كانت فاتن حمامة تسمح بالقبلة مع العديد من الممثلين (عمر الشريف، محمود ياسين، أحمد مظهر..) لكنها بقيت مُجللة بكرامتها. غاية الفن التعبير الصادق عن الحياة، ليس من الطبيعي أن عاشقين لا يتبادلان الُقبل. قدم الشيخ المنافق الدجال مدعي العفة والوقار حلقة كاملة عن (القبلة)، وليته تكلم في هذه الساعة عن جوع وعطش وموت أطفال غزة وما يحصل في غزة، ليته تكلم عن البطالة لدى الشباب والفقر وعدم قدرتهم على الزواج.
الخطورة الأكبر في الإعلام المسموم الذي يريد إعادة المرأة إلى عصر الجواري هو الذي تقدمه امرأة مثقفة حاصلة على دكتوراة في علم الاجتماع وفي الفقه الديني ثيابها أنيقة تتحدث ببراعة وخبث. سألتها شابة (البرنامج يسمح بالأسئلة) وصوتها يرتجف من الألم: “أنا مهندسة متزوجة منذ خمسة عشرة عاماً تجمعني بزوجي قصة حب، ولدينا طفلان أصبحا في سن المراهقة، حدث أن توفي زوج ابنة خالتي ففوجئت أن زوجي تزوج ابنة خالتي بعد أشهر قليلة لا تتخيلي جرح كرامتي وألم أولادي، أطلب نصيحتك؟” وكانت نصيحة السيدة الحاصلة على دكتوراه في علم الاجتماع: “زوجك رجل عظيم عليك أن تشكريه فهو يحمي امرأة وحيدة أرملة من الرذيلة ويعتني بأطفال أيتام”. وتم قطع الاتصال حين صرخت الزوجة المجروحة: “وكرامتي!.”
الإعلام المسموم هدفه سحق كرامة المرأة وتشكيكها بنفسها وقدراتها، وإقناعها أنها كي تعيش بسلام وسعادة عليها أن تطيع السيد، الفرعون، الرجل وأن تتقبل خياناته كأنها نكته لأن حاجات الرجل الجنسية أقوى من حاجات المرأة. مع العلم أننا درسنا في الطب أن غريزة الرجل الجنسية مساوية تماما لغريزة المرأة، وأحب أن أشير إلى كتاب رائع كتبته الطبيبة الأميركية إيدا لوشان تُرجم إلى العربية بعنوان (أزمة منتصف العمر الرائعة) تتحدث فيه كيف أن الرجل يتأثر كثيراً بأزمة منتصف العمر حيث ينخفض هورمون التستوستيرون (الهورمون الذكري) إلى النصف، لذا يلجأ لإقامة علاقات مع شابات في العشرينات ليوهم نفسه أنه مازال في أوج الوهج الجنسي، أتمنى لو تخصص حلقات لهكذا كتاب رائع في الفضائيات بدل نماذج الحلقات الطاغية المذكورة أعلاه.
لطالما شكَّلت صناعة الآلات الموسيقية التقليدية جزءاً حميمياً ومميزاً من التراث الشعبي، المحفور في وجدان السوريين وذاكرتهم الجمعية، ومعلماً هاماً من المعالم الثقافية والفنية في سوريا، التي تزدان أسواقها الشعبية القديمة، وخاصة في دمشق وحلب، بالعديد من محلات بيع الآلات الموسيقية، وعلى رأسها آلة العود التي أدرجت منظمة اليونسكو صناعتها على قائمة التراث اللامادي، كونها صناعة عريقة وأصيلة، تعود بدايتها لنهايات القرن التاسع عشر، وتُعد من أبرز الهويات الثقافية السورية. ولكن، وبعد ما فرضته سنوات الحرب الطويلة وتبعاتها، باتت صناعة الآلات الموسيقية التقليدية تواجه الكثير من الصعوبات والتحديات التي أثَّرت بشكلٍ كبير على تاريخها العريق، وعلى كميات إنتاجها وجودة صناعتها، وحجم انتشارها عربياً وعالمياً.
خلال سنوات الحرب تعرض الكثير من ورش صناعة الآلات الموسيقية لأضرار بالغة أوقفتها عن العمل، وخاصة في مدينة حلب، ومناطق جوبر وزملكا وداريا في ريف دمشق، التي كانت تضم عشرات الورش، فيما خسرت تلك الصناعة عدداً كبيراً من أمهر الصناع والأيدي العاملة الخبيرة، الذين غادروا البلاد لينقلوا خبراتهم إلى الخارج وليفتتح بعضهم ورشاً بديلة في أماكن إقامتهم الجديدة، في بعض البلدان العربية وتركيا وكندا وبعض بلدان أوروبا وغيرها.
وتعاني معظم الورش التي تمارس عملها اليوم من صعوبات عديدة، قد تُجبر بعضها على التوقف عن العمل، ومن أبرزها صعوبة توفير الأخشاب، حيث أدت العمليات العسكرية، التي شهدتها البلاد خلال سنوات الحرب، لاقتطاع وإحراق الكثير من الأشجار والبساتين والمساحات الخضراء، بالإضافة لإحراق وتدمير عددٍ من مستودعات الأخشاب، وخاصة في منطقة غوطة دمشق التي كانت تَمدُّ الصُناع بأجود أنواع الأخشاب، فيما تعرض جزء كبير من أشجار البلاد، خلال السنوات الماضية، لعمليات القطع الجائر، سواء من قبل الباحثين عن حطبٍ للتدفئة، في ظل أزمة الوقود المستمرة منذ سنوات، أو من قبل تجار الحطب الذين انتشرت أسواقهم في عموم البلاد، هذا عدا عن الحرائق الطبيعية التي التهمت مساحات واسعة من الأحراش والغابات السورية. كل ذلك أدى إلى فقدان معظم أنواع الأخشاب التي تحتاجها صناعة الآلات الموسيقية، والتي تؤثر في نوعية صوت الآلة وجودتها ومتانتها، وخاصة أخشاب الجوز والزان والمشمش، التي ارتفعت أسعارها اليوم، في ظل ندرة توفرها، إلى أرقام خيالية قد يعجز بعض الصناع عن توفيرها، إذ وصل سعر المتر المكعب من خشب الجوز إلى 25 مليون ليرة، وتجاوز سعر المتر المكعب من خشب المشمش والزان حاجز الـ 15 مليون ليرة.
وبالإضافة لصعوبة توفير الأخشاب، تُشكل صعوبة استيرادها من الخارج تحدياً إضافياً لصُناع الآلات الموسيقية وللمهنة بشكلٍ عام، وذلك نتيجة ارتفاع أسعارها بشكلٍ كبير في دول المنشأ، مُقارنة بقيمة الليرة السورية، هذا إلى جانب ارتفاع تكاليف شحنها، في حال أمكن ذلك، وصعوبة إيصالها إلى سوريا التي تشهد ركوداً في حركة الإستيراد والتصدير، في ظل الواقع السياسي الذي تعيشه والعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
صعوبات ومعاناة أخرى
إلى جانب معاناتهم في توفير الأخشاب، يواجه صُناع الآلات الموسيقية معاناة كبيرة مع الانقطاع الطويل للكهرباء، التي قد لا تأتي سوى أربع ساعاتٍ في اليوم، والتي أدت إلى شلل حركة العمل في ورشاتهم لتصبح شبه عاطلة عن الإنتاج. وبما أن تلك الورش تحتاج لتشغيل المنشار الكهربائي وأدوات القص والجلخ وغيرها من المعدات الثقيلة، فإنها ستحتاج للاستعانة بمولدات الكهرباء ذات الاستطاعة العالية، والتي ارتفعت أسعارها لأرقام كبيرة جداً. وفي حال توفرت المولدة فسيكلف تشغيلها مبالغ مالية كبيرة، في ظل ارتفاع أسعار الوقود الذي سيتم شراءه من السوق السوداء. ومن أراد اللجوء لتركيب أنظمة الطاقة الشمسية، التي انتشرت في سوريا مؤخراً، فسيحتاج إلى ملايين الليرات، لشراء ألواح الطاقة والبطاريات اللازمة لتشغيل معدات وآلات الورشة. كل ذلك، وإلى جانب ارتفاع إيجار الأماكن التي تصلح لتكون ورشاً للعمل، أدى لارتفاع حجم تكاليف الصناعة، التي أصبحت عائداتها المادية غير مُجدية بالنسبة لكثيرٍ من الصُناع، خاصة في ظل تراجع حجم الإقبال على شراء الآلات الموسيقية، بعد تردي الواقع المعيشي في عموم البلاد.
وبالإضافة لما ذكر، يعاني معظم الصُناع من صعوبة توفير الكثير من المواد الأولية ذات الجودة المطلوبة، كبعض أنواع الغراء الأحمر، المصنّع من مواد عضوية، ومفاتيح آلتي العود والبزق ذات النوعية الجيدة، بعد تراجع كميات إنتاجها مع توقف كثير من ورش الخراطة عن العمل. هذا إلى جانب صعوبة توفير ما يلزم من جلود بعض الحيوانات كالأغنام والماعز، والتي تستخدم في صناعة الآلات الإيقاعية كالدفوف والطبول، وذلك نتيجة تراجع حجم الكميات التي كان الصناع يحصلون عليها من المسالخ، بعد ارتفاع أسعار المواشي، وتراجع حجم الإقبال على شراء اللحوم التي ارتفعت أسعارها إلى مستويات غير مسبوقة.
إلى جانب ذلك، أوجد الواقع الذي تعيشه سوريا صعوبة كبيرة في استيراد كثير من المواد والإكسسوارت التي تدخل في صناعة الآلات الموسيقية، وخاصة أوتار العود والبزق وجلود الآلات الإيقاعية ذات الماركات العالمية المعروفة. وفي حال تمكن المُصنع من استيرادها فسيحتاج لتكاليف مالية كبيرة، يُضاف إليها تكاليف الرسوم الجمركية، لذا أصبحت كثير من تلك المواد تدخل إلى سوريا عن طريق التهريب أو من خلال بعض الأشخاص المسافرين، ولكن ضمن كميات محدودة جداً، بالكاد تلبي حاجة عددٍ محدود من الآلات.
ورغم عراقة مهنة تصنيع الآلات الموسيقية وأهميتها الثقافية، وبحسب ما أكده الصُناع الذين التقيناهم، لا يتوفر حتى اليوم أي دعم حكومي من شأنه أن ينهض بواقع الصناعة، ولا يقام لها أي معرض ثقافي لتقديم منتجاتها، أسوة ببعض الدول، وهو ما يُشكل ظلماً لتاريخها وعراقَتها ويُجحف بحقوق الصُناع المعنوية والمادية، وخاصة صُناع آلة العود التي تُشكل إحدى الهويات الثقافية السورية، إذ لا يوجد حتى اليوم أي جمعية خاصة بهم، وإنما يتبع بعضهم، في أحسن الأحوال، للجمعيات الحرفية، وتُصنف مهنتنم كمهنة صناعية، ضمن ورشات نجارة الخشب، وليس كمهنة ثقافية وفنية، فيما تخضع ورشاتهم، من حيث حجم الضرائب وتسعيرة فواتير الكهرباء والماء، لقوانين الورش الصناعية والتجارية.
تراجع جودة الصناعة
لطالما كانت سوريا من أهم الدول العربية في صناعة الآلات الموسيقية، التي تتميز بأنها الأجود والأطول عمراً، بل تُعد من أهم دول العالم في صناعة آلة العود وخاصة العود الدمشقي. لكن تلك الصناعة، وفي ظل العوامل التي ذكرناها، أصبحت مهددة بتراجع جودتها يوماً بعد يوم. ففي ظل صعوبة توفير الأخشاب ذات النوعية الجيدة، يلجأ بعض صناع آلتي العود والبزق لاستخدام ما توفر من أخشاب قد تكون مصبوغة ومتشققة وغير معالجة، أو معدة لتباع كحطب، وبالتالي لا تُقدم الجودة المطلوبة، فيما يلجأ بعضهم الآخر، في كثير من الأحيان، لاستخدام أخشاب أشجارٍ مقطوعة حديثاً، لا تصلح للصناعة، كونها تحتاج إلى عملية تجفيف ومعالجة قد تستغرق عدة سنوات.
وفي ظل ارتفاع أسعار أوتار العود المستوردة وصعوبة استيرادها، بات معظم صناع الآلة يستخدمون الأوتار الصينية أو المصنعة محلياً، والتي لا تقدم الجودة المطلوبة وتؤثر على جمالية ودفء وعذوبة صوت الآلة، فيما أصبح استخدام الأوتار الجيدة محصوراً بطلبات بعض العازفين، إذ وصل سعر الأوتار من ماركة “بيراميد لوت”، المصنعة في ألمانيا، إلى نحو 800 ألف ليرة، وسعر أوتار “الكورشنر” و “الأورورا” ، المصنعة في تركيا، إلى أكثر من 300 ألف ليرة.
وبعد أن كانت معظم الآلات الإيقاعية تُصنع من أجود أخشاب الجوز والزان، بات بعضها يُصنع من بعض أنواع الأخشاب التجارية كخشب الحور والزنزلخت والكزبرينة وأحياناً الخشب المضغوط، وهو ما يؤثر على جودة الآلة وطبيعة صوتها ومتانتها، إذ يمكن لإطارها أن يتشقق وينحني ويفقد شكله الدائري بعد فترة قصيرة من تصنيعه. فيما استعاض بعض صناع آلة الرق عن استخدام الخشب، بصناعة إطار الآلة من مواد بلاستيكية تُصبُّ في قوالب خاصة بعد معالجتها. ورغم متانة الإطار، نسبياً، إلا أنه يُفقد الآلة طبيعة صوتها الدافئ ورونقه. وإلى جانب ذلك، يضطر بعض الصناع ، نتيجة صعوبة استيراد جلود الآلات الإيقاعية ذات الماركات العالمية، لاستخدام الجلود المصنعة محلياً، والتي تتأثر بعوامل الطقس بشكلٍ كبير، ولا تُقدم الصوت المثالي للآلة.
نتيجة للظروف السابقة تراجعت كميات الآلات المُصنعة، في مختلف أنواع الورش الموسيقية، إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، فمعظم من التقيناهم من صُناع الآلات الإيقاعية في منطقة باب الجابية، وصُناع آلتي العود والبزق في منطقة دويلعة وجرمانا، أكدوا أن حجم إنتاجهم قد تراجع بنسبة 60% مقارنة بالسابق، وهو ما أدى لإيجاد نقصٍ في كميات الآلات المعروضة للبيع في معظم محلات الموسيقا. وقد تأثرت كميات إنتاج الآلات الموسيقية أيضاً بتراجع حجم صادرتها إلى الخارج، في ظل ارتفاع تكاليف الشحن وإيقاف معظم مكاتب الشحن الخارجي عملها في سوريا. كما تأثرت بتراجع حجم الإقبال على شرائها، بعد أن ارتفعت أسعارها بشكل كبير، نتيجة ارتفاع تكاليف صناعتها ونقلها، فعلى سبيل المثال، بلغ سعر العود التدريبي نحو مليون ليرة، ووصل سعر بعض أنواع العود الاحترافي لأكثر من سبعة ملايين ليرة، ليصبح شراء الآلات الموسيقية بالنسبة لكثير من الناس نوع من الترف والكماليات.
تعيدنا بدرية البدري الروائية العمانية في روايتها فومبي والتي وصلت إلى القائمة الطويلة للبوكر العربية 2024 إلى عهد ظننا أننا تجاوزناه منذ قرن تقريباً وهو العبودية وتجارة الرقيق وزمن السيطرة الاستعمارية على إفريقيا لنهب ثرواتها واستعباد سكانها، ورغم أن هذا صار في الماضي إلا أنه لا يمكن نسيانه بسهولة ولا بد من إلقاء نظرة على تاريخ مليء بآلام بشر قضوا وعانوا ودفعوا أثماناً غالية، فمن ينسى صرخة كونتا كونتي في فيلم الجذور ومشهد صيده في الغابة ورحلته إلى العالم الجديد والمتحضر لكن كعبد، ومن ينسى مانديلا الحائز على جائزة نوبل للسلام.
يأتي عنوان الرواية (فومبي) غريباً ومثيراً وهي تعني الروح الهاربة من قبضة الشيطان حسب معتقدات السكان، فالأرواح الطيبة تكون شفافة بلا لون أما تلك الشاحبة والبيضاء فقد استلبها الشيطان٫ الشيطان الذي رأوه بالرجال البيض غريبي البشرة والسلوك إذ رأوا فيهم قدرة شيطانية لا محدودة لصنع الشر. تبدأ الرواية بأغنية شعبية من الكونغو عن حظ سيء يرافق الجماعة مع استدراك أن كل ما في الطبيعة سيقتل الرجل الأبيض وليس هذا سوى من باب التمني أو الأمل بأن العدل سيأتي يوماً.
تنتقل بدرية البدري الروائية العمانية والتي كانت قد أصدرت ثلاث روايات هي (ما وراء الفقد، والعبور الأخير، وظل هيرمافروديتوس) وعلى مدار ستة فصول بين عدة رواة هي شخصياتها المختلفة في جهة الصراع، إذ ينتقل السرد بينها ليروي الحدث من وجهة نظر السارد ويضيف رؤيته الخاصة، بدءاً من ستانلي الصحفي الأمريكي من أصل بريطاني الـذي تربى في ملجأ أيتام ولعدم اعتراف والده به أنكر نسَبه ووضع لنفسه اسماً كأنما يود أن يلد نفسه. فاستطاع منذ البداية إخبارنا بقدرته على الاحتيال لتحقيق مآربه، وهذا ما فعله للحصول على دعم صحفي للبدء في حملة استكشافية كانت التمهيد لحملات أخرى تبنتها بلجيكا بشخص ملكها الطامع ليس فقط بتحقيق المجد وإطلاق اسمه على الأماكن البكر التي لم يصل إليها أحد بل هي الرغبة بالحصول على ملكية هذه المناطق لاستنزاف ثرواتها، لكن سلطته مقيدة وفق القانون بسلطة البرلمان، وسعياً وراء طموحه في امتلاك دولة الكونغو قام برعاية مؤتمر الاتحاد الأوربي الإفريقي الذي رفع شعار الدفاع عن الدول الإفريقية ضد أساليب العبودية والاتجار بالرقيق ودعم التنوير ونشر الحضارة فيها والديانة المسيحية.
استعمار لأغراض سامية
تحت هذه الشعارات كان الباطن الاستعماري فحتى البلدان التي تبدو محايدة لها مطامعها السرية؛ إذ استعمرت بلجيكا الكونغو منذ 1902 إلى 1960كما استعمرت راوندا حتى عام 1962.
نعم قامت بلجيكا باستعمار الكونغو لأهداف سامية وتحت شعار مناهضة الرق ومنح السكان حريتهم التي يستحقونها كبشر، حشد الملك إمكاناته لزرع الفكرة ونشرها وترسيخها عاملاً بالمقولة ” إيصال المعلومة غير الدقيقة بطريقة تبدو في منتهى الدقة”. حتى اعترفت أمريكا بحق بلجيكا في الكونغو عبر بيان يؤكد أن احداً لم يقم بعمل نبيل يهدف إلى تحويل شعب همجي إلى شعب متحضر كما فعلت بلجيكا .
هكذا يتم التلاعب بعقول البشر وتكوين الحقائق من الأفكار التي تزرع فيها عبر الإعلام والمؤتمرات وضخ الأخبار. والتلاعب بمصائر البشر عبر استخدام مشبوه للقيم والحقوق والحريات فتتم إقامة بلدان حسب الرغبة لخدمة مصالح الدول الكبرى كما فعلت الولايات المتحدة حين أقامت دولة ليبيريا ( أخذت اسمها من ليبرتي ) للعبيد المحررين بدل إعادتهم لبلدانهم الأصلية، عبر جمعية خاصة استعمارية أمريكية، مورس نفس الاحتيال على سكان الكونغو الذين لا يعرفون القراءة والكتابة ولا حقوقهم فتم استدراجهم للتوقيع على صكوك عبوديتهم وبيع أراضيهم وقوة عملهم والعمل بالسخرة والالتزام بإحضار العمال اللازمين لجمع المطاط أو الحمل أو مد السكك الحديدية كل ذلك مقابل قطعة قماش ظنوها هدية لهم. هكذا أصبحوا مدينين للملك وعليهم أن يعملوا بشكل متواصل لسداد ديونهم التي تزداد يوما بعد آخر
كان الأفارقة أنقياء لدرجة أنهم تخيلوا الرجل الأبيض على ظهر السفينة التي تمخر نهر الكونغو، الرب يبحر في النهر وأن البندقية التي يقتل بها أبناء قبيلة الباساكو هي عصاه التي يعاقب بها. ثم اكتشفوا الخديعة التي وقعوا بها لكن لم يعد بإمكانهم فعل شيء سوى الرضوخ وصاروا بيد الرجل الأبيض كالبندقية التي يقتل بها أخوتهم وصارت المعادلة أن يكون الشخص إما قاتلاً او مقتولاً وبحثاً عن خلاص فردي تاجروا بأخوتهم واصطادوهم وباعوهم وقتلوهم وعذبوهم حسب رغبة الرجل الأبيض. فكانت الجرائم مثل شرب الماء وقتل العائلات للاقتصاص من فرد فيها تجري ببساطة وقد يكون ذنبه ليس أكثر من أن سلة مطاط من بين سلال كثيرة جمعها لم تكن مملوءة بشكل كاف. كان البيض يقومون بجرائمهم بيد أفارقة غالباً حتى صار الموت مشهداً عادياً بل راحة أمام التعذيب الذي لا يتحمله بشر. كما كان هناك الأفارقة الذين يصطادون أبناء جلدتهم كالحيوانات يبرر أحدهم ذلك: “من نصطادهم يظلون أحياء إلى أن نبيعهم ونقبض ثمنهم، لربما وجدوا هناك حياة مرفهة بانتظارهم وهذا يعني أن ما نفعله خير لهم، الأمر السيء الوحيد أنهم لا يعودون أحراراً ويضطرون لنسيان أحبتهم لكن ذلك أفضل من الموت” متناسياً رحلة الشقاء بين الصيد والبيع من تعذيب وتجويع وضرب حتى يفقدوا قدرتهم على المقاومة فيخرجوهم من الشبكة صاغرين للقيود باليدين والقدمين والرقبة كالحيوانات. لكنه يستدرك بعد أن يقول لا يعودون أحراراً فيقول لا أحد في افريقيا حر الجميع عبيد، سواط كانوا مصطادين أو فارين من الصيد رغم الثورات المتتالية والتي لم تنقطع ضد البيض لكن التفوق بالسلاح ومساعدة الأفارقة تحت الضغط مكنا البيض من السيطرة دوماً.
تبرر الدول الأوربية غزوها لإفريقيا الهادف لاستغلال ثرواتها من ذهب وألماس وعاج ومطاط وكنوز كثيرة متوفرة بمبررات كثيرة أولها إنقاذ الأفارقة من عبودية العرب ولمنع الحروب المستمرة بين القبائل الإفريقية المتناحرة دوماً إضافة إلى تخليص أفراد القبائل من عبوديتهم لرئيس القبيلة. ونقل الحضارة إليهم والتي تبين أنها لم تكن سوى في الأسلحة الموجهة لصدور الأفارقة، لكن البيض لم يكتفوا بالرصاص إذ كانوا ينظرون للسكان على أنهم ليسوا بشراً بل حيوانات. فتفننوا بتعذيبهم من تجويع وضرب بالسياط إلى بتر الأطراف أو ترك الكلاب تنهش الأطفال والفاقدين القدرة على العمل، إلى خصي الرجال وانتهاك نسائهم أمامهم وأطفالهم وإرسال الأيتام تارة إلى معسكرات القوة العسكرية أو إلى طهيهم وتقديمهم وجبات طعام للعمال الذين لا يعرفون أنهم يأكلون أبناءهم.
لا يمكننا أن نذكر كل أساليب التعذيب التي توردها الكاتبة لكن يبدو أفظعها أن أحد الضباط كان يزرع وروده بجماجم القتلى، وأثناء جمع المطاط وحتى لا يخسروا شيئاً منه على الأرض كانوا يتركونه يسيل على أجساد الرجال ثم يقومون بنزعه عنهم فيسلخ معه الجلد دون رحمة. أما الحمالون فكم قضى منهم تحت ثقل أحمالهم ودون أن يقدم لهم الطعام الكافي لسند أجسادهم، كتب على النصب التذكاري عند بحيرة ستانلي (حررتهم السكة الحديدية من الأثقال) يا للسخرية فقد بنيت على أجسادهم، لكن القاتل لا يتوقف عن لوم الضحية وعدم تقديرها لما فعله من أجلها.
كشف الأكذوبة وفضح ملك بلجيكا
تم تعيين جورج واشنطن ويليامز المستكشف وهو ضابط سابق ومؤرخ زنجي من قبل الولايات المتحدة لتقييم الوضع في الكونغو بغية إرسال مواطنيها الأفارقة إلى هناك فكانت صدمته هائلة حين شاهد حجم الجرائم وأدرك الكذبة التي تعمم على العالم ورغم سوء صحته كتب تقريره وفضح ما يجري والسلوك الاستعماري الحقيقي. تابع ذلك ادموند موريل الذي استقال من شركة الملاحة بعد أن كشف الحقيقة فكل الثروات التي كانت تشحن إلى أوربا لم يكن يشحن مقابلها شيء لا بضائع ولا أموال فقط بعض الأطعمة للرجال البيض والضباط هناك، قام ادموند بفضح سجل الشحنات ونشر المعلومات في الصحف ونشر صور الجثث المعلقة فوق النار والمشنوقة وشهادات أشخاص تمكنوا من الفرار والإدلاء بشهاداتهم حول حجم التعذيب الذي يتعرض له شعب القبائل المتبقية فقد تم إبادة العديد منها، إلى أن تم تجريم الملك البلجيكي بكل الأعمال الغير قانونية ونهب الثروات على يد لجنة تقصي الحقائق في الكونغو التي انتحر عضو منها لقسوة ما رأى. أما القاضي الثاني فكان لا يمسك نفسه عن البكاء، أتى التقرير ب 150 صفحة وتبين أن تلك الأطراف المبتورة للترهيب والعقاب لم تكن سوى المادة الأولية لشركة اللحوم المعلبة والتي تحمل صورة حيوان على غلافها.
لكن هناك الكثير من الجرائم لم ينتبه لها أحد كأفعال بريطانيا في الأمازون وسيراليون ونيجيريا والتعتيم على ما يجري في زنجبار.
تبدأ الرواية بداية مرتبكة فالاسترسال بخيالات ستانلي رافقه استرسال بالجمل الطويلة، لكنها لا تلبث أن تستحوذ على انتباه القارئ في التشويق وتقديم أحداث تاريخية مهمة بطريقة أدبية جذابة عبر تغيير الرواة فرغم تغير السارد بين فصل وآخر وفي داخل الفصل نفسه إلا أن الكاتبة استطاعت أن تمنح لكل صوت خصوصيته وألمه وحزنه والقدرة على التعبير عما يحتدم بداخله، واستفزاز المشاعر القوية التي تتماشى مع طبيعة السرد وطبيعة الحدث.
تؤنسن بدرية البدرية الأشياء على يد سارديها فمثلاً كان أحدهم يتألم من أجل السوط الذي تخيل أنه يتألم حين ينزل على جسده مستدلاً على ذلك بصوته الذي يبدو كاعتذار.
كما قدمت الشخصيات المتناقضة والتي تواجه بعضها في الصراع دون أن يختلف مستوى السرد، لم تكتف الرواية بالمعلومة التاريخية وإنما وظفت ذلك لإبراز الحقائق الغائبة والمغيبة.
هل انتهت العبودية؟
حين أكدت واقع القارة الإفريقية وصراعاتها الداخلية بدا الأمر وكأنها تشير إلى التشابه بين الديكتاتوريات المحلية والاستعمار العنصري القاتل. فالملك البلجيكي يقوم بالتشبه والمقارنة مع ملكة مدغشقر وأساليبها الوحشية للسيطرة على شعبها، ومن خلال استعراض الحياة الخاصة للملك وأفراد أسرته ندرك ان للعبودية أشكالاً متعددة فرغم أن عائلة الملك من النبلاء لكنهم كانوا عبيداً للتقاليد الملكية وسلطة الأب القاسي والمتهور حتى انتهى بعضهم للانتحار والقتل أو الجنون والفرار، وفي النهاية تدق الكاتبة جرس الخطر حين تقول: لم تنته الحكاية بل إن أبطالها يتكاثرون في الحياة.
فالعبودية لم تنته وإنما تغير شكلها فما زال الانسان طريدة صيد لشبكات عديدة تستهدفه ليس آخرها المفاهيم الحديثة أو العالم الافتراضي بشبكته الإلكترونية أو زرع الرقاقات في الأجساد البشرية.
فالثورات المتلاحقة في عالم التقنيات أذهلتنا وجعلتنا ننسى الكثير من التفاصيل الصغيرة التي استغلتها الشركات الكبرى وحولتنا إلى مجرد حالات رقمية يتم التحكم بنمط حياتها وطريقة تفكيرها وبرمجتها بأفكار مستحدثة تحت مسميات عديدة من الحداثة إلى الخصوصية في الوقت الذي تنتهك فيه خصوصيتنا تحت نفس الشعارات وعبر برامج الحماية ولم يعد خافياً الجرائم التي ترتكب عبر وسائل التواصل من الاحتيال إلى القتل.
إنها الشركات الرأسمالية العالمية التي تدعم كل أشكال السيطرة لتحقيق أرباح تساعدها على النمو بدءاً من الاستعباد الجسدي واحتلال الدول إلى استعباد العقول وتغيير المفاهيم.
فالسلوك الاستعماري ليس ناتجاً عن حالات وعقد نفسية لدى ملك بلجيكا أو ضباطه ورجاله العاملين أو لدى تجار العبيد ولا تعويض لنقص بل إنها تختار من تعتمد عليهم من هؤلاء لتحقيق سياستها ودعم نفوذها.
رواية فومبي من الروايات المميزة والتي تخاطب الإنسان كقضية عامة وكذات فردية لها خياراتها تسجل من خلالها بدرية البدري حضوراً مميزا للأدب العماني الذي يثبت وجوده بقوة.
يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن سبقه من جهة وميله للتجديد والحداثة ورغبته بربط البلاد بأواصر التقدم واللحاق بركب الحضارة من جهة أخرى.
فالعجيلي يعد علماً من أعلام الأدب والثقافة، له الريادة في التأسيس والانفتاح على الثقافة العالمية، ولطالما كان التخلف والتأخر الحضاري هاجسه المؤرق لما لهذين الثنائي من نتائج كارثية على مستوى العباد والبلاد، فلا نهضة ولا تحرير ولا عدالة بغياب العلم والثقافة دعامتي الوعي والتقدم الحضاري، لذا تراوح نشاطه بين الرؤى الناقدة للبيئة من عادات وتخلف اجتماعي وبين محاولاته ترسيخ ما يحمله الموروث من قيم إيجابية وعراقة وأصالة فقد عمل على المزاوجة بين العادات الصارمة والأخلاق النبيلة والحذر من رقابة تلك الأعراف بذات الوقت لوعيه بمسؤوليته للنهوض بهذا المجتمع لا أن يكون غريمًا له وهو الطبيب الرقيق والرفيق بالفقراء والمعوزين.
لقد انتمى جيله إلى موجة أحداث سياسية كبرى تميزت بتنامي التيارات الفكرية والسياسية وقد كان بارزاً في معمعة التحولات الجارية وذلك بربط الكلام بالعمل في انسجام أخلاقه وسلوكه مع ما يكتبه ويقتنع به ويمارسه كالتحاقه بجيش الإنقاذ في فلسطين وتخليه عن مناصب هامة لأجل ذلك ومعاناته مثل الجميع من ثقل النكسة على وجدان الفرد العربي.
جمع عاشق الفرات السياسة مع فطرة البداوة مع استيعابه وانسجامه مع نمط الحياة المدينية لكثرة ما ارتحل وسافر وتعرف على الأمكنة والبلدان، هو الهاوي الأبدي للكتابة على الرغم أنه لم يحترفها بمعنى التفرغ ولم يمارسها إلا في أوقات فراغه ومع ذلك اتسع عالمه ليحاور ويجرب أغلب الأشكال الأدبية إلى جانب مهنته الأساسية كطبيب ومهامه الأخرى التي كلف بها مثل إشغاله مناصب في البرلمان والوزارة فقد جرى تكليفه العام ١٩٦٢ بين شهري نيسان “ابريل” وأيلول “سبتمبر” بثلاث وزارات، الثقافة والإعلام والخارجية.
رحلته مع السرد:
عبد السلام العجيلي حكاء من طراز خاص يكتب بعفوية الفنان دون أن يفكر في أي مكان أو مذهب أدبي سيصنف أو يحتسب، فقد بلغ رصيده من الأعمال الأدبية حوالي أربعة وأربعين كتابًا، وقد ترجم البعض منها إلى اللغات العالمية، ومما يلفت الانتباه قدرته على التنقل بين الأجناس الأدبية إذ نرى نتاجه موزعاً بين الشعر والقصة والرواية والمقالات بالإضافة لأدب الرحلات والمذكرات والسير الذاتية، ويرى محمد أبو معتوق أن العجيلي استطاع «أن يؤسس ملامح السّرد التقليدي ودعائمه في سورية، من قصة ورواية…».
عرف عن طبيب الفقراء التزامه العروبي واعتزازه بقوميته وما مشاركته في حكومة الانفصال إلا محاولة منه لرأب الصدع وتلافي العوائق ولكن القوى المهيمنة كانت أقوى منه وقد ضمن مكابداته تلك في أعماله المتعددة، فالأدب لديه انعكاس تلقائي لأحاسيسه وأفكاره وقد صرح بذلك بما معناه ” أنا أكتب كي أنفث عما يعتمل في أعماقي” فقد كان مهموماً بفكرة الوحدة العربية إبان المد القومي بالمنطقة، لذلك حفرت حادثة الانفصال بين سوريا ومصر آثاراً عميقة في وجدانه ظهرت في روايته “باسمة بين الدموع” التي صدرت بفترة الخمسينات تعرض فيها لمافيات الفساد المهيمنة، وقد اعتمد فيها أسلوب الخطف خلفاً المستعار من السينما بأن يبدأ بنهاية العمل ليتدرج بعدها إلى البدايات، وقد رصد فيها النفاق الاجتماعي والسياسي في المجتمع> وكذلك في رواية “قلوب على الأسلاك” التي صنفت من بين أفضل مئة رواية عربية اشتغل فيها على تقنية الترجيع والاستباق وعبر مشهديات منفصلة بدت كلوحات نصية يترك عبء الربط فيما بينها على عاتق القارئ الحصيف، وقد سمح بذلك أسلوب التداعي للأفكار التي يدرجها البطل في مذكراته، فهو يصور الطبقة المخملية في المجتمع التي ولدت من رحم الطبقة الإقطاعية المرتحلة بعيني شاب ريفي يأتي إلى العاصمة وهو يكتشف ناسها وأهلها وينتبه لاهتماماتهم التي تتقنع بالشعر والأدب عبر صالونات الثقافة وعبر إطار علاقات عاطفية لبطله التي يوحي العجيلي أنها هدفه من العمل، ولكن يتبدى في ثناياها مواقف تلك الفئة التي تتبوأ المراكز الهامة والمفصلية بالبلد، وتختار بناء تلفريك يربط ساحة الأمويين بجبل قاسيون في العاصمة دمشق، بذات الفترة التي تحتاج البلاد لخطط تنموية أكثر أهمية وتوطيد بنى تحتية تضمن حاجات الشعب وتدعم الاستقرار وعدم التبعية للخارج، وهنا يصور حالة التوتر الذي ساد عقب الانقلاب السياسي الذي دفع بجمعهم إلى الهروب الكبير، كتعبير عن الفشل والعجز، مما يلخص موقف البرجوازية المحلية غير الحقيقي من مشروع التحديث والتنمية ومن قضية الوحدة كذلك، حيث الهروب من المركب قبل الغرق واللحاق بمصالحها هو هدفها غير المعلن، وترك الجماهير وقاع المجتمع لتقلبات السياسة الهوجاء.
تتميز سردياته بالتنوع وغنى الأمكنة التي يتجاور فيها مجتمعا البداوة والحضر بالإضافة لتجاور الأساليب الفنية المختلفة كما ينوع بين الخيال العلمي والواقعية الصرفة ويزاوج بين التوجه للعلم وبين استثمار الطقوس الروحانية والأعراف المتوارثة مروراً بالعجائبي كما في قصة ” العراف”، أو أسلوب القصة داخل قصة كما في قصة “الأحجية”.
وتميز أيضاً بتشريح علاقة الشرقي بالغرب في روايته الأخيرة “أجملهن ” والتي كانت واضحاً فيها التمييز الدقيق بين مفهومي الآخر المتحضر الذي يجب الاستفادة من تقدمه وتطوره وبين المستعمر الذي يمتص خيرات البلاد ويرسخ الجهل والتخلف فيها.
أما في مجال القصة القصيرة فقد عُد أحد روادها في سورية كما صنفه القاص المصري يوسف إدريس وقد اتسمت مجموعته القصصية الأولى “بنت الساحرة” بالواقعية والمباشرة والبساطة باعتماده صوته الشخصي في سرد الأحداث كما عُدت نموذجاً للوعظ الأخلاقي المحافظ، وقد اعترف الكاتب نبيل سليمان في كتابه النقدي اللاذع” الأدب والأيديولوجيا في سورية” بالمستوى الأدبي الرفيع لعبد السلام العجيلي رغم تصنيفه بخانة شواهد الأدب القديم، وأرى هنا من الضروري أن نفهم ونقيم تجربته الأدبية في سياقها الزمني الذي كتبت فيه والتي كانت في باكورة المنجز العربي عمومًا.
كذلك أفرد العجيلي مساحة لأدب الرحلات لكونه كثير الأسفار والتنقلات بين المدن والعواصم وقد نقل تجربته إلى قراءه وألف عن رحلاته ثلاثة كتب هي: ” دعوة إلى السفر” و ” خـواطر مسافر” و” حكايات من الرحلات.”
وأيضا برع في فن الرسائل الذي كان حاضرًا في قصته (لقاء كـل مساء وثلاث رسائل أدبية) من مجموعة “الخيل والنساء” حين تحدث عن الحب والعلاقات الإنسانية.
حكايته مع المدينة:
المكان الأول ” الرقة” تلك المدينة الواقعة على كتف الفرات التي كانت معلماً حاضراً في وجدانه أينما ارتحل وأينما حل، وهي التي ارتبطت باسم العجيلي بشكل بارز وجلي، حيث أواصر الارتباط العالية للأديب بالمدينة وكأن المدينة هو، وكأنه المدينة.
انحدر عبد السلام العجيلي من بيئة بدوية من عشائر البو بدران التي نزحت من الموصل إلى ضفاف الفرات، وقد تخرج طبيبًا من جامعة دمشق واستقر في مدينته الرقة بعد التخرج وافتتح عيادته بها، وهو الذي عشق السفر والترحال عبر أصقاع الأرض ومع ذلك بقي رجوعه إليها دائماً وظل عاشقاً متيماً لمدينته “الرقة” عروس البادية السورية.
وترجع تسمية الرقة على الغالب بأن الرقة بطائح الماء بعد الفيضان، فيضان النهر أو ما يتبقى منه حين يحل الجزر بعد المد، ومفردها البطيحة أي الرقة، الرقة درة الفرات، والعجيلي الذي سلخ تسعة عقود من الزمن كان جلها فيها لدرجة سميت “رقـة البـدري” وهي كلمة مختصرة من بدوي وحضري، نعم هي الرقة التي لطالما كانت غاوية ومغوية ولطالما قصدها الملوك والشعراء ورجال الفكر والسياسة منذ هارون الرشيد ومن قبله هشام بن عبد الملك وسواهم، وقد قال عنه نزار قباني بأنه: أروع بدوي عرفته المدينة، وأروع حضري عرفته الصحراء.”
كان العجيلي صاحب نكتة ونوادر ساخرة وقد انضم إلى “عصبة الساخرين” قديماً، مع المرحـومين عبـاس الحامض، وممتاز الركابي وعبد الغني العطري وسعيد الجزائري. ومع نشأت التغلبي وآخرين، وقد قال في إحدى الكلمات التي ألقاها:” أن الله في الدار الأخرى، لن يحاسب الكتّاب على ما كتبوه وهم أحياء على ظهر البسيطة، بل إنه سوف يحاسبهم على ما لم يكتبوه” في تورية عميقة للرقيب الاجتماعي والسياسي في حجب المخزون الثقافي المختبئ في داخله وكثافة ما يود قوله لو منح مزيداً من العمر فقد عاش حياة مفعمة بالعمل والإبداع، كان مع الناس وللناس في زمن مبكر اتسمت المنطقة بالتخلف وسيطرة الرجعية غداة تحررها من ربقة الاستعمار ولطالما عُد رائداً من رواد النهضة في سورية والوطن العربي فهو الطبيب والأديب والسياسي المفوه الذي اجتمعت القلوب على محبته.
وقد وصف أهل الرقة جنازته “بأنه مات على سروج الخيل” أي كان يعمل ويكتب ويسافر حتى آخر أيامه بكل روح العطاء والإقبال على الحياة ورحل في صحبة الضوء مشعاً وخالداً.
في عالمٍ باتَ مليئاً بالنجوم، نجوم السوشيال ميديا أو ما يسمّونهم صنّاع المحتوى، الخاضعين لخوارزميات و سياسات مواقعِ التواصل الاجتماعي، و آخرون يصنعُهم رعاةٌ مخلصون يروّضونَ تطور العقل البشري بحيثُ يظلّ القطيعُ بخير، نجوم تُبهر و تغيّر، و أخرى تعمي العيون، قد يكون رحيلُ أحد المُبدعين مناسبةً كي نبدأ بالحديث عن أعماله أو أقواله بموضوعيةٍ أو بعين النقدِ الحقيقية، بحثاً عن نجمٍ حقيقيٍّ احترق كي يضيء.
ميساء محمد فنانة تشكيلية سورية، من مواليد مدينة جبلة 1964، فُجِعَ مُحبّوها بخبرِ مرضِها في مكان إقامتِها في دبي أولاً، ثمّ غيابِها المُبكّر مؤخراً، كان مجتمعُ الفنانين التشكليين يتابعُ تجربتَها باهتمام، فقد قدّمت في مراحلِها الأخيرة سلسلةً من اللوحاتِ المتحفيّة كانت ثمرة تراكم خبرةٍ طويلةٍ في الرسم، و موهبة استثنائية في التعبيرِ عن مكنوناتِ النفسِ الإنسانيةِ عن طريقِ الخطّ و اللون. اللافت في تجربةِ ميساء هو تطوّرها الواضح باتجاه الواقعية التعبيرية، المبنيّة على امتلاكٍ حقيقيّ للرسم كأداةٍ مرنةٍ بينَ يدَيها، تشكّل من خلالِها وجوهاً ذاتَ طابعٍ سحريّ، و مناخاًغرائبيّاً، كأنّها تنقلُنا إلى عالمٍ موازٍ، شخوصُهُ تُشبهُنا، لكنّها تحملُ قدراً من الجمالِ و التصالحِ مع الذاتِ، يجعلُنا نقفُ أمامَها مشدوهين.
من الملفت أنّ ميساء لم تدخل تجربة الرسم بجديّةٍ إلا مع بداية الحرب السورية، ربما هرباً من أشباحِ الموتِ و الدمار التي سكنت البلاد، أو نتيجة شعور خَفيّ بنهايةٍ قد تكونُ وشيكة، ما جعلها تستخرجُ تلكَ الجوهرة التي طالما أهملتها في أعماقِها، و تعمل على صقلِها، “البحث عن الصمت، ملك الأطراف، حجر الدم، مقام الصبا، هناكَ أمل” هي عناوين لمجموعتها التشكيلية أو معارضِها التي أقامتها في كل من دمشق، دبي، زيورخ، و فينيسيا.
إنّها رسامة مشت بكلّ ثقةٍ صوبَ ذاتِها، فحفرت طريقَها حيثُ اتّجهت بوصلةُ قلبِها دونَ أن تتمكن منها مقولاتُ غيرها، ربما هذا سرّ تفرّدِها و أصالتِها، فهي لم تذهب إلى الخارج لتستورد مفردات، أو تعيدَ إنتاجَ تجربةٍ بعَينها، بل حفرت في روحِها و رسمت ما تُحب. و لأنّها أسّست أسلوبَها على ما يهوى قلبَها و يؤرقُ عقلها، كانت الشامُ حاضرةً في أعمالِها، هي التي شغلَها موضوعُ الهوية، حاولت أن تتمسّك بهويتها السورية التي شعرت أن الحربَ ستأتي عليها، فرسمتها، ” في لوحاتي لم أتعمّد العودة إلى الماضي، و لكن طبيعة الهوية هي التي تقودُني إلى ذلك، حاولت قدرَ الإمكان أن أكونَ وفيّةً لفكرةِ الجمال والرومانسيةِ العالية، التي اعتبرتها بمنزلةِ أدواتٍ لمواجهةِ عدو الثقافة و الهوية العربية التي مكّننا الفن التشكيلي من اكتشافِ كاملِ تفاصيلِها”. شخوصُها التي تطلُّ علينا من عالمٍ مُختلف، طفولي أحياناً و أسطوري أحياناً أخرى، ترتدي غالباً أزياء دمشق التراثية، التي يُقالُ إنّها تعودُ إلى تصاميم أزياء الملوك القدامى الذين عاشوا في دمشق أو تدمر،أفاميا، ايبلا، و أوغاريت، يذهبُ الشاعر و الناقد فاروق يوسف إلى ربطِ تجربتها بالفنان السوري نذير نبعة، فيما يخصّ طريقة معالجتِها للوجوه، والأجواء الشامية التراثية الباذخة، فالنساءُ بجمالهنّ الأسطوري، كأنّهنّ حفيداتُ الليليت وعشتار وإينانا والمجدلية و زنوبيا، يغنينَ مشهدها البصري و يمنحنَهُ بصمةً سوريّة خاصة.
و كما تستخدم ميساء الواقعية السحرية كي تأسرَ عين المشاهد، تستخدم كذلك الرمزية، فالحُلي والورود والغربان و السفن الورقيّة والزخارف الشرقيّة، كلّها أدوات تنقل مكنونات الفنانة وأفكارها، أمّا أداة التعبيرالأهم، التي تمنحُ لوحاتَها قوة تعبيريّة استثنائية فهي العيون، فإذا كنّا نريدُ أن نلجَ عالم ميساء محمّد، علينا أن نفهم ما تقولهُ عيونُ شخوصِها، فهي تتّسع كي تحيطَ بالواقع من كلّ الجهات، أحياناً تقفُ أمام العالمِ مذهولةً وأحياناً أخرى خائفة، لكأنّ هولَ المشهدِ جعلَها بكماء، وحدهُ بريقُ عيونِها يُفصحُ عما يدورُ في روحها، قد يكونُ بريق الوعي، أو حزن دفين يأبى أن يتدفّق ما يمنحُها سحرها الخاص، إنّ عيون ميساء محمد هي بحدّ ذاتِها موقف من العالم و وجهة نظر، تُعاتبُ و تُحبّ، تتأمّل، تحزن، وتفرح في نظرةٍ واحدةٍ، كأنّها لم تستطع أن تصرخَ في وجهِ الحربِ فحدّقت بها، وحين رحلت تركت لنا تلكَ النظرة الخالدة، لتجعلنا نتساءل و نتساءل، دون أن نتمكّن من سبرِ غورِ إحساسِها.
إنّها امرأةٌ من فصيلةِ النساء الساحراتِ، اللواتي منحتهُنّ الطبيعةُ مواهبَ استثنائية ليحاربنَ بها طغيانَ المجتمع، السحرُ هنا ليس بمعناهُ الشرير، إنّما هو السحرُ الذي يسخّر القوى الكامنة في الطبيعة من سبيل الخير، و إذا كانت ظاهرة ملاحقة الساحرات و السحرة قديمة قدمَ التاريخ، فإنّ أغلب النساء اللواتي اتُّهمنَ بممارسة السحر في العصور الوسطى في اوروبا، كنّ من المثقّفات والعالمات وصاحبات الفكر المتنوّر، ربما الفيلسوفة و عالمة الرياضيات هيباتيا التي قُتلت على يدِ حشدٍ من المتعصّبين في الاسكندرية عام 413م هي أول ساحرة معروفة تعاقبها السلطة الدينية.
تجلّى سحرُ ميساء فيما تجلّى في اللون، فقد استحضرتهُ في أعمالِها بكامل بريقه، ليساهمَ في تشكيلِ مشهدِها البصري الخاص، و منحِهِ بعداً غامضاً و شاعريةً مُختلفةً، فكان أن أظهرتهُ على العجينةِ اللونية للوجوه، فاقعاً، فاضِحاً شغفَها بالجسدِ الإنساني و مكنوناتِهِ، لقد حذت هنا حذوَ الانطباعيين في الابتعاد أحياناً عن المزج و إظهارِ تدرجات اللون على سطح اللوحة، كما اتكأت على المبالغة اللونية كطريقة في التعبير، اهتمّت ميساء بنضارةِ وصفاءِ ألوانها، كما استخدمت تلكَ المتكاملة والمنسجمة، لتمنحَ لوحاتها ضوءاً مختلفاً وبعداً سريّاً، لكأنّها هنا متأثرة بالفن الكنسي وكبار فنانّي عصر النهضة ، كما لجأت أحياناً إلى المبالغة في رسمِ أطرافِ نسائها، فتطاولت الأصابع و رقّت، ربما كي تحاكي رقّة الفنانة و سمو روحِها.
تنتمي ميساء إلى فئةٍ من التشكيلين السوريين الذين تمسّكوا بالرسم كقاعدةٍ لانطلاقهم في عالم الفن التشكيلي، فبحثوا عن أصالةٍ تشبهُهم دون الانخراطِ في تجربةِ النسجِ على منوالِ المدارس الغربية، فعلى الرغمِ من مقولات الحداثةِ و ما بعدها التي هيمنت على المشهد، صنعت ميساء حداثتَها الخاصة غير مكترثةٍ سوى بمقولاتِ روحِها، فعبّرت بطريقتِها عن فكر ومشاعر رسّامة أنثى، عايشت حقبةً من الحربِ و الهمجيّةِ ربما أودت بها في النهايةِ إلى مرضٍ و موتٍ مبكّر.
في وسطِ إحدى لوحاتِها المعجونةِ بتدرّجاتٍ رماديّةٍ، مساحة حمراء على شكلِ مستطيلٍ انفتحَت أطرافُهُ السفلى كأنّها دماءٌ تسيلُ، على هذه الخلفية جلست أنثى بثوبٍ أبيضٍ و بعينين هَلعتين، بطلة اللوحة تحضنُ إطاراً أحمراً مربوطاً في إحدى زواياهُ بشريطٍ أسود، أما داخل الإطار فتفاجئنا ميساء برسم بورتريه للأنثى الهلعة ذاتها المتربّعة في الوسط ، كأنّ البطلة تقفُ شاهدةً على موتِها، كأنّها تنعي نفسَها، هل تنبّأت ميساء هنا بنهايتها الوشيكة؟ هل كانت تعي ما ينتظرها من مصيرٍ سيحرمُها من ممارسة سحرها الخاص”الرسم”؟ لا نعلمُ حتى الآن مدى صدق نبوءة الشعراء و الرسامين، لكن و إذا كانت ميساءُ نجماً مرّ بسرعةٍ في عالمِنا فيبدو أنّها تركت أثراً سيدوم، يُقالُ إن بعض النجومِ التي لا يزال ضوءها ينيرُ ظلمتَنا هي في الحقيقة ميّتة، أن تكون نجماً حقيقياً يعني أن تتركَ وهجاً يدوم.
استطاعت رجاء عالم في روايتها با هبل والتي وصلت للقائمة القصيرة للبوكر العربية هذا العام، أن تأخذنا بقوة إلى الفضاء المكاني الذي تحلق فيه وهو مكة المكرمة حيث لم تكن تدافع فقط عن روح المكان التي نالت منها الحداثة فاقتطعت وقلبت بغرض توسيع الحرم لاستيعاب خدمة الوظيفة الدينية بل وأيضاً عن أصوات أناس عاشوا وماتوا هناك في عتمة الواقع وعن ماض اجتماعي كانت فيه المرأة جزءاً من نظام العبودية المقنعة رغم انتمائها لأسرة حرة. وليس لأن الماضي يشغلها بل لأن ظلاله تمتد إلى الحاضر.
ترصد الكاتبة هذا الواقع عبر حياة أسرة السردار منذ عام 1945 وحتى 2009 والتي كانت تقطن بجوار الحرم الشريف في مجتمع ذكوري يجد مجرد التفوه باسم البنت عيبا ً وتنكر العائلة وجود فتاة في المنزل لتعتني بأهلها آخر العمر، ويتحكم الأب بحياة ابنته حتى بعد الزواج وقد يطلّقها دون استشارتها. تقول العمة سكرية: “تظن أن الحنوط سر فرعوني؟ بيوتنا المكاوية شغلتها تحنيط البنات أمثالي ” وحيث حتى الأحلام تقمع ويجب عدم التصريح بها حتى لا تتحقق. أما زيارة الطبيب فغير ممكنة دون موافقة الأب مصطفى السردار المتحكم والذي رفض نقل زوجة ابنه للمشفى بعد تعثر ولادتها قائلاً إن موتها أفضل من ذلك.
تاريخ عائلي بطريركي بامتياز
تبدأ الرواية بمشهد انتحار البطل عباس السردار، فحين يعود إلى البيت وتصدمه وحدته الكبيرة، يقوم بتفقد المنزل مروراً بحائط المقارع الذي جمع عليه مقارع البيوت المكية المزالة بالهدم، ويغادر باتجاه بيت عمته نورية المهجور حيث عاش أجمل أيامه وجمع فيه التحف واللوحات والموسيقا وأشرطة أفلامه التسجيلية لينتحر هناك بالشماخ الذي ربطه بالثريا.
تعيدنا الكاتبة بعد مشهد الانتحار في استرجاع سردي لحياة عباس وتاريخ أسرته في محيط الحرم وعماته اللواتي كان ابناً لكل منهن فهو الابن المدلل في العائلة والمولود بعناء الأم ولخطأ في قص الحبل السري يعاني من فتاق لا يختفي إلا بعد القضاء على حركة جهيمان الذي سيطر على الكعبة لمدة عشرة أيام انتهت بدخول الجيش للحرم الشريف واستخدام الأسلحة والرصاص فيه، في إشارة لا بد من التوقف عندها، وهو توءم لجنين شرد بعد ولادته حسب ما قالته القابلة لتعيش الفكرة في العائلة وفي داخل عباس إذ يشعر بوجود قرين له في داخله يسميه نوري ويحمله المسؤولية عن كل فعل خارج عن السيطرة ويتمتع بجنون الفن والخيال.
تأخذنا الكاتبة إلى تفاصيل حياة العائلة وحياة عماته اللواتي تصفهن بالمحجوبات وعلاقتهن في الدائرة الضيقة؛ المجتمع العائلي المغلق والمجتمع الكبير الذي لا يحتكين به إلا عبر سلطة الأب الساهر على حراسة العادات الموروثة.
شكلت العمات أمهات لعباس ونوري لا فرق فكل منهن تعاملت مع إحدى شخصياته كما تحب ويحب، حتى صار عدة أولاد في جسد واحد وهو الذي كان يقول إن له قرائن كثراً في بقاع العالم، لكن هذا لم يمنحه القدرة على الخروج عن سلطة العرف فحين تختاره شركة جنرال موتورز مصمما لهياكل سياراتها يعد والده ذلك فضيحة (الرسم) ويحبسه في المنزل إلى أن يغير رأيه.
كان قرين عباس (نوري) الذات المقموعة له وينسب له كل فعل صدامي مع المحيط وهو فطرة الفن وجنونه في داخله وتحت هذا الغطاء جمع عباس التماثيل وأسطوانات أم كلثوم وقام بتأليف فهرس لأغانيها إذ كان يحلم ببناء متحف يضم كل منجزات البشرية على شكل حلزوني يصل إلى السماء وفي قمته تتصاعد أصوات المغنيين الخرافيين من تراتيل سومر وحتى آخر المغنيين كأنه يقيم آذاناً كونياً.
ولعل الحوار الذي يدور بين عباس ونوري أقرب إلى المكاشفة الذاتية وما بحثه عن قرائنه إلا رغبة بالانتماء للحلم الذي يريده وبقدر ما يحمل ذلك من عذاب البحث بقدر ما يحمل من غربته عن عالم يعيش فيه. وإذ يكاشف نوري يكشف لنا ما في داخله من عالم المتناقضات المتجاورة والأنواع دون أن ينفي أحدها الآخر الطفل والشيخ، المهبل والقضيب، الماضي والحاضر، والضعف والجرأة.
فيلم تسجيلي طويل
وبتأثير نوري يقوم عباس بتصوير عماته في فيلم تسجيلي تروي فيه كل واحدة قصتها فتقول له سكرية: الحياة نزهة عشها والظل الذي ترتاح له اسكنه وطالما تستطيع الاحتراق افعل”. أما نورية فتناديه بنور عينيها.
وبقيت حورية بجانبه حتى رؤيته لأحداث غير مفهومة وفي لحظة خاطفة يكتشف أنه يحتضر وإذ يخترق معها تلك الستائر الندية التي تفصل عالم الأموات عن الأحياء. يعرف أنه يغادر الحياة ويتذكر أنها ميتة مثله منذ زمن بعيد برصاصة في الرأس في حادثة جهيمان وهو ما عاشه طفلاً دون أن يراه وأن هذا الفيلم التسجيلي الذي صوره ليشارك به في مهرجان البندقية ليس سوى شريط ذكرياته مع عماته والعائلة والذي يستحضره في احتضاره الطويل إنه الشريط الذي يمر في ذهن المحتضر قبل مغادرة العالم.
ليس عباس وحده من يصدمه الاكتشاف بل القارئ أيضاً فالرواية لم تكن سوى هذا الشريط الذي يستعيده في لحظات الاحتضار مثقلاً باحتدام المشاعر والأشخاص وأحلامها في لعبة فنية مشوقة تبرع فيها رجاء عالم إذ تأخذ القارئ بتلك الواقعية السحرية الفاتنة منذ أخبرتنا أن نورية قدحت شرارة الرواية في ذهنها إذ وقعت تحت سطوة التوصيف السريالي لعباس حين أخبرها انه أراد رمي جثة عمته نورية في البحر فلطالما كانت تتمنى أن يكون الموت سفراً في بطن حوت. وكيف ألحت عليها نورية في الحلم لتدفع روايتها للنشر فصوتها ضمن الأصوات المكتومة في الرواية- الحياة.
ومنذ مشهد محاولة الجارية في البداية حرق ابنتها على السطح لأن السردار لم يعترف بأبوته لها إلى وصف عباس الطفل لما حدث في الحرم الشريف في حركة جهيمان وحيث ماتت عمته حورية لكنها ستواصل وجودها بينهم ولا تنتهي تلك الغرائبية في المشهد إذ سنكتشف أن هذا كله ليس إلا استرجاع عباس ذكرياته قبل الموت.
وتستمر الكاتبة بتلك الغرائبية السحرية محلقة في جمالية السرد وحيث يختلط الواقع بالخيال ويسير جنباً إلى جنب معه حتى النهاية ولا تترك للقارئ أن يمتلك مهارة تحديد أين ينتهي الأول ليبدأ الثاني. وحيث يتداخل عالم الأموات مع عالم الأحياء تفصل بينهما الستائر الندية والشفافة والتي لا يخترقها إلا من ينتقل من عالم لآخر في مشهد تخييلي سريالي بديع كما كان عباس يتحرك بين الماضي والحاضر بخفة بفضل وجود القرين المتخيل.
خصوصية المكان والبيئة
حرصت رجاء عالم على الاقتراب من الواقع فاعتمدت اللهجة المكية وطعمت السرد بالأمثال الشعبية المتداولة وأوضحت المفاهيم الروحانية لبعض العادات وهي من الجمال بمكان كعادة رش الكافور على الميت؛ وذلك حرصاً على إطفاء خصوبة الموت، أما المسك فيخلط بالكافور لتخفيف الحزن.
وعرجت على تقاليد العرس والجهاز الذي يخص العروس كالسيسم وغيرها.
كما تأخذنا لوصف المكان كسوق المدعى التراثي والذي عمره أكثر من قرن ويمتد وسط مكة وكيف هدم بالكامل مع البيوت المجاورة لتوسيع الحرم. وما جرّته تغيرات المكان من تغير انعكاسه في الذات الإنسانية فحين صارت بئر زمزم تضخ بالمضخات فقد الماء طاقته الروحية وصار العطش مقيماً لا يمكن ريه.
كما تشير بشكل غير مباشر إلى التغيرات التي رافقت اكتشاف النفط وتدفق الأموال، يقول عباس نحن أولاد آدم البترولي، في إشارة إلى أن التغيرات في المجتمع بعد اكتشاف النفط كانت شبيهة بولادة جديدة لكن من رحم الأموال النفطية، إذ صار الهم هو جمع الأموال ومراكمتها واستهلاك مظاهر الحضارة والرفاهية الغربية التي وصلت من الغرب فجأة فأحدثت صدمة حضارية هزت القيم وصار الإنسان يعيش فصاماً حقيقياً في علاقته بالآخر. وهذا ما حدث مع عباس الذي كان يعيش اغترابه عن الواقع حتى أنه انتحر!
توهج السرد واللغة والوصف في مشهد اكتشاف عباس لموته في حواره مع عمته حورية لتخبره بكل رقتها عن موته الواقع في سردية مؤثرة وبليغة وتنقلت في الرواية بين الاسترجاع والمونولوج والميتا سرد والواقعية السحرية والمونولوج الداخلي الذي ينبش الخوف الإنساني من الحتمية بما يلامس داخل القارئ.
لكن يبقى السؤال لماذا اختار البطل الانتحار في بيت عمته نورية وليس في أي مكان آخر في عهدة القارئ.
نافست رواية رجاء عالم على البوكر بجدارة وهي التي فازت بالجائزة عام 2011 عن روايتها طوق الحمام والتي تدور في ذات الفضاء المكاني.