بواسطة Samer Ismail | أبريل 30, 2018 | Cost of War, Culture, غير مصنف
مشاهدة الحلقات العشر الأولى من معظم الأعمال التلفزيونية السورية التي قُدمت لموسم 2017، لن يشكل حافزاً للجمهور بمتابعة تلفزيونية لعام 2018 أو كالتي كانت قبل عام 2011، فالاستثناءات تكاد تكون نادرة في خريطة الإنتاج الدارمي السوري، وما نجا من سخط الجمهور، سوف لن يعثر بسهولة على أعذار لأعمال توافر لها المال والخبرة الإخراجية، دون أن تكون جديرة بالمتابعة على مساحة البث منذ نيف وسبع سنوات.
الحلول المقترحة لإبعاد شبح انقراض ظاهرة الدراما التلفزيونية السورية التي سطع نجمها مع بداية التسعينيات، جميعها أخفق في إيجاد مخرج لأزمات متعددة تحيط اليوم بهذه (الصناعة) تاركةً مصير عشرات العائلات التي كانت تعيش من المهن التي توفرها هذه الدراما على قارعة الطريق، فمن مؤتمرات ولقاءات أقامتها المؤسسة العامة للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني عام 2014 في فندق شيراتون دمشق، إلى دعوات بإقامة مجلس أعلى للدرامين السوريين، وصولاً إلى تخصيص صندوق دعم وطني لتمويل وشراء الأعمال السورية. جميعها حتى الآن بقي قبض ريح في مواجهة ما يشبه عزلة أو حصار تعاني منه المسلسلات السورية، وذلك بعد فك الارتباطات الإنتاجية بين الدراما السورية والمحطات العربية الكبرى في الخليج العربي التي كان لها الوزن الأكبر في إنتاج وتمويل وتسويق هذه الأعمال.
وأوصلت هذه القطيعة اليوم بين سوق الدراما السورية ومحطات البث الخليجي إلى ما يشبه حالة موت سريري لعشرات الأعمال التي تم إنتاجها دون أن تجد فرصة تسويق فعلية على قنوات من مثل: (أبو ظبي) و( دبي) و(إم بي سي). المحطات البارزة في سوق الدراما العربية، حيث استعاضت هذه المحطات عن الإنتاج السوري بأعمال مصرية وخليجية وتركية مدبلجة (مؤخراً تم إيقاف الدبلجة عن التركي). وفي ظل انعدام سوق محلية قادرة على استيعاب الإنتاج التلفزيوني السوري والتعويض عن خسائر بملايين الدولارات، يبدو الوضع يزداد سوءاً مع تحكم قنوات لبنانية من مثل (الجديد) و(إم تي في) بشراء بعض الأعمال السورية بأبخس الأسعار، حيث وصل ثمن الساعة الدرامية السورية في بازار هذه المحطات إلى (500 دولار أمريكي) بينما كانت الساعة الدرامية السورية تباع بما يقارب ( 30 ألف دولار أمريكي) للحلقة التلفزيونية الواحدة.
ويقول ممثل من ممثلي الصف الأول رفض ذكر اسمه: “الدراما السورية كانت حلماً جميلاً استفقنا في هذه الحرب على ضياعه من بين أيدينا، الآن أفكر بتأمين قوت أطفالي وعائلتي لا أكثر، وكما ترى أعيش في فندق منذ سنوات، وقد بعتُ سيارتي مؤخراً كي أستطيع دفع أجرة الغرفة.”
حال هذا النجم السوري ليس أفضل من زملاء كثيرين له فقدوا مورد رزقهم، دون أن يكون للمؤسسة العامة للإنتاج دور فعلي في تغطية خساراتهم الفادحة، مما يجعلهم اليوم عرضةً هم ومخرجو وكتّاب وفنيو الدراما السورية لابتزاز رؤوس أموال جاهلة لأمراء الحرب تدخل اليوم سوق الإنتاج التلفزيوني، ممارسةً نوع من التبييض لأموال الحرب في الدراما وسوق الميديا، لكن في شروط غير إنسانية، وبتحكم ذهنية مافياوية ريعية لا تحسب حساباً لجودة النص ولا لخبرات المخرج والممثلين، بل تدير شركاتها الجديدة بعقلية (المعلم) ناسفةً كل تقاليد المهنة، وحافرةً قبوراً جماعية لعشرات من الممثلين والفنانين والكتّاب الذين لم يمتثلوا حتى الآن لمزاج دراما الرقاصات وغواني الليل وقواد الساحات الخلفية للحرب.
دون ألم تابع الجمهور العام الماضي أعمال ما اصطلح على تسميتها بـ (مسلسلات البيئة الشامية) التي تصدرت أجزاؤها واجهة العرض الرمضاني، كما لو أنها (مهابهاراتا شامية) لا ينقضي جزء منها حتى يأتي جزء جديد من غامض علمه، لنكون مع (طوق البنات4) و ( باب الحارة9) و (عطر الشام2) و( خاتون2) فيما احتجب (وردة شامية) النسخة السورية من (ريا وسكينة) بعد امتناع العديد من المحطات الفضائية عن شراء العديد من الأعمال السورية، فيما يشبه حصار سوق خليجي لهذه المسلسلات، فيما نجح ( قناديل العشاق) لمؤلفه خلدون قتلان ومخرجه سيف سبيعي بكسر هذا الحصار بعد الاستعانة بالمغنية اللبنانية سيرين عبد النور، كوصفة جديدة للتسويق إلى المحطات العارضة، أحال أعمال برمتها إلى ما يشبه (دراما فيديو كليب).
معادلة يبدو أنها سوف تكون بمثابة منفذ بيع وحيد لأعمال تكدست أشرطتها في أدراج الشركات المنتجة، دون أن تلقى فرصة لائقة بعرض في سوق المهن التلفزيونية الجديدة، فلا النص الجيد ولا الإخراج ولا حتى إدارة الممثلين أمست من أولويات الإنتاج السوري الجديد، بل شيئاً فشيئاً ومع دخول الحرب عامها الثامن، تبدى المأزق أكثر فأكثر بالنسبة لمزاج السوق الجديدة، والذي عكس بجلاء منقطع النظير ما تعرض له الوسط التلفزيوني السوري من انقسام حاد بين (دراما الداخل) و(دراما المنفى) ولكن بتباينات حادة من عمل لآخر، ووفقاً لأمزجة الشركات الدولية التي ترعى نوعية جديدة من هذه الأعمال بين استوديوهات بيروت ودبي، وما تبقى منها في دمشق، حيث تعاني هذه الأخيرة من تدني حاد في أجور المخرجين والكتّاب والممثلين والفنيين، نظراً لانهيار الليرة السورية أمام الدولار بما يعادل انخفاض القيمة الشرائية للعملة الوطنية إلى عشرة أضعاف قيمتها ما قبل آذار 2011.
كل ما سبق لن يعطي صك غفران لأعمال الموجة الجديدة من (دراما الخناجر) والعنتريات والعودة إلى الحارات المغلقة كبديل عن دراما المدينة المنفتحة على الآخر، وليضاف لها (دراما العشيرة) مع قرار الشركة المنتجة إنتاج جزء ثانٍ من مسلسل ( الهيبة- هوزان عكو وسامر برقاوي) الذي زاد في الطنبور نغماً بعد الرواية الجديدة لسيرة العائلة، وما اكتنفها من تكريس (الجناح العسكري) لعائلات تعيش على تجارة اللبن والمخدرات والأخذ بالثأر في أجواء حداثية، بينما ينسحب الوطني إلى الخلف تحت وطأة القتل العبثي وأخلاق المافيا.
دراما التوحش هذه يبدو أنها في ازدياد وتغوّل على حساب الترويج لأنماط عيش جديدة، تعكسها الدراما بقوة المحاكاة على جمهور بات اليوم رهين أعمال تحرّض على العنف والإرهاب، ناسفةً العقود الاجتماعية المدنية، وواضعةً الدولة كهيكل فولكلوري ليس أكثر على هامش ولاءاتها الجديدة.
مع هذا وذاك لم يعد من السهولة بمكان أن نطلق صفة (دراما سورية) على أعمال لم يبق منها سوى جنسية من يكتبها أو يخرجها أو يقف أمام الكاميرا لأداء مشاهدها، فمن حيث الجنسية، نعم هذه أعمال سورية حققها فنانون يتمتعون بالجنسية السورية، لكن معظم ما يقدم عبرها لا يعدو أن يكون شخصيات باهتة وضائعة في سديم عولمي خالص، فلا المكان واضح ولا الزمان جلي، فقط هناك حفاظ على وحدة الحدث كضلع أساسي من أضلاع الوصفة الأرسطية، تماماً كما كان الحال مع مسلسل (أوركيديا) لكاتبه عدنان عودة ومخرجه حاتم علي، والذي نزع نحو بنية استعراضية لأماكن التصوير (تم تصوير معظمه في رومانيا) على حساب نص تبدو فيه النزاعات محرّفة عن (صراع عروش) ومآسي شكسبيرية لممالك تميد وأخرى يؤلفها القتل والدسائس والمؤامرات. بنية رمزية لم تسعف صاحب (ربيع قرطبة) في تقديم عمل حجز مساحته على قنوات عرض بارزة، دون القدرة على التأثير المتوقع منه نظراً لحشد ممثلي الصف الأول في كوادره الباذخة، وميزانيته المالية العالية ( تم تداول خمسة ملايين دولار لإنتاجه).
رغم كل ذلك ثمة من أصر على دراما سورية صرفة، أعادت أنماط العيش والظروف الحياتية للعائلة في الحرب السورية إلى واجهة الفن التلفزيوني، حدث ذلك مع مسلسل (أزمة عائلية) لمخرجه هشام شربتجي الذي قدّم العائلة هنا على مسافة حذرة من طرفي النزاع، لأسرة من الطبقة المتوسطة في المجتمع السوري وما تكابده من أحداث الموت والتهجير اليومي، حيث جاء العمل في شرطه الكوميدي خافتاً، لكنه أعاد صورة الطبقة الوسطى التي حوّلتها الحرب إلى حطام في معظم المدن السورية الكبرى، منحازاً مرةً أخرى إلى تناول تهكمي للأحداث بعيداً عن شرطها السياسي، بل بالاتكاء على زحمتها اليومية ولعبجاتها المعيشية ومفارقاتها الدامية.
مكابدات لن نعثر عليها بعد اليوم في معظم خطوط الإنتاج المعطّلة التي إما تعكس حياة غاية في الرفاهية، أو تصوّر قاعاً لمجتمعات هامشية ترعرعت فيها الجرائم ونمت في ساحاتها الخلفية قيم الانحلال الأخلاقي وتجارة الكيف. عشوائيات وممالك رملية محدثة في قلب المدن التي تعيش على حواف الحرب، كما هو الحال مع مسلسل (شوق) لمخرجته رشا شربتجي وكاتبه حازم سليمان والذي حقق مستوى عالياً من المجازفة والخوض في أحوال عصابات الحرب وما تركته من آثار مباشرة على كرامة الإنسان وحقه في الحياة، لنتعرف على (روز) السيدة التي ستختطفها مافيا إسلامية أقرب إلى داعش، لتقوم ببيعها هي ونساء سوريات في سوق السبايا لمجاهدين على جبهات القتال، حيث تدور القصة على ثلاثة محاور، فبالإضافة إلى معسكر اعتقال النساء، هناك قصة حب بين بيروت ودمشق لا تلبث أن تصبح بمثابة تمرير مناظر فارهة بغية تحقيق شروط التسويق على حساب القصة المحورية التي حظيت باهتمام الشارع السوري، لما فيه من عرض حال لأول مرة لواقع عشرات النساء المختطفات في سجون الفاشيست الديني (داعش).
المشهدية المنقبضة والمكان الخطر وكمية العنف الزائدة تبدو اليوم من مفاعيل التسويق للدراما المنفية من معظم تلفزيونات العرب، لكنها في الأعمال الكوميدية تبدو أكثر استخفافاً بعقل المشاهد وذائقته. تجلى ذلك في الجزء الثاني عشر من مسلسل (بقعة ضوء) الذي شهد تراجعاً كبيراً على مستوى الأفكار التي ناقشها في لوحاته في العام الماضي (كتب معظمها شادي كيوان وسامر سلمان) فيما توقفت شركة (سما الفن) عن إنتاج جزء جديد منه بعد تدني مستوى لوحاته، خصوصاً لوحات (سيفون) التي كتبها وقام بأدائها الممثل أيمن رضا، مفتتحاً نوعاً جديداً من (دراما المرحاض) والتي يقضي فيها رجل خمسيني مذعور أيامه ولياليه في الحمّام لتسجيل اعترافات أمام كاميرا منزلية، لا يلبث أن يقوم بمسحها بعد جلسات التصوير، خوفاً من تعرضه للمساءلة.
فكرة قد تكون مناسبة لفيلم روائي قصير، لكن لا طاقة على مطّها في ثلاثين لوحة وفق سطحية النصوص المكتوبة لها، ناهيك عن لوحة ( ترامبو- تأليف ديانا فارس) التي تطرقت للانتخابات الرئاسية الأمريكية ببطولة (سلوم حداد)، لتكون هذه اللوحة مجرد (تنكيت) وتقليد لكاركتر قاطن البيت الأبيض دونالد ترامب وخصمه (هيلاري كلينتون- أدى الدور وفاء موصللي) لوحة لم تبلغ شكل الكباريه السياسي، كما أنها لم تتعد التهريج في مستوياته الدنيا، كما كان الحال مع استعادة لوحة (أم سعيد الرز) التي بدت في هذا الجزء باهتة وبعيدة عن الصدمة التي حققها مؤلفها ومؤديها ( أيمن رضا) في الجزء الثاني عشر من مسلسل ( ياناس خلوني بحالي).
أعمال كثيرة لم تحظَ هذا الموسم بفرصة العرض من مثل (سايكو) لأمل عرفة و (ترجمان الأشواق) لمحمد عبد العزيز، و (فوضى) لسمير حسين و( هوا أصفر) لأحمد إبراهيم أحمد و(الغريب) لمحمد زهير رجب، حيث لم تحظَ هذه الأعمال بفرصة عرض مناسبة على قنوات الخليج، وذلك بعد عرض معظمها على الرقابة في محطات خليجية بارزة فضلت استبعادها عن خارطة البث الخاص بها للالتحاق بسوق الفرجة الرمضانية القادم، بينما تستمر شركات ذات رؤوس أموال غامضة في إنتاج أعمال غاية في السخف والاستهانة بذكاء المشاهد، من مثل (جنان نسوان) و (غضبان) و(سنة أولى زواج – قررت الشركة إنتاج جزء ثانٍ منه) الأعمال التي ضربت عرض الحائط بألف باء الكتابة والإخراج والتمثيل، مورطةً ممثلة مثل ديمة قندلفت في المشاركة ببطولتها.
يبقى (الرابوص) لمخرجه إياد نحاس وكاتبه سعيد خناوي خطوة جريئة في خلق عوالم غرائبية لم يتوفر لكوادرها ذات الأجواء المريبة سيناريو قادر على سرد حكاية شخصياته المأزومة والخائفة، مثله في ذلك مثل (حكم الهوى) لمخرجه محمد وقاف، والذي عانى النص الذي كتبته ريما عثمان له من هنات عديدة وضعف في معالجة قصص الحب التي روتها عبر ثلاثيات كررت ثيمات درامية تم تناولها في أعمال مشابهة على نحو: (أهل الغرام) و (سيرة الحب) وسواها من مسلسلات الحيارى والعشاق والضائعين، بعيداً عن زمن الحرب وويلاتها، وبانسلاخ تام عن ظروف الحياة تحت القذائف والصواريخ وعلى مقربة من السيارات المفخخة، حيث تبدو الحياة بلون وردي مع إقحام بيروت على حكاية بعض الثلاثيات، من أجل الدخول في وصفة ما يسمى (البان آراب) وسواها من بدائل الوحدة والسوق العربية المشتركة في الدم والمسلسلات.
بالمقابل فضل آخرون الاتجاه إلى خيار مسلسلات (النت فليكس) والعرض مباشرة عبر اليوتيوب، حيث حظي مسلسل (بدون قيد) لكاتبه زاهي وهبي ومخرجه أمين دره بمتابعة لافتة على موقع الفيديو العالمي، مقتحماً محظورات رقابية عديدة، لكن دون الاشتباك فعلياً مع البنية الاجتماعية السورية الراهنة، زاد في ذلك التقتير في الإنتاج المرصود للمسلسل. على عكس مسلسل ( المهلب بن أبي صفرة) الذي أعاد ذكرات المسلسلات التاريخية السورية عن نص لمحمد البطوش وإخراج الأردني محمد لطفي، مستعيداً سيرة أحد ولاة الأمويين، بينما يشهد مسلسل ( هارون الرشيد) لمؤلفه عثمان جحا ومخرجه عبد الباري أبو الخير نكوصاً نحو العصر العباسي عبر تقديم خفايا من شخصية ملك الشرق القديم، وبميزانية قدمها تلفزيون أبو ظبي بالشراكة مع شركة (غولدن لاين) كمنتج منفذ للعمل الذي يضم العديد من ممثلي الصف الأول بين نجومه. بادرة ينظر إليها البعض بعين الريبة، ففي الوقت الذي تمتنع فيه المحطات العارضة عن تقديم الأعمال السورية على شاشاتها لاسيما التي تختص بالحرب، تقدم هذه المحطات على تمويل مسلسلات تاريخية ذات سياق ديني رجعي، مما يطرح أسئلة مجدداً عن الأجندة التي تقف خلف إعادة تكريس العصور الإسلامية على مساحة الفرجة العربية!
بواسطة Anwar Badr | أبريل 28, 2018 | Culture, غير مصنف
حوار مع الروائي السوري مازن عرفة حول روايته الجديدة “الغرانيق” الصادرة في بيروت عن دار هاشيت أنطوان ـ مؤسسة نوفل في بيروت.
يبدأ مازن عرفة روايته الثانية “الغرانيق” بفصل عنوانه “البلدة” وهو يرسم بتؤدة معالم بلدته التي عاش فيها جلّ عمره، يرسم معالم بلدته بسردية كلاسيكية وهو يقول:
“أنا مواطن صغير، أعيش في بلدة متواضعة، تترامى بيوتها الكئيبة على امتداد سهل أجرد، تظلّلها الجبال الجرداء من الغرب …
ما زال بعض المسنين يتحدثون عن نهر غزير كان يسقي حقولاً خضراء واسعة وممتدة حتى المدى … اختفى فجأة، وكأنّ الأرض ابتلعته …”ص9
ومن يعرف الكاتب وبلدته “قطنا” في ريف دمشق، يستطيع أن يقرأ الكثير من التفاصيل التي تحيلنا إلى هذه البلدة، ابتداءً بالنهر الذي اختفى، أو “معسكرات جنود الثورة” في الجهة الغربية للبلدة، وصولاً إلى الكثير من التفاصيل المتعلقة بالأمكنة والأشخاص والحوادث، إلاّ أنّه لم يمنح هذه “البلدة” أيّ اسم، مكتفيا بأل التعريف فقط.
س1 – كيف اتّسعت هذه البلدة لمساحة البلد ككل “سوريا”، وكيف انفتحت الأحداث من خلالها لتشمل كل ما يجري أيضاً، وكأنك تكتب سيرة ذاتيه لبلاد تموت؟
ج1 – الكتابة بالنسبة لي هي استمرار للحياة، إذ كنت أشعر بأنّي أعيش سرديّة حكاية كبرى في بلد كان يعيش مخاضات التفجّر، وصولاً إلى انفجار “الانتفاضة السورية” التي وصفتها في “الغرانيق”، وما تلاها من أحداث كنت شاهداً مباشراً عليها في روايات قادمة… فأنا لم أغادر البلاد إلاّ في عام 2017، وأخلص بذلك للقول: “إنّ الرواية حياة، والحياة هي رواية”.
وبناءً على هذا، فليس المكان والزمان هما فقط المرتبطان بطريقة أو بأخرى بحياتي كرواية، بل والأحداث أيضاً، طبعاً بعد تحويرهم بما تتطلب تقنيات العمل الروائي كالفانتازيا والتداعيات والمونولوجات الداخلية وأحلام اليقظة، وهو جزء أساسي من تقنيّة السرد لدي، لذلك استخدمت ضمير المتكلم مع جميع أبطال روايتي، كأنّها سلسلة انفصامات لشخصيات متعددة تنطلق من جوهر واحد، هو هذا الإنسان الممزق في عالم يسوده الاستبداد العسكري والديني إلى درجة تهميشه وشعوره بفقدان أي معنى لحياته، فيتشظى إلى مئات الشخصيات.
وبلدتي الصغيرة هي نموذج لكل البلدات السورية التي “انتفضت” ضدّ الظلم والفساد، وبشكل خاص نموذج للبلدات التي تحيط بالعاصمة دمشق، إذ تتخذ أهميّة خاصة بسبب قربها من الجولان، ممّا جعلها منطقة شبه عسكرية منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث أخذت تتحول من بلدة ريفية صغيرة خضراء وادعة، فيها تنوّع سكاني ديني متسامح، إلى منطقة مواقع عسكرية، لم تلبث أن زحفت على أراضي الفلاحين وأخذت تلتهمها بدون حق، فكان يكفي حفر بضع حفر لدبابات وهميّة ويتم الاستيلاء على الأرض، وسرعان ما قامت المافيات العسكرية والمدنية السلطوية بسرقة الأراضي المستولى عليها باحتيالات على القانون، وتحوّلت إلى مزارع استجمام لكبار الضباط والمسؤولين، ممّا ولدّ نقمة داخلية لدى أصحابها.
المكان في “الغرانيق” هو بلدتي كنموذج للبلدات السورية، التي تحاصرها الجبال الجرداء من الغرب، التي دمّر أشجارها الكثيفة الفلتان من القوانين، وصحراء جرداء ممتدة إلى الشرق، ومواقع عسكرية ، أصبحت الآن مواقع للميليشيات الإيرانية والروسية، وما اختفاء النهر حقيقة إلاّ هو واقعة رمزية للحالة الجرداء التي وصلتها البلاد والأرواح.
الشرفة التي يقف عليها “البطل المثقف” هي شرفتي، والساحة أمامها هي التي كان يجتمع بها متظاهرو الانتفاضة أمامي، والبساتين ببيوتها الريفية القديمة هي التي كان يجتمع بها المنتفضون، والشارع الرئيسي في البلدة هو الذي أحرقه “الشبيحة” القادمين من إحدى “المساكن العسكرية” حولها، “أهالي البلدة” هم شخصيات شبه حقيقية تناولتها ببعض التحوير حسب متطلبات العمل الروائي فقط.
لذلك أقول: إنّ المكان ترك بصمته في الذاكرة والحكاية، و”الغرانيق” ذاكرة وحكاية بعد أن عملت السلطة على تدمير البيوت الريفية، وقلع أشجار الحقول من جذورها، وهي التي تعيش فيها من مئات الأعوام… “المرتزق الشبيح” لم يزرع لأشجار ولم يروها بدمه طوال أجيال، فماذا يهمه إن أضحت الحقول جرداء… والبلاد والأرواح جرداء تذهب إلى الموت.
س2 – جاءت روايتك الأولى “وصايا الغبار” لترصد انكسار المشاريع الثورية من خلال الفساد السياسي الذي طال كلّ مكونات المجتمع والحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية قبل الانفجار، لكنك في “الغرانيق” تسعى إلى رصد انتقام تلك الديكتاتورية المعنّدة، وفق المصطلح الطبي، والتي قامرت على احراق البلد دون التخلّي عن السلطة، وساهمت بانتقال الثورة مع العسكرة والأسلمة والتطرّف إلى حرب أهليّة بظلال طائفية، تبدو آثارها المستمرة لأكثر من سبع سنوات خلت أبعد من حدود المُتخيّل والجنون.
فكيف لنص أدبي أن يرصد كل ذلك؟ ومن أين نبعت جذور هذا العنف؟ وما هي آلياته؟
ج2 – هذا العنف السادي الوحشي الحاقد الذي تتبادله مختلف الأطراف السورية فيما بينها، وبتنوعاتها الدينية والطائفيّة والإثنيّة والمناطقيّة، بلغ ذروته إثر المواجهة العنفية للنظام “العسكري الاستبدادي” ضدّ “الانتفاضة السورية”، التي بدأت “سلمية”، إلاّ أنّها سرعان ما “تعسكرت” كردة فعل على عنف النظام، ثم ذهبت إلى موتها مع “أسلمتها العنفية”… وكأنّ هذا العنف كان مختزناً في اللاوعي الفردي والجمعي، يتراكم بكثافة، وينتظر شرارة صغيرة ليتفجّر، ويُدمّر كل ما حوله، وقد تحوّلت البلاد إلى حرب أهليّة وحشيّة، سرعان ما أصبح أفرادها أدوات في صراعات إقليمية ودولية، وقودها الدم السوري على الأرض السورية.
هل كان هذا العنف نتاجاً تاريخياً لـ”العقلية الستالينية”، التي انتهجتها الأحزاب العقائدية، لبناء “نظام شمولي” يقوم على عسكرة المجتمع تمهيداً لعبادة الفرد “الزعيم الجنرال”؟
عاش أطفال سوريا تجربة العسكرة منذ نعومة أظفارهم، بدءاً بالتربية العقائدية في منظمة “طلائع البعث”، ومروراً بنظام “الفتوة العسكري” في المدارس الإعدادية والثانوية، إلى جانب منظمة “اتحاد شبيبة الثورة”، التي منحت علامات تفوق دراسي مؤهلة لدخول فروع مميزة في الجامعة بمجرد إجراء دورات عسكرية عقائدية، وصولاً إلى نظام “التدريب العسكري الجامعي”… دون الحديث عن عسكرة مظاهر الحياة المؤسساتيّة الإداريّة والثقافية في المجتمع السوري، وتحكم العسكر في مفاصل هذا المجتمع.
ألم يكن العنف نتيجة منطقية لسلطة العسكر التي استثارت ضدّها عنفاً إسلامياً مضاداً، محافظاً شرساً كامناً تحت الرماد، حيث أخذت الحرب الأهليّة الحالية في أحد مظاهرها شكل صراع طائفي ظهرت إلى السطح كوامنه من اللاوعي؟ صراع بين جيوش النظام الإنكشارية الخاصة، وبين الجماعات الجهادية العنفية باسم الإسلام، وإن كان بعضها بإشراف النظام ولمصلحته؟
أم كان هذا العنف نتيجة عقلية “الاستبداد الشرقي البطريركي” الموروث تاريخياً في اللاوعي الجمعي لأفراد المجتمع، بمفاهيم “البداوة” و”الغزو” و”السبي” و”النهب”، الذي يتمظهر حالياً باسم “التعفيش”؟
كل هؤلاء الأفراد المستبدون يشكلون تمظهرات للآلهة “الغرانيق”، الجميع مسكونون بالرعب، بدءاً من “الإله القائد”، مروراً بزعيم “القبيلة” أو “الطائفة” أو “العائلة”، وصولاً إلى رب الأسرة في المنزل… وكأن العنف يسري في الدماء.
أم يكون هذا العنف نتيجة “عسكرة إسلامية لا واعية”، واظب خطباء المساجد يومياً بالدعوة إليها باسم “الجهاد”، دعوة لجهاد عنفي بحد السيف، تتكرّر بلا نهاية على منابر المساجد وعبر وسائل الإعلام، في المناسبات الدينية أو بدونها. وهو جهاد عنفي غير موجّه ضدّ الخارج، بقدر ما هو موجّه ضدّ “الكفار في “ديار الإسلام”، أبناء الطوائف الأخرى، الذين لا تقبل منهم حتى “الجزية” مقابل حرية العبادة، كما تقبل من المسيحيين واليهود! هذه الدعوات “الجهادية” ترعرعت وتمأسست بحرية في ظل نظام يدعي “العلمانية”، وكان يستغلها لأهدافه الدعائيّة في الصراع مع “أعدائه الوهميين”. لكن السحر انقلب على الساحر بعد أن استشرى العنف في نفوس الجميع.
عندما أطرح هذه التوجهات الأربعة لأصول العنف المستشري في البلاد، والذي أوصلها إلى هذا الكم النوعي من الخراب والدمار، أجدها متضافرة معاً بطريقة أو بأخرى في بنائه، وهو ما كنت أفكر به لا شعورياً طوال الوقت في أثناء كتابة “الغرانيق”، وبالأحرى ما كنت أفكر به بقدر ما كنت أعيشه في أثناء كتابتها، وأنا أقطن في بناء في بلدتي القريبة من العاصمة، وقد تحوّل هذا البناء إلى موقع عسكري محصن، والطابق الأوّل تحوّل إلى مكان اعتقال أوّلي ومركز تعذيب، فيما استقرّ في النهاية خط النار بين “النظام” و”المنتفضين” على بعد عدة كيلومترات.
هل يبرّر أو يفسر ذلك جرعة العنف الكثيفة في الرواية؟ وهل تكون مجرّد انعكاس لأجواء العنف المعمم من حولي؟
بدءاً من القسم الأول الذي يمثل زمناً مطلقاً لديكتاتورية عسكرية تنطبق على جميع الأمكنة بذروة رعبها “الكافكاوي” الذي تفرضه على مجتمعها، ومروراً في القسم الثاني بتاريخ سوريا المليء بانقلاباته العسكرية والتصحيحية والتطهيريّة والاستئصاليّة، العُنفيّة جميعها، والتي واجهها الناس بداية في لاوعيهم بمسحة من سخرية “الواقعية السحرية” و”أحلام اليقظة الجمعية”، حتى لحظة الوصول إلى درجة الانفجار الذي أضحى واقعاً، وصولاً إلى القسم الثالث المُتمثّل بأحداث “الانتفاضة السورية”، سواء بالعنف السلطوي الذي تمّت مواجهتها به، أو بعنف “أسلمتها” الذي تسلّل إليها وطغى عليها، وهو ما ترك البلاد في النهاية ممزقة، خراباً ويباباً، ومرتعاً لجيوش وميليشيات الغرباء.
س3 ـ نجح النظام بدعم الظاهرة الجهادية في سوريا والتي قضت على الثورة بسرعة حين قادتها إلى الأسلمة والعسكرة معا، وهو ما خطط له النظام، وكانت الأدوات الإسلاميّة جاهزة للعب هذا الدور، مع إعلان “الجهاديين باسم الإسلام” سعيهم لاستعادة خلافة رشيدة عبر قتل الناس.
أليس في ذلك مُخاتلة للماضي؟
ج3 – إذا أردنا الحديث عن الإسلام الآن، فعن أيّ إسلام نتحدث، إسلام “داعش والقاعدة” الدموي، أم “إسلام فتاوى الأصولياّت” التي تعيش في غربة عن عالمنا، أم “إسلام المشاريع الوهابية الصحراوية”، أم “إسلام المشاريع الشيعية” المريضة بهواجس تاريخ عابر، أم إسلام “الإخوان المسلمين” المرائين لأيّ نظام خارجي يدعمهم، أم “إسلام الصوفيين” المهادن لأي سلطة، أم “إسلام فقيه السلطان في الممالك والجمهوريات” المهادن للسلطات، أم “إسلام الطقوس” الممتزجة بالعادات الاستهلاكية المعولمة، أيّ إسلام نريد؟
هذه الإسلاميات تنتمي جميعها إلى الماضي، وتُقاد من قبل رجال دين مسكونون بأوهام الماضي حدّ المرض النفسي، لذلك هم موتورون، ويعيشون خارج التاريخ، وغالبا ما يدعمون الاستبداد وأنظمة الفساد التي تشبههم، والتي يعيشون في ظلها، ويتكاملون مع بعضهم في تخريب المجتمع، وذلك ما يشجّع تلك الأنظمة على دعمهم، والسماح لتنظيماتهم ومؤسساتهم بالانتشار، طالما كانوا في خدمتها، دون أن تسمح للتيارات الديمقراطية بالنمو، لأنها تشكل تهديداً لوجودها القمعي.
الإشكاليّة أنّ هذه الأنظمة تتوهّم القدرة على إبقاء القوى الإسلاميّة تحت سيطرتها، وأنّ المريدين سيأتمرون بأوامرها، لذلك انتعشت التيارات الدينية في ظلّ أنظمة تدّعي أنّها علمانيّة، بل كانت الدولة تشرف على تشكيل التنظيمات الجهاديّة خدمة لأهدافها، كما حدث مع إشراف النظام السوري على تجنيد الجهاديين، وإرسالهم إلى لبنان أولاً، ثمّ إلى العراق في زمن الاحتلال الأمريكي له.
التصفية الجسدية مع “الانتفاضة السورية” كانت بحق الناشطين المدنيين، حتى أنّ جثثهم لم تعد تسلم إلى أهاليهم، ومثال ذلك ناشطو داريا الذين كانوا يوزعون الورود وزجاجات المياه على رجال الأمن في أثناء التظاهرات، بالمقابل جرى الإفراج عن الإسلاميين، وبخاصّة المتطرّفين منهم، حتى يشكلوا تنظيماتهم الإرهابيّة، بعملية مقصودة ومُخطّط لها، والأسماء التي أفرج عنها من سجن “صيدنايا”، هي التي شكلت لاحقا “النصرة” و”جيش الإسلام” و”صقور الشام” على سبيل المثال، وهي معروفة بالوثائق والصور. هؤلاء الإسلاميون المتطرفون هم الذين قضوا على الانتفاضة السورية السلمية، بالتعاون مع السلطة العسكرية، والمستقبل سيكشف الكثير من الخفايا.
لذلك انتهت “الغرانيق” برؤية تَنبؤية عن تبادل الأدوار بين “الزعيم الجنرال” و”الأمير الإسلامي”، كوجهي عملة واحدة، وأعتقد أنّ رمزيّة “الغرانيق” تتجاوز الزمان والمكان المحدد، إلى زمان ومكان مطلق مفتوح في مجتمعاتنا العربية.
س4 – كيف تماهت شخصية “المواطن الصغير” بشخصية “المثقف” ومن ثم “الزعيم الجنرال” الساعي لتأبيد سلطته عبر ألف ليلة وليلة من القتل، وكيف نجحت الديكتاتورية كأي سلطة بتعميم ثقافتها ونموذجها في دواخلنا؟
ج4 – أشرت في البداية إلى تشظّي الإنسان المُهمّش والمُمزّق بين الاستبدادين العسكري والديني، هذا الإنسان تحوّل في سياق النص الروائيّ من شخصية عادية إلى نموذج معياريّ، يُمثل بمجموعه فئات مُحدّدة من المجتمع، فالمثقف الذي يقف على شرفة “المسكن الذي كنت أسكنه في الواقع” ويراقب التظاهرات منها، فيه بعض مني، والشاب “الثوري العنيف” ذو الأصول الريفية الذي كان يقود التظاهرات، فيه بعض من شبابي في البلدة، ببساتينها وحقولها، و”الزعيم الجنرال” هو جزء من حلم يقظة مارسته وإن بشكله البدائي، ومارسه كثيرون مثلي، في مرحلة الانفجارات الثورية منتصف القرن الماضي. أمّا الشخصيات الأخرى فأنا أعرفها جيداً وعشت معها، ابتداءً من “فتاة الحلم التي تخترق الأزمنة”، مروراً بالفلاحين البسطاء الذين سرقت المافيات العسكرية أراضيهم، وصولاً إلى “شبيحة النظام”، و”الجهاديين الإسلاميين” الذين أعرفهم عن قرب واحتككت بهم أيضاً.
تلعب التداعيات النفسيّة والمونولوجات الداخلية وأحلام اليقظة، الفردية والجمعيّة، دوراً أساسياً في تقنية كتابة الرواية لدي ـ منذ روايتي الأولى، ومن ثمّ “الغرانيق”، إذ أنّه في ظلّ عنفٍ مُستمر وحشيّ من قبل نظام عسكري شرس ضدّ أفراد المجتمع، يحاصر عوالمهم الخارجية، فإنّهم يلجؤون كحل أوّليّ إلى عوالمهم الداخلية، إلى لحظة هروب من الواقع القاسي لصعوبة مواجهته مباشرة، ومن ثمّ الانتصار عليه عبر “أحلام اليقظة”، فيمارس كل واحد منهم “عنفه الحلمي” الهوليودي ضدّ العسكر، وأجهزة الأمن، ويزيحهم من الوجود التوهمي.
يقول بطل الرواية عن رجال الأمن: “كنت أتحين الفرصة في عتمة الليل، وأنا مختبئ في فراشي تحت اللحاف، كي أقنصهم أو أفجّر مراكزهم، بل وأعذبهم، كما يفعلون هم مع معتقليهم”.
“حلم اليقظة” هو تعبير هروبي عن عجز للإنسان، وتمزّقه في ظلّ رعب كافكاوي، يحاول أن يقاومه به، هو سمة إنسان العصر الحديث الهارب من ضغوط الحياة المعقدة، فكيف إذا تمثلت بقمع نظام عسكري مُستبد، يستمد جذور عنفه الوحشي من كل المصادر المتخلفة التي أشرنا إليها. والأقسى هنا، أنّ حلم الإنسان المقموع، قد يُخفّف توتره النفسي مؤقتاً، لكنه يقوده إلى موقف غرائبي، قريب من اللامبالاة وعدميّة “ألبير كامو”، فيتساءل البطل عن مواجهته الحُلمية مع رجال الأمن: “والمشكلة التي كانت تواجهني هي أنني إن قتلت واحداً منهم في الخيال، ازدادوا عشرة في الواقع”.
في القسم الثالث من الرواية، كان اندلاع “الانتفاضة السورية” تعبيراً عن مواجهة الواقع القاسي مباشرة، عبر الانتقال من “حلم اليقظة” الهروبي، لدى فئات واسعة ومختلفة من المجتمع، إلى الفعل الإيجابي عبر التظاهرات السلمية والاعتصامات في الساحات والدعوة إلى إسقاط النظام. ومن هنا كان أحد مظاهر أهميّة “الانتفاضة” هو في تعبيرها عن الخلاص من كوابيس الرعب لدى أفراد المجتمع بشكل واسع، والتي حاولت أنظمة القمع زرعها في النفوس لخمسين سنة خلت، والانتقال إلى الفعل الإيجابي.
ففي “ثورات الربيع العربي” لم يكن المهم فقط هو ذلك الفعل المادي بتحطيم تماثيل “غرانيق العسكر” في الساحات والشوارع، وإنمّا تحطيم تماثيلها المعبودة في العقول، وهو ما حاولت الأنظمة العسكرية زرعه خلال خمسين عاماً، ومعها انتهى الوهم المرتبط بالرعب الكافكاوي والإحساس بعدميّة التمرّد والثورة. هذا الخروج وهذا التحطيم كان التعبير الأهم عن “ثورات الربيع العربي”.
لكن العنف يستمر قضية مركزيّة في الرواية، فالصراع كان شديداً داخل “الانتفاضة”، بعد مرور عدة أشهر من انفجارها، بين الاتجاه السلمي الذي كان يدعو إلى التظاهرات السلمية والاعتصامات، ممثلاً بشخصية “الأستاذ فارس”، وهو نتاج الطبقة الوسطى المتعلمة، والمُتضرّرة من تدميرها على يد النظام العسكري، من جهة أولى، فيما تمثل الاتجاه العنفي بشخصية “البطل” مجهول الاسم والهوية، كمُمثل لفئات واسعة من ذوي الأصول الريفية المتضررة من سرقة العسكر لأراضيهم، غير أنّ الرد العنيف لعسكر النظام و”شبيحته” باستعمال السلاح ضدّ المتظاهرين، أفسح مجالاً أوسع لبروز البطل العنيف، في محاولة يائسة للدفاع عن النفس، وتمثل ذلك برمزيّة إخراج خنجره القديم ومسدسه العتيق من محفوظات ذاكرته، وهذا ما حدث في الواقع.
سارت الأحداث في الرواية عن طريق الفانتازيا إلى نوع من التماهي الخفيّ بين شخصية “الزعيم الجنرال” العنيف، و”البطل من ذوي الأصول الريفية” العنيف أيضاً، بغض النظر عن النوايا الثوريّة لديه، في لعبة أقرب للواقعيّة السحرية، والتداعي النفسي، وسلسلة من الانفصامات الشخصية المرضيّة، بحيث بدت الشخصيتان وكأنّهما وجها عملة معدنية واحدة، بالتوازي مع انفصاميّة شخصية ثالثة، مثلت “المثقف الانتهازي” الذي يختبئ وراءهما، ويميل مع المُسيطِر منهما، فتحوّلت الرواية من مظهر بطل أحادي يتحدّث بضمير المتكلم، إلى سلسلة من الشخصيات المنفصمة، تتحدّث جميعها بضمير المتكلم نفسه، في تبادل للأدوار التي تتكامل وتتشابك، وهذا ما جعل الرواية تنفتح إلى احتمالات مُتعدّدة من النهايات بقدر تشعبات مظاهر العنف ومصادره.
س5 – كيف تنتقل الساديّة السياسية إلى ساديّة جنسية؟
ج5 – خَصَصْتُ في الرواية فصلين مهمين عن حكاية البطل الشخصية، المختلطة بتاريخ سوريا الخاص منذ خمسينيات القرن الماضي، سميت أحدهما “سادية سياسية” والثاني “سادية جنسية”، ومع أنّ الفصلين مكتوبين بنوع من الفانتازيا السحرية، ممّا يتطلب عملاً روائياً يسعى إلى متعة القراءة، والكتابة الساخرة من موضوعها، إلاّ أنّ خلف كتابتها كان يؤرقني سؤال عن البُنية النفسيّة والاجتماعية لواقعنا ومجتمعنا. كنت أفكر دائماً بالعلاقة بين الجلاد والضحيّة بشكل عام، وفي المعتقلات بشكل خاص، وأتساءل: مادامت الضحية تعترف للجلاد بما يرغب من أسرار، فلماذا يستمر بتعذيبها حتى الموت؟
ليس المهم من هو الجلاد، سواء كان من عسكر النظام أو من الجماعات الإسلامية، فالجلاد هو جلاد في النهاية، يتلذذ بالتعذيب بمتعة ساديّة غامضة، غير أنّ ساديّة التعذيب حتى الموت، كذبح الضحية بالسكين أو فرمها بجنازير دبابة أو صعقها بالتيار الكهربائي، أو تذويبها بالأسيد، أو تجويعها حدّ الموت وما شابه ذلك من عمليات، حيث يُصر الجلاد على التعذيب بعملية حاقدة، تطال الطرف الآخر وما يُمثله بآن معاً. إذ يعتقد انّه بهذا الفعل ينتقم من الفئة التي تنتمي إليها الضحية “الدين، الطائفة، العشيرة، الإثنيّة، الانتماء المناطقي…الخ”.
يتحوّل العنف الذي يندمج مع المتعة الجنسيّة إلى ساديّة مطلقة، وهذا ليس بغريب عن مجتمع العنف البدوي البطريركي المزروع في لاوعينا؛ مجتمع الغزو والسبي، فالعربي لا يقبل إلاّ أنّ يقتحم غشاء البكارة في ليلة عرسه إثباتاً لرجولته المفقودة، ويفتخر علناً بـ”غزواته الجنسية”، والحوريات في الجنة الإسلامية هنّ أبكار، يتجدد غشاء بكارتهن بعد كل ممارسة جنسية، بينما المرأة العربية تفقد قيمتها الإنسانيّة بفقدان بكارتها، حتى بعد الزواج، كما أنّها محرومة من الاستمتاع في الجنة مع الحوريين، لأنّ العقل البطريركي لا يرضى أن تنام الزوجة مع حورييّ الجنة، فالإله يختار لها زوجاً واحداً.
هكذا تبدو حياتنا الشرقية مشبعة بالعنف والكبت الجنسي الذي يتفجر على سبيل المثال باغتصاب السجينات في معتقلات النظام، والسبايا في غزوات الإسلاميين، ويصل ذلك إلى اغتصاب الرجال وحتى الأطفال، إمّا لفظياً أو فعلياً، لينتهي هذا بموت الضحية، وهكذا تصبح متعة التعذيب بدون هدف سوى التعذيب متعة جنسية سادية.
تصوّر ذروة الساديّة في الرواية، بمشهد اغتصاب “الزعيم الجنرال” لضحيته وهي تنازع الموت، وينتهي فيها بلحظة موتها، في حين تبدو المتعة السادية لدى السجانين في دفن الجثث الجماعي، دون الاهتمام بوجود أحياء بينهم.
س6 – تنتقل بنا من متاهة “الزعيم الجنرال” إلى عوالم “دون كيشوت” الهزليّة، لنكتشف لاحقا طعم “المذاق المُرّ” الذي تحدّث عنه “نيتشه” لعمل كان هزلياً في زمنه، وأعتقد أنّ أيّ قارئ لهلوسات وكوابيس “الغرانيق” سيحس طعم المرار الذي تحدث عنه “نيتشه”!
ج6 – هي الفانتازيا السحرية، خيال مريض يُعشعش في دواخلنا، خيال مليء بالخرافة والأوهام، خرافة تغزو كل معتقداتنا وتصوراتنا، وتشكل حياتنا اليومية، تحيلنا إلى أشخاص مهووسين بالجنس، ومقموعين بالاستبدادين الديني والأمني، فنهرب من كلّ ذلك إلى أحلام اليقظة والأوهام، نعيش انفصامات مرضيّة غير متناهية، تشوّه الشخصيات والأحداث أيضا بشكل كاريكاتيري بالتأكيد، غير أنّ هذه الكوميديا التي تكبر داخل مساحة تراجيديا الموت، وفي أحلام اليقظة والهلوسات القاتلة للزعيم الجنرال، لن تفلح بكل ما فيها من الكاريكاتير بحجب طعم المرار الذي تحدث عنه “نيتشه”.
مازن عرفة ـ روائي وباحث سوري مواليد عام 1955 حائز على إجازة في الآداب، قسم اللغة الفرنسية من جامعة دمشق، ودكتوراه في العلوم الإنسانية ـ قسم المكتبات من جامعة ماري كوري (لوبلين، بولونيا). مؤلفاته “سحر الكتاب وفتنة الصورة” و”تراجيديا الثقافة العربية”، إضافة على رواية “وصايا الغبار”. رواية الغرانيق هي روايته الثانية الصادرة عن دار هاشيت أنطوان ـ مؤسسة نوفل في بيروت في نهاية عام 2017.
بواسطة أسامة إسبر | أبريل 16, 2018 | Culture, غير مصنف
حوار مع الفنان التشكيلي والخطاط السوري خالد الساعي
أسامة إسبر: كيف بدأ دخولك إلى عالم الفن وما الذي قادك إلى الحرف الذي قدته إلى اللوحة؟
خالد الساعي: قادني إلى عالم الفن محيطي العائلي وبشكل طوعي، حيث كان الجو الثقافي في العائلة دائم الحوارات والدرس المعرفي بغرض التمتع بالفن وفهمه، كان انجذابي الأول للرسم، وقمت بأعمال بالألوان المائية والفحم، لكن الحرف أغراني لأنه تجريديا أعلى من الصورة وفيه إغراء جمالي غامض وبشكل غير تقليدي صرت أقلد حروف أخي لكن لا أعلم ماهيتها وكنت وقتذاك في الخامسة من العمر، وتعاملي مع الحرف كان كتعاملي مع الصورة والشكل لا المعنى والدلالة، وهذا جعل منظاري للحرف مختلفاً منذ البداية على أنه كائن وأنا من أحاوره وأضفي عليه اقتراحاتي حيث كنت لا أرتضي بالقوالب الجاهزة، بل أحورها وفق ما أراه، في مرحلة ما كنت أمسك الريشة وأرسم الحرف ثم أمسك قصبة الخط وأرسم بها فاختلطت عليَّ الحدود بل انفتحت ما بين فني الرسم والخط ، وذلك قادني مباشرة لأن أرى الحرف في لوحة التشكيل لا في قالبها التقليدي.
أسامة إسبر: الحرف لديك يخرج من البعد الزخرفي التزييني ويتجسد في أفق بصري إبداعي مختلف، ما الذي قادك إلى هذه الرحلة، من الجمالية الزخرفية إلى الجمالية الإيحائية ذات الطبقات المتعددة؟ أعني هنا أن الحرف تم إنقاذه من الجمالية الباردة، ودخل في أفق تأويلي تساؤلي؟
خالد الساعي: وهذا ينطبق على الفنون جميعا، أعني قد يقع الفنان أو الكاتب أو الشاعر إلخ في مطب التزيينية، هي ما بين استعراض القدرات والتقنية، ومابين إيصال الرسالة بأقل وأبسط طريقة. هناك مستوى للشاعرية القصوى كبعض أشعار البحتري هي ذروة في الإبداع الخالص والتي وصلت إلى عمق اللغة والإيقاع، لكن هناك عتبة قد ينحرف بها المبدع إما عن قصد أو أن التيار يجرفه. بالنسبة لي، في مرحلة ما انقدت إلى ذلك ولكن بهدف الإشباع الفني لكني شُفيت لأني صحوت وأدركت أن كثرة الكلام وكثرة العناصر قد تفضي إلى انقلاب القصد إلى ضده، صرت أميل إلى التكثيف الذي يُغني عن حشد العناصر الاستعراضي وذلك التكثيف يأتي على عدة صعد، في التكوين أو اللون أو في غنى سطح اللوحة وكله قيم تُضاف إلى العنصر الأساسي الحرف وتقويه، ربما ولعي بفكر الفنانين التعبيريين الألمان قوّى تلك الفكرة لدي كتجربة سوتين وغيره، وحتى المعاصرون منهم كأنسليم كيفر يتميزون بالحلول القوية التي تميل إلى التخلص من الزوائد وموازنته بتكثيف وإغناء السطح واللون، لكن الحرف يملك فضيلة أخرى وهي تعالقه مع اللغة واستحالة فكاكه عن القرائية والتأويل وبالتالي المهمة ربما تكون أصعب، فينبغي التحايل على بنية الحرف ليتطوع في التشكيل الكلي للوحة، وتحييد اللغة، أو فض التعالق بين الحرف كعنصر جمالي بصري واللغة، هنا أدخل بصلب عملية التحول الإبداعي، وهي تحويل الحرف للغة تعبيرية بصرية منفصلة عن دلالتها الأولى اللغوية لكنها مطواعة للتعبير البصري باللعب على جسد الحرف كراقص أو عنصر حي يعبر عن نفسه بالحركة.
من ناحية خصائص الحرف، هناك خطوط تزيينية بحتة كخط الديواني الجلي وغيره لكن خط الثلث فيه قوة وجزالة جعلتني أميل إليه أكثر، علاوة على قوته التعبيرية والإمكانيات اللامتناهية في توليد أشكال الحروف وتنوعها. في منطقة ما يلتقي العمل الإبداعي مع جوهره ومهمة الفنان إدراك ذلك بلا زيادة ولا نقصان.
أسامة إسبر: كانت الحروفية أو فن الخط مندرجاً في سياق جمالي تقليدي، وها هو الآن في أعمالك، يتبدى في جمالية جديدة، متوحداً مع حداثة اللوحة، ما المؤثرات التي قادتك إلى هذا الاكتشاف؟ خاصة أنك خرجت من لعبة الأصالة والمعاصرة، وثقافة ترسيخ الثابت والتقليدي. هل تعتبر نفسك حروفياً أم فناناً يستخدم الحرف لمآربه الإبداعية؟
خالد الساعي: أصبحت نظريات الحروفية ودوافعها معروفة من الجميع وأيضا مرجعيات من يتعامل معها و ينتج أعمالاً في هذا الحقل وخضعت لتصنيفات على صعيد استلهام الحرف مابين استنهاض القيم التقليدية للحرف ومزجها مع عناصر اللوحة وما بين مزج فلسفة الخط (الخط العربي) والخط بمفهوم الحركة، والتي قد تلتقي مع خطوط آسيا الوسطى، أي تستمد صيغة شكلية ما لكن تجعل إنتاجها مرهوناً بنبض وحالة الفنان لا مع الالتزام بصرامة الشكل وفي الحروفية العربية ذهبت إلى القيمة الكتابية كفعل وحركة تلقائية، أو حركة تحتمل إسقاط الفكر والفلسفة كشاكر حسن لكنني أرجعت الحرف إلى لبنته الأساسية، قيمته الجمالية الأولى وأخضعتها إلى نظام آخر من إنتاج الحرف كما فكك شعر التفعيلة الميزان الأساسي ووحدات الشعر ليعيد صياغة إيقاع آخر من علاقات الكلمات وايقاعها، لكنني أعتمد كثيراً على الحرف كقيمة تعبيرية شكلية، أظنني في مرحلة ما كنت حروفيا وهذا طبيعي، لكنني ومنذ عدة سنوات أقدم لغتي التشكيلية الخاصة التي عمادها الحرف والإشارة، والتي قد تقرأ جمالياً من متلق لايعرف العربية بشكلها الفني الخالص مع فض اشتباكها مع اللغة، وبالتالي الولوج إلى عتبة أخرى. أظنني أقوم بمهمة مزدوجة وهي الرهان على أن الحرف هو عالمي ولغتي وطريقة تعبيري، وهو فضاء رحب لامحدود على صعيد التأويل والإنجاز والاعتماد على الحرف من الناحية التفكيكية وإعادة بنائه وتحويره، والتي ما تزال تغريني لكن وبشكل غريب (وبعيدا عن الشعر) أصبحت أرى ما حولي وكأنه صيغ من أشكال الحروف، أو أنني اعتمد آلية تلقائية لتحويره في ذهني وهذا ما يخلق الالتباس الحميد في الرؤية لدي. التعريف مشكلة أحياناً، كأنك تقولب شيئا ما، في بعض أعمالي الأخيرة تذوب الحروف وتتلخص من هيآتها لصالح المشهد الكلي، فالحروفية صهرها ضوء وفراغ العمل أو تحولت باكتظاظاتها إلى حقول بصرية.
أسامة إسبر: ثمة علاقة حميمة بين النص الأدبي والشكل الفني البصري لديك، فأنت تستخدم القصائد والنصوص الصوفية وتلعب تشكيلياً بحروفها وكلماتها، كما لو أنها ألوان الرسام الممزوجة والجاهزة للاستخدام لتوليد احتمالات عوالم أخرى، ولكن ماذا عن روحها، كيف تتجلى روح النصوص وتحرضك على الكشف الفني؟
خالد الساعي: اللغة تعرف لبوسات مختلفة صوتها مثلاً، حركتها، أو شكلها الذي يجسده الحرف، المعنى روح والشكل جسد، و لكن التناص بينهما يتحقق إن شف الوعاء أو إن فاض المعنى. إن اشتغالي على الشعر لايزال وإن تغيرت المعطيات والصيغ، فالحرف بوابة للمعاني، وهذه البوابة غير محددة الشكل، والمعاني التي كنت أنهل منها الشعر كمورد أساسي للاشتغال أحيانا يغريني جرس اللغة لا المعنى وأحيانا الصور التي تولدها المعاني لكن الشغل الأساس هو على وحي شكل اللغة، أقصد صورة النص البصرية، أخذتني تلك الشعب إلى أبحاث ومسارات مختلفة، فالشعر التقليدي أخذني إلى مناح معينة لكن شعر التصوف أرجعني إلى روحانيات خالصة وراعني تأويل الحرف لدى المتصوفة وشق لي طرقاً أخرى فصارت الفضاءات أرحب وتخلصت اللغة من ثقلها وانعتقت لكنها في الوقت ذاته أخذت حيزا كبيرا من التأويل، والأهم ما يقترحه علي النص، وعملت على شعر المتنبي ودرويش ومحمد صارم فصارت اللوحات سجالا بين المعاني المنشودة وهيئة النص التي حاولت أن تكون صورته البصرية التي يمكن القبض على جوهره و روحه خارج اللغة لا بل بلغة مغايرة ،هذا ما أغراني في البحث عن نصوص وتحديات أخرى كالشعر العالمي الآخر، مثلا عملت على أعلام الشعر الفرنسي كرامبو وأراغون وبودلير والكثير وأخضعت التجربة الناتجة لاختبار، وأخضعتها بأن عرضت اللوحات التي تجاوز عددها الخمسين على فرنسيين من ذواقة الشعر لكن ليست لهم علاقة بالعربية وسألتهم إن رأوا فيها ما يماثلها من الشعر الفرنسي وكانت النتيجة مذهلة بأنه تم تحديد كل شاعر تماما حتى أنه تم الإجماع على قصائد بعينها كالمركب الثمل لرامبو، و أزهار الشر لبودلير، وحتى أنني وجدت الشاعرة الأسبانية خوليا كاستيليو تقف أمام لوحاتي التي استلهمت من شعرها وهي عن الوقت وقالت إنك اخترقْتَ مخيلتي وقبضت على الصور التي كنت أنشد ثم جلست على الأرض أمام اللوحات مندهشة.
في مكان ما عاليا يكون جوهر الأشياء ونحن ننظر من زوايا مختلفة ونلبسها فنا ما أو قراءة ما لكن المبدع قادر على تخطي ذلك، وهو قادر على التنقل بين هيئات المعنى المختلفة ولكنه يراها واحدة، والمتلقي المبدع يمكنه إدراك تلك المقاربات وتحسس الانتقال الجمالي، فكيف نقول موسيقا تصويرية أو صوراً شعرية، أليست تلك دعوة لفتح المستقبلات الحسية والفنون على بعضها البعض؟
أسامة إسبر: أعرف أنك تأثرت بجوك العائلي، العائلة الكريمة التي كانت في الميادين، هي الآن مشردة في أصقاع الأرض، للأسف الشديد. كيف كان جو العائلة من منظور الطفل المتأثر، وكيف هو الآن؟ ما هو التأثير الجديد للعائلة، وخاصة نحن نتحدث هنا عن مآسي الحرب وتأثيراتها على الإنسان السوري؟
خالد الساعي: يمكن أنني عرجت قليلا على الجو العائلي ودوره في تفتح مداركي على الفن باكرا جدا والنقاشات المشتعلة أبدا عن الشعر والرواية والفكر عموما وعن فني الرسم والخط والموسيقى أيضا وذلك أيضا كان له الدور المهم في إطلاق المدركات الحسية والتشويش على بعضها البعض، وكانت العلاقة بين الأخوة متميزة لا تنافس فيها وكان كل فرد له تمايزه الخاص لكن النقد كان أوفر من الإطراء مثلا لم أستطع أن انتزع إعجاب أخوتي الأكبر بأعمالي حتى ما بعد سن ال 26 ، كانت لنا جلسات قراءة و طقوس للشعر واللغة، الآن أنظر الى ذلك بعين الدهشة لما كانت فيه الأجواء العامة من سكينة وهدوء، أقصد لم يكن لحديث السياسة والقومية من موضع، الآن أصبحت الأمور أكثر تعقيدا وتركيبا حيث تشتتنا في أصقاع العالم، ولم تعد تلك الأجواء إلا في ذكرياتنا وحل الواقع القاسي محلها، تبعات الحرب والخسارة والتشرد فرضت نفسها، ذهنيا وعمليا، حتى تجربتي أخذت منحى مختلفاً في العمل الفني كمنظور ورؤية وصيغ فنية مغايرة. لا نريد الاستسلام لأنه لم تعد لنا بيوت بل لم تعد مدينة الميادين أصلا فهي أنقاض فحسب، الوطن لم يعد ينتمي إلى جغرافية ولا حتى كفكرة وإيمان وهذا زعزع تركيباتنا الداخلية.
مؤخرا قال لي أخي الأكبر إنه رجع إلى الخط وربما أجواء استانبول لها إملاءاتها أيضا، أخي الآخر (ذواقة العائلة) وهو أكثر من عانى في هذه الحرب سنوات بلا ماء ولا كهرباء، عاش كإنسان بدائي، الآن بعد أربع سنوات تكلمت معه في منفاه بالشمال قال لي إنه رجع يكتب قصاصات خطية أدعية وأمنيات ويوزعها لبث الأمل في النفوس وقتذاك كنت أنا أكتب على الثلج و أدس القصاصات الحروفية التجريدية في شقوق لحاءات الشجر العملاقة في ضواحي بوسطن.
لعلها الأصالة جاءت من التربية الدقيقة، ومن الهاجس الكبير الذي لازمني منذ الصغر فكنت أقرأ قصص المبدعين وفرادتهم وذلك كان محرضاً كبيراً، فصرت أذهب إلى شاطىء الفرات كثيرا وأتأمل إلى أن تحولت المشاهد حولي إلى أحرف، فصارت حقول القمح الحصيدة كرزم من أحرف الخط السنبلي وهي تتمايل بعناد. صار لدي نوع من توأمة الخط مع الرسم وبحثت في التقاءاتهما التشريحية ووافق كل منهما وربما أعدت للحرف وجوده المادي وأطلقته في الطبيعة.
أسامة إسبر: ما هي المواد التي تستخدمها والتي تساعدك أكثر على التحكم الإبداعي بالحرف؟
خالد الساعي:المواد التي تليق بالحرف هي الحبر والورق وكان اشتغالي الأولي عليهما لكنني رويدا رويدا دخلت قماش الرسم وبقيت أكتب بالقصب عليه لكنني طورت أدواتي كثيرا وخضت تجارب في تحضير الألوان من الطبيعة وفق وصفات متفق عليها تقليدية وتجارب أخرى استخلصتها بنفسي، في ولاية ميشيغان كانت لي تجربة مع السناجب، تجربة شراكة فكانت تأتي حديقة بيتي تأكل الجوز وتترك لي قشرته التي كنت أستخلص منها اللون البني. القماش بحر من التجريب وأيضا الألوان وحواملها من أصماغ لها دور كبير في بحثي لكن بالتجربة والخبرة صرت أرى ما يلائم كل سطح و تقنية لكن التقنية نفسها تقود إلى آفاق قد لا تقع في بال الفنان لذا التجريب والعبث مهمان بنفس المستوى لاجتراح أماكن و ملامح جديدة للتقنية.الأحبار والألوان المائية والإكرليك هم الأكثر استخداما عندي إن كان على الورق أم القماش وحتى في الاعمال الجدارية
أسامة إسبر: قلت مرة إن الفنان يجب أن يمر في مرحلة طويلة من التدريب حتى ينفتح له الخط، وكأنه يُشرق من داخله، هندسة روحانية، وقد يفشل ولا يُوفَّق أحياناً، لعدم جلاء أفق الخط له، وهذا له علاقة بحالة الصفاء الداخلية، كما لو أن رحلتك مع الخط رحلة متصوف، هل يمكن أن تحدثنا عن مرحلة التدريب التي مررت فيها، عن حالات فشل معينة ساعدت على إعادة النظر والنجاح، ثم كيف تحققت لحظة الإشراق في التجلي الحروفي؟
خالد الساعي: الحرف هو شكل وممارسة، هذه الممارسة تتجلى في التمرينات وهذه التمارين بمثابة رياضة روحية، الخط هندسة روحانية، نعم كنت كثيرا ما أفشل في الدخول لحضرة الحرف، وكانت لحظات كبيرة من الإحباط الذي يشرف بي على الشك، وهذه مرحلة معقدة لها علاقة بالشخصية والإيمان والقدرة على الرؤية بمنظار مختلف، وجود المعلم ضروري لالتماس مواضع الخلل لكنه سيضع يده على الخلل التقني ولكن انفتاح أفق الحرف له علاقة بضبط الإيقاع الداخلي وجعله يتساير مع إيقاع الحرف، بهكذا سلوك يمكن كتابة الحرف بعيون مغمضة لأن الإيقاع صار في دم الخطاط، إن لم نشعر بالموسيقى لايمكننا محاكاة الحركات فحسب لأننا سنكون مقلدين. الإيقاع ينبع من الداخل، كما يقال الحرف حافة والحرف حجاب لكنه حجاب لعالم رحب ومهيب، ويجب أن نعبر الحرف لأن أصحاب الحضور يعبرون ولايقفون بالحرف بل يلجون لإيقاعه الداخلي، جوهره. لسنوات كنت أستمتع بالتمرين أكثر من إنجاز العمل لأن متعته دون حسابات بل متعة خالصة، التمرين رياضة روحية، نوع من العلاج والطقس الذي به تزول الشحنات السالبة والغضب تجاه السلام الداخلي.
أسامة إسبر: المتأمل لأعمالك يلاحظ بأن الخط تحرر من سياقه وخلفيته، صار واسع الدلالة، حداثياً وقابلاً للتلقي والتذوق في كل الثقافات، بمعنى أنك تحاوزت المحلية بالخط، هل لأنك حولته من شكل لغوي عادي إلى شكل بصري إيحائي في عالم فني صار فيه إشارة ورمزاً أو دلالة سياقية؟ كيف تصف إضافتك في هذا المجال؟ ما الإضافة التي هي خالد الساعي وليست غيره؟
خالد الساعي: دعمني كثيرا اشتغالي على الأصول واشتغالي الطويل على النص والنص الشعري بشكل أكبر، وبالتالي محاورة المعنى، ولا شك أن هناك عنصرين كان لهما كلمة السر في توجه بحثي تجاه فتح الخط على التعبير أكثر من اعتماده على اللغة القاموسية، أولهما الإمكانية اللانهائية في صيغ وأشكال الحروف وإعادة التركيب والبناء، هذه المطواعية الشكلية هي الركيزة الأهم، والثانية هي الأفق التأويلي للفن والحرف على وجه الخصوص، فالقراءات العرفانية فتحت آفاق واسعة لي كتأويلات النفري وابن عربي وغيرهم لدلالات الحروف، إن كان على صعيد شكل الحرف أو على مستوى التأويل، والأهم إملاءات شكل كل حرف على حدة فحرف الجيم جنة أو جهنم تبعا لشكل ونوع الخط، جيم الديواني الجلي جنة وموسيقى وليونة، جيم الكوفي القيرواني كالغضب والعدوانية، جيم خط الثلث تمثل القوة والجمال معا ولونه أسود أو أحمر. هناك إملاءات لأشكال الحروف التي تراكمت عبر تجارب الفنانين الخطاطين لأكثر من ألف سنة. إذا الحروف هي منظاري لرؤية العالم ووسيلة تعبيري الرحبة والتي ما خذلتني.
المحاورة مع المعاني تتجاوز اللغة، وهذا ما دفعني لإيجاد لغة داخل اللغة، لغة بصرية داخل لغة المعجم، لغة يشتغل فيها الخيال ولا تشغلنا الصورة بل ما وراءها. أظن لم يشتغل حروفي من قبل على هذه المعطيات ولا على صعيد الحرف الذي ينبع من قيمته الجمالية الكلاسيكية لكنه يتجاوزها بتوليد صيغ متجددة.
أسامة إسبر: قالت الباحثة الألمانية كارين أدريان فون روكس في كتابها عنك، والذي يحمل عنوان ”خالد الساعي“، إن الفنان الساعي لا يكتب حروفه وكلماته بخط مستقيم، وهو لا يجمّعها في خط أفقي، كما هو سائد، بل يخطها كما لو أنه في فضاء تخيلي، هذا الفضاء التخيلي، ألا يمكننا اعتباره تجاوزاً للحروفية السائدة، أي أن نقلة نوعية حدثت هنا، وأعتقد أن أهمية كثير من أعمالك تنبع من هذا التحويل للفن الحروفي بأكمله. هل كان هناك نقد لتجربتك في هذا السياق، أعني من أشخاص اعتبروا ما فعلته خروجاً على المقدس الحروفي؟
خالد الساعي: أظنه عتبة أخرى للحروفية، لأن الحروفية لايمكن أن تبقى دون تجديد دماء، تجربتي هي إعطاء دفع وفضاء مغاير لمدرسة الحروفية، قد لا أتفق مع التسمية، وقد تكون مجرد اصطلاح، لكن المهم هو القيام بتجديد المدرسة من الداخل، في مرحلة ما اعتبر السرياليون أن سلفادور دالي لم يعد سرياليا لكنه من ساهم بنقلها لمستوى أعلى، الخروج من عباءة الموضوعات الدينية ساهم في تحرر فن الرسم الأوربي من ذهنية معينة، إنه صيرورة في الزمن، ساهمت بالتحرر من الفكر الذي فرضته الموضوعات لكن الأفق الجديد ساهم بصياغة أسس مختلفة لفن الرسم، وبعد ذلك لم يعد الموضوع يهيمن على طبيعة الرسم وأصبحت مسألة إعادة الموضوعات الدينية تأخذ منحى مختلفاً، لكن الأهم هو حرية الفكر وتطوير نظريات الفن. الخروج يساعد في رؤية الأشياء أفضل أو على الأقل كسر الروتين، والقوالب وإتاحة المجال للنقد والتفكر.
أسامة إسبر: ما علاقة الحروف العربية بالأشياء برأيك؟ هل كونها معبرة عن أشياء، يخرجها حتى في شكلها العادي من تجريديتها ويقودها إلى تجسد بصري، هل تقرأ الأشياء في الحروف، ماضيها، أصلها الغامض، ومن ثم توحِّده مع اكتشاف غموض النفس البشرية؟
خالد الساعي: سؤال يتطلب الكثير للإجابة عنه، في قناعتي إن الحروف هي الكون الموازي أو العالم الموازي لعالمنا، فمقولة ( إن الحروف أمة من الأمم ) ليس بتعبير مجازي بقدر ما هو واقعي، يقول التوحيدي كنا حروفاً عاليات لم تقرأ، يساهم في تكثيف هذه الجدلية وغموضها، أعني أن الكلام أو الحروف هي الأصل وهي المآل، إذ كل شيء سيزول ويبقى الذكر.
اللغة : ألم تكن الهيروغليفية مزيجاً من الصورة والحركة للتعبير، ثم إن نظام الإعجام بالعربية ألم يكن له بعد صوتي زمني يراعي مخارج الأصوات وأماكنها وزمنها، أعني تحويل الصوت والحركة إلى شكل؟ لاشك أن هناك كثيراً من الأشكال والصور تسربت إلى أشكال الحروف هي ليست مقاربة جمالية لكنها حقيقة، فحرف العين وإشكالية انتمائه الشكلي إلى العين البشرية، وحرف السين بتعدد أشكاله وهو مأخوذ من السيف تارة أو من الأسنان تارة إلى آخر صيغه، الناظر إلى تسميات هيآت الحروف وتموضعاتها لن يساوره أي شك بأن الحروف كانت أشكالاً والخطاط الفنان حولها وحورها لتكون برزخا بين التشخيص والتجريد وهذا ما أدعوه بالصورة المضمرة في فن الخط العربي. تحدث أبو عمر الداني في كتابه المحكم عن الحروف، وما حرك أول فضول لدي في الصورة المضمرة هو حديثه عن حرف الألف المدعم بالرسم فقد حدد سبعة أعضاء لهذا الحرف،رأسها، و صدرها وبطنها وخصرها الخ كأنه يصف جسد إنسان بمنظر جانبي، وهذا من وجهة نظر علم الجمال التقليدي يقع بما يسمى بالنسبة الذهبية وهي القيمة المثالية والناظمة لعلم الجمال، فكل الحروف في خطي الثلث والنسخ تقع ضمن تلك الهندسة، لكن هناك سمات كثيرة ينفرد بها الحرف العربي عن باقي الأبجديات، غير أشكاله وأنواعه اللامحدودة، ألا وهو النظام البنائي لتجاورات الحروف والذي هو بنية تشكيلية غاية في الإدهاش فالحرف يتغير حسب ما قبله وما بعده، إضافة لنظام النقط والنبرات وهذا ما يعطي مجالاً للمناورة التشكيلية الكبيرة.
لكل حرف سبعة أبعاد أولها البعد الشكلي ثم التشكيلي ثم الموسيقي ثم العددي ثم الرمزي ثم الدلالي ثم العرفاني أو الصوفي. الوضوح والغموض أجمل تجليات الفن تقع بين نواسيهما، والغموض السحري للحرف العربي يجعله لغة ساحرة تصل إلى الإطراب الجمالي دون اللجوء لتفسيرات، كأن تذوّب العسل في الشراب.
لا توجد نظرية جازمة عن أصل الحروف العربية تماما، لكن تعالقها مع أخواتها ساهم في مقاربتها، هناك من يقول إن الأبجدية العربية لغة سماوية تحكي قصة أبي جاد (آدم) ونظرية أخرى بل أسطورة تقول إن نوح حمل الألواح التي كُتبت بها أبجديات العالم وألقاها في الماء إبان الطوفان ثم عادت كل أمة لتجد حروفها لديها. التوحيدي والنفري ربطا الحروف بحركة الشمس والكواكب ومنازل القمر تلك التي تقارب الحروف الشمسية والقمرية فصارت الحروف شيفرات معبأة بالمعاني، لكن الرومي يقول الحرف وعاء والمعنى ماء وبحر المعاني من عند الله.
أسامة إسبر: ما الذي يجذبك في الخط الثلث والديواني الجلي؟
خالد الساعي: لعله أبسط وأجمل سؤال. الأشكال إما لينة وإما قاسية لكن في الليونة قساوة باطنة وفي القساوة ليونة خفية. الخط الثلث أقوى الخطوط وأكثرها توليداً لأشكال الحروف، والديواني الجلي أكثر الخطوط ليونة وانسيابية. إنهما طرفا النقيض، بل التكامل وأشكال الخطوط الأخرى قد تكون تنويعات لهما. خط الثلث يمثل الرجل والقوة و التحكم، خط الديواني الجلي يمثل المرأة والرقة والموسيقى. إنهما لغة الشدة واللين، الشراسة واللطف، الحب والقوة. الثلث لغة السيافين والفرسان، والديواني لغة الطرب والغنج ، ربما لأن برجي الجوزاء كبرج المتنبي سأبقى حبيسهما.
أسامة إسبر: في الآونة الأخيرة كرّسْتَ وقتاً لا بأس به للعمل على الجداريات الكبيرة، مثل العملين اللذين نفذتهما في مدينة ولفسبرغ الألمانية، إحدى الجداريات مستوحاة من شعر الشنفرى (لامية العرب) واشتغلت على جداريات وأعمال كبيرة عن إيقاف القتل والتشريد وآلام الهجرة واللجوء كان آخرها بألمانيا في متحف الفن ببون.
سافرت إلى أكثر من 16 مدينة ألمانية وعشتَ و فهمت صعوبات اللجوء والاندماج في المجتمعات الجديدة، هل يمكن أن تحدثنا عن عملك على هذه الجداريات، ما الذي يميزها فنياً، وكيف تفاعل الجمهور معها، وكيف استطعت أن تنقل فيها الحروف من بعدها التجريدي المنفصل إلى لغة تعبر عن معاناة حقيقية على أرض الواقع وهي المأساة السورية بكل تفاصيلها؟
خالد الساعي: ذلك العمل الجداري في متحف الفن في نوينهاوس من أكثر أعمالي قوة لكن ارتباطه بوطني وجراحات السوريين والمأساة المستمرة جعله أكثرها تأثيرا. كان الهدف منه إلقاء الضوء على مآسي السوريين في الغربة وتحديات بلدان اللجوء على كل صعيد لكنه ورطني بسفر طويل جلت فيه معظم بلدان اللجوء وخصوصا ألمانيا ووقفت على آلاف القصص المريعة، رافقتها إحباطات وهواجس على المستوى الشخصي أيضا. أردت أن أحول هذه المعاناة إلى عمل صادم جارح، العمل بمثابة توثيق بصري لكل المدن التي طالها التدمير والتهجير وتوثيق لكل المجازر التي ارتُكبت. مفتاحا العمل هم القتل والدم القتل ممثلا بالبرميل المتفجر، والدم ذلك السهم الذي يفر للسماء من وسط اللوحة، العمل فيه تدوين بصري كتابي لكل ما جرى على مر ستة سنوات، وأيضا فيه إشارات سابقة للواقع منها التغيير الديموغرافي فترى الميادين قرب جسر الشغور وهذا ما حصل من أشهر، في العمل إشارة واضحة للأطفال فهم أكثر من دفع من فاتورة الحرب الدموية وأيضا هم رمز للاستمرار والنصر لكن اللوحة أيضا هي ذات صبغة إنسانية أكثر من أي شيء. الألوان المهيمنة هي ألوان ما بعد الدمار الرمادي الثقيل والبني المغبر واختلاطهما. أهم شي في اللوحة هو إعادة صياغة شكل اسم كل مدينة حسب حجم تأثرها فمدينة البيضاء قطعت وأعيد توصيلها بشكل يخالف التشريح المعتاد للكلمة ورافق مع صور من المجازر التي تعرضت لها ومضايا أصبحت نحيلة كشبح حالها كحال أهلها الجوعى. الرمزية كانت طاغية على العمل واستعمال أحرف وكلمات غير عربية إنكليزية في الغالب والمانية ك (من هم المسلمون) و(قوة) و (لماذا) والكثير وأيضا إشارة لأن الغرب ليس بريئاً من استحداث الإرهاب فوضعت مقالة عن الإرهاب الغربي لروجيه غارودي. اللوحة فيها مستويات كثيرة ورسائل مختلفة لكن بالنسبة لي تحقق شيء كبير في تجربتي وهو أن الحرف صعد لمستوى التعبير عن الحدث ونزل إلى أرض الخراب والقتل وصرت ترى الأشلاء مع الحروف كأن الحروف تخلت عن رواسبها وصارت تشاطر الإنسان نصيبها من القتل والتفظيع فصرت ترى ميما دامية برأسين و دالاً مقلوبة وعيناً مدماة ، أوصال البشر والحروف.
ما نفع الفن إن بقي في الصالونات و بقي يعبر عن ترفنا وخيالاتنا؟ رجل يتمسك بقارب على شكل باء، الحرف قد يساهم بالإنقاذ كما أن حرباً قد تقع على حرف، الحرف وسيلة تعبيري ونبضي وأحد أشكال وجودي.
نعم عملت عدداً كبيراً من الجداريات وكانت جداريتيْ مدينة ولفسبرغ من أكثرها طرافة في الموضوع حيث العملان متقابلان في فضاء عام يتيح لآلاف الأشخاص رؤيته يوميا وهو مكان يدعى محطة الفن وهو ضمن محطة القطار الرئيسية، اللوحة الأولى منه من وحي المدينة وهو قصر الذئب وما فيه من تداخل أسطوري عن الذئب لكن القصر في غابة مخيفة لذا عملت اللوحة كمتاهات لونية وتكوينية يتيه فيها الناظر وتعكس الجمال والوحشة والخوف بألوانها الغنية المتداخلة على أن الذئب مصدر الخوف.
في اللوحة الجدارية المقابلة استلهمت فكرة قصيدة الشنفرى لامية العرب مع تضمينات كثيرة من النص والتي تحكي عن قيم الإنسان الحر المتوحد مع الطبيعة والحيوانات وأهمها استئناس الذئب ومصاحبته والنوم مع الوعول الخ، آخر الصور الوصفية المدهشة لمناخات الصحراء، وكانت اللوحة باللونين الأسود والأبيض المغبرين كاستعارة عن الصحراء وأيضا أصبحت اللوحة على النقيض من مقابلتها لكن اللوحتين نُفذتا بخط الثلث الذي أوصل رسالتين عكس بعضيهما.
إن فترة إنجاز الجداريتين كانت غنية بالحوارات العفوية وفهم عقلية الألمان المتحفظة والطموحة فقد جرت لي نقاشات هائلة معهم وكانت تجربة لاتنسى.
*خالد الساعي khaled Alsaai فنان وحروفي سوري مجدد في مجال فن الخط، وهو من مواليد مدينة الميادين السورية، 1970. تخرج من كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1998 وحصل خلال مسيرته الفنية على عدد من الجوائز العربية والعالمية، أبرزها جائزة البركة الدولية للخطاطين المحترفين في الدورة الأولى لفن الخط العربي من اسطنبول وجائزة الحداثة في الخط في الدورة الثالثة من بينالي الشارقة والجائزة الأولى بالخط التقليدي في مهرجان الخط العالمي الأول بطهران. كما أن أعماله مقتناة من قبل العديد من المتاحف كالمتحف البريطاني ومتحف دنفر في كولورادو بالولايات المتحدة الأميركية ومتحف سان بيدرو بالمكسيك ومتحف الفن الحديث بالمغرب ومتحف الشارقة لفن الخط. شارك الساعي في كثير من المعارض العربية والدولية، وشارك مؤخراً في معرض في ألمانيا عرض فيه جدارياته عن الحرب السورية.
بواسطة Samer Ismail | أبريل 6, 2018 | Cost of War, Culture, غير مصنف
هجرة كبيرة شهدتها سوريا لفرق “الموسيقى الجديدة” التي عرفت فورتها في تنوع اتجاهاتها؛ واختلاف تيارات ملحنيها، والشكل أو القالب الموسيقي الذي عملت عليه كل من هذه الفرق؛ فمنذ عام 1998 كان العديد من المجموعات الموسيقية لشباب وشابات قد درسوا كل أنماط الغناء والعزف على آلات شرقية وغربية في المعهد العالي للموسيقى بدمشق؛ لتظهر فرقة “كلنا سوا” كأولى هذه التجمعات وأكثرها حضورا؛ وكموسيقى اشتغل أصحابها على فلكلور البلاد؛ من حيث بناء قوالبه اللحنية، واستعاراتها لأنماط الروك والجاز والبوب، والفنك؛ وسواها من الاتجاهات الموسيقية الغربية.
“نوطة، توكسيدو؛ شام إم سيز؛ زودياك؛ إطار شمع، جين، فتت لعبت، أنس أند فريندز، ماظوط، حرارة عالية، مرمر، طويس، حوار” أسماء لفرق سورية تشتت شملها اليوم في ظل حرب دخلت عامها الثامن؛ تاركةً ذكريات تلك الأيام التي كانت تغص بها حدائق دمشق وساحاتها العامة بحفلات ما عرف وقتها بـ”موسيقى على الطريق” التظاهرة الأضخم التي كانت ترعاها محافظة دمشق.
من حديقة “القشلة” بباب توما، وصولاً إلى ساحة “المسكية” قبالة الجامع الأموي الكبير، ومسرح قلعة دمشق؛ وصولاً إلى حديقة “النعناع” في قلب العاصمة السورية، كان برنامج هذه الفرق يزدهر عاماً بعد عام؛ عاكساً رخاءً ثقافياً وفنياً واجتماعياً؛ وصعوداً مطرداً لنخب موسيقية شابة، أرادت التعبير عن نفسها؛ وبكل حرية؛ ليشتهر عبر هذا الحضور الكثيف العديد من الأصوات من مثل الثنائي ” لينا شاماميان، وباسل رجوب” اللذين أصدرا مبكراً ألبومات مشتركة كان أولها “خمير” و”شآميات” وسواها من الأسطوانات التي راجت بين أوساط الشباب؛ محققةً حضوراً لموسيقى دمجت بين فلكلور المنطقة من أغانٍ ومقطوعات أرمنية وسورية بتوزيع جديد أفاد من قالب الجاز التجريبي؛ أو ما يسمى “الجاز أورينتال”.
وقتها تقدمت أيضاً إلى الواجهة فرقة “نوتة” التي تكونت من عروة صالح- عود، مصعب تركماني- نزار عمران ترومبيت، باسل رجوب – ساكسفون؛ يزن هزيم درامز وعلى الغيتار قصي الدقر الذي يروي عن هذه الفرقة وغيرها من فرق الموسيقى الجديدة في بلاده فيقول لـ(صالون سوريا): “ليست (نوتة) هي الفرقة الوحيدة التي قمنا بتشكيلها فهناك فرقة (فتت لعبت) التي عزفتُ معها برفقة مؤسسها هانيبال سعد؛ حيث كانت مشروعاً غير ربحياً، وقتها لم نصدر ألبوماً.”
كنا نعزف دون مقابل مادي؛ فقط كان مجرد تأمين عدة صوت ومسرح كافياً لأن نذهب ونعزف في أبعد قرية سورية؛ (فتت لعبت)- يتابع الدقر- كان تعمل على شخصية الموسيقى الفلكلورية مع تماسك للموسيقى الغربية عبر إيقاعات فردية واضحة، أستطيع القول أنها كانت بمثابة الحالة التقدمية من الموسيقى الفلكلورية ولكن بشكل ثيمة ميلودي جديدة.”
اليوم تشتت شمل فرقتنا مثلما تشتت شمل الكثير من الفرق الأخرى- يقول الدقر ويتابع: فرقة (مازوط) التي أسسها رشوان ظاظا مع داني شكري هاجر معظم أفرادها، وفرقة (توكسيدو) التي عملت على نمط (الفنك)- موسيقى الخمسينيات أيضاً لقيت المصير نفسه؛ حيث كانت أول تجمع لرباعي نفخي على كل من آلات الترومبون والترومبيت والساكسفون؛ ورافقتهم على الغيتار أيضاً؛ فيما غنت معنا نور عرقسوسي.”
مغنيات ومغنيون سوريون رافقوا هذه الفرق ولمع نجمهم معها، لكن اليوم لينا شماميان تغني في تركيا، ولبانة قنطار في أميركا؛ و ورشا رزق وأنس أبو قوس ووعد بو حسون وشادي علي في الخارج أيضاً؛ كما توقف مع الحرب فعاليات مهرجان الجاز الذي كان يقام كل صيف على مسرح قلعة دمشق؛ إضافةً لتوقف العديد من الفعاليات التي كانت تحتفي بالموسيقى وجمهورها، لاسيما يوم الموسيقى العالمي الذي كان حدثاً ثقافياً استثنائياً للفرق الجديدة.
هجرة كثيفة ومتوالية حتى لطلاب المعهد العالي للموسيقى؛ تجاوز عددهم مؤخراً الثلاثين طالباً وطالبة، منهم ثمانية في معهد (فاينر) بألمانيا كما يخبرنا مدرّس رفض ذكر اسمه؛ فالأكاديمية الأشهر في سورية والتي تأسست بعد صدور المرسوم التشريعي رقم (28) لعام 1990؛ وهو مرسوم أعطى فكرة جيدة عن اهتمام الدولة بالفن الموسيقي، حيث جاء في نص مادته الثانية “تعليم أصول الغناء الفردي والجماعي، العربي والعالمي وإعداد باحثين موسيقيين وخاصة في الموسيقا العربية.”
الهجرة لم تتوقف على العازفين والمغنيين والطلاب، بل تجاوزتها لتشمل أهم الأساتذة هناك، وأبرزهم الروسي فيكتور بابينكو الذي وافاه الأجل منذ فترة بعد سفره من دمشق؛ وعسكر علي أكبر أستاذ العود الأذربيجاني، ولبانة قنطار مديرة قسم الغناء الشرقي التي تقيم اليوم في أميركا، وأراكس شيكيجيان مدرسة أصول الغناء الأوبرالي؛ مما ترك أثره واضحاً على الحركة الموسيقية الجديدة التي عرفت أول بزوغها على المسارح السورية بتيار “الموسيقى البديلة.”
بالمقابل هناك فِرق لا زالت تصر على حضورها في عز زمن الدم والعبث؛ فالموسيقى والحرب نقيضان لا يمكن أن يعيش الأول في ظل الآخر؛ ومن يستطيع خلق موسيقى لا يقدر أن يكون شريراً . الموسيقى هي تجسيد للغة الحب – يقول الفنان سيمون مريش مؤسس فرقة “زركشة” التي آثرت تقديم حفلاتها اليوم داخل البلاد ويضيف: “المتابع اليوم لحفلات دار الأوبرا يعلم أننا باقون؛ أجل لقد هاجر الكثير من الموسيقيين السوريين ولأسباب متعددة؛ ربما بحثاً عن لقمة عيش؛ أو مكان مناسب لإطلاق مشروع فني؛ أو هرباً من الحرب واللا استقرار؛ وفي حالات أخرى لمتابعة دراستهم.”
تستمر قائمة الأسباب- يعقب الفنان مريش ويضيف: “لا شك أن العمل في حقل الموسيقى في الظرف الذي نعيشه اليوم صعب جداً؛ إن لم يكن مستحيلاً بالنسبة للبعض. لكنني أعتبر نفسي محظوظاً؛ كوني ما زلت أعمل في الموسيقى حتى في هذا الظرف الصعب. دوماً نقول إن الحياة و الأرض التي نعيش عليها أعطتنا الكثير والآن حان الوقت لنردَّ الجميل و نصنع الفرق.”
الفنان رعد خلف ما زال يعمل أيضاً على مشروعه “أوركسترا ماري” والتي قدم سيمون مريش معها مؤخراً حفلين موسيقيين بدار الأوبرا؛ و هو عمل جدير بالمتابعة كون البرنامج القادم سيكون من تحقيق مجموعة من المؤلفات الموسيقية التي استوحاها رعد من الحضارات القديمة مثل حضارة أوغاريت وإيبلا وماري ولكن مكتوبة بقالب جديد.
Coma هو اسم الفرقة التي أسسها كل من قصي الدقر وناريك عبجيان، برفقة المغني ليفون عبجيان؛ والتي استمدت اسمها من ترجمتها الحرفية إلى العربية “الغيبوبة” لكنها أيضاً كما يخبرنا قصي الدقر مدرّس قسم الصوت والتقنيات في المعهد العالي للفنون المسرحية: “Coma ليست فقط غيبوبة؛ بل هي التسمية الحرفية لربع الصوت، أو ربع البعد الذي نشتغل عليه؛ سواء كان هذا الربع بعد أرمني أو بيزنطي أو سرياني أو تركي أو مصري.”
لفرقة ” الغيبوبة” هذه إنجاز لافت على صعيد التعويض في النقص الفادح بعدد العازفين معها، وندرة الحصول على عازفين اليوم في سورية لديهم الخبرة الكافية- يحدثنا الدقر شارحاً عن طبيعة عمل فرقته وتغلبها على هذه الصعاب: “صحيح الحرب أوقفت كل مشاريعنا، طلابي يقولون لي إنهم لم يحضروا حفلاً موسيقياً واحداً منذ دخولهم إلى المعهد؛ لكننا استطعنا في (كوما) أن نعوّض عن ذلك، وذلك عبر لجوئنا إلى نظام برمجي إلكتروني نتعامل معه بشكل تفاعلي حسب الحالة التفاعلية للجمهور؛ فهذا النظام عوضنا عن أربعين دوراً لعازف أو عازفة، متجهين بذلك نحو آلة الغيتار بدون خانات ربع الصوت الشرقي، وبصحبة الفنان ناريك عبجيان على آلة الدودوك الأرمنية، وصوت شقيقه عازف القانون أيضاً الفنان ليفون عبجيان.”
هذا الاشتغال قادنا إلى العمل على رباعيات الخيام – يتابع الدقر ويضيف: ” عملنا أقرب إلى التصويري منه إلى الموسيقي التقليدي، حيث نعتمد على إدخال المستمع أو من يحضر حفلاتنا في عالم من التأمل الخالص، دون أن يكون هناك في عملنا صدمة تجعل هذا الجمهور يستيقظ من حالة التكرار التي نعمل عليها ونطورها طوال فترة الأداء؛ مقتربين من أسلوب الحضرة الصوفية، والتطريب وحلقات الذكر، جنباً إلى جنب مع عرض بصري لأعمال (الفيديو آرت) التي ترافق أدائنا نحن الثلاثة على شاشات عرض حية؛ بينما نغيب على المسرح كحضور؛ أسلوبنا أقرب إلى مدرسة ( سايكا ديليك) إنه يا صديقي السفر عبر الموسيقى، أو قل الطيران دون توقف.”
“الموسيقى في وجه المجزرة” عبارة أطلقها موسيقيون سوريون في سنوات الحرب على مواقع التواصل الاجتماعي؛ حيث بزغت في بعض المدن السورية تجمعات فنية أقامت العديد من الحفلات. المغنية والشاعرة علا حسامو تسرد قصتها هنا بعد إطلاقها لألبوم (صرخة إنسان) احتجاجاً على القتل العبثي؛ والذي وضعت كلماته ولحنتها وغنتها. تقول حسامو: “نعم ربّما توقف الموسيقى المجزرة…أو ربّما على الأقلّ توقف الحقد المتدفّق في العروق؛ ليمرّ بدلاً عنه نهرُ الحبّ ولو للحظات. أو ربّما توقف الموسيقى الرّغبةَ في القتل أمامَ اشتعال الرّغبةِ في الرّقص وفي البكاءِ ومعانقةِ من نحبّ.” وتضيف حسامو: “فكرة ألبوم (صرخة إنسان) ولدت من هنا تماماً، من قلب الوجع الّذي في أعلى إنسانيّتنا؛ حين نزلت به السياسة وملحقاتها إلى أدنى مستوياته؛ وذلك إثر تجربةٍ عِشتُها ضمن عملي مع شبكة (مبادرون) ومن صلب احتياجٍ عاينتهُ مع زملاءٍ لي في العمل الأهلي، إذ كنت أشارك في ورشة (بناء جسور السلام والتعايش السلمي)، وهي أحد ورشات شبكة (مبادرون التّنموية) الّتي يلتقي فيها ناشطون من مختلف الأطياف والانتماءات السياسية ،الدينية والفكرية؛ يتبادلون قصصهم وجهات نظرهم خلافاتهم واختلافاتهم، يتجادلون ويتبادلون الاتهامات فيظهر الشّرخ الكبير؛ في هذه اللحظة أذكر أنّ مَن كان يتهم الآخر صار يمسح دمعه وبلحظةٍ من الوجع المشترك والإحباط، أمسكنا بأيدي بعضنا وغنّينا وكأن الأغنية لفّتنا بذراع من حبّ وأمل، تحوّلت الاتهامات المتبادلة إلى رقصٍ وودّ، أذكر أننّا صرنا نبحث عن أغنيةٍ تمسّنا وترفع معنوياتنا دون أن تمجّد اسماً أو حزباً أو ديناً. ولم نجد سوى اثنين أو ثلاثة. حينها ارتجلتُ مقطعاً وغنّيته ومذ تلك اللحظة انطلقت بألبوم (صرخة إنسان)، وبتشجيع ودعم (مبادرون) ومنتدى التنمية والثقافة والحوار بدأتُ العمل كتابةً وتلحيناً.”
لكن هل حققت المغنية (حسامو) رغبتها في أن تجعل موسيقاها صرخة في مواجهة الحرب؟ تجيب المغنية السورية: “لم تصل مبادرتي هذه إلى هدفها الكبير بعد، لكنّها حقّقت أحد أهدافها بأن تتردّد الأغاني على ألسنةِ المؤّيد والمعارض من الشباب السوري… سواء انتمى إلى موالاة أو معارضة، وأن يحسّ كلّ منهما بأنّ أغنياتي تخصّه وتعنيه وتعبّر عنه، وأن يشعر ولو جزئيّاً أنّ على عاتقه مسؤوليّة وقف المجزرة”.
حاجز موسيقي
الفرق الموسيقية تراجع نشاطها في ظل الحرب، إذ شهدت السنوات السبع الماضية هجرة كبيرة للموسيقيين والمغنيين السوريين، لكنها وبعد مضي الحرب لإتمام دورتها الدموية الكبرى عادت الموسيقى لتقف في وجه الخراب. فرقة (حاجز موسيقي) كانت أبرز هذه الفرق التي أسسها شباب وشابات قدموا حفلاتهم على العديد من مسارح العاصمة، كان آخرها حفلتهم التي قدموها في (دارة الفنون بحي القنوات الدمشقي) تحت شعار “نحن أحياء وباقون” حيث اشتهرت (حاجز موسيقي) باسمها المشتق من الحواجز العسكرية والأمنية المنتشرة على طول الجغرافيا لطرفي النزاع السوري. الفرقة التي حملت على عاتقها إعادة صياغة التراث وفق تركيبة ما يسمى بموسيقى “الأورينتال جاز” لتقدم أغنيات من قبيل: “هالأسمر اللون” فوق النخل “وين على رام الله” ووفق الاشتغال على مفردات الحرب السورية سواء في الكلمات أو القالب اللحني. مدير الفرقة مجد الزغير قال: “إن (حاجز موسيقي) تهتم بتجديد الأغاني والإضافة عليها؛ فضلاً عن التلحين والتأليف؛ فالفرقة كانت تكتفي بتقديم الحفلات الموسيقية؛ لكنها مؤخراً أضافت فقرات غناء السولو بناء على طلب الجمهور الذي تفاعل مع فريقنا حفلةً بعد حفلة؛ واستمرار (حاجز موسيقي) خاصة في هذه الظروف يؤكد أن الحرب لا بد لها أن تنتهي و الموسيقى والحياة ستستمر رغم أنف الموت.”
ظاهرة موسيقية لافتة قدمتها الحرب في شوارع دمشق؛ تجلت في (مشروع ومضة) وهو عبارة عن تجمع من الموسيقيين والمسرحيين والمغنين الذين بادروا إلى أسلوب “المسرح الخفي” ودون أي دعم يذكر لهذا المشروع. أعضاء فرقة (ومضة) التقوا على هدف انتشال السوريين من حالة الحرب والموت ولو لدقائق قليلة، حيث قررت الفرقة بمبادرة ذاتية أن تواجه حالة الحرب التي تعيشها بلادهم بالموسيقى والرقص والمسرح والتمثيل، فما تقدمه هذه الفرقة هو شكل من أشكال المسرح التفاعلي، والذي يعتمد نجاحه على المؤدّين والمتلقين في آن معاً، واتكأ مشروع “ومضة” على التجمع الخاطف الذي يقوم على ظهور مجموعة موسيقيين بشكل مفاجئ في مكان عام من مدينة دمشق لتقديم عرض يكون غالباً غير اعتيادي. هنا كان يظهر أعضاء الفريق فجأة في أحد الشوارع أو في مكان ما غير متوقع، في ساعات الذروة ليفاجِئ السوريين ويرسم الأمل على وجوههم، في ظل التفجيرات وقذائف الموت وحصار المدن. اعتمد فريق (ومضة) على أنواع متعددة من آلات الموسيقى كالقانون والإيقاع، الترومبيت، والغناء. تقول نغم ناعسة وهي من مؤسسي (مشروع ومضة) وأبرز أعضائه: “لطالما كانت القنبلة ومضة، والمدفع ومضة، والتفجير ومضة، والقتل والموت يحدث في ومضة؛ ولطالما كانت هذه الومضات مجتمعة تشكل أبرز مشاهد حياتنا نحن السوريين اليوم، لذا قررنا أن نصنع ونقدّم ومضة إيجابية تجابه وتواجه ما سبق من ومضات شريرة؛ فقررنا أن نصنع ومضة حب، أو ومضة حلم وأمل، أو ومضة فن وموسيقى، وسمينا مشروعنا ومضة؛ ومضة دون بطاقات دعوة، دون مواعيد، نظهر في شوارع المدينة، نغني، نعزف، نرقص، وأحياناً نبكي…” وتضيف ناعسة: “استمر مشروع ومضة في سنوات الحرب الأولى دون داعم مالي أو حتى راع إعلامي، لقد تلقينا وعوداً من كثيرين بتقديم الدعم قبل انطلاق المشروع؛ لكن أحداً لم يفِ بما وعدنا به فتوقفنا اليوم، عندما تحين ساعة العمل والشروع بالتنفيذ ينفض من حولك مَن كانوا يقدمون أنفسهم كرعاة أو ممولين، لكن مشروعنا اعتمد فقط على جهود وخبرات المشاركين فيه وإيمانهم بأهمية ونُبل ما يقدمونه للسوريين كافة.”
إبادة جماعية موسيقية
مقطوعات موسيقية وغنائية كان قد قدمها أيضاً المغني معتز عويتي وفرقته مع نخبة من الموسيقيين السوريين الذين واظبوا على تقديم روائع من أغنيات موسيقى الجاز؛ حيث ساند الفنان عويتي في أمسياته هذه كل من رفاقه الموسيقيين: “طارق سكيكر؛ مهند السمان ، بلال حمور ، دلامة شهاب، سيمون مريش.” يقول عويتي عن حفلاته: “نحب أنا وفريقي أن نقدم في هذه الظروف نوعاً غنائياً و موسيقياً جديداً و لأول مرة للجمهور؛ إنها مجموعة أغانٍ كان أغلبها لمغني عالمي و جديد اسمه Gregory Porter والمميز بموسيقاه وأغانيه هي المزج بين موسيقى الجاز و البلوز والغاسبل بنفس الوقت؛ وبطريقة جميلة لاقت رواجاً كبيراً في الساحة العالمية؛ إذ أردنا نقل هذا النمط الجديد للجمهور السوري من محبي هذه الموسيقى بدلاً من تقديم موسيقى جاز تقليدية معروفة بالنسبة له.” وأضاف عويتي: “استمرارنا اليوم هو استمرار للحياة التي لا نريد لها أن ترحل عن مسارحنا وشوارعنا؛ فالفرقة الموسيقية التي أعمل معها هم من أفضل الموسيقيين المحترفين ومن القلة القادرين على عزف نمط الجاز الموسيقي المعتمد على أسلوب الارتجال في العزف حيث يتضمن برنامج أمسياتنا عادةً العديد من الفقرات أبرزها أغنية قمت بأدائها وكانت بعنوان: “إبادة جماعية موسيقية.”
فرق كثيرة ما زالت تزاول موسيقاها على الأرض السورية أبرزها اليوم هي فرقة “التخت الشرقي النسائي” والتي قدمت حفلاتها على مسرح الحمراء، معيدةً الاشتغال على الفلكلور والطرب الشعبي؛ إضافةً لموشحات سيد درويش وصباح فخري وآخرين؛ حيث تتألف هذه الفرقة من خريجات المعهد العالي للموسيقى في الغناء والعزف، واللاتي عملن منذ عام 2003 على تأصيل الغناء والعزف النسائيين؛ معتمداتٍ اليوم على حساسية المرأة إزاء ما يحدث من قتل عبثي وتهجير لآلاف العائلات المشردة؛ حيث تعتبر أعضاء هذه الفرقة الموسيقى بمثابة رحم لحماية ما تبقى من العائلة السورية الهائمة على وجهها في مشرق الأرض ومغربها.
في الحرب أيضاً تتالت الأمسيات الموسيقية والغنائية الشعرية التي تحتفي بمدينة حلب على مسارح دار الأوبرا السورية؛ فاستعادة التراث الحلبي عبر أمسيات الأوبرا، جاء في وقتٍ شهدت فيه عاصمة البلاد الاقتصادية مهرجانات مطوّلة من الدم والاقتتال المتواصل؛ وسقوط يومي لضحايا من المدنيين جراء إمطار القوى المتشددة لمدينة الموشحات بعشرات قذائف الهاون والصواريخ ومدافع جهنم؛ مخلفةً وراءها عشرات الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال؛ في وقتٍ بات الغناء كبيرة الكبائر في عُرف قوى تكفيرية سيطرت في سنوات الحرب المنصرمة على أجزاء كبيرة من أحياء المدينة.
الحفلات التي أحيتها كل من فرق صفوان العابد و ميادة بسيليس و سمير كويفاتي و(دهب) لعمر سرميني” إضافةً لفرقة (شادي جميل) كانت استثنائية من جهة شمولها لمعجم الطرب الحلبي الأصيل؛ حيث استعاد فيها الجمهور روائع “السماعي من مقام النهاوند” لـ علي الدرويش وصبري المدلل وعمر البطش وصباح فخري أبرز شيوخ الطرب في المدينة.
مهرجان (قوس قزح سوريا) احتفى بدوره بالموسيقى الإثنية والعرقية مقدّماً فرق كردية وآشورية وعربية وأرمنية وشركسية وسريانية على مسرح دار الأوبرا، كان أبرزها فرقة (بارمايا) التي احتفت بأعياد الميلاد ومراسيم الزواج السريانية القديمة، بمصاحبة آلاتها الضاربة في القدم من (زُرنة وطبل وعود) إذ تعتمد على المراسم المؤداة فيها أو الأغنية التي تقوم الرقصة عليها، والتي تأتي هنا كوريث لفنون الميثيولوجيا المتعاقبة من سومرية وفينيقية وأكادية وكلدانية وبابلية وآشورية وآرامية، تمتد بجذورها التاريخية إلى أكثر من خمسة آلاف عام.
المهرجان الذي أنتجته (وزارة الثقافة) وثب خطاه في الحرب بعد ضغط ميزانيته التي بلغت (ثلاثة ملايين وستمائة ألف ليرة سورية- ما يعادل سبعة آلاف دولار$) معظمها ذهب كأجور لإقامة الفرق والإطعام والتنقلات الداخلية لأكثر من مائتين وخمسة وعشرين مشاركاً ومشاركة، حيث استطاعت هذه التظاهرة أن تبلور حضوراً متجدداً لفرق موسيقية شعبية، جاءت إلى عاصمة بلادها من عفرين وحلب والقامشلي والسويداء واللاذقية متحديةً صعوبات ومخاطر تشهدها طرق السفر الداخلية بين المدن السورية.
في ظروف الحرب تراجعت أجور الموسيقيين السوريين مما أثر في قرار مغادرتهم للبلاد واحداً تلو الآخر، فالعازفون داخل سوريا يعيشون من أجورهم لقاء الساعات التدريسية في المعاهد الموسيقية أو العزف مع الفرق المحترفة، فالعازف الواحد يتقاضى على المشاركة في حفل واحد مبلغ وقدره: (25 ألف ليرة سورية- ما يعادل خمسين دولاراً) أما أجور التدريس، فهي ليست أفضل حالاً، ففي المعهد العالي للموسيقى يتقاضى أستاذ الآلة الموسيقية على الساعة الواحدة مبلغاً وقدره: ( 450 ليرة سورية- ما يعادل دولاراً واحداً) و( 120 ليرة- ما يعادل ربع دولار) للساعة في معهد صلحي الوادي. ولغير الخريج ( 80 ليرة- أقل من ربع دولار). المطالبات بزيادة الأجور كانت دائماً تعود لمدراء المعاهد بترشيد الإنفاق وهذا ما عرقل أي أمل أمام موسيقيين يبحثون عن عيش كريم وإنساني.
بواسطة Narin Derky | مارس 30, 2018 | Culture, Roundtables, غير مصنف
في كلّ صباح أكتب لك رسالة
أعرف أنها لا تصل باليد
لقد كسر الجليد قلبَ ساعي البريد أيضاً
يا لدماثة الأمس!
كنت أنجذب إليك كما لو كنتَ ناراً متّقدة!
يؤلمني أنك تراني على هذه الحال
وترى بؤسي يتهاطل ويجرف ما كان حبا.ً.
*
الان لديَّ أسى وموتى
وها نحن أولاء ندور في أفلاكنا نبحث عن نهايةٍ ما
نسأل عن إمكانية أن تذرونا الرياح
فننتهي بذرة لا تعرف أمّها ولا أباها
برغم ذلك لا نجرؤ على القفز في الهوة المعتمة.
*
لا تظن أنّ رسالتي يائسة،
إنها بعضُ موتٍ يتنفّس.
الأبدية قطعة من أرضك
ثلج أخرس
وصمت لا يتوقف عن الثرثرة
هناك دائماً عصفور لا يشعر بالبرد
يخفف من جزعنا
عندما أشعر بالعوز أبحث عن فتات الخبز.
*
لم يكن حلماً:
جبل
أصدقاء يرعون تحت الشمس،
واد التقيته صدفة في قرية بعيدة
ساقية تتناوب عليها الحياة بالضفادع واليعاسيب
حب يغمر حقول الأرز.
*
إنما تلك بلاد وهذي بلاد
حياة اليقظة بلاد ثلجها أعمى
والأبدية قطعة من أرضك.
*
تدفعني الريح بهذيان وصفير لايبالي
اتمسك بالشجرة:
كلتانا تسند الحياة
حتى لا تطير في غفلة منا، غباراً…
بعض خيال
أنت تراني من الداخل
قلت لي هذا ثم تركت قلبي ينهشني
أنا التي حلمت مراراً بالعذوبة تعصر كل ما أملك تحت جلدي
لم أعش من الحب سوى بعض خيال
لم يزرني الثلج هذه السنة
برغم كل شيئ،
مازلت أفرك يديّ وأنتظر.
كهفٍ صغير
…..
من مشاكسة المطر لنا
لجأنا إلى كهفٍ صغير،
ماذا لو كنتَ معي،
أيّها البعيد،
أما كنّا وقعنا في حبّ الكهفِ معاً؟
*
الطريق تحتضن مسافرينَ غيري،
وأنا وحيدة بصحبة الأفكار
بعضها أفكارُك،
وبعضها يرفعنا معاً فوق غيمة
*
وأعرفُ كم سأُعاني بعد عودتي
فالفرحُ لا يكون أخضرَ إلّا في أوَّله.
جسارة أولى
ريح هذا الصباح شريدة على آخرها
حمّالة أرواح الأولين
أحياناً تربك اللغة بصفعاتها
وأحياناً تئن مثل عذراوات المعابد
طفل طري الملامح
مذهول الحواس
يدور حول نفسه في الحي
لا بأس فالريح تعدي
ولابد من جسارة أولى
الشجر ينفخ في خفة وريقاته دونما اتجاه
والصغير
يلاحق هياج قطعانها
محاولاً احتضانها بين ذراعيه
لكنه لا يدرك أنها من روحه ولو بعد حين
وأنه منذ صرخته الأولى، فصل من فصول الخريف.
محاذاة النهر
يصدح النهر بأجمل موسيقاه كلما حاولت الصخور كسره.
*
إن حملت في إحدى يديك رغيفاً ترفق باليد الثانية، ربما تكون باردة.
*
بينما يتهادى نهرٌ ويتباهى فوقه جسرٌ عتيق
أنحني على صفحة الماء،
فأراك.
*
التشبث،
يالها من كلمة مؤلمة.
بواسطة Mays Al Reem Qarfool | مارس 28, 2018 | Culture, Roundtables, غير مصنف
رائحةُ البرتقال مع البرد تذكّرني بالحقل
الذي يمتدُّ خلفَ بيتنا
فقط في فصل الشتاء
رائحةُ البرتقال مع البرد جرحٌ
كلُّ رائحة يمكنُ أنْ نتذكّرها هي جرحٌ في الزمن
أولئك الذين يمشونَ من دون أنْ يتوقفوا عند الروائح يمضُون نحو الغد
عمياناً.
الجرحُ عينٌ
وأنا محاطةٌ بكلّ أصنافِ العميان
أحياناً أشعرُ بأني وحدي مجروحةٌ
ولا أعرفُ كيف أنقلُ صوتي من تلك البُحّة العميقة إلى البُحّة التي يتكلّمون بها
بلا خلفيةٍ
وبلا سماءٍ
بلا ذلك الجرح الذي يحدثُه البردُ في البرتقال
أو تلك اللذة.
* * *
قـش
لي أختٌ محبوسةٌ خلف قضبانٍ من حديد
تنمو فوق المجازر
تبقرُ بطنَها بيديها ثم تملؤهُ بالقشّ
انقطعَ حليبُها
وامتلأ صدرُها بالدم
تنامُ قربي الآن
أنا أغفو
وهي تحفرُ الحلمَ بأسنانها
* * *