مرةً أُخرى، اقتُلع حليم بركات من جذوره، تحمله رياح هذا العالم إلى عالمٍ آخر مُحتمل. لطالما تحدّث عن تجارب الاقتلاع هذه وهو المهاجر من الكفرون (قريّة من قرى السّاحل السوريّ) إلى مدينته الملّونة بيروت، ومن ثمّة إلى مدن العالم الغربيّ، ليستقرّ في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. تنقّل في محطّاته السّابقة بين مُدن الاغتراب؛ متاهات الإنسان العربي بين الحلم والواقع، بينما كان العالم الآخر (الموت) محطته الأخيرة. حيث وافته المنية في ٢٣أيار ٢٠٢٣. وهو الذي طالما كتب عن تجربة الموت التي واجهها منذ طفولته الأولى، فقد تُوفّي والده قبل أن يُكمل العاشرة، ثم تُوفّي أصدقاؤه واحداً تلو الأخر، وكان قد رثاهم في مؤلّفه غربة الكاتب. مثل هشام شرابي وسعدالله ونوس وادوارد سعيد.شبّه حليم بركات طائر الحوم وهو الطّائر العابر للقارات، بأبيه الذي طار ولم يعد وأيضاً بأمّه التي غادرت الكفرون إلى بيروت لتُعيل أسرتها ثم لتموت هناك، لكن لاندري إن كان يُضمر في روايته طائر الحوم سيرته ذاتها!
درس حليم اسبر بركات في بيروت، ونال الماجستير من الجامعة الأمريكيّة سنة ١٩٦٠ انتسب في السابعة عشرة من عمره إلى الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ مع من افتُتن بهم من رواد الحداثة الفكرية مثل: أدونيس وفؤاد رفقة ويوسف الخال وغيرهم، وكان أن تعلق بصفية بنت أنطون سعادة ولما لم يستطع الظفر بها فارق الحزب بعد أن روى الكثير من سيرته في روايته (المدينة الملونة) مستبدلاً اسم البطلة صبا باسم صفية كما يُشير النُّقاد.
في محاضرةٍ له في جامعة دمشق (٢٠٠٦) قال بركات إنه كتب باكورة رواياته قممٌ خضراء وهو طالبٌ جامعي، غير أنّ ما كرّس اسمه كروائي هو روايته التّالية “ستة أيام” التي أصدرتها عام١٩٦١ دار مجلّة شعر. وقد ذاعت شُهرة هذه الرواية لما قدّر النقاد والقرّاء نبوءتها بحرب الأيام الستة عام ١٩٦٧ أي بالهزيمة أو النّكسة. رغم أنّ حليم بركات كان يتحفّظ على “نبوءة” روايته، ويفضّل القول بالوعي بالواقع العربيّ في تلك الرواية.
أثّر أدبه على مكانته في العالم العربي فقد كان يُعدّ لإحدى رواياته عندما مضى مع عددٍ من طلبته في الجامعة الأميركيّة في بيروت إلى مخيم زيزيا جنوب عمّان، وأقاموا حيناً للبحث في أوضاع اللاجئين، ومن ذلك كان عمله “نهر بلا جسور”. ويقول إنّ هذا، ومُجمل اهتمامه بالقضيّة الفلسطينيّة كان سبباً في عدم ترقيته في الجامعة الأميركيّة حيث درّس من ١٩٦٦ حتى ١٩٧٢ فغادرها إلى جامعة هارفرد، فجامعة أوستن قبل أن يستقرّ به المقام في جامعة جورج تاون.
ناقش بركات في كتابه “غربة الكاتب العربي” غرباتٍ عديدةٍ داخل الوطن وخارجه محللاً العلاقة بين المعرفة والسلطة وبين المثّقف والحاكم، ومُميزاً بين علاقات اللامبالاة والاضطهاد والوصاية والمشاركة، عبر شخوص أصدقائه، فيذكر عبد الرحمن منيف الذي كان على تواصلٍ دائمٍ معه وكان أن راسله منيف يوماً قائلاً:
حملت نفسي وذهبت إلى الكفرون. قضيت هناك أسبوعاً استطعت خلاله أن أستعيد نفسي. الهواء الرخي، خاصةً في الصباح الباكر، حبّات التين، عنقود من العنب، وأيضاً أواخر الدراق. أما الجبلان اللذان يُطلان على الكفرون و يحرسانها، من ناحية الغرب والقبلة، فإنهما يتغيران عشرات المرات خلال النهار الواحد، تبعاً للضوء و لزاوية النظر.
ويكمل : أصبحت أشاركك عشق الكفرون ولو اختلفت معك بولعي بالصيد هوايتي المفضلة، لكن أعدك أني لن أصيد طائرك طائر الحوم.
وفي الكتاب نفسه يضيء حليم بركات على أدونيس في أغاني مهيار الدمشقي وعالم الشعر الأغنى:
المأساة هي في أن تصغي، فالألحان لا تظل في الخارج. تخترقك، وتحس بانهيارات في أعماقك، وبأنك تنمو. تُرى، أهناك ما هو أروع من الشعور بأنك تنمو؟ العالم يستيقظ فيك، ريح تحرك أغصانك، الأوراق اليابسة تسقط، زبد البحر يغسل وجهك، تعطش، تشرب دونما ارتواء. ضلوعك تتسع وتحتضن العالم بفرح.
أمّا في عالم جبرا ابراهيم جبرا الروائيّ يتساءل بركات: هل يمكن الفصل بين الكاتب والكتابة؟ وإذا لم يكن من الممكن الفصل بينهما فهل يجوز اعتبارهما واحداً نتيجة لعمليةٍ متواصلةٍ من الاندماج الكلي؟ وإذا لم يكن من الممكن الفصل أو الدّمج، فكيف نفهم العلاقة بين الكاتب والكتابة كتعبيرٍ عن الذّات، وبين الذّات والواقع في مختلف أبعاده؟ أليست الكتابة عمليّة خلقٍ وإنتاج في آنٍ واحد؟
في روايته “عودة الطائر إلى البحر” نجد معاينة الروائيّ والّرواية لهزيمة 1967، فالأستاذ الجامعيّ رمزي الصفدي يحضر من بيروت إلى عمان والقدس ونابلس وجنين… ولهذه الرّواية ريادتها المتمثّلة بسرد الأساطير والموسيقى، حيث الهولندي الطائر رمز للعربيّ وللفلسطينيّ بخاصة. ويمضي رمزي الصفديّ بهذا الرّمز إلى شخصية “الفدائي” فيراه الجسر الوحيد الذي يصل العرب بالمستقبل، ويعبر بهم سور المأساة، لذلك لن يستريح العربي في اليوم السابع.
على الرغم من الانتشار الواسع لحليم بركات كراوٍ عربيّ كانت له بصمةٌ مميّزةٌ في الرّواية السيريّة، ورغم تحدّثه عن أنّ العربيّ معرّضٌ لكلِّ أنواع الظّلم والمنع والقمع والامتثال القسري وفي ظلّ غياب حلولٍ واقعيٍة وجذريةٍ، سيظل يسعى جاهداً للتحرّر من واقعه من خلال الفانتازيا، إلا أنّه كان أيضاً من أهم من كتب بالاجتماع العربي المعاصر، يؤكّد حليم بركات في مؤلفاته أن الكتابة الثوريّة تدل على محدوديّة الفرضية التي تقول بتصادم بين الفن والالتزام بالقضايا السياسيّة الكبرى. فهو يرى أن بإمكان الروائي أن يُخضع السياسة لعملية الخلق والتّفكير النقدي التّأملي في إطار الصراع الإنساني المحتدم.
لقبه مايكل هيدسون الاقتصادي الأميركي بـ إميل دوركهايم العرب، نتيجة أعماله في علم الاجتماع العربي وهو القائل أنّ الثّقافة هي رؤى الحياة والكون وتصوّراتها، وأساليب العمل المفضلة، والقيم والإبداعات والفنون الأدبية من شعرٍ وروايةٍ وقصةٍ والفنون التشكيلية من رسمٍ ونحت، والموسيقى والغناء والرقص، وفرق بين ما يسمى بالثّقافة السّائدة، والثّقافة النّقدية المُضادة، والثّقافة التوفيقيّة. و بيّن أنّ هناك أيضاً ما هو ظاهر للعيان وما هو خفيّ، وما هو اتباع و ما هو إبداع و ما هو عقلاني وما هو عاطفي.
جسّد بركات فعله الثقافي بالرّواية كما ذكرنا وبالتّفكر بقضايا المجتمع العربي أيضاً، فقد انكبّ مدّة ثلاثين عاماً على كتابة مؤلّفه (المجتمع العربي المعاصر) الصّادر عن مركز الوحدة للدراسات والذي عُدَّ من أهمّ كُتب علم الاجتماع العربي تناول فيه قضايا المجتمع العربيّ باحترافية الأكاديمي المشتبك مع واقعه، احتضن الكتاب أربعة أقسام عُنونت بعناوين أهمّ الإشكاليات العربيّة، فقد جاء القسم الأول بعنوان الهويّة العربيّة والاندماج الاجتماعي، تناول فيه الهويّة العربيّة بين التنوع والاندماج وأنماط الاجتماع العربيّ (البدويّ، الريفيّ، والحضريّ) ومآلات الاندماج الاجتماعي والسياسي. وجاء القسم الثاني بعنوان البنى والمؤسّسات الاجتماعيّة ليتناول الطبقات الاجتماعيّة ومفهوم الطّبقة كما يُضيء على العائلة العربية وعلاقات القرابة ويُناقش الصراع السياسي في إطاره الاجتماعيّ. بينما يعرض القسم الثّالث المعنون بالثّقافة العربيّة أنماط الثّقافة العربيّة واتجاهاتها المعاصرة كما يناقش موضوع القيم العربيّة مصادرها واتجاهاتها، واختتم الكتاب بالقسم الرّابع المعنون باستشراف المستقبل العربيّ ناقش فيه قضايا الثّورة والتنمية والاغتراب وتجاوز حالة الاغتراب.
حليم بركات (١٩٣٣-٢٠٢٣) ولد في ٤ كانون الأول ١٩٣٣، في الكفرون (سوريا) حصل على درجة الإجازة في علم الاجتماع ١٩٥٥ ودرجة الماجستير عام ١٩٦٠ من الجامعة الأمريكيّة في بيروت ثم نال درجة الدكتوراة في علم النّفس الاجتماعي عام ١٩٦٦ من جامعة ميشيغان الأمريكيّة، عمل زميلاً باحثاً في جامعة هارفارد من ١٩٧٢ حتّى ١٩٧٣، ودرس في جامعة تكساس عامي ١٩٧٥ و١٩٧٦ و من هذا العام حتّى ٢٠٠٢ كان أستاذاً لتدريس البحوث في مركز الدّراسات العربيّة المعاصرة في جامعة جورج تاون.
كتب بركات ما يقرب من عشرين كتابًا وخمسين مقالًا عن المجتمع والثّقافة في مجلاّت مثل المجلّة البريطانيّة لعلم الاجتماع، ومجلّة الشرق الأوسط، ومواقف، والمستقبل العربي.. كما أصدر روايات ومجموعة قصصيّة غنيّة بالرمزيّة والرمز خلال حديثها عن الأحداث العالمية. من أهم أعماله:
تعملُ التشكيلية السوريّة يارا عيسى (1989) من وحي الألم السوريّ، إنّها تُعيد إنتاج ذاكرة الحياة الضاربة بالحرب واللجوء، تُعيدها بصيغة إنسانيّة، كان لها أثر كبير على حياتها الشخصيّة، كما شعرنا من خلال حديثنا معها. فهي المُتخرجة من كلية الفنون الجميلة عام (2016) جامعة دمشق، والتي عاشت الأحداث السّورية بشكل جوهريّ عبر بوابة العمل الإغاثيّ الإنسانيّ، حتى أواخر العام 2018. واليوم في باريس ضجّت ذاكرتها بآلاف الصور عن سوريا وعن السّوريين وعن الأحداث الرهيبة التي عاشوها، والتي كانت هي جزءاً منها، لم يكن ثمّة طريقة لفهمها ومواجهتها على ما يبدو سوى بالفن.
بالنسبة لـيارا التي تجمّع تلك المرايا المكسورة في داخلها، هناك اقتراحات جديدة تقدمها للعالم، وهذا الحوار فيه محاولة مشتركة بيننا وبينها لقراءة أعمالها ومواكبة تجربتها التي تحضّر فيها حالياً لإطلاق أعمال فنية ضمن معرض مقبل في فرنسا:
هل تلخّصين لنا ما هي هذه التجربة؟ متى سوف تكتمل؟ ومتى من المحتمل أن تظهر للضوء؟ هل سيكون لها امتدادات على مستوى الأسلوب ومعالجة الفكرة؟
يارا: اسم التجربة التي أعمل عليها حالياً هي “الأزرق لم يعد آمناً بعد الآن” (The Blue is not save any more). من المحتمل أن تكتمل خلال هذا العام وأن تظهر قريباً للضوء. بعد البدء ها هنا، أشعر أنّني أكتشف عوالمَ وتقنيات أخرى، وبالتالي أعتقد أنّ هذه التجربة بالنسبة لي ماتزال غنية بالمساحات المليئة بالحرية على مستوى الفكرة.
شعرت أنّ الجسد في معظم أعمالك هنا يعيش في ضجيج مشّوش من التفاصيل، هناك مجموعة من الأجساد؛ هي لأشخاص بأعمار متفاوتة، على وجه التحديد: في أحد أعمالك يبدو بأنهم قد سجوا على بحر أو سماء أو أزرق ما تتركينه أمامنا لاحتمالات إنسانية تجعلنا نرى الأجساد كأنها ذكرى، ترى من هؤلاء؟ ولماذا يجتمعون بهذا الحزن؟
يارا: السّماء والبحر هما فسحتان مليئتان بالتناقضات؛ الأمل والموت، الحبّ والحرب، القُرب والبُعد، المنفى والوطن، الأمان والخوف، الوجود والعدم. كلّها تناقضات جمعتها تلك المساحات الزرقاء والتي منذ أن بدأت الحرب في سوريا عام (2011)، تحوّلت تلك المساحة إلى فضاءات غير آمنة للسوريين. اكتظت السّماء بالدخان، والبحر قام بابتلاع المئات. وصرنا نستطيع استشعار الخطر في أيّة جملة تتضمن كلمات كالبحر والسّماء، على الرغم من أن تلك المساحات الزرقاء كانت مدعاةً للسلام. أمّا فيما يتعلق بأعمار الشخوص التي تقدمها أغلب الأعمال، فقد حاولت أن أنقل جميع الفئات العمريّة من الأمان إلى العدم، فالحرب في مساحاتها لم ترحم حتّى الأطفال أو الرضّع.
إذاً، نحن أمام مواجهة فنيّة لأمكنةٍ غيّرت إلى حدٍّ ما دلالاتها بسبب الحرب في سوريا، هل نعتبر أنّك تقترحين المواجهة مع الذاكرة من أجل التحرّر من الألم الجمعيّ أم ماذا؟
يارا: يمكنك أن تعتبر هذه الأعمال توثيقاً للذاكرةِ العاطفيّةِ ضمن تشكيلاتٍ لونيّة وسياق عمل فنيّ مُتصل يسمح لنا بالتخيل والمشاهدة العاطفية عن بعد. وكأنّنا ننظر من السّماء إلى البحر، أو من البحر إلى السماء لنجد أنفسنا نخوض تلك التجربة العاطفيّة مع أبطال هذه الأعمال الذين لم يمتلكوا كثيراً من الخيارات؛ فإمّا الموت بفعل القنابل تحت السّماء أو الغرق في البحر طمعاً بالنجاة. إنّ هذه الشخوص والإيحاءات التعبيريّة؛ سواء في ملامح الوجوه أو في تعبيراتِ الجسد، ما هي إلا محاولة لإيصال التناقضات العاطفيّة والتي كوّنت بدورها هذا المزيج بين الحزن، والفرح، والأمل، والخيبة! سوف نرى هذه الحالات العاطفيّة تتوارى وتظهر لنا على اللوحة من خلال تداخل الألوان والخطوط، وانتهاكها في بعض الأحيان خصوصية الأزرق لتعطيه طاقة انفعاليّة وردَّ فعل قاسياً وعاطفياً، وانعكاسُ ردّ الفعل على الجمهور كما المرايا المكسورة المُعاد تشكيلها إذاً هو توثيق وانعكاس لعواطفنا نحن من عانينا من الحرب.
لاحظنا تقارباً في تكون بعض الأعمال لجهة التشكيل الأول لهويتها، والذي ما يلبث أن يقدم ذلك التشكيل انزياحاً لولادات غريبة في ذات العمل، إلى أيّة درجة نستطيع القول إنك تعودين لأعمالك تبعاً لظروف ما، من أجل وضع لمسة أخرى عليها.. ومتى تشعرين أن العمل قد تشكل تماماً؟
يارا: التقارب هو بسبب وحدة الحالة العاطفيّة التي تجمع هذه الأعمال، إنّها حالات عاطفية مستوحاة من معاناتنا كأناس من الحرب، ومستوحاة من تجربتي الشخصيّة على اعتبار أنّني بقيت في سوريا حتى منتصف عام (2019)، وقد كُنت على تماس مباشر مع الأحداث والنزاعات على الأرض، أضف إلى أن ذلك ينبع -أيضاً من كوني سورية في الدرجة الأولى وعملتُ مع المنظمات الحقوقيّة والإنسانيّة هناك. بالنسبة لنضوج العمل الفني، أعتقد أنّه يتطلب وقتاً وممارسة طويلة الأمد، وتلك الممارسة توحّد بين الحالة العاطفية من جهة، وحالة العمل من جهة أخرى، وفي كلّ مرة؛ دائماً أجد بأن هناك نتائج أفضل.
ما المقصود “بأنك تجدين أن هناك دائماً نتائج أفضل في كل مرة”! هل تعنين مثلاً التعديلات التي تشعرين أنها لازمة لتكون النتيجة أفضل في لوحة جديدة لنفس الموضوعة، أم القصد هو أنه في كلّ عمل جديد تشعرين بأنّ نتيجة الفكر، ككل، أفضل، بما أنّ الموضوع مشترك في أفكار اللوحات حسب ما رأينا؟
يارا: الفن بالنسبة لي عمل تراكميّ، لا يوجد هناك نتيجة مُثلى، لأن العمل الفنيّ يسعى دائماً للكمال، والفنان يفني حياته في محاولة إنتاج عمل فنيّ أفضل أو أنضج.. إلخ، ليرتقي إلى الكمال، وهذه العملية هي من تُعطي الفنّ قيمته الخلّاقة، والإبداع الذي يرافق هذه المحاولات هو من يمنح هذه الأعمال رونقها الخاص، لأنّ هذه العملية تمنح الفنان خصوصيته وبصمته التي استمدها من هذه التجربة. أسعى مع كلّ عمل جديد إلى الارتقاء بالعمل والحصول على نتيجة أفضل لذلك أبذل في كلّ مرة جهداً مضاعفاً. وكلّ مرّة أشعر بأن العمل الفنيّ يأخذني إلى أماكن أعمق، لذلك أشعر دائماً أن هناك نتيجة أفضل. أتوقف عندما يجب أن أتوقف وأنهي العمل ليس لأنّه وصل لأفضل شكل، بل لأن هذه الخطوة انتهت.
لاحظنا أن هناك كائنات غريبة تشبه الأسماك أو لها أجساد حيوانات تمشي على أربع قوائم، وهي متداخلة بطريقة سوريالية مع بعضها في أحد أعمالك، هل يمكن أن يشرح الفنان فكرته إلى جانب عمله بجملة أو جملتين؟ هل هي ضرورة برأيك ولماذا؟
يارا: بالطبع، أعتقدأنّها ليست ضرورة، ولكن، هذا يعود إلى خصوصيّة العمل الفنيّة والهدف منه، لنبدأ من توقيع الفنان على اللّوحة، ووضعه لتاريخ العمل، وهذا يفيد في تحديد الحقبة الزمنيّة التي أتمّ بها الفنان هذا العمل. أو قد نرى أحياناً العديد من الأعمال التي تحمل عناوين تدلّ على الأحداث التي ترافقها، مثل تلك الأعمال الملحميّة للمعارك عبر التاريخ، أو تلك الأعمال التي تهدف إلى تسليط الضوء على قضايا إنسانية… إلخ، فخصوصية العمل الفني تختلف وأهدافه قد تكون مختلفة. برأيي الشخصي لا أفضّل الأعمال التي توضع بجانبها ملاحظات، أحبّ التأمل وأن أعيش تجربتي الشخصية مع العمل، دون أن ألجأ إلى الملاحظات المنوطة بجانبه، مع الأخذ بعين الاعتبار تجربة الفنان والخلاصة التي يطرحها أمامنا.
إذاً أنت تراهنين على المتلقي وعلى ثقافته في فهم الأعمال الفنية والتواصل معها وتتركين له حرية فهم العمل، ترى كيف تفكرين بهذا الجانب عندما ما تختارين موضوعاً راهناً لازال يتغير مثل الحدث السوريّ؛ خصوصاً وأنّك تتوجهين لمجتمع متنوع مثل المجتمع الفرنسي؟
يارا: ضمن هذه التجربة تحديداً أعتمد بصورة عامة على ذاكرة المتلقي، على وجه الخصوص المتلقي الذي لديه ذاكرة لجوء أو حرب، أو على أشخاص تهتم إنسانيتهم بهذه القضايا، أو لربما من يستطيع أن يشعر بهذه الانفعالات اللونية على اللوحة. أما فيما يتعلق بالأعمال الفنية القادمة؛ لربما سوف أتجه إلى مفاهيم أكثر شمولية كالخوف والدهشة والألم كي أستطيع أن أصل إلى العالم في كل مكان. لقد عانينا فعلياً من الحرب، ولكن الكوارث والحروب والنزاعات بكلّ أنواعها موجودة في كلّ مكان، لربما المفاهيم الأكثر شمولية هي الأقوى والأبقى والأكثر تأثيراً ولها شعور جمعيّ؛ تخاطب أكبر شريحة ممكنة من الناس، في المحصلة يرغب الفنان أن يعبّر عن ذاته!
لا بدَّ في مواقف الحزن القصوى، كمجمع عزاءٍ مثلاً، من وقوع حوادث مضحكة، لا يملك المرء فيها إلا أن يستسلم للضحك بعد مكابدة طويلة. للأسف، أو ربما لحسن الحظ، تنفلت الضحكة عاليًا في النهاية ويحدث ما كنا نخافه. الأمر ذاته في الحروب والأزمات الكبرى، خصوصًا في المرحلة التي تلي الحرب، لا بد لمواقف مشابهة من أن تحدث، أو بمعنى أدق، من أن تتوالد. وهل ثمة ما هو أحق من جراحنا الشخصية كي نضحك عليه!
بعد مضي نحو ثلاثة عشر عامًا على الحرب السورية، بكل ما جرّته على شعبها من تشرد وفقر واغتراب، لا تزال تتجلى إلى اليوم، مخلّفات تلك الأزمة بأشكالٍ عدّة. سأختار منها المضحك فقط، تخفيفًا عن الجميع، تاركةً لغيري الحديث عن القهر والأسى. علمًا أن ما سيُذكر مبكي في جوهره، على غرار ما قاله المتنبي: ” لا تحسبنّ رقصي بينكم طربًا، فالطير يرقص مذبوحًا من شدة الألمِ”.
دَعَوات مبتكرة
لا غريب أن المنتَج الأساس في الحروب كلها، مشردون يجوبون الطرقات ويفترشونها. إما ضاقت بهم السبل، أو استسهالًا، لا فرق، إلا أنهم يلجؤون إلى التسول طريقةً يكسبون بها لقمة العيش، ما جعل التمييز بين المحتاج وغيره أمرًا صعبًا. وفي غياب وجود إحصائيات رسمية لأعداد المتسولين في سورية، نعتمد على “حسّنا العالي” في تقدير العدد الآخذ في ازدياد، وفي كشف المتسول المحق من المتسول الكذّاب. ما أثار اهتمامي أكثر من العدد المهول، هو الأسلوب المبتكر للفت الانتباه. بات المتسول على علمٍ بدواخلك وأمنياتك، فهو في النهاية من الشعب، وإلى الشعب يعود. فإذ به يلعب على هذا الجانب، يدغدغ فيك رغباتك الدفينة وأسرارك الخفية التي لا تبوح بها حتى لنفسك.
منذ أيام، اقترب مني أحد أفراد هذه الجماعة، وأصرُّ على تسميتهم جماعة، لأني أكاد أجزم بوجود تنظيم سري لهم، يجتمعون ويتباحثون في شؤون المواطن ونقاط ضعفه والكلمات المفتاحية التي تحرك مشاعره. اقترب وقال: “الله يسفّرك”! نظرت إليه بذهول، كيف تحولت تلك الدعوات من “الله يخليلك أهلك” وما إلى ذلك، إلى “الله يسفّرك”!
مرة أخرى قالت لي إحداهن: “الله يبعتلك نصيبك عَ ألمانيا أو عَ دبي” ما كان مني سوى أن أضحك أمام هذه الابتزازات العاطفية. وللصدفة كان صديقي المغترب معي، وحين جاء دوره في الدعوات، لم تفلح معه دعوة “الله يسفّرك” التي سبق وتحققت. واعترف لها، لسوء حظه، أنه في زيارة. طمعت الأخت بمال المغترب الذي كان، لكنها لم تحصّل في النهاية سوى خمسة آلاف ليرة سورية، متأففة أن ما نالته أقل من نصف دولار!
زواج بيرفع الراس
من تداعيات الحروب أيضا، كثرة الزيجات. ولكن هل كل الزيجات زيجات! اختلفت معايير الزوج المثالي مع تفاقم الأزمة. لدرجة أصبحت فيها المزية الأساسية للزوج، اغترابه. وكلما كانت سنوات اغترابه أكثر، كلما كان أفضل، إذ إنه سيحمل جنسية البلد الحاضن، أي على مبدأ النبيذ المعتق.
الاسم لا يهم، وكذلك العمر والحالة الاجتماعية والمهنة، هذه أمور ثانوية نسأل عنها لاحقًا، لدرجة بتنا نقول: “زوّجنا البنت ع ألمانيا” أو “الشب كتير أكابر، ما عاد نذكر من أي عيلة، بس عَ كندا”.
ليت الأمور توقفت عند هذا الحد. صار معيار تقييم نجاح الأنثى في العلاقات، المسافة التي تقطعها كي تلتقي بالزوج. وكأننا في ماراثون، الفائزة ليست الأسرع، إذ ليس من خط نهاية نصل إليه ونقطع الشريط، بل من تبتعد أكثر. وبذلك، توفَّر للفتيات أسلوب مفاخرة جديد، إذ قالت لي إحداهن: “والله إجاني عريس ع هولندا، حركيلنا حالك، مانك شاطرة”.
ومنذ ذلك الوقت، وأنا أبحث عن الحركات التي فعلتها تلك المحظوظات المسافرات القاطعات مسافات، دون جدوى. انتسبت مؤخرًا إلى نادي رياضي، علّني أزيد من لياقتي وأدخل السباق. لكنّي أخاف أن أتحمس كعادتي، فأستمر في الركض وأصل إلى القطب الجنوبي. لا أعتقد أن ثمة مغتربين هناك!
الألمانية هي اللغة الأم
سألت صديقي عن زميلٍ لنا إن كان يتعلّم الألمانية حقًا! أجابني: “شو الغريب؟ أبو حسن الخضرجي عنا بالحارة عم يتعلم ألماني”. أينما تحركت وكيفما التفتت، في المقهى والشارع والسينما وحتى في أثناء نومك، هناك من يتعلم الألمانية. باتت لغة العصر. قد يبدو الأمر مبهجًا ومدعاة فخر. لغة جديدة تعني ثقافة جديدة. لكن الأمر ليس كذلك أبدًا.
حين كنت في معهد اللغة الألمانية منذ سنتين، اقتصر تعلّم بعضهن اللغة على الأساسيات، بحجة أن “لَمْ الشمل” لا يتطلّب أعلى من المستوى الأدنى! تفاجأت بجرأة بعضهن. اللغة صعبة وليست أمرًا يؤخذ استسهالًا. ستقولون لي: تعلمتِ اللغة إذًا!
وهنا موضوع آخر، أصبح تعلُّم اللغة محط شك، وخصوصا بالنسبة للفتاة. إذ يوحي بوجود عريس محتمَل، أما الدراسة سعيًا خلف فرصةٍ ما، لهو أمر مستبعد! يبدو أنه مستبعد حقًا. دليل أنني في سوريا الآن أكتب ما أكتبه وبلغتي الأم التي أحب.
اقتصاد ملون جديد
مع انهيار العملة السورية، انهار الشعب والبلد. بينما ازدهر المغترب وأبو المغترب وأم المغترب وأخوات المغترب! غدت حياة كل هؤلاء معلّقة إلى سعر الأحمر والأخضر. يأملون أن ترتفع قيمته دون اكتراث لقيمة الليرة، إضافة إلى أن هبوطه لن يسهم في خفض أسعار السلع التي تعرف طريقًا واحدًا فقط، لا تسلك سواه، صعودًا وبسرعة قياسية.
أُضيف إلى طابور البنزين والخبز، وصفد البيض في المؤسسة الاستهلاكية، طابورٌ آخر، هو طابور الحوالات المالية، عدا عن تلك الطوابير الخامسة المخفية في الأزقة وعتمة الطرقات.
ولدت كذلك شيفرة جديدة بين أبناء الشعب، إذ نقول: “بدك تبيع أو تشتري، بندورة ولا خيار؟” في إشارة إلى العملات الصعبة. حتى انقلب الأمر الذي بدأ مزحة، أزمة وجودية. فالخيار والبندورة في الواقع، يحتاجان إلى قرض كي تبتاعهما!
تحويل الأزمات إلى نكات
يقال إنه متى كَثُر الكلام المضحك وقت الكوارث فإنها كارثة أكبر. لكن ما الذي نملكه أمام هذه الكوميديا البشرية سوى أن نضحك! هل تنفع الشكوى! إذًا لا بد من تحويل أزماتنا إلى نكات، والأكثر من ذلك توثيقها. فهي إرثنا المتجدد والمتحوّل بتحولنا. قد تكون هذه المواقف المضحكة المبكية، في جزءٍ منها، من يوميات المواطن السوري عامةً، ويومياتي أنا، ابنة اللاذقية خاصةً، أو لنقل ابنة “الحفرة السعيدة” كما يسميها أحد مثقفي اللاذقية. حتى مثقفونا باتوا يضحَكون ويُضحِكون. “الحفرة السعيدة”! يبدو أننا في حفرة فعلًا، ضحكنا أم بكينا، سيرتد الصدى ويصم آذاننا عن سماع أصوات العالم، ويحجب ضوضاءنا عنه.
جورج طرابيشي فيلسوف وأديب سوري، يُعدُّ من أبرز المفكرين اليساريين والقوميين العرب. ومن أكثرهم غزارة في إنتاجه الفكري وترجماته. وقد مرَّ في حياته – كما يروي هو – بست محطات كانت فارقة في مشواره الشخصي والفكري. أول تلك المحطات تجاوزه أو تحرره من ربقة المسيحية، التي تجعل من الخطيئة محور حياتنا. والثانية اقتناعه أن القضية الأساسية في التغيير الحقيقي، هي تغيير العقليات لا الأنظمة والسياسات، والثالثة تتعلق بالموقف من المرأة؛ لأن الموقف منها يتعلق بالموقف من العالم بأسره، والرابعة متعلقة بتعرُّفه على فرويد والتحليل النفسي، والخامسة اكتشافه تزييفات الجابري حيال موقفه من إخوان الصفا، والسادسة متعلقة بموقفه من الحرب في سورية ومن صمته حيالها، فهو لم يصمت ولكنه أصيب بخيبة أمل بأن الربيع العربي الذي استبشر به خيراً في البداية، كان بمثابة ردة إلى ما قبل الحداثة المأمولة، والغرق في مستنقع القرون الوسطى.( طرابيشي، المحطات الست في حياة جورج طرابيشي، موقع الجمهورية نت).
طرابيشي من مواليد حلب (١٩١٦-١٩٩٣). ويحمل الإجازة باللغة العربية، وماجستير في التربية، وقد عمل مديراً لإذاعة دمشق، بُعيد فض الوحدة بين سورية ومصر، وكذلك عمل رئيساً لتحرير مجلة دراسات عربية في بيروت، لكنه اضطر لترك لبنان بسبب الحرب الأهلية هناك، وانتقل إلى فرنسا وعمل في مجلة الوحدة، وتفرَّغ بالكلية للعمل الفكري مؤلفاً ومترجماً لعشرات الكتب الفلسفية والأدبية والتراثية.
تبنى طرابيشي في كتابه ” مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام ” فكرة احتضان الحضارة العربية للفلسفة، حيث ازدهرت الفلسفة في ظل هذه الحضارة، عكس ما أشاعه بعض الفكرين العرب – أمثال: أحمد أمين وعبد الرحمن بدوي والجابري- من أن هذا الاحتضان للفلسفة كان محصوراً بالغرب، وأن الشرق العربي كان محروماً من نفحات الفلسفة وإبداعاتها. (طرابيشي، مصائر الفلسفة، 1998، ص7 وما بعدها) فقلب معادلة التقدم والتأخر، وأعاد الأمور، بل الحقائق إلى نصابها، دون تحريفات الإيديولوجيا وتزييفات روَّادها من الغرب والشرق. ومع ذلك فقد أنكر وجود فلسفة عربية حديثة أو معاصرة، وهي إن وجت فهي ” فلسفة مترجمة، أو مولّدة بوساطة الترجمة. يصدق ذلك على توماوية يوسف كرم، ووجودية عبد الرحمن بدوي، وجوانية عثمان أمين…( طرابيشي، 206، هرطقات1، ص59).
لقد عمل طرابيشي على ترجمة أهم مؤلفات ماركس ولينين وفرويد وهيجل وسارتر وجارودي وسيمون دي بوفوار، ورغم أن تلك الترجمات لم تكن عن لغتها الأم، إلا أنه كان لها دور مهم في نشر الثقافة والفلسفة الأوربية في الأوساط العربية، وقد انعكست تلك الترجمات على أعمال طرابيشي، وتأثر بمدرسة التحليل النفسي، حيث طبق منهج التحليل النفسي على الرواية العربية، ويعود له الفضل في تناول الرواية العربية وتحليلها تحليلاً نفسياً، وإثرائها بالبعد الفلسفي الذي انعكس على كل كتاباته. ولا نتحدث هنا عن الترجمات، بل عن أعماله الخالصة ككتابه شرق وغرب، وعقدة أوديب، ولعبة الحلم والواقع، والأدب من الداخل…الخ.
أما فيما يتعلق بالمسألة القومية، فقد تناولها طرابيشي بتأثير من الفلسفة الماركسية، وكان يغلب عليه في بداياته الفكرية الطابع الثوري والماركسي، قبل أن يتحول إلى الاتجاه الليبرالي الديمقراطي، وقد ألَف في هذا الشأن: الماركسية والمسألة القومية، والماركسية والأيديولوجيا، والاستراتيجية الطبقية للثورة، وغير ذلك من المؤلفات التي يغلب عليها اتجاهه اليساري الماركسي. وكان موقفه وقتئذٍ من التراث العربي سلبياً، قبل أن يتحول لدراسته دراسة ناجعة ومثمرة.
ولعل أهم ما أنتجه الطرابيشي متعلق بمسألة نقد الفكر العربي، وقد بدأ مشروعه هذا بنقد نقد الفكر العربي لمحمد عابد الجابري، واستغرق ذلك من وقته ما يقارب العشرين عاماً. ورغم أنه بدأ رحلته مع الجابري، بإعجاب لافت بكتابه ” تكوين العقل العربي”، إلا أن طرابيشي سرعان ما انتبه إلى ملاحظات نقدية على هذا الكتاب أولاً ثم على المشروع النقدي للجابري ككل.
خصص طرابيشي لهذا النقد أربعة أعمال، كانت تتجه بشكل مباشر لنقد الجابري، وهي: نظرية العقل العربي، وإشكاليات العقل العربي، ووحدة العقل العربي، وأخيراً العقل المستقيل. لكن طرابيشي لم يبقَ حبيس آراء الجابري، ولا حبيس تزييفاته الأيديولوجية المقصودة أو غير المقصودة. حيث إن الجابري – حسب طرابيشي – عمل على تقسيمات شرقية وغربية، وخص الشرق بالبيان والعرفان، أما البرهان فهو من نصيب الغرب أو المغرب حيث ينتمي الجابري. وقدَّم طرابيشي عشرات الأدلة على تزييفات الجابري للتراث، بل للإرث العربي والإسلامي عموماً والمشرقي خصوصاً. وانتهى طرابيشي إلى ” أن دوائر العقل العربي الإسلامي متحدة المركز، سواء أكانت بيانية أم برهانية أم عرفانية، وهذا معناه أن النظام الابستمي لهذا العقل واحد، وبالتالي ما كان لهذا العقل أن يشهد أية قطيعة ابستمولوجية مهما تمايزت عبقريات الأشخاص وعبقريات الأماكن.” ( طرابيشي، 2002، وحدة العقل العربي الإسلامي، ص 405).
والذي يقرأ كتاب طرابيشي ” وحدة العقل العربي ” يدرك في آن معاً موسوعيته وعمقه في قراءة التراث الفلسفي والفكري العربي، حيث نراه من جهة يمسح على نحو أفقي أعلام الثقافة العربية من الفلسفة إلى اللاهوت إلى التصوف، يبدأ بابن سينا وينتهي بابن طفيل وابن رشد، يحلل الغزالي ويعرج على ابن حزم، ليصل إلى الشاطبي، ثم نراه يغوص في تحليل عمودي ليقف على أدق التفاصيل وأكثرها عمقاً.
فطرابيشي لم يبقَ حبيس الملاحظات النقدية على الجابري، بل تجاوز ذلك لفهم التراث العربي بكل ما فيه، ولم يقتصر على قراءة الفلسفة اليونانية وامتداداتها الوسيطة والحديثة والمعاصرة، الغربية منها والشرقية، بل نراه قد قرأ التراث من نصوصه الأصلية، فكتب من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، ولم يكتفِ بذلك بل تطرق للفقه والتصوف واللاهوت المسيحي والإسلامي، وتناول كل ذلك بعقلية نقدية منقطعة النظير. والنقد لديه لم يكن نقضاً أو هدماً، بل كان نقده بناءً، غايته تصويب ما اعوج من منظور تنويري، فقد كان ينقد ليصوِّب، يَهدم ليبني، ويجرح ليبنّه الغافلين.
لم يكن طرابيشي كغيره من المفكرين، الذين اتجهوا لنقد التراث، فبقوا حبيسين في أقفاص ذلك التراث، بل إن طرابيشي كان يمسح التاريخ الفكري والفلسفي والديني، يسبر أغواره متسلحاً بالنقد أو التفكيك، بكل ما تعنيه هذه الكلمة أو هذا المنهج النقدي الخطير. فكتب كتابه الهام “هرطقات “، بجزئين الأول خصصه لهرطقات عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة، كشف فيه عن زيف بعض التصورات والمفاهيم والممارسات المتعلقة بهذه المفاهيم، كاشفاً عما يعتري الثقافة العربية المعاصرة من زيف وأضاليل تُسِيء للتراث والتاريخ العربي، الذي يراه طرابيشي بأنه حافل بقيم الديمقراطية والعلمانية، عكس ما ينشره متفلسفو العرب المعاصرون، الذين لم يروا في التراث غير أوراق صفراء لا تسمن ولا تغني من جوع، ولهذا نراه يخصص الجزء الثاني من كتابه ” الهرطقات ” لإشكالية العلمانية، كاشفاً ومبرهناً عن مظانها في تراثنا العربي.
أما بخصوص الديمقراطية فقد كتب يصف حاله يوم صار ديمقراطياً، فقال: ” ويوم انتهيت إلى أن أصير ديمقراطياً لم أرَ في الديمقراطية ايديولوجيا خلاصية، نظير ما فُعل بعقيدتي الوحدة العربية والاشتراكية، ولم أضع أي رهان من طبيعة عجائبية على تحول ديمقراطي يأتي عن طريق صندوق الاقتراع، إذ لم يقترن بتحول عقلي في صندوق جمجمة الرأس: رأس النخب كما رأس الجماهير.” ( طرابيشي، 2008 ، هرطقات 2، ص7).
استطاع طرابيشي وبحق أن يغوص لعمق القضايا التراثية بعقلية علمانية مستنيرة، وبأدوات ومناهج فلسفية وعلمية راهنة، فكك كل إشكاليات الفكر العربي، وعلى رأسها إشكالية البنية الشعورية للعقل العربي ذاته، وإشكالية وجدلية اللغة والعقل، منذ المرحلة الشفوية للثقافة، وصولاً إلى عصر التدوين (طرابيشي، 1998، إشكاليات العقل العربي، ص 9 وما بعدها) فلم ترهبه مقدسات اللاهوتيين، ولا أوثان الفلاسفة ولا أفكارهم ولا حدودهم الصفراء، وقدَّم لوائح امتياز لما للتراث العربي وما عليه. فنراه هنا يقيِّم مشروع حسن حنفي في موسوعته ” التراث والتجديد ” فهو يرى أن ” أجمل الصفحات، وأعمق الصفحات، وأكثر الصفحات أصالة، هي تلك التي خطها يراع حسن حنفي وهو يمارس تجاه التراث والذات الوظيفة النقدية، وبالمقابل فإن تلك الصفحات التي دبجها في تعظيم التراث والذات هي من أكثرها ضحالة، وابتذالاً…” ( طرابيشي، 1991، المثقفون العرب والتراث، ص 274).
وأخيراً قدَّم طرابيشي للأدب والنقد الأدبي والروائي ربما أول تجربة في التحليل النفسي والفلسفي الوجودي والماركسي والتفكيكي. وعشرات الترجمات لنفائس نادرة في الثقافة الفلسفية والأدبية والإنسانية. فكان بحق فيلسوفاً وأديباً في زمن خلا أو يكاد.
في أسلوب جديد ومختلف عما عهدناه يأتينا طارق إمام بدهشة متصاعدة في عمله الأخير “أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها” الصادر عن دار الشروق 2023، منذ العتبات النصية التي بدأها بإهداء العمل لوالده “أنت فوق التراب وأنا تحته” في سرد يحفل بالثنائيات الضدية الفوق والتحت؛ الولادة والموت؛ الطفولة والشيخوخة، في تبادلية الأدوار وتواترها في نسبية الحياة والموت، الموت الذي يراه كاستيقاظ مستمر في قلب واقعية المفاهيم في مفهوم الموت المقلوب “عندما مات استيقظ ولم ينم”.
فالغرائبية التي يكسر بها نمطية الأشياء والواقع تقودنا إلى المعنى المضمر في بواطن السرد، فالمعنى أشبه بمؤامرة خاصة يحيكها إمام لاستجلاء معنى غير واضح يتطلب جهدًا من القارئ في التحليل والتنقيب عن مراميه.
ضمت المجموعة الأولى التي حملت العنوان “لأننا “نولد عجائز” حوالي تسعاً وعشرين أقصوصة تتوالى فيها المفارقة والدهشة ففي قصة “الحياة” يستغرب من ملاقاته لنفس الجار الذي يلتقيه عندما يقطن أي منزل جديد بتاريخ وأسرة وعلاقات مختلفة لكنه يكون هو نفسه في أحبولة التشابه والاختلاف، وربما هم الناس العاديون يتكررون أو أن نظرتنا عنهم واحدة أو هم متشابهون بالأصل.
وفي قصة “كلانا ضيف الآخر” نرى المشهد المقلوب في انتقال كرة يلعب بها أطفال الحي لتكون مجسم كرة أرضية على طاولته ذاتها، الكرة التي تلف الكون وسط الجثث في رمزية لما يحفل به العالم من الموت.
يقوم طارق إمام بخلط المفاهيم ما بين الموت والحياة؛ بين العمى والإبصار؛ بين اليقظة والنوم، ويشتط في فانتازيا الأحلام في “نائم يحلم بنائم”، عندما يحلم برجل يحلم في حلمه متسائلاً عن حلم ذاك الذي في الحلم.
يستفيد الكاتب من اشتغالات فن القصة القصيرة في الإيجاز والتكثيف لدرجة لا تتجاوز أحيانًا كل قصة الصفحة أو نصف الصفحة ولكنها تحتشد بمعان وأفكار ولعب على المفاهيم بطريقة غير معهودة.
ففي قصة “وجهك كالقمر” رغم بديهية التعبير العادي المتداول في أكثر من بيئة فإنه يرجعه الى معناه الجغرافي الحقيقي بكون القمر جرماً سماوياً حجرياً ليشير الى جفاف الحب وإلى امتهان المرأة أيضاً عندما يمرر رجل الفضاء بحذائه على وجه القمر وليخالف التعبير الدارج بأن التشبه به تشبه بالجمال، في توظيف عبارة عادية لأكثر من فهم وتفسير بقصة لا تتجاوز خمسة أسطر، ليعود مع القمر بحكاية أخرى عندما يصر صاعد للفضاء أن يذهب إليه بدرًا وبما إن القمر متغير فما أن يقترب منه حتى يصبح هلالًا يتعلق فيه كأرجوحة، وعندما يصبح في المحاق يسقط عنه إلى اللانهاية، في رمزية بديعة لرؤية الزمن المتحول في حياتنا، وقد نفسر أو نرى تأويلاً مخالفًا لما يقصده الكاتب أو يفكر به وهذه ميزة إضافية ذات صفة تشاركية مع القارئ فكل ما اتسعت مساحة التأويل أضافت غنى وثراء للعمل.
في الحوار بينه وبين الفيلم الذي اعتبر أن السارد وجه إهانة له لخروجه من منتصف العرض، بطرح العلاقة بين الفيلم والمشاهد كصديقين أو زميلين يتعاتبان ليستمر صاحب “ماكيت القاهرة” في قلب المفاهيم واستفزاز عقل القارئ بالعبارات الغرائبية على غرار كاميرا تتدلى من حزام رقبة وبين رقبة تتدلى من حزام كاميرا، فهو لا يبتعد عن الموت في الصورة وأداة التقاطها، وكذلك الناس الذي تراهم مقلوبين. هل يجب أن نمشي على رأسنا كي نستطيع التعامل معهم في إيماءة لعالم كل شيء فيه مقلوب، ويرد هذا في مكان آخر عندما انقلب البشر ليمشوا على السماء وتكون الارض أفقًا لهم ويتضرعوا الى الله في الأرض السابعة، في تهكم ضمني يطرق فيه أبواب ما بعد الحداثة في تهشيم الثوابت وكسر المقدسات ومساءلتها إذ يشرع في قصة” الدليل” بالسؤال المباشر هل الله موجود؟ وإذا لم يوجد لن توجد ذنوب ومقابر ليؤكد أنه وجد عندما وطئت رجل بشرية اليابسة، وكذلك بين الطريق وقاطع الطريق وكيف يتحول أحدهما إلى الآخر في أنسنة الأشياء مرة وتشيئ الكائنات مرة أخرى.
في المجموعة الثانية “هايكو المدينة” نعرف من هذا العنوان أن طارق إمام يهجس بالمدينة كما في رواية “ماكيت القاهرة” وهو يغامر بتداخل أجناسي بين مفاهيم تتبع القصيدة النثرية الخاطفة والقصة الومضة في نوع من الفن التجريبي لتمازج الأجناس بحس مغامرة عالي الجرأة عبر إحدى وخمسين أقصوصة تراوحت كل منها بين سطر وثلاثة أسطر تقريبًا.
لعبة التصغير والتكبير والشبيه والأصل لا تغادر منظومة المعاني التي يدور بها وحولها صاحب “الحوائط اللانهائية” بقدرة هائلة على تكثيف المعنى باقتصاد كبير بالمفردات عندما يصور موت المدينة بالشريط المائل على حائط العالم أو المدينة التي لم تترك مقابر لساكنيها؛ مقابر لمن لم يموتوا بعد؛ إذ لا يتمتع أبناؤها برفاهية القبر.
نلاحظ أيضاً التناص مع أحد المقاطع لأدونيس إذ يقول إمام:
” مات مالك دار العزاء
قدم المعزون الواجب واقفين
المقاعد ذهبت خلف النعش”
بينما يقول أدونيس:
“أيها الميت فوق الخشبة
يا صديقي
رسمت وجهك أزهار الطريق
ومشت خلف خطاك العتبة.”
كذلك في المجموعة الثالثة “لأننا نموت أطفالا” دائمًا يخالف توقعات القارئ الذي يحاول أن يتابع ويفهم لأن القصص التجريبية تبتعد عن التركيبة المنطقية فالقصة القصيرة تروي نفسها بنفسها من خلال دمج مجموعة من الحوارات الداخلية لشخصيات متعددة تتداخل فيما بينها ودائمًا يعود إليه هاجس المصغرات كالحصان الحي في حجم الإصبع حصان يوضع على باطن الكف لصغره ويعيش سائر نشاطاته الحيوية من الصهيل إلى البراز في نسبية الكائنات لبعضها وتناوب صفاتها، وفي “التلويحة” يذهب جزء منا مع من غادروا وكأن الوداع لا يكتمل إلا عندما يقتلع المغادر جزءًا من كينونة الآخر.
وأيضًا يلعب على تجريد المعاني من ارتباطاتها في “الاسم ” اسم بلا مسمى، إذ يتحدث الاسم عن نفسه ككينونة بلا هوية، لم يجد لبوسًا يلبسه ليكتمل وجوده بأن يعّرف بالآخر لذا بقي نكرة، وأيضًا انعدام الأمل في أفق ما يجسده بالقزامة التي ترافق المولودين وكأنهم منذورون للموت لذا لا يكبرون وفي “حصة التشريح” كان البؤس للجثامين فقدانهم لنعمة لموت وتوريطهم بالحياة.
شيفرات عدة تلوح في كل قصة مختزلة بمفردات ذات شحنة دلالية على غرار اليد المفتوحة كرجاء المضمومة كقبضة، فهذا التسول وهذه الحاجة ينذران بأنها ستتحول إلى قبضة أي إلى عنف، إيحاء بمقدمات ستفضي إلى نتائج.
أما جبروت الرجل ضمن الملصق فهو يحيي ويميت ويحول كل شيء لسلعة لكنه بكل سطوته لعبة لطفل يفتش عما في داخله، وإذ تحدث باشلار عن المكان باعتباره كينونة الوجود والبيت رمز الحميمية أو وعاء الكينونة فإن إمام يدفع للفهم المعاكس في المدن التي تقذف أبناءها خارجها، في حالة افتقاد الأمان والحلم وتجسيد حالة الغربة والوحشة التي يعيشها إنسان المنطقة في قصة “المدينة” لتتفرع الفانتازيا لديه في “نهر الدموع” حيث تتحول الدموع نهرًا يجلس الزوار على ضفافه في كوميديا الحزن الغارق بالدمع.
ثمة مسألة أعترض عليها وهي توشيح بعض النصوص باللهجة العامية المصرية لأنها وإن بدت واقعية وقريبة من تلقي القارئ لكنها قد تصعب على الناطقين بلهجات أخرى.
أعتقد أن كل قصة من قصصه رغم قصرها وتناولها لمشهد أو لقطة من عمر أصحابها كما اصطلح في العنوان تحتاج لوقفة خاصة لتناول احتمالات التأويل والفهم فيها الأمر الذي يقودنا للسؤال وماذا بعد؟ وماذا يريد من كل هذا التحليق في فضاء المغامرة؟ نعم هي مغامرة اجتراح آفاق غير مطروقة في احتمال تقبل الآخرين لها أم رفضهم، وجرأة كبيرة في فتح بوابات مجهولة لكن الأكيد أن طارق إمام وصل ببراعة لإبهار القارئ بغرائبية ما يقرأ ويتخيل.
كانت المرأة حاضرة دوما في الأدب والفن عبر التاريخ ولا شك أن ما عانته من معاملة الجنس الأدنى الملوث بدمه والمرتبط بالخطيئة الأولى والطرد من الجنة وارتباط الإغواء بجسدها والمتع الدنيوية المرفوضة دينياً، سيترك صداه في الإنتاج الأدبي والفني سواء العالمي أو العربي، الذي تفاوت في تناوله لقضية المرأة بين التسليع والاستهلاك وبين نقد الصورة التي قيدتها عبر التاريخ منذ فقدت مكانتها الاجتماعية كأم عظمى لها قدسيتها وتدور حولها الحياة.
“نعاس”
رافقت الاستكانة والاستلاب حياة المرأة لتغدو كائناً يقوم بالواجبات المنوطة به دون نقاش مستهلكة طاقتها، حتى تفقد ذاتها وأحلامها وشغفها بالحياة ، كما في الرواية القصيرة “نعاس” للكاتب الياباني هاروكي موراكامي فالبطلة تشعر أنها تعيش حياة ليست حياتها وفي لحظة من تراكم الضغوط و الإرهاق تعي ما فقدته وما تفقده بشكل يومي ومستمر وترفضه. يعبر موراكامي عن لحظة الوعي هذه بحلم تراه البطلة، حيث يقوم عجوز بإلقاء الماء عليها، فتستيقظ وكأن حياتها الحالية المستسلمة إنما هي حالة إغماء يجب أن تصحو منها، تستيقظ ولا تعود قادرة على النوم بمعنى أنها لن تعود للحياة السابقة أبداً، فهي تستيقظ ليس من النوم فقط بل من حالة الاستهلاك والاستلاب اليومي وفقدانها ذاتها أمام عبء الواجبات الزوجية والأسروية، وحيث نرى كيف يتحول الانسان ( رجلاً أو امرأة) أمام الضغط الاقتصادي إلى روبوت لكن الحياة تمضي في هذه الأثناء دون عودة . تستيقظ البطلة ولا تعود قادرة على النوم لتستعيد حياتها التي تحب فتعود مثلا للقراءة التي انقطعت عنها بعد الزواج وتتناول الشوكولا المحرمة بالبيت لأنها تسوس الأسنان فزوجها طبيب أسنان ثم تبدأ بالخروج في نزهات ليلية بالسيارة دون أن تخبر أحداً وكأنها تسرق حريتها ومتعتها وهذه النزهات التي يقود موراكامي بطلته إليها ليست سوى التعبير عن علاقتها بالخارج الذي يتمسك بسلبها النور فهو يريدها في الظل دوماً وفي الخوف أيضاً. إنه الخارج المجتمع الذي نرى أنه لن يترك البطلة تكسر حدوده وتتجاوزه بسهولة، إذ تتعرض في إحدى النزهات لمحاولة السطو على سيارتها من شبان يتجولون ليلا بحثاً عن فريسة وتنتهي الرواية بمشهد مفتوح في إشارة لاستمرار هذا السعي من قبلها ( البطلة) واستمرار قتله من قبل المجتمع .
“ميثاق النساء” و”أقفاص فارغة”
أما حنين الصايغ الروائية اللبنانية في روايتها الأولى “ميثاق النساء” الصادرة عام 2023 فقد تناولت الاضطهاد والظلم الاجتماعي الذي تعيشه المرأة الريفية في بيئة دينية ملتزمة بحكم سلوك الأقليات في بلد عانى من حروب أهلية على أساس طائفي لفترة طويلة، وحيث تتواشج الأحكام الاجتماعية مع التعاليم الدينية والعادات الريفية السائدة مكبلة النساء بالحرمان من أبسط الحقوق كالتعليم. لكن بطلتها، تدرك أن المواجهة والعلم طريقها للتحرر من ربقة الواقع ولتحقيق أحلامها واتساع أفقها ومنح نفسها فرصة الإبداع والتطور الذي تريده أن يفتح آفاقاً ليس لها فقط بل لابنتها أيضاً.
وهذا ما تلتقي به مع الشاعرة الدكتورة فاطمة قنديل في روايتها الأولى “أقفاص فارغة” الحائزة على جائزة نجيب محفوظ عام 2022 أي أهمية التعليم الذي يصبح وسيلة لتحقيق الذات والاستقلالية وطريق لتحقيق الحلم بهما.
فأقفاص فارغة وهي سيرة ذاتية للكاتبة التي قامت بنبش ذاكرتها دون احتراس أو خجل ودون أن تهاب الآخر أو معاييره الاجتماعية تحدثنا عن معاناتها منذ الطفولة بما يرخيه عالم الكبار على عالمها ويؤثر في خياراتها فهي الفتاة التي حرمت من غرفة خاصة بها لأن الأولوية كانت للذكور بالاستقلال وكيف تعرضت للتحرش، وكيف أمضت زمناً طويلا في مسامحة الآخرين وغفران أخطائهم بحقها مما سمح لهم باستغلالها تحت تأثير العاطفة والعرف الاجتماعي وحتى على الصعيد الشخصي، أذعنت للحب فقبلت أن تكون زوجة ثانية، لتتلقى الصدمة مرة تلو الأخرى لكنها نهضت من جديد فأتمت تعليمها ونالت الدكتوراه في النقد الأدبي وأسست لحضور أدبي عالمي كشاعرة نالت الجوائز رغم محاولة أخوتها التصغير من نجاحاتها و إنجازاتها.
في رواية قنديل نرى المجتمع الذكوري المتناقض بين سعيه للتطور وبين أحكامه التي تحرمه من قوة بشرية وإنسانية (النساء) جديرة بالاعتراف بمساهمتها وحضورها، معرية عفن العلاقات الاجتماعية القائمة على ازدواجية المعايير وانهيارها أمام المصلحة والنفعية التي تسربت إلى أكثر العلاقات حميمية تحت الضغط الاقتصادي وانهيار الطبقة الوسطى في مصر. ونرى تناقض الذكر وتمزقه النفسي بين النكران وممارسة سلطته على أخته وخضوعه لزوجته فالمعايير مزدوجة بل متناقضة وتخضع لسلطة القوي مما يفقدها أخلاقيتها الحقيقية. لنلمس كيف تعيد الأسرة دوماً إنتاج الظلم على العنصر الضعيف وهو المراة.
ولعل التغيير يأتي من الأفراد، فحين تقرر تغيير المكان دون ترك عنوانها تقطع علاقتها بالماضي وترمي أقفاص الذاكرة لتتحرر من ذاتها القديمة وبذاتها المدركة والواعية لقيمتها وحقيقتها وتصبح ما تريد.
خيط البندول لنجاة عبد الصمد
ليس من السهل أبداً أن ترمي معايير المجتمع دفعة واحدة وتتخلص من أحكامه التي يحاسب بها المرأة، كحكم العانس أو العاقر، نعم إنه الخارج الذي لن تستطيع المرأة تجاوزه بسهولة خاصة حين يطعنها بأنوثتها أو أمومتها. كما في رواية خيط البندول للكاتبة السورية نجاة عبد الصمد الصادرة عام 2023 فالبطلة تريد طفلاً لا تمنحه لها الطبيعة لتقع تحت سطوة الحرمان من أعز ما تملك (الأمومة) فتبدأ رحلتها في محاولات طفل الأنبوب المتكررة دون جدوى، وتتعطل حياتها المهنية ومشاريعها وأحلامها وينعكس الفشل مرة تلو أخرى على علاقتها بزوجها وبذاتها وبالآخرين، لم تكن الرغبة بالحمل ذاتية وحسب، بل هي اجتماعية أيضاً فالمرأة تخشى احتمال رفض المحيط لها إذ تفقد وظيفة أساسية ( الأمومة) وقد تكرس ذلك في اللاوعي الجمعي.
وللمفارقة إنها الأمومة نفسها التي تصبح جريمة ومأساة عند فتاة مراهقة تتعرض للاغتصاب فتنجب طفلا غير شرعي. ورغم أنها لأبوين متفهمين وواعيين إلا أنها تخاف وتخفي الأمر عنهما إذ إن الحدث أكبر من استيعابه من قبلها، لا شك أن تجربة الاغتصاب تجربة مريرة على المرأة وخاصة على فتاة صغيرة مراهقة. تقوم الكاتبة بوصف هذه التجربة التي إن لم تدمر حياة الفتاة فستترك أثرها واضحاً على حياتها. من آلام الولادة إلى تلك المشاعر الجامحة والمتناقضة التي تعيشها الأم الطفلة بين الرفض والتمني بين الشفقة والقسوة. في لحظة منفلتة من كل الحسابات حين يحتقن ثدياها بالحليب وتلح الرغبة بإرضاع الطفل الذي لا ذنب له إذ تغدو مشاعر الأم ناراً تكوي جوفها وأحشاءها، وفي هذه الإضاءة تجعلنا عبد الصمد ندرك ضغط غريزة الأمومة على المرأة الذي يجعلها تتحمل كل أنواع القهر في حياتها مقابل أن لا تخسر أبناءها في مجتمعات لا يقف القانون فيها إلى جانبها أبداً.
لا تتوقف الكاتبة عند تجربة الحرمان من الأمومة وضغطها على المرأة بل تأخذنا إلى ما يمارسه المجتمع عليها بأكثر من شكل فالأم التي خسرت زوجها ستتزوج من أخيه رغم أنها ترفضه نفسياً وروحياً حفاظاً على شرف العائلة وأولادها وتحت ضغط العرف الاجتماعي.
في خيط البندول تمزج نجاة بين دورها كروائية ومهنتها كطبيبة. فتخبرنا عن أهمية التوعية والثقافة الجنسية للجيل الشاب لتوجيه طاقاته ومنحه الوعي اللازم للجسد واحتياجاته وخاصة الفتيات من اجل ثقافة صحية وتفكيك خيوط الأزمات النفسية التي ترافق النساء إذ يحملن اغترابهن عن جسدهن مدى الحياة في المجتمعات الشرقية، بينما شاهدت هي حين درست الطب في روسيا كيف أن الفتيات اللواتي يخضعن لدورة الإسعافات الأولية مثلاً، يتم تدريبهن على الفحص النسائي كأي فحص طبي آخر.
وتتابع بتطعيم سردها بمعلومات من تاريخ الطب لنرى اضطهاد المرأة قديماً ففي القرن الثامن عشر في أوربا، كانت المرأة ممنوعة من إكمال تعليمها أو مزاولة بعض المهن كالطب ما اضطر الطبيبة البريطانية مارغريت آن بكلي لانتحال شخصية خالها المتوفي في مقتبل العمر لتستطيع إكمال تعليمها ثم ممارسة الطب باسم الطبيب جايمس باري إذ تنكرت بلباس رجل لمدة اثنين وخمسين عاماً. عملت خلالها في الجيش البريطاني في الهند وفي جنوب افريقيا وأجرت أولى العمليات القيصرية وتابعت ترقيتها في أوربا وكندا باسم الخال جايمس حتى أصبحت كبير الجراحين والمفتش العام للمستشفيات العسكرية، إلى أن توفيت فاكتشف أمرها على يد الخادمة وكانت الفضيحة، إذ اتهمت بانتحال اسم ورتبة ضابط بريطاني رغم كل ما قدمته وفعلته عبر تاريخها المهني والإنساني.
ربما لا يستطيع الأدب تغيير الواقع لكنه يستطيع المساهمة في بناء الوعي والتنوير بتقديم النموذج الإيجابي وتسليط الضوء عليه وكشف القضايا المسكوت عنها وتعرية الظلم والقهر اللذين تتعرض لهما النساء. في مجتمعات ما زالت بحاجة لتمكين الإنسان وانتمائه الوطني والمدني والقانوني وخصوصاً المرأة عبر الحث على التغيير الجذري في البنى الاجتماعية الراعية لكل هذا.