الهروب من الموت إلى موت أقل قسوة

الهروب من الموت إلى موت أقل قسوة

أقيم “احتفالٌ” لمركز يهوديّ إسرائيليّ في مدينة لارنكا القبرصيّة، القديمة، مطلع شهر أكتوبر الفائت، وقد تزامن ذلك مع عمليات حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة التي بدأت مؤخراً.

كان محيط المركز معزّزاً بحراسةٍ للشرطة القبرصيّة، حراسة مهيبة، لا يمكن أن تُقام أمام بيت رئيس جمهوريّة قبرص مثلاً أو حتّى قرب أيّة مؤسسةٍ حكوميّة!

وحسب ما كان يدور بين النّاس، هنا، أنّه ثمّة تخوّفاً من ردّة فعل البعض ضد إسرائيل، ممّن يعيشون في قبرص. كانت هناك صعوبة في المجتمع القبرصيّ لفهم ذلك التخوّف، هذا ما لاحظته من متابعة وسائل الإعلام المحليّة، فقد كان خطابها مرتبكاً لسببين أساسيين أبرزهما وجود جالية من جذور عربية في قبرص ترفض إسرائيل، وثانيهما أن هنالك بعض الأحزاب القبرصيّة تؤيّد القضية الفلسطينيّة وتدعم النشاط الاجتماعيّ للاجئين منهم هنا وعبر الحدود.

ترى ما هو سبب الرعب الذي يمكن أن يدفع السلطات لتشديد الحراسة الأمنيّة لمركز دينيّ قد لا يشكّل أيّة قيمة اجتماعيّة أو نفع تاريخيّ للجزيرة المتوسطية؟

يعتقد البعض أن تنامي القوّة المالية التي تحرّك جزءاً كبيراً من اقتصاد قبرص، مرتبط بشخصيات وكيانات مؤيدة أو تابعة لإسرائيل. وذلك بدوره يؤثر على القرار السياسيّ والإجراءات الأمنية المرافقة لدعم ذلك القرار؛ ألا وهو تأييد إسرائيل سياسياً، وفي الوقت ذاته هناك شريحة واسعة ترفض ذلك التأييد وكثيراً ما يؤدي هذا إلى انقسام اجتماعيّ يرفض سياسة إسرائيل بحقّ الفلسطينيين.

وفي محاولة لفهم تخوف السلطات القبرصيّة على مصالح إسرائيل في الجزيرة، لا بد من النظر إلى التغلغل الإسرائيلي في السوق القبرصيّة عبر الشراكات الاقتصادية، سواء في تجارة العقارات أو وجودها كشريك مساهِم في علامات تجارية كثيرة، وهذا بدوره يجعلنا نتلمس الاضطراب الأمنيّ الذي اندلع في المدن القبرصية مع تصاعد وتيرة الأحداث في غزة بعد السابع من أكتوبر 2023.

هناك رغبة مباشرة لدى الحكومة في كم أفواه الرافضين لسلوك إسرائيل ضد الفلسطينيين، وهذا ما سمعته كثيراً من قبارصة وعرب يعملون في شركات على أرض قبرص، وقد يكون فيها نفوذ إسرائيلي عادةً ما يتم ضبطه بالتجاهل وعدم التماس المباشر حفاظاً على المصالح المشتركة التي تفرضها قوة الأمر الواقع وقوانين الشركات والعمالة.

رجوعاً إلى ذلك “الاحتفال”، حصل حادث توقيف لمراهق سوريّ، تصادف تجواله في لارنكا القديمة، على مقربة من المركز الإسرائيليّ ذاك، حيث طلبت الشرطة القبرصيّة من المراهق بطاقة إقامته، ثم حقّقت معه عن سبب تواجده قرب ذلك المركز وقد تم اقتياده إلى مخفر الشرطة.

بعد بضع ساعات أُفرج عن الصبيّ، وتم سؤاله ما إذا كان يعرف أي أشخاص يدعمون “حماس” أو يؤيدونها، كان هناك تخوف من وجود “خلايا نائمة” حسب الإعلام القبرصيّ. وكانت صحيفة “كاثيميريني” المحلية قد وصفت الإجراءات الأمنيّة التي قامت بها السلطات بأنّها “غير مسبوقة ومشدّدة للغاية”. ويتفهّم المرء مدى حرص هذه الجزيرة على مصالحها، ولكن ما الذي سيقوم به مراهق أعزل يمشي في الطريق دون معرفته ربما بوجود شيء يرتبط بكنيس يهوديّ أو إسرائيليّ؟

إنّ المجتمع القبرصيّ بطبيعته البسيطة، ميّال إلى السّلام والترحيب بالضيوف وحتّى مشاركة ودعم اللاجئين، بالحياة والعمل، وهذا ما شهدتُ عليه خلال تجربتي طيلة السنوات الثماني التي عشتها في قبرص، تعلّمت اللغة اليونانية، مارست معظم طقوسي الاجتماعية من لقاءات وحراك ثقافي وصحافي، عملتُ في شركات قبرصيّة وعربية وكان احتكاكي اليوميّ مع القبارصة يتطوّر ويكبر دون خوف، ولكن ليس بعد الآن!

لقد كان احتكاكاً، أيضاً، مع جنسيات أخرى بحكم تنوع الوافدين إلى الجزيرة خلال العامين الأخيرين، كان للجميع مكان وفرص للحياة وفق القانون، مساحة “آمنة” يعبّر فيها كلّ واحدٍ عن نفسه، انتمائه، طقوسه وأفكاره التي لا تضرّ بمصالح البلد المستضيف، وهذا ما ندركه ونقدّره جميعاً، كجالية تتكلّم العربيّة، وكمقيمين من بلدان مختلفة، إلاّ أن التوتر الذي يُحدثه مثلاً “الإسرائيلي” في المجتمع أينما وجد وهو يحمل تلك “المظلوميّة”، يترك في النفس خيبة لا تُحتمل من عدم وضوح المشكلة لدى السلطات القبرصيّة، ومدى تفهمها لعمق المسألة التاريخيّ مع المنبت الفكريّ والعقائديّ الجاهز الذي يحمله ذلك الشخص عنيّ كسوريّ.

إنّهم ينتبهون لك حين تتكلم بالعربية عبر الهاتف أو مع عربيّ آخر. فالقبرصيّ يحبّ ثقافتنا كسوريين، يتذكرون الجولات التي كانوا يقومون به أثناء رحلتهم إلى دمشق لشراء الستائر الشهيرة من أسواقها، وتذوق الطعام والمشي في حاراتها التاريخيّة، إنّهم يعدونها مكاناً زاخراً بالحضارات والثقافة، حسب ما أجمع معظم من عرفتهم. بينما أنتبه للإسرائيلي، الزبون، الذي يقرأ اسمي على قميص العمل فيختار شخصاً آخرَ ليطلب منه خدمة داخل الشركة، لا أدري ما الذي يخيفهم إلى هذا الحدّ طالما كانوا يزعمون أنهم على حقّ (!).

تعاني الحرّية اليوم في قبرص منذ بداية أحداث غزة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، من مأزق إنسانيّ في تفسيرها الظاهري ضمن المجتمع، فكيف لها أن تكون رمزاً للكرامة وعزة النفس لدى البعض إذا كانت تحرس بيوتهم ومصالحهم البنادق وسيارات الشرطة من أجل احتفال ما؟ وكيف لها أن ترفرف في الشوارع مع أكثرية تنتمي للضحايا وترفض القتل وتمشي في لارنكا القديمة وهي تمثل مراهقاً هرب من الحرب في سورية، هرب ليجد نفسه أمام تفضيلات غريبة بسبب فئة مكشوفة عبر التاريخ تعد نفسها مصطفاة دائماً وفوق الضحايا؟

كيف لا يعود إليّ الشعور بالخوف من لاجدوى اللجوء، إذا كانت السلطات التي منحتني بموجب اتفاقيات دولية، حمايّة إنسانيّة، لأعيش في هذا البلد سوف توقفني إذا مررت في شارع أعده قبرصيّاً ويحق لي المشي فيه بموجب تلك الحماية، وما شأني إذا كان ثمة وكر قد يأوي من يحمل أفكاراً وانتماءات تُفضل استحقاق الموت لبشر دوناً عن غيرهم؟

لقد رفضتُ القتل منذ كنت في سورية، ولا أعد لغة العنف والترهيب إلا قمعاً مركباً مع أشياء أخرى كالأسباب الأمنية المفاجئة والتخوّف الافتراضيّ من ردّات أفعال الجاليات الضيفة في هذا البلد، إنه عنفٌ بطقم رسميّ مهما تمّ تجميله بـ “مظلوميّة” مُفتعلة.

لم تسلم المجتمعات التي أخلت بمسؤوليتها عن أفرادها ودفعت بهم إلى هوة الشتات، من مبضع النقد والتفكيك، وليس ذلك في سبيل إهانتها لمكوناتها الأساسية: الفرد. إنما لأنها لم تكن يوماً مجتمعات صحيّة، أي تتقبّل أمراضها وتعد العلاج نابع بالدرجة الأولى من الفرد نفسه، وليس مستورداً من مجتمعات طارئة، خارجية، وهذا ما يحدث عادة إذا كانت تلك المجتمعات نفسها حريصة على وجودها وتحترم حرية أفرادها وتتمسك بهم. وفي الحالة القبرصيّة ثمّة مجتمع يضطرب من اختلاط الحقوق الاجتماعيّة بسلطة المصالح السياسية. والمكونات المتعددة من جنسيات أخرى، في هذا المجتمع، أصبحت فاعلة بقوة كأيادٍ عاملة، أصحابها قد يقبلون بظروف غير إنسانية في سبيل اعتراف المجتمع بوجودهم، لا بدفعهم إلى شتات جديد.

إن العلّة في الفصام القائم بين الشارع والسلطة وبين المجتمع الأهلي والإدارات الحكومية، ومع مقارنة بسيطة نجد أن القبرصي بجميع الأحوال يستاء من سلوك حكومته، يعترض، لا يقبل إلّا بالوظائف المناسبة له، يرفض القرارات الرسمية، ويسخر من رئيس الجمهورية، ويضمن دستور بلاده حريته. بينما اللاجئون والعرب وبقية الجنسيات، يعانون من عدميّة الحرية وسقوطها في تفضيل الضحايا، إذ كثيراً ما يعوّل هؤلاء العابرون على كفاف عيشهم بمعزل عن قول كلمة واحدة ضد الحكومة، فالردّ جاهز: ترحيل، حرمان أو تعطيل في أوراق الإقامة! وكيف بهم الحال إذا كانت هذه الحكومة اليوم تعتقد مسبقاً أنهم مشاريع متّهمين بسبب النيّات السياسية التي تزيد في تمزيق هذا المجتمع الجديد، الشريك، من أهل البلد والجاليات الضيفة، يستوقفون هذا السوريّ ويفتشون في بيت ذاك الفلسطينيّ، ولا أحد يعلم بالضبط عن ماذا يبحثون لدى أشخاص هربوا من الموت إلى ما يعتقدون أنه محاولة حياة جديدة أو ربّما واقع جديد لموت تدرجيّ أقلّ قسوةً!

(كاتب سوري يعيش في قبرص)

عيد الأم أم عيد المرأة: بين عقلية الماضي وبناء الحاضر

عيد الأم أم عيد المرأة: بين عقلية الماضي وبناء الحاضر

كان أطفالي صغاراً وكنا في عيد الأم كل عام نذهب للاحتفال مع جدتهم، كان زوجي لا يتذكر أن يحتفي بي أو يعايدني وحين سألته عن السبب، ببساطة قال: لأنك لست أمي! حين يكبر أولادك سيحتفلون بك.

على المرأة أن تنتظر طويلا لتجد من يحتفي بها.

 جرت العادة أن نحتفل بالمرأة في عيد الأم وهو ما يشكل ظلما كبيرا أولاً لنساء لم يتزوجن ولنساء تزوجن لكن لم يرزقن بأطفال وربما لنساء بقين وحيدات بعد أن تدحرج أولادهن في شتات الحياة، وهو ظلم للأنثى في أعوامها قبل الزواج وقد تكون أصبحت خلالها امرأة ناضجة ومنتجة وأثبتت وجودها على الصعيد العام والصعيد الذاتي.

اقتصر الاحتفال بعيد المرأة على عينة من المجتمع (المثقفين) تدعي الاهتمام والتقدير للمرأة بذاتها لكنها حقيقة في الحياة اليومية ترتكب بحقها كل ما يمارسه المجتمع الذي لا يعترف بعيد المرأة. وهذا جزء من فصامنا العام فالرجل الذي لا يقدر زوجته يسعى بكل ما يمكنه لتقدير أمه. والحقيقة أن الموضوع يتعدى الاحتفال الذي يبدو تقليداً أعمى بما يحتوي من مظاهر وقشور لا تعكس حقيقة السلوك اليومي بل تأخذ طابع المجاملة وفقدان المصداقية لابتعاد السلوك العام تجاه المرأة عن مفهوم التقدير والاحتفاء واقتصار ذلك على يوم واحد لدفع الإحساس بالتقصير.

لماذا نغفل عيد المرأة؟ 

لم يكن تكريس يوم الثامن من آذار عيداً عالمياً للمرأة حدثاً من اصطناع الغرب للسيطرة على العقول لنرفضه كالعادة!

بل أعلن رسمياً كعيد عالمي من قبل الأمم المتحدة عام 1975 وهو الذي كان يحتفل به في بلدان عدة بشكل منفصل احتراماً لعاملات  النسيج  اللواتي قضين في حريق معمل النسيج  في نيويورك نتيجة العمل في شروط غير إنسانية وهن اللواتي كن قد خرجن في مظاهرات قبل ذلك لتحسين شروط العمل وتحديد ساعاته بثماني ساعات  في اليوم الواحد، إذ كانت  المصانع الحديثة آنذاك تعمد لتشغيل النساء لأنهن يقبلن العمل ساعات طويلة دون النظر لظروفهن فيعملن بحدود دنيا من شروط السلامة مقابل الحصول على أجر زهيد يمكن العائلة من الاستمرار بينما يقوم أرباب العمل بتسريح العمال الذكور لأن أجرهم أعلى. وخرجت النساء في مظاهرات عدة سنة تلو الأخرى وتم تحسين بعض الشروط لكن المعاناة بقيت مستمرة سواء بالأجور الزهيدة أو شروط السلامة التي دفعن حياتهن ثمنا لفقدانها.

 الاحتفال بعيد المرأة ثمرة لدماء دُفعت وأجساد احترقت وتمجيد لفعل حضاري حقوقي في دفاع المرأة كإنسانة عن كيانها وإنتاجيتها الفاعلة، عيد عُمد بالتضحيات والدماء. ولعل التعتيم على هذا العيد هو نوع من الرفض والتعمية على قدرة المرأة على التغيير والمساهمة في إحداث فارق، وتعتيم على تاريخ كانت فيه المرأة فاعلة وقادرة على التغيير عبر ممارسة أساليب النضال الغريبة على مجتمعاتنا وفي محاولة لإبقائها رهينة وظيفة الأمومة. إن اقتصار الاحتفال على عيد الأم هو نوع من حصر وظيفتها في الحياة بالأمومة والاعتراف بعطائها فقط في هذا المجال وهو ما يشكل تحديداً وحصراً لها في الوظيفة البيولوجية رغم أهميتها وخطورتها عليها، إذ تدفع فيها من جسدها وهرموناتها ومخزون صحتها في الحمل ثم الإرضاع ثم ما تتحمله في التربية بشكل أكبر من ضغوط لا تتوقف.

تبدأ آلام المرأة منذ فترة البلوغ وتعيش تلك التقلبات الهرمونية الضاغطة على الحالة النفسية والمؤثرة على إنتاجيتها دون أي تقدير اجتماعي أو تعاطف سواء أسروي أو اجتماعي فكل ما يحدث لها يعتبر عادياً وهو من الطبيعة التي خلقت عليها. ومن العرف أن هذا ليس مستحباً نقاشه بل يعتبر مخجلا!

وعليها أن تعيش تلك الآلام بالخفاء وتقمعها أيضاً فلو عاشت الحب أو عبرت عن رغباتها قد تقتل ويذهب دمها هباء بجريمة شرف ما زالت تتراوح ضمن القبول الاجتماعي وغض النظر القانوني إلى حد ما.

نحن ماهرون بالاحتفال بكل ماضي

عموماً لا يحتفل بالمرأة إلا كأم وهذا يعني أن يكون كل ما تعيشه قبل هذا التقدير مجانياً وغير مرئي. إنها تنتظر أن يكبر الأولاد فيتم تقدير ما فعلته بالماضي من حمل وإنجاب وتربية!  فالاحتفاء له طابع التقدير على ما تم إنجازه وليس على  واقع العمل والعطاء القائم والتميز لتحفيزه واستثارة القدرات على الابداع والاستمرار في المنح، نحن ماهرون بعبادة الماضي الذي يجعل الجنة تحت قدمي أنثى بينما هي في رحلة حياتها كانت مقموعة وغارقة بين البيت وتربية الأولاد والعمل الذي زاد أعباءها عبئاً، إذ تركض في أيامها بين العناية بالطفل وعصر حليبها الذي ينز من ثدييها في العمل ريثما تصل لرضيعها وبين أعباء الواجبات المنزلية والتعليم كل ذلك دون تقدير الجهد الراهن أو مساعدتها في المهام. وفي انتظار أن يأتي فيما بعد من يقدر عملها وإنجازها ثم يتم الاعتراف بأن ما فعلته خلال كل تلك السنوات كان يستحق الاحتفال بها كأم فاضلة.

ليس جيداً المقارنة بين عيد الأم وعيد المرأة فلا أعتقد أن على أحدهما أن يلغي الآخر ولكن علينا الخروج من عقلية الاحتفاء بالماضي إلى عقلية الاحتفاء بالحاضر بتقدير الجهود المبذولة للإنسان في حينه لنتعلم كيف نمتلك الذهنية التي ترى المستقبل بعين الحاضر فتسعى وتقدر من يبذل جهده في هذا السبيل. وينبغي تكريس عيد المرأة في أجندتنا للاحتفاء بالمرأة العاملة والمنتجة والمتميزة والمتفوقة في دراستها والمرأة الأم التي لا يمنعها الحمل والإنجاب من ممارسة عملها داخل المنزل وخارجه، نحن بهذا نبني ثقافة وذهنية جديدة وليس فقط احتفاء بأعياد رسمية مكرسة.

آراء من حمص: “أيام العداء والخلاف ولّت تلقائياً دون جهود”

آراء من حمص: “أيام العداء والخلاف ولّت تلقائياً دون جهود”

حين اندلعت الحرب السورية بمفهومها العسكري المباشر كانت حمص تتجهز لتأخذ دورها كمدينة سيطول حضورها على مسرح الأحداث السياسية والأمنية والعسكرية تاركةً خلفها ما حصل في بانياس ومناطق أخرى كذكريات ليست غير ذات شأنٍ ولكنها جانبية إلى حدٍّ ما قياساً بمدينة كانت تحتضن تنوعاً مناطقياً وطائفياً متشعباً ومتعايشاً للغاية، ولكن في لحظة، بالضبط في لحظةٍ واحدة، انقلبت المدينة على بعضها مناطقياً ودينياً.

يوم اشتعل الفتيل

يتذكر كثر من أهالي حمص مفترقاً مهدّ لاشتعال المدينة بأكملها، كان ذلك المفترق يوم السابع عشر من نيسان 2011، أي بعد قرابة شهر بالضبط من اندلاع المظاهرات في درعا ومناطق أخرى. في ذلك اليوم هاجمت الأحياء بعضها، حرفياً ذلك ما حصل، أحياء بأسرها هاجمت أحياء أخرى لدواعٍ لا زالت حتى اليوم غير واضحةٍ وما من أحد قادرٍ على تفسيرها.

هجمات استخدمت فيها العصي والخناجر والسلاح الأبيض والفؤوس وبعض الأسلحة النارية من نوع “بومب أكشن” وبنادق الصيد. يومها سقط ضحايا في المدينة، تزامناً مع اعتصام حمص الكبير وحصار أحياء أخرى من أحياء مجاورةٍ لها، كان ذلك في الفترة التي تعرف بتولي فصائل الشرطة من كتائب “حفظ النظام” مسؤولية ضبط الأمور، قبل أن تتعسكر المدينة وتصبح بأكملها متخذةً شكل ساتر ترابي كبير يفصل بين خصمين.

المدينة المفصل في الحرب

لم تكن حمص عادية في أيّ لحظةٍ في تقرير مصير سوريا بأكملها كمدينة وسطى تقطع دمشق عن الساحل وحلب، فقد تم وصف حيّ بابا عمرو لوحده بعاصمة الثورة السورية. وفي تلك الفترة ذُكرت المدينة بالتصريحات الدولية المتواترة والمتخوفة من سيطرة الحكومة على حمص. فمثلاً تم ذكر أسماء أحياء المدينة بتصريحات هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية في حينه، وبالتحديد لا ينسى أهل حمص تصريحاتها عن “شارع الستين” المحوري في المدينة والذي كان يمثل خط تماس بين السكان المنقلبين على بعضهم.

لا يمكن تجميل سنوات الصراع

تاريخياً تعايشت تلك الفئات المتباينة في المدينة بمحبة وألفة وسلام دون أي حوادث أمنية تذكر، فتبادلوا المصالح والزيجات والعلاقات الاجتماعية والأسرية، لكن فجأة تغيّر كل شيء. لا يمكن تجميل ما حصل مهما حاول التاريخ ذلك، فالقتل عمّ المدينة، القتل الذي نفذه ساكنوها بحق بعضهم قبل وجود أي عمليات منظمة. والحديث هنا لا يخص مرحلة ما بعد اتضاح الجبهات، بل يتعلق بعائلات وأحياء حاصرت أخرى وكأنّ حرباً بينها عمرها مئات السنين لا زالت مشتعلة. ومجدداً لا زال الأمر لا يحمل أيّ مبررٍ وهذا ما سيتضح من خلال تبيان حال المدينة اليوم، وهو حال مشابه ومطابق لحال كل المدن السورية الأخرى، كدمشق وحلب واللاذقية وبانياس وغيرهم، إلا أنّ البقاء ضمن نموذج حمص يخدم الفكرة أكثر لشمولية واتساع ما حصل فيها.

ما حصل لا يكرره التاريخ كثيراً

كيف يبدو وضع حمص اليوم شباط/فبراير 2024؟

بدايةً لنعد قليلاً للوراءإلى تاريخ 2014 وهو عام خروج مسلحي حمص القديمة من المدينة بالكامل، بعيد سيطرة الحكومة على الأحياء كلها في حمص تباعاً باستثناء حي الوعر الذي لم يكن يشكل عبئاً رغم تأخر استرداده حتى آذار/مارس عام 2017، لكونه يقع أساساً في مكان غير متصل مباشرةً بالمدينة ولا يؤثر على طرق العبور الرئيسية فيها.

فعلياً منذ 2014 لم يبقَ داخل المدينة أجواء توتر تذكر، إذ انحصرت جبهات القتال في الوعر والريف الشمالي وبدأت التنظيمات المتطرفة تظهر وتتمدد باتجاه الريف الشرقي لحمص وبالتحديد في تدمر والمدن الشرقية والبادية، كل ذلك أتاح الوقت والفرصة الملائمة أمام المدنيين لاتخاذ قرارات تتعلق بمسؤولية بقائهم داخل المدينة.

من قرر المغادرة فقد غادرها مع دفعات التسويات، أما من قرر البقاء فقد أثبت بسرعة لا يمكن تصورها أنّه قادر أن يندمج بلمح البصر من جديد في مجتمع متكامل عماده ذات الناس الذين ينتمون لخلفيات طائفية ومذهبية متعددة، كان يبدو الأمر في حينه لمشاهد بعيد نوعاً من المجاملة أو الخوف أو حتى النفاق، فكيف لمتحاربي الأمس أن يتعانقوا بعد مئات آلاف المهجرين وآلاف المختطفين ومثلهم من الضحايا والجرحى؟، ولكنّ المدينة احتضنت بعضها بصورة لا يمكن أن يكررها التاريخ كثيراً.

أحياء على الحياد ولكنّها ليست بمنأى

يقول الحاج أبو ناصر والذي يعيش في حي كرم الشامي الحمصي خلال حديثه معي إنّ لحيّه خصوصية كبرى بسبب موقعه الهام قبالة جامعة المدينة وإطلالته على أحياء وطرق مهمة. ويوضح أن حيّه لم يشهد عمليات عسكرية، بيدَ أنّه شهد مظاهرات استمرت فترةً من الزمن ولكن يعيدة عن حواجز الجيش ومؤسسات الدولة.

يقول: “لم يكن كل أهل الحي رافضين للمظاهرات ولا كلهم قبلوا بها، كان هناك تخوف من اقتحام حيّنا وأن يلقى مصير أحياء أخرى، فاندثرت المظاهرات تباعاً ولم تعد هناك رغبة لدى شباننا حينها بالأمر، وربما هذا ما أبقانا أقرب للوساطة بين طرف وآخر إذ كان حيّنا معبراً آمناً للجميع دون تهديدات أمنية”.

وفي ذات الوقت يبدي الرجل أسفه أنّ المدينة تحولت لكانتونات منعتهم من الخروج من حيّهم في مرحلة معينة، وساءه انقطاعه عن رفاق له في أحياء أخرى، إما بسبب اندلاع اشتباكات لديهم، أو بسبب خلافات ايدولوجية منعت الزيارات يوم انقسمت المدينة على نفسها، مؤكداً أنّهم لم ينقطعوا عن التواصل هاتفياً، قبل أن تعود حمص كما كانت قبل الحرب تماماً.

لم يعد الخارج مفقوداً والعائد مولوداً

المهندس تامر حمدان الذي ينتمي لحي الزهراء في حمص، وقد فقد اثنين من إخوته خلال اندلاع جولات الخطف التي هيمنت على المدينة، يشرح كيف حوصر حيّهم لأكثر من عام من قبل تسعة أحياء تحيط بهم، ويقول عن تجربته: “كان الخارج مفقوداً والعائد إن عاد مولوداً، كان أقسى عامٍ يمكن أن تعيشه مجموعة من الناس مع سيل قنص وشلال قذائف لا يتوقف، معظم شهداء حيي استشهدوا داخله وهم نساء وأطفال، عدا عن الـذين كانوا على جبهات القتال، لم يكن أحد يريد أن يحصل هذا في المدينة التي تربى شعبها أنّهم إخوة”.

ويضيف: “ما حصل حصل، والغريب أنّه وكأنّه ما مرّ علينا، تلك الأحياء التي كانت تحاصرنا نقضي اليوم كل أوقاتنا فيها ومع أهلها الطيبين، وأصرّ الطيبين، تلك الحرب بدأت وانتهت دون أن نعلم لماذا، حمص اليوم وبآلاف الأدلة القاطعة تصالحت مع بعضها دون أحقاد وعادت الأمور لتسير كما قبل الحرب”.

يبتسم ويوضح فكرته بالإشارة: “من كان يتوقع يوماً أنني سأشتري غرضاً من الخالدية، وأنني سأسير في سوق الدبلان وأشتري الملابس من هناك، وأني سأشتري رأس غنمٍ من دير بعلبة، وبأني سأفتل كل المدينة وأحصل على ما أريد وأزور أصدقائي في جب الجندلي والبياضة وباب السباع وبأن الناس من تلك الأحياء ستزور الزهراء لتشتري ما تريد ولتزورنا بعد أن لم يبقَ في حمص متراسٌ واحدٌ يحجبنا عن بعض”.

لا إرهاب ولا شبيحة

تطلب فهم الجو العام في حمص وكيف تسير الحياة هناك البقاء فيها أياماً ليست بالقليلة، وعلى فترات، رُصدت خلالها آراء تكاد تكون متطابقة في طبيعتها المتسامحة، في مدينة نسيت الحرب مخلفةً جراحها وراء ظهرها، وصولاً لمقابلة عمال وموظفين يعملون في أحياء قبل سنوات كان مجرد ذكر اسمها يستفزهم ويشعرهم بالخطر.

بين أولئك العمال أبو ماجد الذي ينتمي سكناً وعيشاً إلى حي بابا عمرو الذي لم يغادره حتى وهو في أتون معركته الأشد، أبو ماجد يعمل اليوم في مطعم للوجبات السريعة في حي النزهة الذي كان يشكل خصماً لحيّه في الموقف السياسي والعسكري خلال الحرب.

أبو ماجد أوضح أنّ أيام العداء والخلاف ولّت تلقائياً دون جهود، وبأنّ في حيّه عمالٌ أيضاً من أحياء أخرى، وخلال عام عمله الثالث هذا لم يشعر لحظةً أنّه غير مرحب به وعلى حدّ تعبيره لم يعامل كـ “إرهابي” من قبل أهالي الحي، كما لم يعامل أهل حيّه بعض العاملين لديهم كـ “شبيحة”.

أطروحةٌ في العيش المشترك

في حمص حصل تصالح مجتمعي شعبي بين الأحياء ومعه عادت الخلطة الديمغرافية مناطقيا ودينيا (طائفياً ومذهبياً) بين الأحياء والقرى بعد حرب ضروس كانت تنذر بنهايات وحشية، فحتى ريفها الشمالي الذي كان يعد واحداً من أخطر بؤر التوتر حلّ به ما حلّ بأحياء المدينة من تصالح فعادت منطقة الحولة بقراها السبع ممراً لوسائل النقل التي تقل الناس بين المدينة وأرياف أخرى ممتدة حتى مدينة مصياف في ريف حماه والتي كان الوصول إليها عبر شمال حمص ممنوعاً بل حتى لم يكن هناك طريق يقود إلى ذلك الريف لشدة الاشتباكات في محيطه. وإلى جانب الحولة فتحت مناطق تلبيسة والرستن طرقها للعبور من حمص إلى حماه دون الاضطرار للالتفاف حول عشرات القرى تجنباً للرصاص والمخاطر والخطف.

مجدداً، الآن في شباط/فبراير 2024، عاد الناس للاختلاط والزيارات والعلاقات الاجتماعية والتبادلات التجارية وكأن كل من بقي قرر نسيان سنوات الحرب القاسية التي لم تخلف سوى الدم والدمار دون حلول جذرية سياسية فكان الحل بعودة الاندماج نحو الخلاص المعنوي والنفسي انطلاقاً من الترابط المجتمعي الذي يكمل بعضه في ظل استحالة عيش كل فئة منعزلة عن جوارها لتستحق حمص بكل جدارة أن تكون موضوع أطروحات أكاديمية تناقش العيش المشترك.

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة الصوت بشكلٍ يبرز جماليته وبريقه وقدراته التعبيرية، فهو الذي لحن مختلف الأنواع والقوالب الغنائية كالموشح والقصيدة الكلاسيكية والطقطوقة، إلى جانب الأغنية الشعبية المعاصرة أو المستوحاة من الفلكلور، مساهماً، بموهبته واسعة الأفق، في تطوير وعصرنة القوالب الغنائية التقليدية، دون أن يتأثر بحالة التغريب التي تأثر بها كثير من الملحينين العرب، الذين أدخلوا الأنماط والإيقاعات الغربية إلى الموسيقى العربية، فطوال مسيرته الفنية حافظت ألحانه على طابعها الأصيل الذي يحمل صبغة طربية وروحانية متفردة، تنهل من كنوز المقامات والإيقاعات العربية، كما تميزت ألحانه برشاقتها وبلغتها التعبيرية الرصينة، وجُملها اللحنية المكثفة والمبتكرة، والتي منحتها قدرة فريدة على التأثير في نفوس المستمعين مهما تعاقبت عليها السنين.

ولد المُلحن محمد محسن (اسمه الحقيقي: محمد الناشف) في حي قصر حجاج في دمشق عام  1922. درس الابتدائية في مدرسة صلاح الدين الأيوبي، والإعدادية في مدرسة التجهيز الثانية. بدأ عشقه وشغفه بالموسيقى منذ طفولته، فكان يحفظ الكثير من الأغاني التي ساهمت في تطوير موهبته في الغناء. وخلال دراسته الإعدادية بدأ تعلم الموسيقى وعزف العود على يد الفنان صبحي سعيد الذي كان يمتلك مكتباً لتعليم الموسيقى في سوق الخجا القديم. ولأن عائلته كانت ترفض أن يمتهن أبناؤها العمل الفني، اضطر لترك بيته عدة مراتٍ والإقامة في الفنادق والعمل في أعمالٍ مختلفة ليتمكن من تأمين مصروفه الشخصي ودفع أجور دروس الموسيقى، وللسبب ذاته غيّر اسمه من محمد الناشف إلى محمد محسن عندما بدأ الغناء في الإذاعة كي لا تتعرف عائلته عليه.

بدأ مسيرته الفنية كمغني، حيث لحن له أستاذه صبحي سعيد أولى أغنياته وهي : “أحلى يوم” ، ومع افتتاح إذاعة دمشق بداية الأربعينيات إنضم  إليها ليعمل فيها، بدايةً، كمغني ضمن كورس الإذاعة، ثم كمطرب يقدم الغناء الإفرادي في حفلاتٍ إذاعية تُبثُّ على الهواء مباشرة، حيث غنى حينها الكثير من الأغاني الطربية القديمة، وعدداً من الأغاني التي لحَّنها له الملحن مصطفى هلال ومن بينها: أغنية “لقاء” و “أين كأسي” . وقد لحَّن محسن لنفسه في تلك المرحلة عدداً من الأغاني ومنها : “يم العيون كحيلة”، ” الليلة سهرتنا حلوة الليلة”، والتي غناها من بعده بعض المطربين مثل نجاح سلام. 

في عام 1945 سافر محسن إلى القدس وعمل في إذاعتها مطرباً وملحناً، وقد خصصت له الإذاعة أربع حفلاتٍ غنائية شهرياً. وخلال إقامته في القدس، التي استمرت لثلاث سنوات، تعرف على الموسيقي الفلسطيني الكبير حنا الخل وتعلم منه بعض دروس العلوم الموسيقية والتدوين الموسيقي، التي أَغنت قدراته وثقافته في مجال التلحين، وقد لحَّن في تلك الفترة للمطرب الأردني سعيد العاص ولعدد من المطربين الفلسطينيين مثل: ماري عكاوي، محمد غازي وفهد نجار. وفي عام 1948، ومع وقوع نكبة فلسطين وتوقف إذاعة القدس عن البث، عاد محسن إلى دمشق ليعمل في إذاعتها مجدداً ويبدأ مرحلة جديدة في مسيرته الفنية، حيث لحَّن حينها لعدد كبير من المطربين، مثل: ماري جبران، سعاد محمد، وناديا وغيرهم. انتقل بعد ذلك في بداية الخمسينيات إلى إذاعة الشرق الأدنى في قبرص وعمل فيها لمدة عامين، مراقباً للموسيقى والأغاني، إلى جانب تلحين الكثير من الأعمال لعدد من المغنيين والمطربين العرب، ثم تنقل بعدها بين لبنان ومصر وسوريا وعدد من بلدان الوطن العربي، ليتعامل مع كبار المغنين وعمالقة الطرب. 

غنى محمد محسن من ألحانه أكثر من عشرين أغنية، قبل أن يترك الغناء في بداية الخمسينيات ليتفرغ للتلحين بشكل كامل، حيث لحَّن لأهم وأشهر المطربين السوريين خلال مراحل مختلفة ليساهم في صناعة شهرتهم، من جهة، وفي تطوير الأغنية السورية، من جهة أخرى، ومن أبرز ما لحَّنه: قصيدة بالله يا دار، عيون المها بين الرصافة والجسر و ألا أيها البيت الذي لا أزوره للمطربة الحلبية الكبيرة مها الجابري، وموشح قد بارك الكون أسباب الهوى، وقصيدة في خاطري في القلب في خلدي  للفنان صباح فخري. و اسكتش الوفاء / هيا يا ربعي هيا (بالتعاون مع إذاعة الرياض) وأغنية سرى الليل يا ساري  و إنتي وبس  للمطرب فهد بلان، وأغنية هيفا يا هيفا و  هن.. هن للمطرب موفق بهجت، هذا إلى جانب ما لحَّنه للمطربة الكبيرة فايزة أحمد وماري جبران والمطرب رفيق شكري وياسين محمود وفتى دمشق.

بصمة فنية عربية  

يُعد المُلحنان محمد محسن ومحمد عبد الوهاب، الوحيدان اللذان لحنا للسيدة فيروز من خارج لبنان. ففي مطلع السبعينيات التقى محسن بالأخوين رحباني فعرضا عليه تلحين قصيدة سيد الهوى قمري  من كلمات الشاعر الأخطل الصغير، وقد لحَّنها محسن وفق قالب الموشح وبطريقة طربية ساحرة وشاعرية، جعلتها من روائع أغاني فيروز الخالدة. وفي نهاية التسعينيات أرادت فيروز أن تجدد تعاونها مع محسن فاتصلت به ليسافر إليها من دمشق إلى بيروت، وقد أثمر اللقاء عن تلحين  أربع قصائد  من روائع الشعر العربي، صدرت ضمن ألبوم “مش كاين هيك تكون” ، وهي: جاءت معذبتي للشاعر لسان الدين بن الخطيب، لو تعلمين بما أجن من الهوى للشاعر جميل بثينة،   أُحب من الأسماء  للشاعر قيس بن الملوَّح، وقصيدة ولي فؤادٌ إذا طال العذاب به للشاعر البحتري. وقد شكلت تلك الألحان نمطاً غنائياً طربياً ذو طابعٍ حداثوي، يختلف عن الأُطر التقليدية في تلحين القصيدة الكلاسيكية، مع حفاظه على روح المقامات والإيقاعات الشرقية.  

وإلى جانب السيدة فيروز لَحَّن محسن للمطربة اللبنانية الكبيرة نور الهدى عدداً من الأعمال الغنائية المميزة ومنها : موشح  أطرَب على نغمة المثاني وقصيدة  يا من لديك الجمال ، أنحلتني بالهجر ما أظلمك ، حبيبي في الهوى ، وأغنية حليوة حليوة . كما لَحَّن للفنان وديع الصافي: أغنية النجمات صاروا يسألوا ،  أنت القلب ،  ما أطولك يا ليل ، إنت الحبيب ، عندي جارة يا لطيف ، قطيعة يا رفيقنا، عيونها الكحلى  وغيرها.  ومن أبرز ما لحَّنه  للفنان نصري شمس الدين: أغنية ما أصعبك عالقلب يا يوم السفر ، وللفنانة  صباح : أغنية  سلم سلم ع الحبايب، رجَّال أحلى من المال، ما حبيتك لا لا ، طق ودوب ،  يما في شب بهالحي ، وأغنية لله يا عاشقين من فيلم شارع الضباب.

ومن بين ما لَحَّنه لبعض المطربين اللبنانيين أيضاً: أغنية الليلة سهرتنا حلوة الليلة و قصيدة هذه دنانير للفنانة نجاح سلام. أغنية يا حلو تحت التوتة  و ولو يا أسمر ولو للمطربة نازك. أغنية حل عنا حل  للمطربة شيراز، وأغنية شوي شوي للمطربة نورهان، هذا إلى جانب الألحان التي قدمها للمطربة سميرة توفيق وطروب و فدوى عبيد والمطرب عبدو ياغي وغيرهم.

وخلال زياراته المتكررة لمصر في مرحلة  الستينيات والسبعينيات، تعاون محسن مع إذاعة القاهرة ، وقدم عشرات  الألحان لكثير من المطربين المصريين، مثل: نجاة الصغيرة، شادية، عفاف راضي، محمد عبد المطلب، محمد قنديل، محرم فؤاد، محمد رشدي، شريفة فاضل، عبد الغني السيد، إسماعيل شبانه وغيرهم. ومن أشهر تلك الألحان: أغنية أبحث عن سمراء للمطرب محرم فؤاد، التي حققت له شهرة واسعة في الوطن العربي، وأغنية يا ماشي على درب الحلوين للثلاثي المرح.

ويعتبر محسن من الملحنين العرب القلائل الذين لحنوا اللون الخليجي من خارج منطقة الخليج، حيث لحَّن الكثير من الأعمال الغنائية لصالح إذاعة الرياض خلال زياراته المتكررة للملكة العربية السعودية نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، وتعاون مع أهم وأشهر مطربي المملكة. ومن أبرز ما لحَّنه للفنان محمد عبدو في  بداياته الفنية  : الأغنية الشهيرة والمميزة خاصمت عيني من سنين  التي حققت له شهرة واسعة وشكلت منعطفاً فنياً هاماً في مسيرته الفنية، وأغنية حبيبي مرني بجدة التي تعتبر أيضاً واحدة من أجمل وأشهر أغانيه. وما زال عبدو يشدو بتلك الأغنيتين في حفلاته حتى يومنا هذا.  كما لحَّن له أيضاً قصيدة أعطني قلبي  وأغنية وضحى الحزينة . وإلى جانب محمد عبدو لحَّن محسن للفنان طلال مداح أغنيتين من ألبوم “يا مسافر”، وأغنية بيني وبينكم إيه من فيلم شارع الضباب.

مكتشف المواهب وصانع النجوم

لم ينحصر دور محمد محسن في التلحين لكبار الفنانين العرب، بل ساهم في اكتشاف موهبة بعضهم وتقديمهم للجمهور وصناعة شهرتهم التي جعلتهم نجوماً فيما بعد، ومن بينهم المطربة فايزة أحمد ووردة الجزائرية وسعاد محمد.

في نهاية الأربعينيات التقى محسن بالمطربة سعاد محمد في بداياتها الفنية، فكانت أولى ألحانه لها: أغنية دمعة على خد الزمن ، ثم تبعها عدد من الأغاني، ومنها:  وين يا زمان الوفا ، غريبة والزمن قاسي ، يلي كلامك زي السكر ، يسعد صباحك يا روحي ، والقصيدة الوطنية الشهيرة جلونا الفاتحين  التي قدمتها خلال احتفال رسمي بمناسبة عيد الجلاء، وهي من شعر بدوي الجبل. وتُعد بداية الشهرة الحقيقية للفنانة سعاد محمد بعد غنائها للأغنية الخالدة  مظلومة يا ناس مظلومة  التي لحَّنها محسن بعبقرية فنية فريدة وبتنوع مقامي غني وساحر، عَبَّرَ بشكلٍ تصويريٍ بليغ عن كلمات الأغنية الوجدانية، التي كانت لسان حال الكثير من النساء العربيات، وأظهر جماليات وسحر صوت الفنانة محمد، لتحقق لها  تلك الأغنية نقلة فنية نوعية ونقطة تحول بارزة في مسيرتها الفنية، حيث بيعت الملايين من أسطواناتها وكَتب عنها الكثير من الباحثين الموسيقيين والنقاد والمهتميين بالشأن الموسيقي، وأصبحت حينها تذاع في معظم الإذاعات العربية.

وفي بداية الخمسينيات وعندما قدمت المطربة فايزة أحمد من حلب للغناء في دمشق كان محسن من أوائل الملحنين الذين التقوا بها، وعندما استمع إليها وهي تغني لأم كلثوم وأسمهان وليلى مراد، أُعجب بجمال وعذوبة صوتها، ولحَّن لها عدداً من الأغاني، التي أظهرت قدراتها الصوتية وأبرزت شخصيتها الغنائية الخاصة وقدمتها للجمهور بطريقة فنية مميزة، ومنها: أغنية درب الهوى، ليش دخلك ما إجا منك خبر ، ما في حدا يا ليل ، يا بيت الأحباب  والأغنية الدينية يا رب صلي على النبي ، وقد ساهمت تلك الأغاني في صناعة شهرة الفنانة أحمد وكانت بمثابة بوابة عبورها إلى القاهرة التي أصبحت مقر إقامتها شبه الدائمة، لتصبح من عمالقة الفن والغناء العربي فيما بعد. وبعد انتقالها إلى مصر لَحَّن لها محسن الأغنية الشهيرة شفتك حبيتك يا سمارة .

وقبل أن يُلحن لها الموسيقار بليغ حمدي ومحمد عبد الوهاب وغيرهم من عمالقة الفن، التقت المطربة وردة الجزائرية عند قدومها من باريس إلى بيروت منتصف الخمسينيات بالملحن محمد محسن الذي اكتشف موهبتها الغنائية الفريدة وكان أول من لحَّن لها أولى أغنياتها الخاصة، وهي أغنية دق الحبيب دقة ، ثم لحَّن لها عدداً من الأغاني التي وضعتها في بداية طريق الشهرة، ومنها: أغنية  يا أغلى الحبايب ، على بعدك فاتت ليلة ، وفر مراسيلك ، على باب الهوى ،  قالولي ظالم، تلتها الأغنية الوطنية الشهيرة أنا من الجزائر أنا عربية  التي غنتها خلال ثورة الجزائر عام 1960، والتي شكلت الإنطلاقة الأبرز والأهم في مشوارها الفني في تلك المرحلة وأكسبتها مزيداً من الشهرة والنجاح، بعد أن بثتها معظم الإذاعات العربية ليصل صوتها إلى شريحة واسعة من الجمهور العربي. وكان آخر ما لحنه محسن لوردة في السبعينيات : أغنية ولو .. لا طلة ولا زيارة  ، مش قادرة على قلبي ، والأغنية الأكثر شهرة  روَّح يا هوى.

في الدراما والسينما

يُعد محمد محسن من أوائل الموسيقيين السوريين الذين عملوا في مجال الدراما والسينما من خلال تأليف الموسيقى التصويرية وتلحين الأغاني لكثير من المسلسلات والأفلام، ومن أشهر ما قدمه :

– تلحين عدد من أغاني مسلسل الحلاق والكنز ، عام 1973 ، والتي غنتها المطربة اللبنانية طروب، بطلة المسلسل، ومن بينها : أغنية  يا فرحة لاقينا ، طبيب الهوى نصحني ، على شط الهوى يا حبيبي ، هدية حلوة كتير

– تأليف الموسيقى التصويرية لمسلسسل فارس ونجود  عام 1974 وتلحين أغنياته، التي كتبها الشاعر موفق شيخ الأرض وغنتها المطربة سميرة توفيق، بطلة الفيلم، ونذكر منها : أغنية  يما أنا ما أدري ، ما أحلا صباح البادية ، ولد العم يا ولد العم ، شاردة أنا وقلبي ، لولا الأمل و يا عين خبي الدمع .

– في العام 1974 لحَّن محسن (إلى جانب الموسيقار بليغ حمدي وعدنان أبو الشامات وعزيز غنام وغيرهم) عدداً من قصائد وموشحات مسلسل الوادي الكبير، ومن بين ما لحَّنه : خيالكِ في الفؤاد وفي العيون ، كم مُغرمٍ ، أليس من البلية أن أراني ، جلَّ الرحمن وما صَوَّر ، أٌقلِّبُ طَرّفي في السماء ، في خاطري في القلب في خلدي ، تُساؤل  ، طاف الهوى بعباد الله . وقد غناها المطرب صباح فخري. هذا إلى جانب موشح هلموا خلف شادينا ، وقصيدة حيي الوجوه الملاح وهما من غناء المطرب اللبناني عبدو ياغي.

– تأليف الموسيقى التصويرية لمسلسل سمرا عام 1977وتلحين معظم أغاني المسلسل ( بعض الأغاني كانت من تلحين الملحن إلياس الرحباني ورفيق حبيقة) التي كتب كلماتها الشاعر حسين حمزة  وغنتها المطربة سميرة توفيق التي لعبت دور البطولة في المسلسل، ومن بين الأغاني  التي لحَّنها محسن : أغنية  ديرة هلي ، أداري والزمن داري ،  توبة يا ليل ، يا هوى العشاق ، سهرانة  و غربة وغربوني

– تأليف الموسيقى التصويرية لمسلسل عليا وعصام وتلحين أغاني المسلسل التي غنتها الممثلة فدوى عبيد.

– تلحين الكثير من أغاني الأفلام مثل: أغنية عيد الميلاد من فيلم فندق السعادة، وقد غنتها الفنانة شمس البارودي، وعدد من أغاني فيلم حبيبة الكل ،  شارع الضباب ، أين حبي ، وفيلم عتاب، وغيرها من الأفلام.  

توفي محمد محسن في عام 2007 عن عمر ناهز الخامسة والثمانين عاماً، تاركاً لنا مئات الألحان الخالدة التي أَثرَت وأغنت مكتبة الموسيقى العربية، ونقشت اسمه بحروفٍ من ذهب إلى جانب عمالقة الفن في سجل الخالدين. تلك الألحان كانت، طوال فترة إعداد هذه المادة، تشاركني معظم تفاصيلي اليومية، أسمعها طوال الوقت، وأبحث عنها بلهفة وشغف، ومع كل اكتشافٍ للحنٍ جديد كنت أشعر وكأنني عثرت على كنز فأتوقف عن البحث والكتابة لأسمعه مرة ومرتين أو أكثر، وأنا في حالة من المتعة والسعادة البالغة، المصحوبة بالكثير من الشكر والامتنان للملحن العظيم محمد محسن الذي كان وسيبقى يُذكرنا بالوجه الجميل والمبدع لسوريا.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

حلب، روحاً وتاريخاً في رواية “خاتم سليمى” للروائية ريما بالي

حلب، روحاً وتاريخاً في رواية “خاتم سليمى” للروائية ريما بالي

“إن حياة الإنسان يا سلمى لا تبتدئ في الرحم، كما أنها لا تنتهي أمام القبر، وهذا الفضاء الواسع المملوء بأشعّة القمر والكواكب لا يخلو من الأرواح المتعانقة بالمحبّة والنفوس المُتضامنة بالتفاهم”. نعم الأرواح أثيرية لا تنتهي بالقبر ولا تبدأ بالرحم، تستلهم ريما بالي هذا المعنى من جبران خليل جبران في روايتها “خاتم سليمىالصادرة عن تنمية لعام 2022، والتي دخلت بالقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية لعام 2024 لتوحي لنا منذ البداية أنها تأخذنا إلى عالم الروحانيات الصوفي، أجواء وظفتها لوصف عبق المدينة وإرثها الحي وكل ما تذخر به ذاكرتها عن مدينة حلب ورائحة التوابل والغار وحبة البركة والزنجبيل، إلى آثارها؛ قلعة حلب؛ الخانات وأزقتها وحاراتها، إلى صناعاتها التقليدية كالسجاد اليدوي والصابون، كما تعرج على عاداتها وتقاليدها وموسيقاها، عادات الأكل والملبس وما تتميز به من تنوع ثقافي وعرقي واجتماعي، فحلب تجمع  فسيفساء بشرياً متناغماً مع أصولها العريقة كأقدم مدينة مأهولة في التاريخ ، دون أن تغفل عن الواقع الذي انقلب، كيف خربت الحرب المجنونة كل هذا الجمال، الحرب التي دارت رحاها في السنوات الأخيرة وتسببت بكل ذلك الخراب والموت والتهجير لناسها وأبنائها وما خلفته من شرخ عميق في البنيان المجتمعي الذي كان تعدده أحد أهم ميزاته وخصاله البارزة.  

تعلن بالي في منجزها حضور المكان بكل تفاصيله وجماليته إذ يبرز بطلًا أساسيًا في لعبتها السردية، وهو يختزن عبق التاريخ وبخوره وروائحه التي تشي بملامح حلب الثقافية وطقوسها حيث الموسيقا؛ السياحة التراثية؛ تقاليد حلب في الإفطار والسحور أيام رمضان، وأصناف الطعام الشهيرة ذات النكهة المميزة لحلب من الكبة للفتوش للمحمرة إضافة لإضاءتها على واقع الصناعات الشعبية التراثية مثل السجاد والتحف والأنتيكات لتعرج بعدها على الحرب والدمار الذي لحق بمناطقها الأثيرة ذات التاريخ والحضارة، فكل حرب خاسرة مهما كبرت أوهام النصر لدى أي طرف كان، كانت حلب المدينة التي تنزف وتحترق وكل ما عداها تفاصيل قد نتفق حولها وقد نختلف.

هذا الإسهاب في الوصف كان عميقًا وحميميًا لتبيان ذلك التناقض الحاد بين الثنائيات المتعارضة بين ما كان وما صار، بين الجمال وبين القبح، بين أيام الحرب وأيام الدعة والسلام.

من عنوان العمل يتضح أنها توظف حكاية خاتم سليمان بالقص التوراتي “خاتم سليمان منحه الرب لنبيه سليمان، خاتم ذو قدرات خارقة أهمها التحكم في الجن والتحدث مع الحيوانات إلى أن حدثت واقعة سرقة كبير الشياطين للخاتم وتشكله بصورة الملك سليمان وجلوسه مكانه على العرش”. تسقط الكاتبة الحكاية على قصة الحب التي تعيشها البطلة سلمى بين المستشرق شمس الدين الذي استوطن حلب وعشقها ولوكاس الإسباني من جذور يهودية والخاتم الذي يتحرك بينهما، مع تخوم ضائعة الدلالة لرمزية كل منها لتنهي العمل بذلك الالتباس الذي يصيب القارئ بالحيرة والتساؤل وبذلك تكون أدخلته في شرك لوثة الخاتم أهو مع شمس الدين أم مع لوكاس، من فيهما القديس ومن هو الشيطان، من هو الحي ومن هو الميت، من منهما الأثير إلى النفس ومن منهما الخيار الأفضل.

تتركنا الكاتبة في فضاء التخمين والتخيل في تقصي لعبتها التي تفضي أخيرًا لضياع الخاتم، الخاتم الذي ينتظر القرين المناسب في رمزية الحبيب والمنقذ للحبيبة والمدينة.

 ريما بالي الذي حفل رصيدها السردي بأربع روايات هي “غدي الأزرق” و”ميلاجرو” (المعجزة بالإسبانية) و “ناي في التخت الغربي”كانت “خاتم سليمى” قبل الأخيرة منها لم تلتزم فيها بالترتيب المتسلسل للأحداث فكل حكاية ترصدها في زمن سابق أو لاحق ليكون على القارئ عبء لملمة الحكاية وترتيب أحداثها وفق تصوره وخياله مشركة إياه في تساؤلات عدة نلحظها من خلال حوارات أبطالها كشمس الدين العارف الذي يعرف كل شيء ولوكاس الذي لا يعرف، وكيف يعرف المرء نفسه، وماذا يريد وهل تعرف سلمى نفسها وهل المعرفة نهائية يا ترى، إذ نعرف أن الذات نفسها متغيرة نتيجة تفاعلها مع الظروف المحيطة وحسب تبدلات الزمان والمكان، وقد تتطور وتتقدم إلى الأمام وقد يحصل العكس، وتساؤل آخر عن ماهية الحب وهل هو وهم أم حقيقة، ليأتي الجواب الصادم من قبل شمس الدين بأنه كيميا، يأتي نتيجة تفاعلات بين عناصر معينة، هذه الإجابة التي جاءت بعيدة عن منطقه الصوفي فعلى الرغم من أن الصوفية توهان في ماورائيات وتجليات لاستنارة روحانية جاء تفسيره أقرب للعلم والمنطق وربما لنفسر عدم تجاوبه مع مشاعرها وجعلها قيد انتظار الزمن بالنزعة النرجسية له فلأننا نحب أنفسنا نحب استمرار عشق الآخرين لنا ومن ناحية أخرى قد نفسر الأمر بخوفه من تكرار تجربة أمه بهروبها مع شخص آخر بعد انتهاء أحاسيسها تجاه أبيه،  ما جعله يبعد الصبية عنه بشكل جزئي.

من اللافت للنظر إصرار بالي على طرح نماذج لشخصيات لأمهات لا تحكمها العاطفة مثل (لولا –أم لولا –أم شمس الدين-جدتها القاسية التي لم تلتقها إلا عندما فقدت ذاكرتها) في فكرة التخلي عن الأبناء لصالح عشق أو قناعة ما، وهذا يقودنا إلى طرح التساؤل التالي: ماذا عن الآخر الأب وماذا عن مسؤوليته كذلك وما دوره وهل نفهم أنها نزعة ذكورية لدى الكاتبة؟

قضايا اجتماعية متعددة تثيرها ابنة حلب أهمها الزواج المختلط لتعطي فكرة عن الأنساق الثقافية السائدة وجانب آخر للتنوع المجتمعي غير المتصالح مع بعضه والذي يرفض اقتران طائفة من طائفة أخرى بقضية النسب والمصاهرة، وهو شرخ تم استخدامه للتفريق بين أطياف المجتمع لاختراقه بالحرب الكارثية التي اشتعلت بالبلد حيث الروايات خزان التاريخ الذي لم يدون بعد ولكننا نلتقطه في ثنايا الحكاية.

تجري الكاتبة  تناصاً مع موروث الحكايا الشعبية وتوظفها لصالح العمل في نوع من المحاكاة لقصة السندباد وبساطه الطائر في متخيلها عن سجاجيدها اليدوية وفضاءات العالم الذي نسجته المتأرجح بين الواقع والخيال،  فما أن يستلقي الشخص  على سجادة منها يرافقه اشتعال شمعة إلى نهايتها، حتى يبحر في عالم لازوردي تهويمي من الأحلام والآمال، ما يكاد أشبه بنبوءة أو نوع من الإشارة لما سيحدث؛ أو نوع من الاستخارة لمشكلة أو موضوع أو رأي، هذه السجادة التي يطير فيها المستلقي على أعنة الحلم والخيال كنوع من المشابهة بين  بساط سندباد الطائر الذي يطير به وينقذه من خطر محدق أو يسارع به بالوصول لإنقاذ أحد ما، ليكون بوابة التحليق في الخيال لصالح نبوءة أو رأي ويأتي حلًا لأمر مؤرق.

تحمل خيوط السرد بالتناوب على لساني لوكاس وسلمى، وتأتي قفلة العمل إبداعاً آخر مبلبلاً لانتباه القارئ ومشتتًا لقناعته في لملمة أطراف الحكاية المسرودة، عندما تخاتله في الفهم الملتبس بين الحياة والموت، بين لوكاس وشمس الدين، من الذي بقي ومن الذي مات لتبقى النهاية مجهولة وليبقى الاحتمال معلقًا ومفتوحًا وفق رؤى تبقي الحوار قائمًا حول الفكرة والقضية ولا تنتهي بانتهاء العمل.

*ملاحظة: تم حديثاً اختيار رواية “خاتم سُليم” ضمن القائمة القصيرة لـ “الجائزة العالمية للرواية العربية” (بوكر العربية) في دورتها الـ17، وسيُعلن عن الرواية الفائزة في أبو ظبي، بتاريخ الـ28 من نيسان|إبريل 2024.

أنطون سعادة: جُرح في الزوبعة

أنطون سعادة: جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ”ألواح أوغاريت”، يرمز إلى “بلاد كنعان” أو “فينيقيا” تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من خراب لا بدّ من أن تُعيد خلق نفسها من جديد، وكأنَّ صيرورتها لن تكتمل إلا إذا انبثقت من ظلام العدم لتتجلّى في ضوء الوجود، إذ ليس مُستبعداً أن تظهر حضارة وتتدهور، ولا أن يظهر إنسان للوجود ثُمَّ يَفنى؛ لكن المُستبَعدَ أو على الأقلّ غيرَ المرجَّح أن ترجعَ حضارةٌ عظيمةٌ بائدةٌ أو أن يعود إنسانٌ إلى الحياة بعد زواله؛ لكنَّ هذا الرجوعَ أو العَوْدَ قارٌّ في أعماق الذّهنيّة الكنعانيّةِ أو الفينيقيّة القديمة. ولقد عبّرَ زينون الرواقيّ (335-264 ق.م)-المعروف عند اليونانيين في عصره بالفينيقيّ نسبةً إلى بلاده الأصليّة فينيقيا-عن دورة البَعْل تعبيراً فلسفيّاً صادماً حينما تكلّم على ما أسماه “السَّنة الكُبرى للصيرورة” حين تقوم النَّار المركزيّة التي هي علّة العالم بالحكم على موجوداته وتدميرها بعد أن تكون هذه الموجودات قد استغرقت أزمنتها؛ لكنّ هذه النّار سَرْعان ما تُعيد تكوين العالم من جديد، وتستمرُّ هذه الجدليّةُ الوجوديّةُ العظمى من التدميرِ والتَّكوين إلى ما لا نهاية له!

  وها هو أنطون سعادة حينما واجه بصدره العاري أول رصاصةٍ من رشقات بنادق قاتليه كانَ دَمُهُ يكتبُ “تحيا سوريا” مثلما كانَ دمُ الحلّاج النَّازف–وهو معلّقٌ على صليبه يرتسِمُ ليكتُبَ كلمة: “الله”. ولئن كان الفرق بين دم الحلّاج ودم سعادة أنَّ دمَ الأوَّلِ يصَّاعدُ نحو السَّماء ودمَ الثاني يغورُ في الأرض، فإنَّ الدّمَ من أجل السَّماء ينزعُ من الإنسانِ الجسدَ-الأرضَ، أمّا الدّم من أجل الأرض فهو بذرة لإعادة بعثِ مجدها الضَّائع-التَّلِيد.

لقد كانَ دمُ سعادة هذه البذرة نفسَها، وتكاد تكون من عجائب اللغات أنَّ كلمة “دَمٍ” العربيّة موجودة في اللغة الكنعانيّة-الفينيقيّة، وتُنطق وفق رسمها بالإنكليزيّة DM؛ لكنها لا تعني-كما هو الحال في العربيّة- السَّائل الأحمر الذي يجري في العُروق والشرايين، بل تعني في الفينيقيّة الموجود الإنسانيّ HUMAN BEING؛ وليس هذا فحسب بل تعني كلمة “دمت DMT ” الفينيقية المشتقة من كلمة دم DM نفسِها الأرض LAND [1].

لقد نزف سعادة دمه ليستحيل إلى إنسانٍ وأرض، أو بالأحرى ليُصبح إنساناً يحيا في أرضه التي تحيا به؛ لكنَّ هذا الإنسان الذي هو بالكنعانيّة-الفينيقيّة “دم DM” سرقه العبرانيون وحوّلوه إلى آدَم אדם =Adam، وسلبوا هذه الأرض “دمت DMT” وحوّلوها إلى “أَدَمَا אדמה =Adamah. هذا، ونجد في اللغة العربيّة كلمة آدم بمعنى الإنسان والأدَمة بمعنى الأرض، لكنَّ الفرق بين العبريّة والعربيّة هنا أنَّ الأولى قامت على انتحال اللغة الكنعانيّة –الفينيقيّة وسرقتها، أما الثانية فهي التطور الطبيعيّ-التاريخيّ لها.

جاء موقف سعادة حاسماً ونهائيّاً، فهو حينما نادى بإحياء سوريا الطبيعيّة أراد إحياء حضارة عظيمة مغمورة أو بالأحرى مطموسة تآمر عليها أعداؤها، وهذه الحضارة وفقاً لرأيه لا بدّ أن تكونُ نواتها بلاد كنعان، وهو يُعنى بمن يُسمِّيهم “السوريين الكنعانيين” الذين هم–في رأيه-أول أُناس في العالم اعتنقوا “ديناً اجتماعيّاً خصوصيّاً” أفضى إلى تحقيق “الوجدان القوميّ” الذي يقف تاريخيّاً وراء “الرابطة القوميّة المؤسَّسة على فكرة الوطن”.

قال: “إنَّ الكنعانيين من بين جميع شعوب التّاريخ القديم، كانوا أول شعب تمشّى على قاعدة محبة الوطن والارتباط الاجتماعيّ وفاقاً للوجدان القوميّ، للشُّعور بوحدة الحياة ووحدة المصير(…)[2]

والحقيقة أنه يجب الانتباه في هذا المقام إلى قضيّة جوهريّة لا بدّ من إيضاحها على نحو دقيق وهي أنَّ سعادة لم يكن مفكِّراً محدود الآفاق ليُحيي الكنعانيين من أجل أن ينكص بالتعويلِ عليهم إلى نزعة عرقيّة مغلقة تتسبب في عزل سوريا الطبيعيّة عن امتداها في العالم العربيّ؛ بل على العكس من ذلك تماماً.

قال: “إنَّ المحافظة على الرباط الوطنيّ القوميّ عند الفينيقيين ظلَّ ملازماً لهم في انتشارهم في طول البحر السوريّ وعرضه وفي المستعمرات والإمبراطوريّات التي أنشأوها (…) ومع أنَّ الفينيقيين (الكنعانيين) أنشأوا الإمبراطوريّة البحريّة، فإنَّ انتشارهم كان انتشاراً قوميّاً بإنشاء جاليات استعمارية تظلّ مرتبطة بالأرض الأم وتتضامن معها في السَّراء والضَّراء. كان انتشارهم انتشار قوم أكثر منه اتّساع دولة. وإنَّ هذا الانتشار مع بقاء الاشتراك في الحياة بالروابط الوطنيّة والدّمويّة والاجتماعيّة كان الظَّاهرة القوميّة الأولى في العالم التي إليها يعودُ الفضل في نشر المدنيّة في البحر السوريّ والتي خبَتْ نارُها من قبل أن تكتمل بما هَبَّ عليها من حملات البرابرة الإغريق والرومان.[3]

يحتاج كلام سعادة هنا إلى استقصاء معمّق لإزالة أيّ التباس في الفهم، ويمكن لنا هنا أن نؤكّد من دون مواربة أنَّ الكنعانيين عرب أقحاح وهذا أمر غير قابل للمساومة ولا المزاودة؛ لأنَّ محكّ أصل الشعوب تكشفه اللغة، والعلاقة بين أبجديّة أوغاريت واللغة العربيّة أظهر وأشهر من إقامة الدليل عليها، دعْ أنَّ تحدّر العربيّة من الأوغاريتيّة معروف ومشهور لعلماء اللغة ولا يحتاج إلى زيادة بيان. أضفْ إلى ذلك أنَّ انتشار الكنعانيين كان ابتِدَاؤه من المملكة-الأم أوغاريت التي توجد أطلالها الآن في كلّ من رأس شمرا ورأس ابن هاني في منطقٍة على ساحل البحر شمال مدينة اللاذقية تبعد عنها 12 كم. وتؤكد الدراسات الأركيولوجيّة أنَّ الإنسان السوريّ استوطن منطقة أوغاريت منذ الألف السابع قبل الميلاد واستمرت هذه المدينة بصفتها حاضرة زاهرة إلى أن دمرتها شعوب البحر نحو عام 1177 ق.م. لكن لم ينته الوجود الكنعانيّ-الفينيقيّ بل بقي موجوداً وممتداً جغرافيّاً من منطقة لواء إسكندرون في الشمال إلى غزَّة في الجنوب. زدْ على ذلك انتشار الكنعانيين في قبرص والخليج العربيّ وسواحل المغرب العربي وصولاً إلى قرطاج وقادش في إسبانيا وغير ذلك كثير. وهذا الكلام تؤيده الأدلة الآثاريّة على نحو لا يترك مجالاً للشك، فإذا كانت لغة الكنعانيين وجغرافيتهم تتساوقان مع لغة العرب وجغرافيتهم، فألا يُعدُّ هذا الأمر دليلاً قاطعاً على أنَّ إحياء سعادة لسوريا الطبيعيّة يقصد به عُمقيّاً إحياء حضارة عربيّة قديمة مطموسة. ولا يقصد به أيّ نزعة عرقيّة فينيقيّة مغلقة تقتطع أجزاءً من ساحل سوريا الطبيعيّة بدعوى أنّه فينيقيّ وتفصله عن امتداده الطبيعيّ. لم يكن سعادة من دعاة نزعة فينيقيّة مغلقة ولم يكن يفكِّر بها على الإطلاق، وهذا كلام يجب أن يُقال للإنصاف التأريخيّ. غير أنَّ الإنصاف أيضاً يقتضي القول: إنَّ سعادة كان في أعماقه عاشقاً لسوريا بالدرجة الأولى لأنه يجد فيها المخرج من أزمة سياسيّة كبرى كانت تعصف بالأمة العربيّة فهو يعطي الأولويّة للقوميّة السوريّة دون أن ينكر أبعادها الحضاريّة؛ لكن الشعور القوميّ–في رأيه-يتصل بحنين عميق إلى الأرض التي نشأ فيها الإنسان، فمهما كان المرء ذا رغبة عارمة في تكوين قوميّة مترامية الأطراف، فإنه بوصفه كائناً عاطفيّاً مكوّناً من لحم وعظم لن يشعر بالحنين إلى أي مكان أكثر من المكان الذي ولد وعاش به ودُفِن فيه أسلافه وسيظهر عليه أبناؤه.

قال: “إنَّ الوطنَ وبرّيته، حيثُ فتحَ المرءُ عينيه للنّور وورث مِزَاجَ الطبيعةِ وتعلّقت حياته بأسبابها، هما أقوى عناصر هذه الظَّاهرة النفسيّة الاجتماعيّة التي هي القوميّة.[4]”   

    لكنَّ هذه البريّة الكنعانيّة التي سُلبت من أهلها الأصليين خرجَ منها “صوتُ صارخٍ في البريّة”؛ لكنَّ هذا الصوت لم يصدح لهداية “الخراف الضَّالة من بني إسرائيل”؛ بل لطردهم من برّيّة بلاد كنعان.

قال: “اليهود قبائل متعدِّدة هاجمت سورية الجنوبية، واحتلت بعضها بعد حروب طويلة مع سكانها الكنعانيين، وقد بقي اليهود لانكماشهم على ذاتهم، خارج التفاعل الاجتماعي المولِّد للأمة السورية، شأنهم في كل مجتمع نزلوه، وقد قهرهم السوريون وطردوهم من البلاد فلذلك لا يمكن اعتبارهم أحد أصول الأمة السورية.[5]

  غير أنّه لا بدّ من الذهاب إلى أبعد في تحليل حقيقة الوجود اليهودي في بلاد كنعان، فهذا الوجود هو في حقيقته وجود روائيّ، أي وجود قائم على روايات تاريخيّة اختلقها اليهود أنفسهم، فهم شعب من دون جذور وحتى أسفار التوراة التي يُعوِّلون عليها في إثبات وجودهم التاريخي أدّى اكتشاف ألواح أوغاريت إلى إلغائها بصفتها وثيقة تاريخيّة، ولم يعد الباحثون الغربيون الموضوعيون في الدراسات الكتابيّة يُعوِّلون عليها، فكأنَّ أرض كنعان أخرجت من أعماقها ما يَكْلِمُ الكينونة اليهوديّة لينجلي زيفُها.

لقد بدأ الباحثون الغربيون يتّجهون الآن اتّجاهاً عظيماً قد يؤدي إلى تقويض أساطير اليهود على نحوٍ نهائيّ، فها هو–المأسوف على شبابه-مايكل س. هيرز Michael S. Heiser (1963-2023 م) وكان في بداياته باحثاً أمريكيّاً في العهد القديم ومؤلِّفاً مسيحيّاً خبيراً في التاريخ القديم واللغات السامية والكتاب المقدس العبري من جامعة بنسلفانيا وجامعة ويسكونسن ماديسون، قبل أن يتّجه نحو الدراسات الأوغاريتيّة التي غيّرت مسار حياته، يؤكد أنَّ اكتشاف ألواح أوغاريت كشف خفايا ديانة اليهود، ويُنبِّه إلى أنَّ اللغة العبريّة مأخوذة من اللغة الأوغاريتيّة، ويشير إلى أنَّ عبادة البعل عند بني إسرائيل-في مرحلة من مراحل تاريخهم-تعني الكثير من الدلالات، ويرفض هيزر أن يكون مصدر عقائد اليهود هو بلاد ما بين النهرين؛ بل مصدرها هو أوغاريت نفسها، ويذهب في التحليل إلى حدّ توكيده أنَّ معاهدة يهوه مع شعبه المختار–كما هي واردة في التوراة-مأخوذة من أدبيات المعاهدات الأوغاريتيّة الجارية في الحياة العاديّة! ويورد على نحو مثير للدهشة مقارنة بين نصوص معيّنة من ألواح أوغاريت ونصوص محدّدة من أسفار التوراة على النحو الآتي:

    “سِفْر دانيال 7: قديم الأيام، إله إسرائيل جالس على العرش الناري ذي العجلات [مثل إيل الأوغاريتي، فهو ذو شعر أبيض وكبير في السِنّ (“قديم”)]

 ألواح أوغاريت/دورة البعل: إيل، الإله العَليِّ المُسِنّ، هو صاحب السيادة المطلق في المجلس.

سِفْر دانيال 7: يهوه (=في ألواح أوغاريت: إيل)، القديم الأيام، يمنح المُلك لابن الإنسان الذي يركب السحاب بعد تدمير الوحش من البحر (في ألواح أوغاريت الوحش هو: يمّ).

ألواح أوغاريت/دورة البعل: يمنح إيل الملكية للإله بعل، راكب السحاب، بعد أن هزم بعل الإله يمّ في المعركة.

سِفْر دانيال 7: يعطي ابنَ الإنسان السُّلطانَ الأبديَّ على الأمم. وهو يحكم عن يمين يهوه.

ألواح أوغاريت/دورة البعل: بعل هو ملك الآلهة ووزير إيل، وحُكْمُهُ أبديّ.[6]

تكشف هذه المقارنة المدهشة التي أجراها هيرز بين التوراة وألواح أوغاريت أنَّ البعل الأوغاريتيّ قام من موته وهو حامل بيده زوبعته ليضرب بها يهوه؛ ولقد استشرف سعادة لقيام البعل وعرفَ أنَّ البعل لن يقوم إلا من سوريا؛ لذلك تلقّف سعادة هذه الزوبعة، فلم يقدر على حملها وحيداً، وواجهته وحوش واقعه التاريخيّ فكتب للسوريين من أبناء جلدته بدمه النَّازف: “إنّكم ملاقون أعظم انتصار لأعظم صبرٍ في التَّاريخ.[7]

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

    الحواشي


[1] -PHOENICIAN-PUNIC DICTIONARY BY CHARLES R. KRAHMALKOV, UITGEVERIJ

PEETERS en DEPARTEMENT OOSTERSE STUDIES LEU VEN 2000, P.P, 33-34.

[2] أنطون سعادة، نشوء الأمم، دمشق، ط2، 1951، ص:179.

[3] -المصدر نفسه، ص: 180.

[4] -المصدر نفسه، ص: 181.

[5] -أنطون سعادة، الأعمال الكاملة، الجزء الثاني، دار سعادة للنشر، ص: 177.

[6] – Michael S. Heiser, What’s Ugaritic Got to Do with Anything? https://www-logos-com.translate.goog/ugaritic?ssi=0&_x_tr_sl=en&_x_tr_tl=ar&_x_tr_hl=ar&_x_tr_pto=sc

[7] -صدى النهضة، بيروت، العدد 132، 2/9/1946.