بين مندمج ومقاوم وغير مكترث: كيف تنوعت آراء السوريين حول غزة

بين مندمج ومقاوم وغير مكترث: كيف تنوعت آراء السوريين حول غزة

وجد السوريون أنفسهم فجأة أمام تحدٍ جديد ابتداءً من يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، اليوم الذي بدأت فيه عملية “طوفان الأقصى،” ومعها تقدمت حماس مخترقة غلاف غزة لتردّ إسرائيل بقصف مستمر ومتواصل لم يهدأ حتى اليوم على غزة المحاصرة أساساً.

غزة التي ترد منها صور يومية تخبر بفداحة المجزرة وقسوة المعتدي وضياع الإنسانية والرحمة والشفقة وفوقهم تعاضد العالم المتقدم محزّماً إسرائيل بدعم يبدو ألّا نهاية له، دعم أعاد للأذهان العربية مشاهد قاسيةً ترتبط بعقدة العالم الثالث وحقيقة ضياع الثقل الإسلامي والعربي، وباستحضار متكرر لمشاهد ألفها العالم عن أحزان فلسطينيين يقضون كلما دارت آلة القتل من حولهم دون سند أو معيل.

صحيح أنّ فلسطين التاريخية شهدت النكبة، والنكسة، والانتفاضتين، وحربي غزة 2008 و2014، وسيف القدس ووحدة الساحات والآن طوفان الأقصى، لكنّ لكل معركة وحدث بعداً مختلفاً، فما كان موحداً للموقف المحيط يوماً تلاشى اليوم. وعلى وجه الدقة ما جمع العرب خلف “المقاومة” في حرب تموز 2006 هو ذاته ما أبعدهم عنها وعن فلسطين نفسها وفق خوارزمية التبدلات الإيديولوجية مع الربيع العربي.

وفي خضم الحزن العربي الأثير كان على الدوام لسوريا موقف متقدم من الصراع مع الاحتلال، وهو الموقف الجماعي الذي منعَ سورياً من أن يزاود على آخر في تمسكه بالموقف والقضية، وإلّا لما احتشد الملايين في حمص وحلب ودمشق والساحل وغيرهم ذات كل مظلومية أحاقت بأهل فلسطين، وما أكثر المظالم هناك.

إلا أن هناك ما جرى في سوريا وبدّل شيئاً كبيراً فيها، بدّل شيئاً ببلد صار فيه 7 ملايين نازح ومهجر، وملايين القتلى والجرحى والمفقودين، كل ذلك كان كثيراً على البلد المتوسطي الذي يرسم سياسته على حدّ السيف.

ابن درعا الذي قاتل ابن حلب في حماه، وابن دير الزور الذي قاتل ابن اللاذقية في حمص، والسوريّ الذي استقوى على السوريّ في كل بقعة من بلده الذي صار سوقاً حراً للمقاتلين الأجانب المستوردين لا شك أنّ قناعات كثيرة تغيرت في رأسه حيال موقفه من وجوده نفسه.

فكيف يمكن اليوم أن تسأل سوريّاً عن موقفه من حرب غزة، وهو المثقل بحياة تفتقر لأدنى أساسيات العيش.

اندماج تام بالمعركة

كان من المتوقع أن تفرز الحرب السورية بعد 12 عاماً من طحنها للناس قناعات متباينة جداً حيال الأوضاع الداخلية فكيف بالخارجية! وانطلاقاً من هذا الفرز، تم في هذا التقرير مقابلة أشخاص سوريين من شرائح مختلفة للاستماع عن موقفهم من حرب غزة.

استناداً إلى هذه المقابلات، يمكن القول إن هناك توجهين مركزيين لم يكن من الصعب التمييز بينهما إطلاقاً، وإلى جانبهما تفرعات أخرى أقل وضوحاً. التوجه الأول هو ذلك المرتبط بازدياد التمسك بالموقف “المقاوم” وهو الموقف الذي يمثله من ظلّ حيّاً في كنف الدولة الرسمية متجرعاً ومؤمناً بسياساتها. فعلى سبيل المثال، يعتقد المهندس إباء الحفار أنّ سوريا اليوم حاضرة بقوة في معركة غزة، ليس ذلك الحضور الداعم النظري، إنما الحضور العسكري واللوجستي والتخطيطي على أرض الواقع. ويوضح وجهة نظره قائلاً: “هل يعتقد أحدٌ أنّ المقاومة أطلقت رصاصة واحدة دون إذن سوريا وموافقتها وهل تعمل المقاومة دون تنسيق حثيث مع سوريا! صواريخ حماس هي صواريخ سورية وهذه حقيقة لا ينكرها أحد، وكلاهما، حزب الله وحماس، امتداد سوريا وإيران في شدّ منعة العالم لمواجهة أبشع آلة قتل واحتلال في التاريخ”.

وكذلك يتفق معه الموظف ماجد هاشم بأنّ سوريا هي التي تدير المعركة في فلسطين برفقة حلفائها، يوضح رأيه شارحاً: “من لفلسطين في هذا العالم سوى الحلفاء القلّة! سوريا تدرك جيداً أنّ مشكلتها خلال حربها لم تكن إلا مع إسرائيل، ونحن اليوم نرد الصاع، وسنظل نخوض في هذه الحرب الوجودية حتى آخر واحد فينا أو فيهم”.

نوستالجيا

يوضح سليمان جوخدار تمسكه بفلسطين انطلاقاً من أبعاد وجودية وإنسانية، أبعاد تتخطى السياسة الضيقة كما يصفها، يعبر عن ذلك بالقول: “فلسطين هي حلم الطفولة، الحلم الذي بكينا لأجله وقهرنا وتعذبنا وقطعنا عن أنفسنا لأجلها، فلسطين التي ترتبط بوجداني وكياني وحياتي، فلسطين التي هتفت لها في الساحات والمدارس، فلسطين التي لم تكن يوماً مدينة سوريّة أغلى على قلبي منها، فلسطين الآن في مظلمة تاريخية!”.

آخرون، مثل المحامي جهاد خليل، مستعدون للقتال في فلسطين انطلاقاً من وحدة الساحة والعدو الواحد، فقد وضح جهاد موقفه أنّ انتهاء معاناة بلده ترتبط بانتهاء وجود إسرائيل قائلاً: “كل عقد أو اثنين سيكون هناك مقتلة في بلدي طالما إسرائيل في جوارنا”.

“حفظ دون فهم”

فاض على حديث نمير وطنيات ترتبط بالقضية ودعم المقاومة وأمومة سوريا لها، فكان لا بد من مواجهته بسؤال حول إن كان يعلم أنّ “حماس” على مستويات القيادية العليا حملت لسنوات علم الثورة السورية.

بدا نمير غير فاهم أو مستوعب أو مصدق للطرح، لكنّه دافع عن وجهة نظره قائلاً: “إن كانت حماس رفعت علمهم أو قاتلت ضدنا فلا بأس، نحن أجرينا تسويات لمسلحين ومتطرفين وأصبحوا يقاتلون معنا، يمكن اعتبارهم قد خضعوا لتسوية وأزال الله الغشاوة عن أعينهم، إن فعلوا ذلك فقد كان مغرراً بهم، ثم إنّ دولتنا طالما تدعمهم الآن فإذاً نحن ندعمهم”.

تيار عقلاني

بعض الأشخاص لديهم دوافع قد تبدو غير مقاربة للمنطق في معالجة ملفات المنطقة، ومن أمثالهم المقاتل نمير، وهو اسم مستعار بناء على طلبه.

وبين المندمجين تماماً في دعم غزة وطوفانها ثمة تيار أكثر عقلانيةً كما يصف نفسه، تيار يعرف أنّ حلم التحرير لا زال بعيداً جداً، وبأنّ بلده منهك أكثر من أن يخوض معارك ويدعم جماعات ويواجه دولاً جديدة.

يعبر عن ذلك التيار موقف الطبيب سمير عرفة إذ يقول لـ “صالون سوريا”: “من المهم أن تبقى أرجلنا على الأرض، بلدنا مدمر، نحن منهكون، ونحن مع فلسطين لآخر نفس، ولكن لا يكلف الله نفساً إلا وسعها”.

“مشاكلنا تكفي”

أما التوجه المركزي الآخر حيال حرب غزة يمكنه وصفه باللا اكتراثي، وهو يمثل الأشخاص الذين يقولون إنّهم يملكون أسبابهم لعدم الاهتمام بما يحصل، مبررين ذلك بأسباب قد تكون متباينة نسبياً ولكنّ جوهرها متفق على الأرجح. وعلى سبيل المثال، يعبر عن هذا التوجه فاضل شريف أستاذ مدرسة بقوله: “منذ دهر نحن محرومون كشعب لأجل دعم المقاومة، ندفع أثماناً باهظة لذلك، لا فلسطين انتصرت ولا نحن، الموت عبثي، ونحن خبرناه جيداً في سوريا، بالتأكيد لا يمكنني إلّا أن أكون متعاطفاً مع غزة، ولكن هل سأقاتل هناك لو أتيح لي؟ بالتأكيد لا، ثمّة ما هو أهم في بلدي”.

أما غيداء جروان وهي سيدة تعمل في مجال الترجمة فتوضح أنّها كسورية دفعت ثمناً باهظاً مع بلدها وأهله خلال حربهم الطويلة وليست مستعدة لأن تبذل أي شيء جديد وتحت أي ظرف. وتكمل: “يوم قرر الفلسطينيون أن يحاربوا خارج أرضهم قاتلونا وقتلونا في سوريا. بعد عقود من الاحتضان قتلونا. ويوم متنا جميعنا لم تتحرك شعرةٌ في رأس أحد هناك، لا أحد عليه أن يزاود على الآخر، على كل شخص أن يعالج مشاكله”.

في حين تقارب جميلة سعفان وهي موظفة بأحد البنوك الموضوع من زاوية سؤالها حول تعداد المسلمين والعرب حول العالم، تسأل وتجيب قائلةً: “أليس هناك مليار مسلم وضمنهم العرب! غصت فلسطين على بضعة ملايين قليلة من السوريين المتبقين والذين يتسولون على أبواب الجمعيات الخيرية! ما يصل لقيادات حماس من أموال ومساعدات تبني دولاً بحالها”.

مصائب الناس تخصهم

وفي لقاء مع مفيد الطاهر وهو خريج جامعي لم يعثر على عمل حتى الآن، أكد مفيد تعاطفه وتضامنه الكامل مع فلسطين إنسانياً واصفاً كيان الاحتلال بأبشع الصفات، ولكنّه يرى أنّه من بلد قاوم فيه حتى اكتفى على حدّ تعبيره. ويوضح موقفه: “فقدت عمي وعمتي في تفجير مفخخة، فقدت ابن عمي بطلقة قناص، فقدنا أرزاقنا وأراضينا في ريف حماه. لديّ من المصائب ما يكفي لأحزن لأجلها عمراً بحاله. مصائب الناس للناس، وأولئك الذين يتاجرون بالقضية صبح مساء على صفحات التواصل الاجتماعي فهنيئاً لهم”.

جيل الألفية

ضمن هذا التوجه المركزي هناك تفرعات وتشعبات متعددة، بينهم أولئك الذين ولدوا بعد الألفية، فلا هم شهدوا الانتفاضتين، ولا شهدوا الحروب التالية، وحين استفاقوا على مراهقتهم وجدوا أنفسهم محاصرين في أحياء بلدهم. هذا الجيل قد لا يعرف الكثير عن فلسطين، وقد لا يكون مطالباً بالكثير، ولكنّه بالتأكيد جيلٌ لا يشبه سابقيه، جيلٌ لديه مفاهيم واضحةٌ عن الخذلان والموت والبذل والخوف بين جدران بيته، فكيف سيكون مطالباً منه أن يندمج في محيطه البعيد!

مستسلمون ومندفعون

وفي محاولة لفهم آراء الناس ضمن توجهاتهم المختلفة، يوضح الخبير في علم النفس الأكاديمي عامر مهرة أن: “لكل إنسان طاقة، ما أن تستنزف هذه الطاقة يصبح عاجزاً عن شحن المزيد إذا استمرت الظروف السيئة من حوله، وهذا ما حصل مع السوريين. وحتى أولئك الذين هم مستمرون بالدفاع المستميت عبر منصاتهم عن غزة سيتعبون مع مرور كل يوم إضافي على الحرب”. ويختم حديثه: “وبالنسبة لأولئك المندمجين بكل طاقتهم فهذا أيضاً تعبير انعكاسي عن الحزن يجعلهم يتمسكون بقضية تحاكي مشاعر الاندفاع لديهم، وهي المشاعر التي تحتاج للتفريغ بهذا الشكل، وهذا بالتأكيد لا يقلل من مشاعرهم الوطنية أو النضالية، ولكنّه يظلّ شعوراً اندفاعياً في ظلّ علمهم أنّه ليس بأيديهم أن يفعلوا شيئاً آخر.”

فاتح المدرس: آخر ما يموت في غابة الدهشة هو اللون

فاتح المدرس: آخر ما يموت في غابة الدهشة هو اللون

لُقِّبَ برائد الحداثة التشكيلية في سوريا، شاعر اللون، رسام الأرض، سفير الفن التشكيلي السوري إلى العالمية، وأيقونة الفن السوري المعاصر. هو الفنان التشكيلي فاتح المُدرس، أحد أبرز الفنانين التشكيليين العرب في القرن العشرين، والذي حقق شهرة عالمية، وأسهم في تطوير أدوات الفن التشكيلي السوري، عَبر نقله من الواقعية التقليدية والحالة التسجيلية المباشرة إلى فضاءات الحداثة وتياراتها المتمثلة في التعبيرية والانطباعية والرمزية، كما تميز بكونه كان الأكثر جرأة بين الفنانين العرب في طرح المفاهيم الفنية الجديدة والمؤثرة، والأكثر فهماً واستيعاباً لمعطيات ثقافات وفنون العصر.

وُلِّد المُدرس في قرية حريتان/ حلب عام 1922 وتعلم في مدارس المدينة. برزت موهبته في الرسم في سنٍ مبكرة، فلفت انتباه مدرّسي الرسم منذ مرحلة الدراسة الابتدائية. وفي بداية الأربعينيات سافر إلى لبنان ليدرس الأدب الإنجليزي في الجامعة الأمريكية، وعاد بعد ذلك إلى حلب ليعمل مدرساً للغة الإنكليزية والتربية الفنية في بعض المدارس. أقام معرضه الأول عام 1950 في نادي اللواء في حلب، وأثبت من خلال لوحاته، التي سرقت الأضواء ولفتت انتباه الجمهور، أنه فنان واعد يمتلك ذهنية متفردة تبحث عن كل جديد. ثم جاء عام 1952 ليكرسه كفنانٍ مبدع صاحب قدراتٍ فنية مدهشة ومؤثرة، وذلك بعد مشاركته في معرض المتحف الوطني في دمشق، إلى جانب أبرز الفنانين التشكيليين السوريين، حيث نال الجائزة الأولى عن لوحته “كفر جنة” التي اقتناها المتحف الوطني، وشكلت الملامح الأولى لرؤية المُدرس الحداثوية، ولاتجاهات الحداثة في الفن التشكيلي السوري، وقد اعتبرها النقاد من أبرز الأعمال التصويرية في الفن السوري المعاصر آنذاك. وفي عام 1957 أُرسل إلى روما في بعثة دراسية، ونال في العام 1960 إجازة في فن الرسم من أكاديمية الفنون الجميلة العليا، وبعد عشرة أعوام سافر إلى فرنسا ليدرس في المعهد الوطني العالي للفنون الجميلة في باريس، حيث نال شهادة الدكتوراه عام 1972.

وبينما اقتصرت أعمال معظم فناني الخمسينيات والستينيات في سوريا على رسم الزخارف وتصوير الطبيعة الصامتة وبعض مناظر العمارة التراثية، تفردت أعمال المدرس بعبقريتها وحداثتها وتنوع أساليبها، التي جمعت بين مختلف المدارس الفنية (الواقعية، التعبيرية، الرمزية، السريالية والتجريدية) لتنير عقول كثير من الفنانين التشكيليين العرب، وتفتح أمامهم آفاق الخيال ليخرجوا من قيود الفن النمطي، كما تركت بصماتٍ واضحة على تجارب من تأثروا بمدرسته ونهلوا من أفكاره الفنية الخلَّاقة، فقد شكل المُدرس من خلال أعماله مرجعية أسلوبية، كونه أول من أدخل المدرسة التجريدية والسريالية إلى الفن السوري عبر لوحاته، وكونه مزج في أعماله بين الواقعية والرمزية والأسطورية، ليبتكر بذلك كله رؤية ونهجاً جديداً في مسيرة الفن التشكيلي السوري والعربي، هذا إلى جانب امتلاكه فلسفة خاصة في فهم علم الجمال، تمثلت  بعبقريته وذكائه في استخدام الألوان والخطوط والمؤثرات البصرية، حيث أبدع خيالاً فنياً يشحَن روح المتلقي بطاقة كبيرة من الألوان والضوء والصور والمعاني. إذ كانت الألوان بالنسبة له مثل شخوصٍ، يفهم لغتها، يحاورها ويصغي إليها ويتفاعل معها. وقد منحته تلك العلاقة معها قدرات تعبيرية خاصة، جعلت الخطوط في لوحاته تظهر بشكل رشيق متناغم وكأنها تتحاور في ما بينها، فيما تتكاثف الأفكار لتشكل فضاءات واسعة من الأطياف والمَشاهد والتكوينات، التي تقدم دراما انفعالية حسَّية، تفيض بعشرات الانطباعات والمشاعر الجمالية، إذ يمكن لأي لوحة من لوحاته أن تقدم عَرضاً فنياً متكاملاً، فهي عالم غني، يتداخل فيه التاريخ مع الجغرافيا والميثيولوجيا والأحلام الإنسانية والتأملات والحكايات، وتمتزج فيه الوجوه مع الطبيعة في هندسةٍ لونيةٍ شاعرية، شكلت ثورة حقيقية على المفاهيم التشكيلية السائدة.

ونستشهد هنا بما قاله المُدرس عن الحالة التي يعيشها خلال عملية الرسم : “عندما أرسم أشعر بأن هناك ظلمة شديدة أطبقت على كل شيء، وأنني أخرج من نفقٍ، وأنني أرى نوراً في داخل رأسي، وكأن ريحاً باردة تَهبُّ على وجهي، فابتسم وأعرف أنني وصلت إلى قمة الانفعال في اللوحة، وأعرف أنها انتهت. هذا هو الإحساس في كل عملٍ أقوم به، وكل لوحةٍ لا أمرُّ بها في هذه الحالة أعتبرها عملاً كاذباً وغير ناضج”.

ابتكر المدرس، بذكائه التعبيري المدهش، أسلوباً فنياً غنياً بالرموز والأشكال المستوحاة من التراث السوري الغني بقصصه الشعبية، ومن البيئة المحلية الريفية التي أوغل في أعماقها، ومن تاريخ الحضارة السورية ومدلولاتها وأساطيرها الفريدة، وقد قدم ذلك كله بلغة تصويرية، سريالية أو تجريدية أو تعبيرية أو رمزية، مزاوجاً بين روحانية الشرق ومادية الغرب بتقنياته الفنية المتنوعة، فيما استلهم ألوانه من حقول الشمال والبراري السورية، ليشكل بذلك كله هوية تشكيلية سورية متفردة وأصيلة، ظهرت  جلياً في العديد من لوحاته ومنها : “صلاة البادية السورية”، “قصص الجبال الشامخة”، “زفاف في جبال القلمون”، “نساء من بقين”، ” بدوية من الجزيرة”، “التدمريون”، “مرتفعات بلودان”. وهو الذي يقول في هذا الشأن: ” قد خلصت من تجاربي كلها أن على الرسام المُحب لوطنه أن يعمل على بلورة الفن في بلاده، في طابع أصيل يمت للتاريخ والتقاليد، فليس هنالك فنٌ بلا واقع أو تقاليد عميقة الجذور، وكل هذا يجب أن يتماشى مع أحدث المفاهيم العالمية”.

المُدرس الذي كان يؤنسن جميع الأشكال والعناصر، عَبَّر من خلال لوحاته عن معاناة الإنسان وهمومه وصراعه الوجودي مع الحياة، وحضرت المرأة بقوة في معظم أعماله التي تناولت أيضاً أهم القضايا العربية الوطنية والسياسية، فظهرت القضية الفلسطينية في العديد من لوحاته، كلوحة “المسيح يعود إلى الناصرة” التي كان يحاكي من خلالها عودة الفلسطيني إلى وطنه المسلوب. وبعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان رسم المدرس بعض الأعمال  التي تناولت  عمليات النزوح ومعاناة الشعب اللبناني وبطولات المقاومة التي تصدت للاجتياح الإسرائيلي، ومن أبرز تلك الأعمال: لوحة “لبنان المقاومة”، “بيروت في ليل الحرب الأهلية”، و”أطفال حرب لبنان”، وغيرها.   

الرسم من خلال الكلمات

المدرس الذي لقُّب بشاعر اللون، كان يُعلق على جدران مرسمه، إلى جانب لوحاته، قصاصات من الورق، كَتب عليها بعض تجلياته وومضاته الشعرية، التي عكست عالمه الفلسفي الفني، وكشفت عن موهبةٍ شعريةٍ فريدة، إذ كانت الكتابة بالنسبة له نوعاً من الرسم، فمن خلال الحروف كان يرسم صوراً إلى جانب بعضها البعض، ليُخرج لوحةً من الكلمات.

كَتب المدرس القصيدة السريالية متأثراً بصديقه الشاعر الحلبي  أورخان ميسر، رائد الشعر السريالي في سوريا، وشكل شعره خروجاً عن التيارات الشعرية السائدة، في تلك الفترة، وقَدم خيالاً بصرياً حسياً، كَثَّفَ الصورة الشعرية ومنحها بعداً جمالياً وبلاغياً مختلفاً. وقد ساعدته موهبته الشعرية على الدمج بين الشعر والرسم، فأسس بذلك لمدرسة اللوحة التي تتضمن شعراً، وقد اعتمدها من بعده بعض الفنانين الكبار مثل عمر حمدي ويوسف عبدلكي.  

نشر المدرس عام 1962 أول قصيدة له بعنوان “الأميرة” في مجلة القيثارة، الصادرة عن مدينة اللاذقية. وفي العام ذاته نشر ديوانه الشعري الأول: “القمر الشرقي على شاطئ الغرب”، بمشاركة الشاعر شريف خزندار. ثم نشر في العام 1985 ديواناً آخراً بعنوان “الزمن الشيء” بمشاركة حسين راجي.

ونقتبس هنا بعضاً من شذراته الشعرية :

“إن آخر ما يموت في غابة الدهشة هو اللون”.

“الليلة كتبتُ اسمك على أرض غرفتي، ومضيت أتسلق الجدار ماشياً، كما لو أنَّ هذا الكوكب بلا أحذية”.

” بلا حبٍ تنام أشجاري.. انظروا :  أورقت مساميرَ وحروفاً”.

” صوت العاصفة المدمِّرة، أجمل أنواع الموسيقى”.

” هذا المغني قاطع طريق.. يرسم الجبال بصوته”.

” يقف العقل بعدالته الجميلة حزيناً أمام صندوق الرشاوى في الذاكرة”.

” اصنع شمساً .. جميل أن تكون لك شمسك، تتمتع بها مع من تحب دون أن يراها الآخرون”.

” إننا نعاني من فيروس الغضب الجماعي الصامت، الذي لا يسمح بتحريك عضلة واحدة من هذا الوجه الذي بحجم التابوت الإنساني الضخم”.

” في وسخ الأرض أكتشف مغزى ارتفاع السماء”.

 ” الضياء خيوط نسيجٍ، منديل من الشمس سقط على الأخضر.. أرفعُ المنديل، أنظرُ :  زهرة”.

وإلى جانب إبداعه في الشعر برز المُدرس كواحدٍ من أهم كتاب القصة في سورية، وقد نشر عام 1981 مجموعة قصصية بعنوان “عود النعنع” ، فيما أنتجت السينما السورية عام 1974 ثلاث قصصٍ من أعماله ضمن فيلم روائي بعنوان “العار”  تناول معاناة أبناء الريف في زمن الإقطاع، وهو من إخراج بلال صابوني، بشير صافية، ووديع يوسف. وبحسب كثير من المثقفين والنقاد شكلت أعمال المدرس القصصية نمطاً جديداً في مسيرة القصة السورية، حيث دمجت بين التصويري والقصصي، وأضاءت على عوالم وفضاءات حكائية وجغرافية رحبة وغنية، وقُدمت بلغةٍ مشهديةٍ تعبيرية، تحمل طابعاً سينمائياً، كرسته كواحدٍ من الرواد المجددين في عالم القصة السورية. ونستشهد هنا ببعض ما كتبه الأديب سعيد حورانية  في المقدمة التي وضعها لمجموعة “عود النعنع” : “قصص فاتح كأفضل لوحاته، وبعضها من أفضل ما كتبه أدباء اللغة العربية على الاطلاق.. تلعبُ الصورة بوجهٍ عام والصورة الطبيعية بوجهٍ خاص دوراً مهماً في فن فاتح القصصي، فالفنان التشكيلي الكبير لا تخطئه العين في قصصه أيضاً، ولكن الصور هنا ليست إطاراً تزينياً أو استطراداً شكلياً، بل هي كالنهر المُهدد تماماً، تدخل في نسيج الحدث فاعلة ومنفعلة.. ولغة فاتح لغة طازجة ندية متقشفة، فوراء هذه العفوية والبراءة الظاهرية تكمن معلميّة وصنعة في اختيار الكلمة المناسبة، وأحياناً الغريبة، وأحيانا المخترعة. المهم أن تلعب الكلمات دور الألوان في اللوحة، من حيث التوازن والشفافية والإيحاء، فلا تستوقفك ولا تشعر بانفرادها وإنما باندغامها المدهش في مجموع العمل”.

وفي مقالٍ له بعنوان”فاتح المدرس: الفنان السوري الذي حارب من أجل العدالة” يقول الروائي عبد الرحمن منيف عن تجربة المدرس القصصية: “فاتح المُدرس في القصة القصيرة، كما في الفن التشكيلي، أحد الرواد والمعلمين.. كيف تتحول القصة القصيرة إلى ملحمة، إلى نشيد؟ وكيف تستطيع، باقتصادها المتناهي، أن تتحول إلى عالمٍ بهذا الاتساع؟. هذا هو جوهر الفن، وهذا ما يقوله فاتح المدرس بأكثر من شكلٍ وبأكثر من وسيلة”.  

مساهمات وإنجازات

عمل المُدرس أستاذاً في كلية الفنون الجميلة منذ تأسيسها عام 1961، وكان له الأثر الكبير على طلابه، الذين فتح أعينهم وخيالهم على فضاءات جديدة في الفن، وحرر أذهانهم من المفاهيم الفنية التقليدية، وقد تتلمذ على يده أفضل الفنانين التشكيليين السوريين، الذين أصبحوا فيما بعد من رواد الفن التشكيلي الحديث في سوريا، ومنهم: زهير حسيب، عصام درويش، ادوار شهدا، نذير نبعة، وغيرهم. وبين عامي 1981و1991 شَغًل المدرس منصب رئيس نقابة الفنون الجميلة التي كان من أبرز أعضائها المؤسسين، كما كان من الأعضاء البارزين المؤسسين لاتحاد الفنانين التشكيليين العرب، وانتخب عضواً في المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية.

ولم يكتفِ المُدرس بما قدمه من أعمالٍ فنية وأدبية، بل كانت له إسهامات ثقافية أغنت مكتبة الفن التشكيلي في سوريا، حيث نشر عام 1954 مؤلفاً من ثلاثة أجزاء: “موجز تاريخ الفنون الجميلة”، أصبح مرجعاً لأساتذة الفن التشكيلي في المدارس والجامعات. كما شارك المدرس عام 1962 مع محمود دعدوش وعبد العزيز علوان بنشر أول بيان فني عن الفلسفة الجمالية للفن العربي، هذا إلى جانب نشره لبعض الدراسات في النقد الفني المعاصر، ونشر دراسة عن تاريخ الفنون في اليمن قبل الميلاد، ومجموعة محاضرات عن فلسفة الفن ونظرياته منذ عام600 قبل الميلاد، بالإضافة لدراسة عن الكلمة/ الصورة، بالتعاون مع معهد العالم العربي في باريس.

ورغم أن مرسم المدرس كان قبواً رطباً، ضعيف الإنارة ويعاني من مشاكل في التمديدات الصحية إلا أنه كان أشبه بملتقى ثقافي ومحطة إلهام لكثير من الفنانين التشكيلين والموسيقيين والمثقفين، الذين كانوا يقصدونه  ليخوضوا نقاشات بنَّاءة وعميقة عن الفن والأدب والمسرح والسينما، ولينهلوا من تجارب المُدرس وفضاءاته الفنية الواسعة التي تحفزهم على تنشيط طاقاتهم الفنية والابداعية.

وخلال مسيرته الفنية عَرَض المدرس لوحاته إلى جانب  أشهر فناني العالم من أمثال بيكاسو، وكان من الفنانين العرب القلائل الذين بيعت لوحاتهم في مزادات الفن العالمية، كما حصد الكثير من الجوائز والأوسمة، ومنها: جائزة معرض المتحف الوطني في دمشق 1952، جائزة استحقاق من المعرض الدولي في جامعة كليفلاند/ فلوريدا في أمريكا 1952، الجائزة الأولى لأكاديمية الفنون الجميلة في روما 1960، الميدالية الذهبية لمجلس الشيوخ الإيطالي 1962، جائزة شرف بينالي سان باولو/ البرازيل 1963، الشراع الذهبي للفنانين العرب في الكويت 1977، جائزة الدولة للفنون الجميلة في دمشق 1986، جائزة الدولة للفنون الجميلة في الأردن 1992، ووسام الاستحقاق السوري عام 2005. 

 خُلدت أعمال المدرس في معظم متاحف الفن الحديث وفي أبرز المؤسسات الثقافية العربية والعالمية، ومن بينها: المتحف البريطاني، معهد العالم العربي في باريس، المتحف العربي للفن الحديث في الدوحة، المتحف الوطني في دمشق، ومتحف دمر. وقد اقتُنيَت أعماله من قبل أبرز الشخصيات السياسية والثقافية العالمية، مثل: رئيس جمهورية ألمانيا الاتحادية فالتر شيل، والرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، الذي كان صديقاً مقرباً للمدرس، وترجم له بعض قصائده من الإيطالية إلى الفرنسية.

 ويُعد المدرس من أكثر الفنانين العرب إقامة للمعارض عربياً وعالمياً. ونذكر هنا أبرز معارضه ، وفق تسلسلها الزمني :

– عام 1950 أقام المعرض الأول لأعماله الأولى في نادي اللوء بحلب.

– عام 1952 شارك في معرض مركز الصداقة في نيويورك، وأقام معرضاً لأعماله في مركز “لوند” في السويد.

– عام 1955 أقام معرض شخصي في نيويورك.

– عام 1957 شارك في معرض الفنانين العرب في روما.

– عام 1959 أقام معرضاً شخصياً في غاليري “شيكي” في روما (اقتنى الفيلسوف سارتر ثلاثة أعمال للمدرس)

– عام 1960 أقام معرضاً في صالة هسلر في ميونخ/ ألمانيا ، ومثَّل القطر العربي السوري مع الفنان لؤي كيالي في بينالي البندقية.

– عام 1961 شارك في معرض البندقية، ضمن جناح الجمهورية العربية المتحدة (خلال فترة الوحدة بين سورية ومصر) وأقام معرضاً في صالة الفن العالمي الحديث في دمشق.

– عام 1962 أقام معرضاً في صالة “غاليري ون” في بيروت.

– عام 1963 أقام معرضاً في صالة “غاليري ون” في بيروت، وشارك في بينالي سان باولو في البرازيل، وفي المعرض المتجول لفناني الدول العربية في أمريكا اللاتينية. إلى جانب مشاركته في معرض شتوتغارت في ألمانيا الاتحادية.

– عام 1964 شارك في الجناح السوري في معرض نيويورك.

– عام 1965 شارك في المعرض السوري في بيروت (سوق سرقس)، وفي المعرض العربي السوري في موسكو وواشطن.

– عام 1967 شارك في المعرض العربي السوري في لندن، والمعرض العربي السوري في تونس، وأقام معرضاً في غاليري “كونتاكت” في بيروت.

– عام 1968 شارك في بينالي الإسكندرية لفناني دول البحر المتوسط.

– عام 1970 أقام معرضاً في دمشق بعنوان : تحية إلى مالزو (أديب فرنسي)

– عام 1973 أقام معرضاً شخصياً في مونتريال/ كندا

-عام 1976 أقام معرضاً مشتركاً في حلب مع زميله الفنان لؤي كيالي.

– عام 1977 شارك في معرض الفن التشكيلي العربي السوري في عمان، الكويت، المغرب. وأقام معرضاً خاصاً في باريس.

– عام 1978 أقام معرضاً شخصياً في بون/ ألمانيا.  

– عام 1980 شارك في معرض الدول العربية في بون وفرانكفوت. وفي معرضٍ عن الفن السوري في القصر الكبير في باريس.

– عام 1982 شارك في المعرض العربي السوري في صوفيا، والمعرض العربي السوري في تونس والجزائر.

– عام 1983 شارك في معرض الفن التشكيلي السوري في باريس و برلين الشرقية، وفي معرض “كان سورمير” في فرنسا.

– عام 1984 أقام معرضاً خاصاً في المركز الثقافي البلغاري في دمشق، وشارك في المعرض المتجول في دول أمريكيا اللاتينية.

– بين عامي 1986 و1991 شارك في أغلب المعارض الرسمية السورية.  

– عام 1993 أقام معرضاً شخصياً لأعماله في واشنطن.

– عام 1994 أقام معرضاً شخصياً في واشنطن، ومعرضاً استعادياً لأعماله في معهد العالم العربي في باريس.

– عام 1996 أقام معرضاً استعادياً في بيروت.

– عام 1997 أقام معرضاً استعادياً في دبي.

-عام 1998 أقام معرضاً شخصياً في صالة عشتار في دمشق.

توفي المدرس في حزيران/ يونيو عام 1999، بعد معاناة مع مرض السكري والسرطان، وقد تحولت لوحاته، بعد وفاته، إلى تحفٍ وأيقوناتٍ فنية، أشبه باللقى الأثرية النادرة، لتتسابق صالات العرض والمتاحف والمؤسسات الثقافية ودور المزادات الفنية العربية والعالمية على الفوز باقتنائها أو تسويقها، ويُعد المدرس من الفنانين القلائل الذين لم تتوقف عمليات تزوير لوحاتهم حتى بعد وفاتهم، كونها من أغلى اللوحات العالمية وأكثرها مبيعاً.   

المراجع

– جمر تحت الرماد / فاتح المدرس رحلة الحياة والفن، للمؤلف محمد جمعة حمادة. منشورات دار بعل / دمشق 2008 .

– إحياء الذاكرة التشكيلية في سورية/ مختارات من مجموعة المتحف الوطني في دمشق. صادرة عن الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008، والمديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا.

 – “فاتح وأدونيس” ، كتاب صارد عام 2009 بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيل المدرس. الناشر: غاليري أتاسي. يتضمن الكتاب مجموعة حوارات ونقاشات جرت بين المدرس و الشاعرأدونيس عام 1998.

عود النعنع/ قصص قصيرة لفاتح المدرس. المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ الطبعة الثانية 1986

– فيلم “فاتح المدرس” وثائقي من إخراج عمر أميرلاي، أسامة محمد ومحمد ملص.

– موقع أرشيف الشارخ للمجلات الأدبية والثقافية  العربية.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

مهن نسوية ضد النمطية: معقبّات المعاملات مثالاً

مهن نسوية ضد النمطية: معقبّات المعاملات مثالاً

للحروب آثار كارثية على حياة البشر، لكنها كالسيل تجرف في طريقها مقومات القوة وكذلك مقومات الضعف، لدرجة تصل حتى حدود التغيير الجذري. وبالتحديد، يبرز التغيير واضحاً وغير قابلٍ للإنكارفيما يتعلق بالحياة الجديدة للنساء أثناء الحروب وبعدها. إذ غالباً ما تنتفض النساء على وقائع حيواتهن التقليدية ويباشرن الحضور في مواقع جديدة بفعل قوة الاحتياج أولاً وفي ظل غياب وتراجع سيطرة قوى مهيمنة تتحكم تاريخياً بتفاصيل عيش النساء.

ارتبط عمل النساء بعد الحروب بمفهوم الإعالة، فجأة أصبحت الكثيرات وربما الغالبية من النساء معيلات لأسرهن بعد وفاة الأزواج والآباء والأخوة وحتى الأبناء الكبار من ذكور العائلة، أو تغيبيهم أو هجرتهم أو إصابتهم بالعجز التام أو الجزئي عن العمل.

فوضى عارمة عمت في سوق العمل النسائي (إن صح التعريف)، تم تعميم قاعدة ذهبية وهي أن مجال العمل في البيوت كعاملات منزليات أو طباخات أو مقيمات للمرضى والمسنين مفتوح على مصراعيه أمام النساء ويستقبل كل النساء المعيلات أو المتعطلات ويؤمن لهن دخلا كريماً وكافياً، لكن الحقيقة بعيدة جداً عن هذه الفرضية العمياء والتعميمية. الأهم والأكثر إثارة للغضب، أنه تم تثقيل هذه الأعمال النمطية والملتصقة بواقع العمل النسوي ومنحها تراتبية عالية في سلم الأعمال التي تلجأ إليها النساء وخاصة بعد الحروب، لقد منحوها وصفاً عتيقاً ومغرقاً في ظلمه وتمييزه! “عمل شريف” وهذا أحد مكامن تحفيز النساء على اللجوء إليه وحده وحصرياً دون التفكير بأي عمل سواه.

وفي المقلب الآخر وحتى في السلك الحكومي، شهدت الأعمال النمطية والمغرقة في ثباتها كوظائف نسائية، تراجعاً كبيراً. فقد استقال عدد كبير من المعلمات والموظفات والممرضات، بمن فيهم حملة الشهادات العلمية العليا كالمهندسات، بسبب الهجرة أو النزوح أو تغيير أماكن السكن. وتناقص عدد الطبيبات بسبب خروج عياداتهن عن الخدمة أو بسبب تعذر الوصول إلى أماكن العمل. ولحق الضرر أيضاً بالسيدات صاحبات المشاريع الصغيرة لضيق سوق تصريف الإنتاج ولغياب الاستقلالية والخبرة التي تضمن استدامة العمل وعدم المتابعة مع النساء بعد انتهاء الدورات التدريبية وتقديم المنح.

تغير كل شيء، وفي كل تعمق أو تدقيق في المشهد العام نلحظ تغيراً حاداً علينا التقاطه. ومن هذه التغيرات الوجود الملحوظ لظاهرة جديدة هي مهنة تعقيب المعاملات. فمثلاً في بهو بلدية جرمانا، راقبتُ خمس سيدات امتهنّ هذه المهنة التي كانت مصنفة بأنها ذكورية وعصية وممنوعة على النساء. كانت هذه السيدات يتابعن تعقيب معاملات مكلفات بها من قبل أصحابها، ينبغي عليّ الاعتراف بأنني اليوم عرفت سرهن العظيم لأول مرة، العديد من المراجعين/ات لم ينتبهوا لهن، ظنوا أنهن مراجعات وربما موظفات، ربما لأن الجميع لم يتساءل عن مبرر وجودهن هنا، وربما لأن الغالبية العظمى لا تتخيل أن نساء قد انخرطن في مهنة تعقيب المعاملات.

 تقول إحداهن (و.س) وتبلغ من العمر اثنين وأربعين عاماً، وهي زوجة شهيد حرب: “فجأة وجدت نفسي امرأة وحيدة في مهب الريح، أنا وثلاث بنات، حاصلة على الشهادة الثانوية وبيئتي وعقلي يرفضون أن أعمل في الخدمة المنزلية، استعرضت كافة الأعمال النمطية المعروضة أمامي كامرأة، لكني رفضتها فوراً بمجرد مرورها أمام مخيلتي، فكرت بعمل خاص ومستقل يدر دخلاً كريماً وكافياً لأربع نساء يزداد احتياجهن مع الوقت ومع تضاعف  وتضخم الغلاء وصعوبة تفاصيل العيش اليومية.” وتتابع: “خضعت لدورة تدريبية وبعد الامتحان انتسبت لنقابة معقبي المعاملات.” تقول (و.س) أن عدد المعقبات في دمشق قد وصل لألفي امرأة، وأن اعدادهن في مدينة جرمانا لوحدها قد بلغ خمس عشرة امرأة.

تعتمد النقطة المركزية في اختيار هذا العمل على إرادة السيدات بأن يكنّ صاحبات عمل  ومستقلات ولديهن دخل يعتبرنه كافياً لإعالة أنفسهن وعائلاتهن، أو على الأقل أكثر وفرة من رواتب النساء الموظفات أو من العاملات في البيوت وفي قطاع الخدمات الهامشية وغير المحمية أو المسجلة في نقابات أو مؤمن عليها بشركات تأمين وخاصة لضمان حمايتهن من إصابات العمل وجور أصحاب العمل.

تعرفت إلى خمس معقبات معاملات، كلهن معيلات، زوجات وأمهات وبنات وأخوات لأفراد يحتاجون الدعم والسيولة، لكن التعامل معهن مختلف تماماً، حيث لا مكان للشفقة ولا للامتهان المباشر، اللافت أنهن متعاضدات ويساعدن بعضهن البعض.

شكت المعقبّة (ر.ع) من الرفض العلني لهن من قبل الموظفات بصورة رئيسية، ومن عدم تقبل وجودهن في الدوائر الرسمية، بسبب ترسخ الصورة النمطية أن تعقيب المعاملات مهنة ذكورية! مع أن إحدى المديرات الداعمات لهن أوضحت بأن عملهن متقن بشدة، وبأنهن أقل فجاجة من المعقبين الرجال وأقل ضجيجاً، كما أنهم لا يملن للتزوير أو الابتزاز ولا حتى للرشوة، إضافة إلى اهتمامهن الواضح بالصورة النهائية لكل معاملة وبرأي ورضا الموظفين والموظفات في الدوائر أو المكاتب التي يتابعن المعاملات فيها.

أجابت أصغر المعقبّات سناً (ل، ن) على سؤال رضا الأهل أو المجتمع عن هذه المهنة قائلة: “في البداية لم يعلم أحد بطبيعة عملي، أنا طالبة جامعية في كلية الحقوق، فمن الطبيعي أن الجميع معتاد على خروجي اليومي من المنزل خاصة وأني أعيش في بيئة اجتماعية ضيقة والجميع يعرفون بعضهم، مع الوقت شكت لي والدتي بأن البعض قد قال لها وفي تساؤل غير بريء بأنني أدور من مكان لآخر، وأن البعض قد رآني في عدة أماكن بصورة يومية، تخيلوا لم يسألني احد من الذين رأوني في عدة مراكز ودوائر أتابع فيها معاملاتي عن سبب وجودي هناك، رسموا سيناريو محدد (اتهامي بالطبع) لعجزهم عن تقديم أي إجابة عليه وتبادلوه ثم رماه البعض في وجه أمي.” وتضيف (ل، ن): “حين واجهتهم أمي بطبيعة عملي، اختلف تقييمهم، البعض هنأها على شجاعتي وتدبيري والبعض كرر أنها مهنة لا تليق بالنساء، أما الغالبية فقد باتت تلجأ لاستشارتي بقضايا تستلزم التعقيب والمتابعة.”

 لا تشكو المعقبات بشكل صريح من رفض معقبي المعاملات الرجال لتواجدهن في الدوائر والمحاكم، بل لاحظنا شكلاً من أشكال المساندة بين النساء والمعقبين الشباب خاصة وأغلبهم طلاب جامعيون ويعملون مستقلين أيضاً، أي أنهم لا يملكون مكاتب خاصة لتعقيب المعاملات،  لكن وفي الحقيقة ثمة صراع خفي بين المعقبّات وأصحاب المكاتب العقارية ومكاتب تعقيب المعاملات لأنهم يعاملون المعقبّات وكأنهن قد استولين على أرزاقهن. قال أحد أصحاب المكاتب العقارية صراحة شاكياً ظهور المعقبّات على ساحة العمل: “اتسلبطوا على شغلنا سلبطة!” وأضاف: “تعمل في مكتبي سيدتان، لكن مهامهما محددة، تصوير تنضيد، أرشفة، استقبال المراجعين ويكفي!”

ما بين تعتيم غير مقصود على دخول النساء معترك مهنة تعقيب المعاملات وما بين قبول ورفض إداري ومجتمعي واقتصادي ومهني لحضورهن المميز، تكرّ حبات المسبحة، وتنفرط العقد المتأصلة عقدة إثر عقدة، بحذر، برفض صامت أو بمواجهة معلنة، لا يهم، المهم أنهن هناك وفي كل مكان، قادرات ويملكن قرارهن، سعيدات تملؤهن الثقة والرضا ويملؤنا الأمل بوجود أوسع وأكثر فاعلية وقوة وتقبّل.

اقتراحٌ نقديٌّ في تأسيس مَنهج التَّأويل (الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) للانزياح: المَنهج (الأنطو/ ثقافيّ) 3 من 3

اقتراحٌ نقديٌّ في تأسيس مَنهج التَّأويل (الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) للانزياح: المَنهج (الأنطو/ ثقافيّ) 3 من 3

العولمة، ومَنهج التَّأويل (الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) للانزياح في الكتابة الإبداعيّة

ب_ التَّأويل الثَّقافيّ للانزياح:

أنهيْتُ حتّى الآن تأسيس (التَّأويل الأُنطولوجيّ للانزياح) في الكتابة الإبداعيّة، وأستكمِلُ تشييد هذا المَنهج عبرَ (التَّأويل الثَّقافيّ) المُكمِّل للتَّأويل الأنطولوجيّ _ في اعتقادي _، ولا سيما في عصر العولمة، بما يُقدِّمُهُ هذا التَّأويل الثّاني من إمكانيّات واسِعة لفَهم الانزياحات الاجتماعيّة والثَّقافيّة والحضاريّة والتِّقنيّة في النُّصوص الإبداعيّة، ذلكَ أنَّ عنوان البَحث يشي بفكرة تقليب الأنساق الثَّقافيّة المُنفتِحة في العَوالِم الكتابيّة؛ أي يتطلَّعُ إلى دراسة (انزياح أساليب الوجود في الكتابة الإبداعيّة بينَ مُطابَقات العولمة واختلافاتِها).

تُعرَّفُ المُطابَقةُ عبرَ تعريف نظام التَّمركُز، وهو: “نسَقٌ ثقافيّ مُحمَّلٌ بمعانٍ ثقافيّة (دينية، فكريّة، عرقيّة) تكوَّنت تحتَ شروط تاريخّية مُعيَّنة، إلا أنَّ ذلكَ النَّسَق سُرعان ما تعالى على بُعدِهِ التاريخيّ”[1]. ومن هُنا تُوصَف الهُوِيّة التّاريخيّة المُتمركزة بهذا الوصف لكونها تتجرَّدُ من بُعدِها التّاريخيّ لتكون هُوِيّة مُستقرّة وكونيّة تطمس كُلّ العناصر التي تعارضُها وتستبعدها[2]. وفي هذا الإطار تتشكَّلُ الذّات بوصفها مركزاً يُمثِّلُ المبدأ الواحد[3]، وتستندُ إلى معنىً مُحدَّد للهُوِيّة قوامُهُ الثَّبات، والدَّيمومة، والتَّطابُق، الأمرُ الذي يحفَظُ لها مرجِعيَّتها المُحوريّة في أيِّ فعل بوصفها الذات المُفكرِّة الواعية والمُطلَقة النَّقاء[4].

لقد مهَّدَ هايدجر لما عُرف بفكر (الاختلاف) الذي سعى إلى مُجاوَزة نظام المُطابَقات التَّمركزيّة، وتفتيت وَحدة الذات، انطلاقاً من عكسه (الكوجيتو) الدّيكارتيّ: (أنا أفكِّر، إذن، أنا موجود)، ليُصبح معه: (أنا موجود، إذن، أنا أفكِّر)، وذلك بقوله بتجاوز الذات لهُوِيّتها الثابتة والمحوريّة بالوجود في العالَم، ومع الآخرين في تجربة عيانيّة معيشة[5]، حيث يتمُّ بناءً على هذا الفهم فصمُ الوَحدة الدّيكارتيّة المُتعالية بين الذات بوصفها الموجود المُتحكِّم، والعالَم بوصفه الوجود المُتحكَّم به، وهو ما يهدف إلى تفتيت وَحدة الذّات بفتح وجودها على العالَم الخارجيّ، والقضاء على مركزَّيتها، الأمر الذي يعني “مُجاوزة ثنائيتَي الداخل _ الخارج، والذّات _ الموضوع”[6]، ثُمَّ يتيح للذّات أن تنبسِط في الخارج إلى أقصى الحدود، وأن تُبعثِر داخلها بتشتيته في كلّ ما هو خارجيّ يؤدّي إلى التَّشظّي والتباعُد والانتشار.

إنَّ الانتشار أو التَّشتيت (التَّشتُّت) Dissemination هو أحدُ المصطلحات التي جَعَلَ منها دريدا أداةً تقويضيّة، ويعني بها تكاثُر المعنى وانتشاره بطريقة يصعب ضبطُها والتّحكُّم بها. فهذا التَّكاثُر المُتناثر ليسَ شيئاً يستطيعُ المرء إمساكه والسيطرة عليه، إنّما يوحي بـِ (اللَّعب الحر free Play) الذي هو حركة مستمرة تُثير عدم الاستقرار والثّبات[7]، وتُرسي تعدُّد الذات اللامتناهي بديلاً عن الوَحدة اللامُتناهية، حيث إنّ الأصل هو انتشار الدلالة وتشتُّتها[8].

ووفق هذا المفهوم سعى فلاسفةُ الاختلاف (فوكو _ دريدا – دولوز) إلى مُجاوزة نظام التّمركز التَّطابُقيّ بالدّعوة إلى مفهوم (الاختلاف)، وهو نقضٌ لمركزيّة الذّات بالتَّعدُّد، ونفي المحدود[9]؛ ذلكَ أنَّهُ مفهومٌ يقومُ على المُغايَرة وعدم التَّشابه والتَّشتُّت وإرجاء المعنى بوصفه حركة توليد الفوارق[10]. فالاختلاف هوَ من طبيعة الذات أكثر مما هيَ من طبيعتها، لأنَّ “الذّات هي مسافة الاختلاف دائماً حتّى عن كُلّ ما هو الأقرب إليها، إلى حدّ الالتصاق. فما أن يُقالَ عن شخصٍ إنَّهُ هو كذا، حتّى يُحِسَّ فوراً أنَّهُ ليسَ كذلكَ تماماً، مهما تلبَّسَهُ ذلكَ التَّعيين”[11]. ومعنى هذا أنَّ مفهوم الاختلاف يُخلخِلُ مفهوم الهُوِيّة المُتمركزة للذات من داخلها، ويهزُّ مفهوم النّموذج الأصلي[12]، وهو ما يخلقُ فهماً لذات جديدة تستجمعُ المُتناقضات لا بوصفها وَحدة، لكن بوصفها اختلافاً مُتحرِّكاً ديناميكيّاً؛ أي بوصفها تغايُراً مع نفسها[13].

وبنقل هذا الفَهم لجدَليّة المُطابَقات التَّمركزيّة والتَّشتيت الاختلافيّ إلى مُستوى أشمَل يتعلَّق بأساليب وجود الذّات الفرديّة والجمعيّة في العالَم، وذلكَ بما يتواءَم مع دراسة الانزياح الذي يُفترَضُ أنْ تحدثُهُ العولمة في عَوالِم النُّصوص الكتابيّة الإبداعيّة، ينبغي أنْ أستكمِلَ التَّأويل (الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) للانزياح بتوظيف (النَّقد الثَّقافيّ) في تحليل (أساليب وجود) العَوالِم الإبداعيّة بينَ مُطابَقات العولمة الاجتماعيّة والثَّقافيّة والحضاريّة والتِّقنيّة، واختلافاتِها.

إنَّ أول من استخدم مصطلح (النَّقد الثَّقافيّ) هو فنسنت ليتش، وأراد بهذا الاستخدام وصف نوع من النقد يتجاوز البنيوية وما بعدها، والحداثة وما بعدها، لبلوغ نقدٍ يستخدم علم الاجتماع والتاريخ والسياسة والمؤسساتية، دون أن يتخلى عن مناهج النقد الأدبي[14]. لكنَّهُ يجترئ على الفنون الأدبية، معيداً النّظر فيها على أساس علاقتها بالثقافة، دون المبالاة بما قاله النقد الأدبي فيها[15].

وأستطيع أنْ أُحدِّدَ طريقة توظيف (النَّقد الثَّقافيّ) عبرَ التَّأويل (الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) لانزياح أساليب وجود عَوالِم النُّصوص الإبداعيّة، اعتماداً على مفهوم (النَّسَق)، حيثُ يرى الدُّكتور الغذّامي أن النَّسَق يتحدَّدُ “بوظيفته، وليس بوجوده المجرّد، والوظيفة النَّسقيَّة لا تحدث إلّا في وضع محدّد ومقيّد، وهذا يكون حينما يتعارض نسقان أو نظامان من أنظمة الخطاب أحدهما ظاهر والآخر مُضمَر، ويكون المُضمَر ناقضاً وناسخاً للظّاهر. ويكون ذلك في نصّ واحد، أو في ما هو في حكم النَّصّ الواحد”[16]. والنَّسَق بوصفه دلالةً مُضمَرةً، فـَ “هذه الدّلالة ليست مصنوعة من مؤلِّف، ولكنها (مُنكتبة) ومنغرسة في الخطاب، مُؤلِّفَتُها الثَّقافة، ومستهلكوها جماهير اللُّغة من كُتّاب وقرّاء، يتساوى في ذلك الصغير مع الكبير، والنساء مع الرجال، والمُهمَّش مع المُسوَّد”[17]

والأن، بعدَ أن قدَّمتُ مَعالِم مَنهج التَّأويل (الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) للانزياح، أستطيع أنْ أقول: إنَّ ما انشغلَتْ به مُقارَبتي التَّطبيقيّة انطلاقاً من عنوانِها العريض المُهتمّ بِـ (انزياح أساليب الوجود في الكتابة الإبداعيّة بينَ مُطابَقات العولمة واختلافاتِها)، يتعلَّقُ بدراسة جدَليّات (نسَقيْن عامّيْن) تنبسطُ عبرهُما (أساليبُ وُجودِ) العولمة، هُما:  

1_ أساليبُ وُجودِ المُطابَقات بما هيَ تمركُزات ناهِضة على الحُضور، وبوصف هذا الحُضور نسَقاً ظاهِراً لتلكَ الكيفيّات (الوجوديّة/ الثَّقافيّة) التي ينطوي عليها الانزياح في عوالِم الكتابة الإبداعيّة في عصر العولمة.

2_ أساليبُ وُجودِ الاختلافات بما هيَ تشظٍّ وتشتُّت ناهِض على الغِياب، وبوصف هذا الغِياب نسَقاً مًضمَراً لتلكَ الكيفيّات (الوجوديّة/ الثَّقافيّة) التي ينطوي عليها الانزياح في عَوالِم الكتابة الإبداعيّة في عصر العولمة.

وقد تمَّ تحليل (جدَليّات) هذيْن النَّسَقيْن المحموليْن على الانزياح بوصفِهِما جُمْلة تحوُّلات وتغيُّرات مُفترَضة أحدثتْها العولمة في الكتابة الإبداعيّة عبرَ أربعة مُستويات تبسطُ (أساليبَ وُجودِ) العلاقة النَّسَقيّة/ الانزياحيّة (الجدَليّة) في عصر العولمة، هيَ:

1_ انزياحُ أساليبِ الوُجودِ في عَوالِم الكتابة الإبداعيّة في عصر العولمة بينَ منظومة القيَم من ناحية أُولى، وسُلطة السُّوق وثقافة التَّسليع والاستهلاك من ناحية ثانية.

2_ انزياحُ أساليبِ الوُجودِ في عَوالِم الكتابة الإبداعيّة في عصر العولمة بينَ التَّماسُك المَعرفيّ من ناحية أُولى، وسُيولة انتقال المَعلومات من ناحية ثانية.

3_ انزياحُ أساليبِ الوُجودِ في عَوالِم الكتابة الإبداعيّة في عصر العولمة بينَ الهُوِيّة المحلِّيّة من ناحية أُولى، والهُوِيّة العولَميّة من ناحية ثانية.

4_ انزياحُ أساليبِ الوُجودِ في عَوالِم الكتابة الإبداعيّة في عصر العولمة بينَ الحُرِّيّة (يوتوبيا الرَّفض) من ناحية أُولى، والعُبوديّة (سُلطة القهر الاستلابيّ والقَبول الاختياريّ) من ناحية ثانية.

هذا، وقد أشرْتُ في مُقدِّمة هذا البَحث (في جزئِهِ الأوَّل) إلى أنَّ هذا المنهج غير مَحكوم (كمَا أطمَحُ وأتمنَّى) بدراسة نُصوص حقبة العولمة، فحسب؛ إنَّما هوَ منهجٌ مَفتوحٌ وقابِلٌ للتَّطبيق (كمَا أدَّعي وكمَا أعتقدُ أيضاً)، على نُصوصٍ شتَّى من أيِّ عصرٍ أو مكانٍ أو جنسٍ، فالأمرُ ليسَ منوطاً بمُحدِّداتٍ أو مُسَبَّقاتٍ مَعرفيَّةٍ أو نظَريَّةٍ أو أيديولوجيَّةٍ حاكِمَةٍ ومُتحكِّمَةٍ؛ بل إنَّ التَّجرِبةَ والتَّجريبِ بمَا ينبسِطُ عبرَهُما من اختبارٍ وخبرَةٍ ومُراجَعاتٍ وإضافاتٍ ومُواكَباتٍ عصريَّة هُمَا المحكُّ، وهُمَا المُطوِّرانِ كمَا يُفترَضُ، وهذهِ القضيَّةُ هي إحدى أهمّ مُنطلَقات التَّسويغ (النِّسبيّ) لوَجاهَةِ تقديم هذا الاقتراح/ المشروع، والاستمرار بالاشتغال عليهِ مُستقبَلاً. 

مُلحَق حولَ التَّسمية الاصطلاحيَّة للمَنهج:

(الأنطو/ ثقافيّ)

عرضْتُ فيمَا سَبَق المادَّة التَّأسيسيَّة لمَنهج التَّأويل (الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) للانزياح كمَا وردَتْ في كتابي (انزياحُ أساليبِ الوُجود في الكتابة الإبداعيَّة بينَ مُطابَقاتِ العولمة واختلافاتِها)، لكنَّ ما ثبَّتُهُ في (العُنوان الفرعيّ) أوَّل هذا البَحث بأجزائِهِ الثَّلاثة، كانَ اقتراحاً اصطلاحيَّاً جديداً (وهوَ لم يكُن مَوجوداً أو مَنشوراً في الكتاب) غايتُهُ اختزالُ اسمِ المَنهج بِـ: (المَنهج الأنطو/ ثقافيّ)، تسهيلاً للتَّداوُل والاستخدام والإحالات.     

انتهى.


[1] عبد الله إبراهيم: المركزيّة الغربيّة _ إشكاليّة التّكوُّن والتَّمركُز حول الذات (بيروت _ لبنان: المؤسسة العربية للدِّراسات والنشر، ط2، 2003) 11.

 [2]يُنظَر: المرجع السّابق، 12.

[3] عبد الوهاب المسيري: العلمانيّة الجزئيّة والعلمانيّة الشّاملة (القاهرة _ مصر: دار الشروق، ط1، 1423هـ _ 2002م) مج2، 454.

[4]عبد الله إبراهيم: المركزيّة الغربيّة، 11.

[5]يُنظَر: صالح شقير: مُقدّمه في الفلسفة العامّة (دمشق _ سورية: منشورات جامعة دمشق _ كلية الآداب، 1424 _ 1425هـ / 2004-2005م) 249. ويُنظَر: فتحي المسكيني: نقد العقل التأويلي، 130.

[6]عبد السلام بنعبد العالي: أسس الفكر الفلسفيّ المُعاصِر _ مُجاوَزة الميتافيزيقا (الدار البيضاء _ المغرب: دار توبقال _ ضمن سلسلة المعرفة الثَّقافيّة، ط2، 2000) 87.

[7]يُنظَر: ميجان الرّويلي وسعد البازعي: دليل النَّاقد الأدبيّ _ إضاءة لأكثر من سبعين تيّاراً ومُصطلحاً نقدياً مُعاصراً (الدار البيضاء _ المغرب، بيروت _ لبنان: المركز الثقافي العربيّ، ط3، 2002) 119_ 120.

[8]يُنظَر: عبد الغني بارة: الهرمينوطيقا والفلسفة _ نحو مشروع عقل تأويليّ (الجزائر العاصمة _ الجزائر، بيروت _ لبنان: منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 1429هـ _ 2008م) 40.

[9] يُنظَر: بشير تاوريريت: الحقيقة الشعرية على ضوء المناهج النقدية المعاصرة والنظريات الشعريّة _ دراسة في الأصول والمفاهيم (إربد _ الأردن: عالم الكتب الحديث، ط1، 1431هـ  _ 2010م) 232 .

[10] يُنظَر: عبد الله إبراهيم: المركزيّة الغربية، 391. ويُنظَر: عمر مهيبل: من النّسق الى الذّات _ قراءة في الفكر الغربي المـُعاصر (الجزائر العاصمة _ الجزائر,بيروت _ لبنان: منشورات الاختلاف _ الدار العربية للعلوم ناشرون ، ط1، 2007م) 44.

[11] مُطاع صفدي: هل يمكن سُكنى العالم شِعريّاً؟ _ العودة من تشظيّ الذّاتويّة الى (فنّ) الانهمام بالذّات؟ (مجلة الفكر العربي المعاصر _ مركز الإنماء القومي: بيروت _ لبنان، باريس _ فرنسا: ع 108 _ 109، شتاء 1999) 23.

[12] يُنظَر: عبد السّلام بنعبد العالي: أسس الفكر الفلسفيّ المُعاصر، 153 _ 154.

[13] يُنظَر: عمارة ناصر: الفلسفة والبلاغة _ مقاربة حجاجيّة للخطاب الفلسفيّ (الجزائر العاصمة _ الجزائر، بيروت _ لبنان: منشورات الاختلاف _ الدّار العربيّة للعلوم ناشرون، ط1، 1430 هـ _ 2009 م) 63 _ 64.

 [14]يُنظَر: عبد الله محمد الغذّامي: النقد الثقافي _ قراءة في الأنساق الثقافية العربية (بيروت _ لبنان، الدار البيضاء _ المغرب: المركز الثقافي العربي، ط2، 2001) 31_ 32. ويُنظر: إبراهيم محمود خليل: النقد الأدبي الحديث _ من المحاكاة الى التفكيك (عمّان _ الأردن: دار المسيرة للنَّشر والتَّوزيع والطِّباعة، ط3، 1431 هـ _ 2010م)  138 _ 139.

[15] يُنظَر: المرجع السّابق، 140.

[16] عبد الله محمد الغذّامي: النقد الثقافي، 77.

[17]المرجع السابق، 79.

عندما يبكي السوريون

عندما يبكي السوريون

يقول الكرد في أمثالهم، أو حكمتهم التي ترافق مناسبات العزاء، عن المعزين: ” كلٌّ يبكي على موتاه.. أو كلٌ يبكي على نفسه.”

كان الوقتُ ليلاً، قبل منتصفه، سمعتُ بنبأ رحيل الصديق الروائي خالد خليفة في دمشق، بدايةً شعرت بوخزةٍ في صدري، ربما كانت مما وخزه قبل ساعات ورماه طريحاً الى الأبد.

بداية لم أفعل شيئا، أغمضتُ عيني ورحت أتذكر: كنا معاً في حلب.. كنا معاً في دمشق، كنا معاً في ديار بكر.. وآخر اتصال بيننا حدث وهو في سويسرا حين حل عليها ضيفاً ككاتبٍ. يومها تحدثنا عن زيوريخ التي أعرفها جيداً،  وتحدثنا عن الفن و الأدب السويسريين من إلياس كانيتي مروراً  بجاكوميتي ودورينمات وماكس فريش وبول كلى وغيرهم… وصولاً الى  مانو خليل، وقممٍ كماترهورن ويونغ فراو وبيلاتوس.

ثم عاد خالد الى الشام التي يحبها، الشام التي عرفها خالد كما عرف قبلها حلب وعفرين التي ولد فيها أو حولها. في حلب، في أواخر الثمانينيات، كنا مجموعةً من الأصدقاء، كتاب وشعراء وفنانين تشكيليين ومسرحيين وروائيين، نجلس في مقهى القصر، أو نسهر ليلاً في بيت صديقنا الشاعر لقمان ديركي، حيث كان أهله قد خصصوا له منزلاً كاملاً، فحوّل لقمان البيت الى مأوى لكل الأصدقاء المقطوعين من “أهلهم ومدنهم” في تلك المدينة الساحرة: خالد خليفة، محمد فؤاد، صالح دياب، عبداللطيف خطاب الذي سبقنا جميعاً في الرحيل، ثم عنايت عطار، رشيد صوفي، مروان علي، أحمد عمر، خطيب بدلة، محمد عفيف الحسيني، وآخرون كثر لم تعد تسعفني الذاكرة في استحضارهم.

كان خالد وقتها يكتب الشعر، وقد كثر الشعراء، ويبدو أنّ هذا لم يرق لصديقنا خالد فاتجه صوب الرواية، لينشر أولى رواياته “حارس الخديعة” والتي لم ترق لنا وقتها، وانتقدناه كثيراً حول أسلوبه الذي مزج بين الشعر والنثر، فضاعت خيوط الرواية منه ومن القارئ، وبالطبع كان معلمنا في ذلك الحين الشاعر والروائي السوري الكردي سليم بركات الذي كنا نقلده جميعاً.

ثم تفرقنا، من كان يؤدي الخدمة العسكرية عاد الى بلدته، ومن كان يدرس في جامعة حلب تخرج منها وغاب، ومن كان يعمل في السياسة تم اعتقاله أو فرّ الى مكانٍ آمن. وبعد سنوات اجتمعنا من جديد ولكن هذه المرة في دمشق، ودمشق لم تكن كحلب، فليس لدينا صديق كلقمان يفتح لنا باب بيته لنسكن ونأكل فيه، فبدأنا بالبحث عن غرف للإيجار في دمشق الشام، وأغلبنا سكن باب توما لأسبابٍ كثيرةٍ، فهو الحي الأكثر انفتاحاً، والأكثر تقبلاً لمزاج مجموعات من الفنانين والكتاب والشعراء، يعملون في النهار، وفي الليل يصرفون ما لديهم في باراتها، ويخرجون آخر الليل يصرخون ويغنون في أزقتها الضيقة.

 وصارت جلساتنا ولقاءاتنا تتم في مقهى الروضة نهاراً، وليلاً في نادي الصحفيين او في بيت الشاعر الراحل بندر عبدالحميد، وهنا تعرفنا على أصدقاء جددٍ كنا نقرأ لهم، أو نراهم يمثلون على الشاشات، وعلى كتاب وشعراء وفنانين، صحيحٌ أننا لم نكن كلنا منسجمين فكرياً، إلا أنّ أغلبنا يحمل هم الإبداع وحب دمشق. تعرفنا على العشرات من الكتاب والشعراء العراقيين المنفيين في دمشق، وكذلك على أصدقاء شعراء وكتاب لبنانيين يأتون بين الحين والآخر الى الشام.

في هذه الأثناء اتجه خالد خليفة إلى كتابة سيناريوهات تلفزيونية، وتميزت مسلسلاته بنكهة حلبية صافية، فيها من عبق التاريخ وكذلك ” المسكوت عنه ” الكثير، ولعل هذا الاتجاه جعله يتجه تماماً الى الرواية، فكان لرواياته صدى طيب، لا سيما وانه استفاد كثيراً من تجربته المرئية، ومن هنا أيضاً تشعبت علاقات خالد بأوساط عديدة، ممثلين وممثلات، منتجين ومخرجين وشباب وشابات يبحثون عن إنجازٍ ما، وكان خالد ودوداً ومحباً للجميع.

لم يكن خالد ممن يتحزبون إلى هذا أو تلك، كان صديقاً للجميع، ودوماً يدهشني بنقائه، وعدم اغتيابه لأحد، حتى لو كان هذا  “الأحد” يناصبه الحسد أو الحقد، ومن هنا كان أشبه بنسيمٍ ضاحكٍ في كل مكانٍ يصل إليه، يخلق أجواءً مرحةً وحميميةً، يرقصُ في البيت والبارات ويدلق النشوة على الساهرين. أذكر مرةً كنا في اسطنبول، وقد دعانا صديقٌ قديم من أصدقائنا  الفارين من حملة الاعتقالات في منتصف الثمانينات، إلى مطعمٍ وبارٍ مليءٍ بالشباب اليساريين وهناك بدا أنّ لصديقنا صاحب الدعوة حظوةً لدى مدير المطعم إذ خصص لنا طاولة في مكانٍ مرتفعٍ، مخصصٍ للضيوف المميزين. وما أن جلسنا حتى التفت إلينا الجميع، إذ سمعونا  نتكلم بلغةٍ غير لغتهم، فتحلقوا حولنا، وبدأ خالد يتفاهم معهم ليس بلغتهم ولا بإنكليزيته الركيكة. يومها التقطنا أنا وخالد من المحيطين بنا كلمة: كارداش، أي الأخ، وصارت الكلمة مفتاح لقاءاتنا وأحاديثنا، “كيفك كارداش”، “أين أنت كارداش؟” ومنذ سهرة اسطنبول تلك وحتى اليوم، لم نعد ننادي بعضنا بأسمائنا، وبالعودة الى تلك السهرة اكتشفنا أنّ لصديقنا الفار العديد من الأسماء. فكان فرج بيرقدار، الذي كان معنا في السهرة، يناديه باسم بيشمركه، حيث كانا معاً في حزب العمل الشيوعي المحظور. أما لقمان ديركي فكان يناديه بـ”سمير”، وأنا كنت أناديه باسم “فرات”، في حين رحب به صاحب المطعم، ورحبت به المغنية التركية باسم ” باقي”. ضحكنا جميعاً ولم نعد نعرف بأي اسم نخاطب صديقنا، وحده خالد قال ليلتها:” الأفضل أن نرقص ونحن في ضيافة العثمانيين، ورفع كأس العرق، وضعه على جبينه وراح يرقص متمايلاً واندهشنا من عدم فقدانه للتوازن، كان يرفع الكأس يشرب منه، ويعيده لفوق جبينه و يرقص الرقصة الحلبية المسماة ” قبا ” أو (السبعة ابه)، و تتألف من سبع دقات كما يقول الحلبيون، وأربع حركات بطيئة، أو حسب المزاج، كانت هذه الإضافة من شرح خالد. أثناء تلك الرقصة نهضنا جميعاً لنشاركه، والتم علينا رواد المطعم جميعاً، والتفوا حول خالد يصفقون له، حتى أن المطربة  أثناء الاستراحة جاءت لتجلس بجانبه، أو في حضنه، وقد حسدناه جميعاً. لم نكن ندري أن خالداً ومن يومها كان يحاول أن يشبع من هذه الحياة “القصيرة جداً”،  ولهذا أيضاً، كان هاجس الموت يلازمه، ووجده “عملاً شاقاٌ”، فتناساه، حتى جاء إليه على غفلة منه ومنا جميعاً، لنهتف لبعضنا-  نحن أصدقاءه  ونستفسر هل مات خالد حقاً؟ كيف ولماذا ومتى؟ وكلنا حاول أو حلم بأن يكذب الخبر أحدٌ ما في تلك الليلة، لكن هيهات.

والآن مات خالد خليفة، وبكى عليه كل من عرفه او قرأ رواياته، وهنا أود الإشارة الى أنّ السوريين وبعد دزينة من سنوات القهر والبؤس والتنكيل، وخيبتهم تجاه العالم، كل العالم، كانوا بحاجة الى شخص مثل خالد خليفة، يُحول ليل دمشق الى متنفسٍ للحلم، وبارقة أمل بأن القادم سيكون أفضل، وأن دمشق لم يغب عنها كل عشاقها، وأن سوريا ورغم كل الدمار والكره والحقد والحرب والرعب، والزنازين سيظل فيها شخص أو أكثر يقول للصامتين: ” لن نترك البلد جميعاً.” كما لو أن السوريين كانوا بانتظار من يترجم لهم قصيدة رياض صالح الحسين:

” يا سورية الجميلة السعيدة

 كمدفأةٍ في كانون

يا سورية التعيسة

 كعظمة بين أسنان كلب

يا سورية القاسية

 كمشرط في يد جرَّاح

نحن أبناؤك الطيِّبون

 الذين أكلنا خبزك و زيتونك و سياطك

أبدًا سنقودك إلى الينابيع

 أبدًا سنجفِّف دمك بأصابعنا الخضراء

 ودموعك بشفاهنا اليابسة

أبدًا سنشقّ أمامك الدروب

ولن نتركك تضيعين يا سورية

 كأغنيةٍ في صحراء.

كان خالد صدىً لهذه القصيدة، في كل روايةٍ، وكل حوارٍ، و كل سهرةٍ، وفي كل بارٍ، كان يلتم حوله الشباب والصبايا، ليرقص خالد، رافعاً كأسه، مترجماً مفردات هذه القصيدة الى رقصة “القبا” الحلبية، مؤكداً أنّ السوريين ورغم قلة الحيلة، ورغم الصمت القاتل، ورغم الرعب، يهمسون لبعضهم : لن نتركك تضيعين يا سوريا.

إن الخيبة التي عاشها ويعيشها السوريون منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة، مدت رأسها في موت خالد ورحيله، شعروا أنهم تيتموا من جديد، فبكوا على حالهم. صحيحٌ أن الأصدقاء وغيرهم ساروا في جنازته والدموع تنهمر من عيونهم المرعوبة عليه، ولكن الحقيقة أنهم كانوا يبكون على أنفسهم وعلى سوريا التي تضيع كلما رحل عنها شخص مثل خالد. رحل قبله أحبةُ لنا وبكينا عليهم وعلى أنفسنا، لقد رحل بندر عبدالحميد، ورحل عادل محمود، وحاتم علي، وعمر أميرلاي وآخرون كثر، لكن رحيل خالد وضع السوريين أمام مرآة وجعهم الشاسع، وحيرتهم الطاغية. فقد كان وجوده في دمشق ما يشبه حارساً لها من خديعة عالمٍ أجرم بحق السوريين جميعاً، وكان الكل يريده في دمشق ليشهد لها وعنها ومنها، ليقول لهم ما لا يجرؤون عليه،  لهذا بكوا على أنفسهم فيه، لأنهم أيقنوا أن الجميلين والأنقياء تتفجر طحالهم من القهر كالغزلان، و تتيبس شرايين قلوبهم قبل الأوان. وإذ بكينا على خالد فإنما نبكي على أنفسنا، وعلى قتلانا الكثر طيلة هذه السنوات الدامية.

اقتراحٌ نقديٌّ في تأسيس مَنهج التَّأويل (الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) للانزياح: المَنهج (الأنطو/ ثقافيّ) 2 من 3

اقتراحٌ نقديٌّ في تأسيس مَنهج التَّأويل (الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) للانزياح: المَنهج (الأنطو/ ثقافيّ) 2 من 3

العولمة، ومَنهج التَّأويل (الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) للانزياح في الكتابة الإبداعيّة

أ_ التَّأويل الأُنطولوجيّ للانزياح:

أهمَلتِ المناهِجُ العلميّة _ المنطقيّة البُعْدَ الأُنطولوجيّ لِلُّغة، مُكتفيةً بِالنَّظَر إليها في جانبِها الأداتيّ، وارثةً عنِ الفَلسفة التَّقليديّة موقفها من الانفعال والخَيال والحواسّ بوصفِهم في مرتبة أدنى من العَقل[1]، وساعيةً لتفسير النَّصّ الشِّعريّ ذاتيّاً وموضوعيّاً، ذلكَ بإخضاعه لقواعد تقنيّة _ قياسيّة، أو إجراءات منهجيّة مُؤسَّسة على البُرهان الحِسابي[2]. وانطلاقاً من هذا، جاءَ اقتراح الاستعاضة عن المناهج العلميّة بِالتّأويل[3]، بعد نزع الحُمولة النَّفسيّة من عمليّة الفهم، من حيث إنَّ التَّأويل ينتقل من الإشكاليّة النَّفسيّة لحياة الغَير، إلى الإشكاليّة الأُنطولوجيّة التي تسعى لِفهم الكائن في العالَم؛ أي بِانتقال الفَهم من كونِهِ عمليّة عقليّة تسعى لِفَهم مسألة الغير، إلى كونِهِ عمليّة وجوديّة تسعى لِفَهم مسألة العالَم[4]. وهو الأمر الذي يربط التَّأويل بالقضيّة الأكثَر عُمقاً، ألا وهيَ اللُّغة، من حيث إنَّ الكائن لا يُفهَم إلا في مَجال التَّكلُّم بِاللُّغة[5]

لعلَّ الإشكاليّة الأكبَر في المناهج الشَّكليّة تكمن _ في اعتقادي _ في مسألة فصل اللُّغة عن الوجود، وهيَ الآليّة التَّجريديّة التي تُفقِدُ دراسة نصوص الكتابة الإبداعيّة حيويتَها الكيانيّة، وتُحوِّل الانزياح إلى تقنيّة قاصِرة _ كما ذكرْتُ من قبل _، ولا سيما بما يُتوَقَّع أنْ يتصدَّى لهُ هذا المُصطلَح بوصفِهِ أداة مفهوميّة وإجرائيّة لتفحُّص التَّحوُّلات الاجتماعيّة والثَّقافيّة والحضاريّة والتِّقنيّة التي يُفترَض أنَّ العولمة أحدَثتْها في النُّصوص، ومن هُنا أقدِّمُ اقتراحي الآتي في هذِهِ الدِّراسة، بتأسيس مَنهج (التَّأويل الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ للانزياح في الكتابة الإبداعيّة):

لقد سعى مارتن هايدجر منذ كتابه العمدة “الكينونة والزمان” إلى تأويل الوجود “بمنهج ظاهراتيّ، يرسم طريقاً أنطولوجيَّاً جديداً في مقابل البدايات الخاطئة التي اتَّسمت بها دراسة علم الوجود منذ العصور القديمة”[6]، وفي هذا المنحى قامَ هايدجر بعملية صهر وإعادة إنتاج لثلاثة اتجاهات فكرية كبرى، وذلك في ضوء عمله القائم على تأسيس علم للوجود[7]عُرِفَ بالأنطولوجيا الأساسيةfundamental Ontology، فأخذ عن دلتاي بعض مرتكزات التَّأويليّة، وأخذ عن كيركيجارد بعض مرتكزات الوجوديّة، وكان التأثير الأكبر لأستاذه هُسِّرل فطوَّر فلسفته الظّاهراتيّة لينقلها من إطار قصديَّة الوعي إلى إطار قصديَّة الوجود. 

إنَّ ما دُعِيَ المنعرج اللُّغويّ Linguistic turn [8]عند هايدجر يعني في جوهره الاختلافيّ “أنَّ اللُّغة وليس الأنساق الفلسفيّة هي بيت الوجود”[9]، ليكونَ ذلكَ لُبّ مشروعه الهادف إلى تقويض ميتافيزيقا الحضور The Metaphysics of presence التَّقليديّة[10]. وهو الأمر الذي شكَّل في فكر ما بعد الحداثة[11] مُرتكزاً أساسيّاً لمَا اصطُلِح على تسميته بِـ (مجاوزة الميتافيزيقا Overcomming of Metaphysics) بما أورثتهُ من ثقةٍ عمياء بالعقل المنطقيّ[12]، الذي اعتُمِدَ ليكون مساراً وحيداً وجاهزاً للبراهين والتَّفسيرات الحسابيّة[13]، وهي المسألة التي انتهتْ “بالتَّفكير إلى افتقار ماهيّته الشِّعريّة”[14].

وهكذا، لم تعُد اللغة في فهم هايدجر “هُنا والوجود هُناك”[15]؛ أي إنَّهُ لا ينظر إلى الواقع المُعطَى لتجربتنا بوصفِهِ مُستقلاً عن اللُّغة، كأنَّها مرآتُهُ، أو كأنَّ أشياءَهُ موضوعات موجودة خارج اللغة، ويتمُّ إحضارُها ميتافيزيقيّاً، إنَّما ينظر إليها بوصفها وجوداً في الكينونة، أو بمعنىً أدقّ بوصفها لغة الكينونة، مُتجاوزاً بذلك النظرة التّقليديّة إليها[16]، حيث تكفُّ الكلمات واللُّغة عن أن تكونا “لفائف تُعبّأُ بها الأشياء لكي يتبادَلَها أولئكَ الذين يكتبونَ أو يتحدَّثون. إنّما في الكلمات واللغة تدخل الأشياء إلى الوجود”[17]. وبهذا لا تكون اللغة مُجرَّد أداة اتصال لتبادل المعلومات الصحيحة، أو وسيلة تعبير عن الأفكار؛ إنّما هي المكان الذي يكشف فيه الواقع عن ذاته، وتتحَّركُ ضمنَهُ الحياة الإنسانيّة[18]. وهو المعنى الذي نجده كذلك عند (جادامر) تلميذ هايدجر؛ إذ إنَّ اللغة لديه ليست مُجرَّد رسم للواقع، إنّما هي حالة وجودّية تشتمل على الوقائع التجريبية وتتجاوزها في الوقت ذاته، لكونها وسطاً حيوياً نعيش فيه ونتنفس به[19]، فهي بهذا المعنى الحدث الماهويّ الذي يكسبنا ملامحنا وأساليبَ وجودنا، ويُمكِّننا من الانفتاح على المجهول. ولو أنَّ ماهيَّتنا لم تكُنْ “تتضمَّن القدرة على اللُّغة، لكان كُلُّ وجود مُنغلقاً أمامَنا، بما فيه وجودُنا نفسه. فلولا اللُّغة لمَا أمكَنَ أن يكون، ولا أمكن أن يوجد بأي أسلوب يُمكِن أن نتخيّله”[20].

وبناءً على هذا الفهم، أقولُ إنَّهُ “حيثُ توجَد لغة يوجد عالم”[21]، وإنَّ هذا العالَم اللُّغويّ هو المكان الذي تنفتح فيه أساليب وجود الحياة، و“تأتي ضمنَهُ الذّات للإجابة عن السؤال عن ماهية الوجود”[22]،حيث أصبح الوجود يُفهَم “وفقَ تأسيسه باللغة”[23]؛ أي بقيام اللغة بتلكَ “الوظائف التي كانت تُعزَى من قبل إلى الوجود ذاته”[24]، فمقاربة العالَم على هذا النَّحو هي حكماً مقاربة للغة التي تفتحه[25]؛ أي بما هو عالم التَّغيُّر والعَمل والقرارات والمشروعات وكُلّ الكيفيّات الوجوديّة المُتنوِّعة، ومن ثمَّ فإنَّهُ حيثُ يوجد عالم، يوجد تاريخ[26].

وبنقل هذا الفَهم النّاهِض على تجذُّر الوجود في اللُّغة بوصفِها عالَماً، أُعيِّنُ الأساس الأوَّليّ لدراسة الانزياحات المُفترَضة التي أحدَثتها العولمة في نصوص الكتابة الإبداعيّة اجتماعيّاً وثقافيّاً وحضاريّاً وتقنيّاً، حيثُ أنقلُ هذِهِ الرُّؤية إلى فضاءات تلكَ النُّصوص،  فإذا كان وجود اللغة يعني وجوداً لعالَم ما، فإنَّه من الطَّبيعيّ أن يستقدِمَ العملُ الكتابيّ الإبداعيّ عالَماً[27]؛ ذلكَ أنَّ جادامر يعتقد أنَّ “جوهر واقعة الحقيقة التي تَحْضُرُ في العَمَل الفنيّ هو أنَّها تَنفتِحُ على مجال مفتوح”[28]، وهذا المجال الذي يدلّ عليه العَمَل الفنيّ هو ما يُسمِّيه بِـ “الزِّيادة في الوجود” [29].

وهذا يُعيدنا إلى هايدجر الذي يرى أنَّ النَّصَّ الأدبيَّ ليس تعبيراً عن حقيقة داخليّة لِلمُبدِع، إنّما هو تجرِبة وجوديّة. وكما أنَّ اللُّغة ليسَتْ ذاتيَّة ولا موضوعيّة، فكذلكَ النَّصّ الأدبيّ ليسَ ذاتيّاً ولا موضوعيّاً، بل هو تجرِبة وجوديّة تتجاوّزُ الذَّاتيّة والموضوعيّة[30].

إنَّ “شيءَ النَّصّ اللاّمحدود” كما يدعوه ريكور هُوَ العالَم المبسوط أمامَ النَّصّ؛ أي بِوصفِهِ ذلك الانفتاح المُتعلِّق بِالامكانيّات الجديدة النّابعة من قُدرتِهِ على أن يقذفَ نَفسَهُ خارِجَ ذاتِهِ ويُوَلِّد عالَماً[31]. فالنَّصّ يؤسِّس لدى ريكور“مرجعيته الخاصّة الكامِنة في ذاتِهِ والمُتمثِّلة في عالّمِهِ الذي يُحيلُ إليه أو أفعاله التي يُنتجها وتُعبِّرُ عن نشاطِهِ ووظيفتِهِ. مثلما أنَّ النَّصّ يُحرِّر دلالتَه من وصاية القصديّة المُتعالية بِاستقلالِهِ عن مؤلِّفه، كذلكَ يُحرِّرُ أيضاً مرجعيَّتَهُ من المرجعيّة المُباشرة، بِاستقلالِهِ عن العالَم الخارجيّ. وهُنا يكمُنُ شرطُ إمكان الفهم، لأنَّ ما هو مُعطى لِلفهم ليسَ قصديّة المُؤلِّف أو الواقِع الخارجيّ، وإنَّما العالَم المُمكِن الذي يفتتحُهُ النَّصّ”[32]. وبناءً على ذلك فإنَّ العَمَلَ الفنِّيَّ “يفتتِحُ وُجودَ الموجود بِطريقتِهِ”[33]؛ أي يفتتِحُ عالَماً “لَمْ يُوجَدْ على هذا النَّحو قطّ”[34]، فَفعلُ “إقامة الحقيقة لنفسها في العَمَل هو إنتاج موجود من هذا النَّوع، لم يكن مِنْ قَبْل”[35]؛ إذ إنَّ النَّصّ الكتابيّ وإِنْ كان يُشير إلى عالَم سابِق عليه، لكنَّهُ ليسَ مُتًّجِهاً نحو الخارِج بفعل العلامات، كما أنَّهُ ليسَ مُؤسَّساً على بِنية موضوعيّة تُغْلِقُهُ على ذاتِهِ، إنَّما هو يُعرَضُ في وُجودِهِ الخاصّ، دافِعاً المُتلقّي للِتَّأمُّل فيه[36].

لعلَّ استقلال نصوص الكتابة الإبداعيّة عن قصديّة مُؤلِّفِها من جانبٍ أوَّل، وعن العالَم الخارجيّ من جانبٍ ثانٍ، لا تعني الانغلاق الحدِّيّ والقطيعة التّامّة عن هاتين المرجعيتين؛ إنَّما تعني الاستقلاليّة النِّسبيّة التي تمنَحُ النُّصوص الكتابيّة صفة (العالَم) الخاصّ بها، والذي ينزاح في أساليب وجودِهِ الخاصّة (قليلاً أو كثيراً) عن قصديّة المُؤلِّف وعالَمِهِ الخارجيّ، ذلكَ أنَّ مفهوم التَّأويل الأنطولوجيّ للانزياح في عوالِم الكتابة الإبداعيّة ولا سيما في عصر العولمة ينبغي _ كما أظنّ _ أنْ يتجاوَز تلكِ النَّظرة الضَّيقِّة التي ترى أنَّ النُّصوص موضوعات مُنعكسة، أو بنى لغويّة مُجرَّدة؛ إنَّما هي عوالِم لها (ماهيّاتها) العيانيّة المُختلِفة، التي لا تُعيَّن مُسَبَّقاً، إنَّما تبعاً لأساليبِ وجودٍ تَفْتَحُ النَّصّ الكتابيّ الإبداعيّ على أبعادِهِ الوجودية المُمكِنة، بما هوَ في اعتقادي (بُؤَرة جدّليَة) تمنح “إمكانية التَّوتُّر والصِّراع بينَ الظاهِر والخفيّ، بينَ الظَّلام والنُّور، بينَ المقول والّلامقول”[37]، حاملةً في مُنبسَطِها كُلّ سِمات العالَم؛ ذلكَ أنّها تنطوي على كلّ ما هو موجود من أشياء، وعلى كُلّ ما يُشكِّل البيئة البشريّة أو الميدان Setting الذي تُعاش فيه الحياة البشريّة[38]. فعالَم النَّصّ ميدانٌ بصريٌّ مفتوح لِلاهتمام concern بِوصْفِ هذا المُصطلح يدُلُّ على العلاقة المُعقَّدة التي يُشير إليها حرف الجرّ (في) في عبارة (الوجود في العالم)؛ إذ تشمل بصفة عامّة الطُّرقَ التي لا نهاية لها التي تصطدم بها مصالح الإنسان مع الموجودات المحيطة من حوله، مُتفاعلاً معها تبعاً لفعاليّات الاهتمام الإيجابيّة أو السَّلبيّة، ولاسيما تلك النَّشاطات المُتَّصلة بِتسخير البيئة المُحيطة لِخدمته، من تعامل واستخدام وطعام وشراب وبناء وصناعة وزراعة وتنقُّل وتدمير وعُدوان وإزالة عقبات[39]، وغير ذلك من الأفعال التي لا تنفصل بِحالٍ من الأحوال عن وجود الإنسان مع الآخرين، بِوصفِهِ عُنصراً أساسيّاً من عناصر الوجود البشريّ في العالَم اليوميّ الذي يقتضي دُخول عدد غير محدود من الناس في علاقات وأعمال مُتشابِكة ومُتبادَلة[40].

ففي نصوص الكتابة الإبداعيّة “يوجد أُناس يعملون، أو يتألَّمون، وأكثر من هذا، تُعَدُّ النُّصوص ذاتها أفعالاً”[41]، وفي هذا المنحى يُطوِّر هايدجر“القصديّةَ إلى قصديّة في مجال الفعل، وإلى دلالة حقيقيّة لِفكرة العالَم المَعيش”[42]. فحركيّة عالَم النَّصّ تعني أنَّ “العَمَل الإبداعيّ فعلٌ معيش”[43]، وعندما نتَّجه إلى دراستِهِ وفقَ التَّأويل الأنطولوجيّ للانزياح، ينبغي أنْ نُطبِّق قاعدة إدموند هُسِّرل الأشهر في فلسفتِه (الظاهراتيّة Phemonenology)، والتي تقول بِـ “قصديّة الاتّجاه إلى الأشياء ذاتِها”[44] كما تنفتِح أمامَنا.

وعلى الرَّغم من أنَّ هُسِّرل كانَ يُريد عبرَ قصديتِهِ مُجاوَزة وَحدة الذّات المُتعاليّة، باتّخاذ العالمَ المَعيش موضوعاً للتّأمُّل؛ إذ اكتشف “بدلاً من الذات المثاليّة المنغلقة داخل مجالها الخاصّ بالمعنى، كائناً حيّاً لهُ عالم”[45]، مُركِّزاً انتباهه “على الحقائق البسيطة للعالَم المعيش، من قبيل: إنّني لي بدن، وإنّني أحيا في جماعة مُشترَكة، وإنَّ العالَم يوجد…إلخ”[46]. وبهذا المعنى اهتَّم ببناء التجربة المعيشة بوصفها اللقاء الأول بين الوعي والعالَم[47]، غير أنَّ محاولة هسرل لإخراج الذات من قوقعتها قد انتكستْ عندما قادته آليّاته القصديّة المنهجيّة “إلى وعي متعالٍ لا يرى للعالَم أي وجود متعالٍ على الذات”[48]، وهيَ المسألةُ التي انتهت بالظاهراتية إلى شكل من المثالية المُتطرِّفة التي أحالت الكون إلى أفكار ومضمون باطنّي للوعي[49].

لقد انطلق هايدجر، تلميذ هُسِّرل اللَّدود، من هذه الإشكالية تحديداً، رافضاً أن نردّ الأشياء إلى الأنا الخالص[50]؛ فننظر إلى العالَم من قمّة جبل، في حين أنَّنا مندمجون أصلاً بموضوع شُعورنا[51]، لينتقل بفكرة القصديّة من قصديّة الوعي Intentionality of consciousness إلى قصديّة الوجود الإنسانيّ Intentionality of Being  بوصفه مُتَّجهاً نحو العالَم، ومفتوحاً على الوجود[52].

وعلى هذا النَّحو، طوَّرَ هايدجر فكرة القصديّة، ناقلاً مركز ثقل الذات من الوعي إلى الوجود[53]، مُتجاوِزاً بذلك مثاليّة هُسِّرل المُتعالية التي اختزلتِ الوجود داخل حدود قصديّة الوعي نفسه، نحو علم للوجود يسعى إلى اختزال الوعي نفسه، إلى جانب فهم الوجود الإنسانيّ، والموجودات، داخل حدود قصديّة الوجود[54]. فماهيّة ظواهر الوجود الإنسانيّ هيَ بنظره على صلة عميقة بظواهر الوجود ذاته[55]، وما يُظهِر الظاهرة نفسها هو حقيقة الوجود الذي نتَّجه إليه[56]، بالشّكل الذي يكشف عن نفسه في عالَم الخبرة المعيشة[57]. وهيَ المسألة التي تسمح للظاهرة بإظهار ذاتِها بأساليب عديدة أحياناً[58]، ذلكَ لأنَّ معناها قد تغيَّر مع هايدجر من (مقولة – إدراك) إلى (طريقة – وجود)[59]

وهكذا، تُصبح رُؤيتُنا المَنهجيّة للانزياح بوصفِهِ تأويلاً أُنطولوجيّاً ناهِضةً على مُستويين:

1_ النَّظَر إلى نصوص الكتابة الإبداعيّة على أنَّها (عَوالِم)، تنبسِطُ فيها أساليب الوجود (طرُق الوجود) المُتنوِّعة بما هيَ (أي هذِهِ العَوالِم) ميادين اهتمام وحياة وصراع.

2_ النَّظَر إلى آليّات دراسة هذِهِ النُّصوص في عصر العولمة عبرَ قصديّة الاتّجاه إليها كما تنفتِح أمام الدّارِس؛ أي بما هيَ قصديّة وجود تتَّجه نحْوَ عَوالِم نصوص الكتابة الإبداعيّة لتحليل (أساليب الوجود) فيها كما تنبسط أمامَنا، وهو الفَهم الذي يستفيد جوهريّاً من اعتقاد ريكور أنَّ الجُملة تُمثِّل وَحدة الخطاب الأساسيّة لكونِها وَحدة الحدَث الفِعليّ الذي لا يُمكِن أنْ تحقِّقه العلامة اللِّسانيّة؛ أي الكلمة المُفردة[60]. وهذا ما يدعوه (علم الجُملة) التي هي كُلٌّ غير قابل للتجزئة إلى كلمات بما هي معنيّة بمفهوم المعنى (الفحوى Sense)[61].

يتبع… 


[1] يُنظَر: محمَّد طواع: هايدجر والميتافيزيقا _ مُقارَبة تُربة التَّأويل التِّقنيّ للفكر (الدار البيضاء _ المغرب: أفريقيا الشَّرق، 2002) 137 _ 138.

[2] يُنظَر: المرجع السّابق، 61، 137 _ 138. ويُنظَر: سعيد توفيق: في ماهيّة اللُّغة وفلسفة التَّأويل (بيروت _ لبنان: مجد المُؤسَّسة الجامعيّة للدِّراسات والنَّشر والتَّوزيع، ط1، 1423 هـ _ 2002 م) 145 _ 146. ويُنظَر: سعيد توفيق: الخبرة الجماليّة _ دراسة في فلسفة الجمال الظّاهراتيّة (بيروت _ لبنان: المُؤسَّسة الجامعيّة للدِّراسات والنَّشر والتَّوزيع، ط1، 1992) 127.

[3] يُنظَر: عمارة ناصر: اللُّغة والتَّأويل _ مُقارَبات في الهرمينوطيقا الغربيّة والتَّأويل العربيّ الإسلاميّ (الجزائر العاصمة _ الجزائر: منشورات الاختلاف، بيروت _ لبنان: دار الفارابي _ الدار العربيّة للعلوم ناشرون، ط1، 1428 هـ _ 2007 م) 15.

[4] يُنظَر: المرجع السّابق، 71. ويُنظَر: بول ريكور: من النَّصّ إلى الفعل _ أبحاث التَّأويل، ترجمة: محمَّد برادة وحسّان بورقيّة (القاهرة _ مصر: عين للدراسات والبُحوث الإنسانيّة والاجتماعيّة، ط1، 2001) 69.

[5] يُنظَر: عمارة ناصر: اللُّغة والتَّأويل، 71.

[6] مارتن هايدجر: أصل العمل الفنِّيّ، ترجمة: أبو العيد دودو (كولونيا _ ألمانيا: منشورات الجمل، ط1، 2003) 10، من مُقدِّمة المُترجم.

[7] يُنظَر: فؤاد كامل عبد العزيز: فلاسفة وجوديّون (القاهرة _ مصر: الدار القوميّة للطِّباعة والنَّشر، ط ]د.ت[) 7.

[8] يُنظَر: فتحي المسكيني: نقد العقل التَّأويليّ _ أو فلسفة الإله الأخير _ مارتن هايدجر _ من الأنطولوجيا الأساسيّة إلى تاريخ الوجود _ 1919 _ 1944 (بيروت _ لبنان: مركز الإنماء القوميّ، ط1، 2005) 9.

[9] المرجع السّابق، 37.

[10] يُنظَر: عبد السَّلام بنعبد العالي: أسس الفكر الفلسفيّ المُعاصِر _ مُجاوَزة الميتافيزيقا (الدار البيضاء _ المغرب: دار توبقال _ ضمن سلسلة المعرفة الثَّقافيّة، ط2، 2000) 39 _ 59.

[11] يُنظَر: ميشيل فوكو: الكلمات والأشياء، ترجمة: مطاع الصَّفدي وآخرون (بيروت _ لبنان: مركز الإنماء القوميّ _ مشروع مطاع الصَّفدي للينابيع، 1989 _ 1990) 9، من مقدمة المُترجِم.

[12] يُنظَر: محمَّد طواع: هايدجر والميتافيزيقا، 36، 58.

[13] يُنظَر: ميشيل فوكو: الكلمات والأشياء، 9، من مقدمة المُترجِم. ويُنظَر: سعيد توفيق: في ماهيّة اللُّغة وفلسفة التَّأويل، 18.

[14] يُنظَر: محمَّد طواع: هايدجر والميتافيزيقا، 71.

[15] د. سعيد توفيق: ماهيّة اللغة وفلسفة التأويل، 61.

[16] يُنظَر: عادل ضاهر: الشعر والوجود _ دراسة فلسفيّة في شعر أدونيس (دمشق _ سوريّة: دار المدى للثَّقافة والنشر، ط1، 2000) 271-273. ويُنظَر: إبراهيم أحمد: إشكالية الوجود والتقنية عند مارتن هايدجر، (الجزائر العاصمة _ الجزائر: منشورات الاختلاف، بيروت _ لبنان: الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 1427 هـ _ 2006 م) 86.

[17]عادل مصطفى: فهم الفهم _ مدخل إلى الهرمينوطيقا _ نظَريّة التَّأويل من أفلاطون إلى جادامر (القاهرة _ مصر: رؤية للنشر والتوزيع، ط1، 2007) 232.

[18] يُنظَر: تيري إيغلتون: نظريّة الأدب _ مدخل، ترجمة: ثائر ديب (دمشق _ سوريّة: دار المدى للثَّقافة والنَّشر، ط1، 2006) 107.

[19]يُنظَر: ماهر عبد المحسن حسن: جادامر _ مفهوم الوعي الجماليّ في الهرمنيوطيقا الفلسفية (بيروت _ لبنان: دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع _ المكتبة الفلسفية _ إشراف: أحمد عبد الحليم عطيّة، 2009) 90، 249.

[20] عادل مصطفى: فهم الفهم، 258 .

[21] سعيد توفيق: في ماهية اللغة وفلسفة التأويل، 130.

[22] فتحي المسكيني: نقد العقل التأويلي، 39.

 [23]إبراهيم أحمد: إشكالية الوجود والتقنية عند مارتن هايدجر، 86 .

[24] جون ماكوري: الوجوديّة، ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام، مراجعة: فؤاد زكريا (الكويت: سلسلة عالم المعرفة – سلسلة كتب ثقافية شهرية يُصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 58، ذو الحجّة/مُحرَّم، 1402هـ _ أكتوبر/ تشرين الأول، 1982) 219.

[25] يُنظَر: عمارة ناصر: اللغة والتأويل، 67.

[26] يُنظَر: مارتن هايدجر: هلدرلن وماهيّة الشِّعر، من كتاب “مارتن هايدجر _ في الفلسفة والشِّعر، ترجمة وتقديم: عثمان أمين (القاهرة _ مصر: الدار القوميّة للطِّباعة والنَّشر _ مكتبة نفائس الفلسفة الغربيّة، 1963) 86.

[27]عادل مصطفى: فهم الفهم، 267 .

[28] ماهر عبد المحسن حسن: جادامر _ مفهوم الوعي الجماليّ في الهرمنيوطيقا الفلسفية، 124.

[29] هانز _ جيورج جادامر: تجلّي الجميل ومقالات أخرى، تحرير: روبرت برناسكوني، ترجمة ودراسة وشروح: سعيد توفيق (القاهرة _ مصر: المجلس الأعلى للثقافة _ المشروع القومي للترجمة، 1997) 119.

[30] يُنظَر: محمّد عزّام: اتجاهات التأويل النَّقديّ _ من المكتوب الى المكبوت _ دراسة (دمشق _ سورية: منشورات الهيئة العامّة السّوريّة للكتاب _ وزارة الثَّقافة _ في نظريَّة الأدَب (3)، 2008) 87.

[31] يُنظَر: بول ريكور: من النَّصَ الى الفعل، 25، 96_ 101.

[32] محمّد شوقي الزّين: تأويلات وتفكيكات، _ فصول في الفكر الغربيّ المُعاصِر (الدّار البيضاء _ المغرب _ بيروت _ لبنان: المركز الثَّقافيّ العربيّ، ط1، 2002) 77.

[33] مارتن هايدجر: أصل العمل الفنَّي، 93.

[34] المرجع السّابق، 45، من مدخل هانز _ جيورج جادامر لِهذا الكِتاب.

[35] المرجع السابق، 130.

[36] يُنظَر: سعيد توفيق: في ماهيّة اللُّغة وفلسفة التَّأويل، 134. وينظَر: مارتن هايدجر: أصل العمل الفنِّيّ، 44، من مدخل هانز_ جيورج جادامر لِهذا الكتاب.

[37] المرجع السّابق 111.

[38] يُنظَر: جون ماكوري: الوجوديّة، 112.

[39] يُنظَر: المرجع السّابق 119.

[40] يُنظَر: المرجع السابق، 151.

[41] بول ريكور: من النَّصّ الى الفعل، 4.

[42] سعيد توفيق: الخبرة الجماليّة، 80.

[43] فريد الزّاهي: النَّصّ والجسَد والتَّأويل (الدّار البيضاء _ المغرب: أفريقيا الشَّرق، 2003) 26.

[44] يُنظَر: سعيد توفيق: الخبرة الجماليّة، 23. ويُنظَر: تيري إيغلتون: نظريّة الأدب، 96. ويُنظَر: عادل مصطفى: فهم الفهم، 192.

[45] يُنظَر: هشام معافة: التأويلية والفن عند هانز جيورج جادامر (الجزائر العاصمة _ الجزائر، بيروت _ لبنان: منشورات الاختلاف _ الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 1431هـ  _ 2010م) 70.

[46] سعيد توفيق: الخيرة الجماليّة، 45.

 [47]يُنظَر: محمّد شوقي الزين: تأويلات وتفكيكات، 48.

[48] يُنظَر: سعيد توفيق: الخبرة الجماليّة، 37.

[49] يُنظَر: عادل مصطفى: فهم الفهم، 207.

[50] يُنظَر: عبد الغفّار مكاوي: نداء الحقيقة _ مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهايدجر “ماهية الحقيقة، نظرية أفلاطون عن الحقيقة، اليثيا: هيراقليطس _ الشذرة السّادسة عشر” (القاهرة _ مصر: دار شرقيّات للنّشر والتّوزيع، ط1، 2002) 63.

[51] يُنظَر: رامان سلون: النظريّة الأدبيّة المُعاصرة، ترجمة: سعيد الغانمي (بيروت _ لبنان، عمان _ الأردن: المؤسسة العربية للدراسات والنشر _ دار فارس للنشر والتوزيع، ط1، 1996) 163.

[52] يُنظَر: سعيد توفيق: الخبرة الجمالية، 80، 133. ويُنظَر: عدنان بن ذريل: الفكر الوجودي عبر مصطلحه _ دراسة (دمشق _ سوريّة: منشورات اتّحاد الكُتّاب العرب، 1985) 212.

[53] يُنظَر: سعيد توفيق: الخبرة الجمالية، 79-80.

[54] يُنظَر: المرجع السّابق، 325.

[55] يُنظَر: سعيد توفيق: في ماهية اللُّغة وفلسفة التّأويل، 125.

[56] يُنظَر: عبد الغفّار مكاوي: نداء الحقيقة، 63-64.

 [57]يُنظَر: عادل مصطفى: فهم الفهم، 214.

 [58]يُنظَر: سعيد توفيق: الخبرة الجمالية، 81.

[59]يُنظَر: فتحي المسكيني: نقد العقل التأويلي، 76.

[60] يُنظَر: بول ريكور: نظريّة التَّأويل _ الخطاب وفائض المَعنى، ترجمة: سعيد الغانميّ (الدار البيضاء _ المغرب، بيروت _ لبنان: المركز الثَّقافيّ العربيّ، ط1، 2003) 31 – 32.

[61] يُنظَر: المرجع السّابق، 31 _ 33.