بواسطة وداد سلوم | ديسمبر 5, 2024 | Cost of War, Culture, News, Reviews, العربية, مقالات
لم تكن النجمة الذهبية التي فاز بها الفيلم السوري “ذاكرتي مليئة بالأشباح” مناصفة مع الفيلم المصري “رفعت عيني للسما” في مهرجان جونة السينمائي في القاهرة مؤخراً، هي الجائزة الأولى له، فقد شارك في عدة مهرجانات حتى الآن وحصل على الجائزة الأولى في مهرجان الأفلام الوثائقية في الدانمارك، وعلى إشارة خاصة للتميز في مهرجان رؤى الواقع في سويسرا، وجائزة أفضل قصة في المهرجان السينمائي الدولي في بوينس آيرس.
وهو من إنتاج ملتقى هارموني الثقافي، في حمص وأول فيلم طويل للمخرج السوري أنس زواهري الذي نشأ في المدينة. ولهذا يضع عبارة عريضة في بداية الفيلم: “من جديد ها أنا في حمص، مدينتي القديمة، عائداً لئلا ينال النسيان مني، لأصنع لنفسي ذاكرة مما تبقى، فملأت الأشباح ذاكرتي”. نعم تغيرت المدينة وحين تسمع قصصها ستدرك حجم ما جرى.
فالفيلم يروي قصص عينة من أبناء حمص بلسانهم وماذا فعلت الحرب بهم وكيف تركتهم. وكأن زواهري أراد أن يكون جزءاً من الفيلم الذي لا يمكن التنبؤ بأثره على المشاهد ولكنه من المؤكد ليس بالقليل.
المكان حمص القديمة، البداية كاميرا ثابتة في المكان المشغول بالدمار مع حركة خفيفة للبشر كأنهم يسيرون في فلك هذا الدمار وبقايا الحرب الشاخصة، حيث يفرض الواقع ثقله على المشهد، فما زالت شواهد الحرب تنتصب، وما زال الخراب يسرق الأنظار رغم حركة الحياة على جوانبه. البيوت المهدمة والصور العائلية المرمية والتالفة في الأرض، الجدران المتصدعة والكنائس المحروقة والجوامع التي سقطت أحجارها، طرق أغلقت بالأتربة، مدينة الألعاب التي بقي منها القضبان فقط والساحات الخالية كل هذا الخراب يوحي بالأرواح التي غادرت وكأن أشباحها تسكنه.
تتجول الكاميرا في الشوارع لتقدم وجه المدينة، حيث يتجاور الدمار مع البيوت المسكونة، وتعيش بقايا الحرب مع الناس وتشاركهم المكان، السيارات المحروقة والدكاكين بواجهاتها المكسرة، مع بسطات الخضار الطازجة، واجهات الأبنية المخترقة بالرصاص، الشرفات التي هبط سقفها كأنها عيون أغمضت، ثم الغسيل على أخرى. يتجاور السواد والبياض والأبنية القديمة المهدمة والحجارة الأثرية مع بيوت الإسمنت كأن الموت والحياة جنباً إلى جنب في مشهد المدينة الذي جمع المتناقضات، حركة الناس في الشوارع والمقاهي الفارغة. يقول أحد السكان: “الحياة الاجتماعية باتت ممزوجة بالقهر والحزن والأشخاص يميلون للعزلة والوحدة” في إشارة لغياب الحياة الحقيقية. من المؤسف أن يتحدث الشباب عن سطوة الحزن في أعماقهم حيث كل شيء يأخذك إلى الحزن.
تتنوع الإجابات عن علاقة الناس بالمدينة والمكان. تقول فتاة إن علاقتها بالمدينة مضطربة فرغم حبها لها هناك أشياء أقل من عادية لكنها هنا غير ممكنة. تقول أخرى: “لم يعد لي أحد هنا لكنني أحب المدينة وبقيت لأقدم لها شيئاً”.
شكلت الحرب مفصلاً قاسياً في حياة الشباب الذين كانوا في بدايتها ليسوا أكثر من أطفال انتزعوا من طفولتهم على صوت الرصاص والقصف وفقدان الأمان وفقدان أحبتهم، فكان الجرح قاسياً. لقد غيرت التجربة حياتهم. تتوالى أصوات الرواة في الفيلم ويخبروننا عن تجاربهم و يعرون الوجه الوحشي للحرب التي يدفع الأبرياء فيها أثماناً باهظة لا يمكن استردادها. ولم يتوقف ذلك حتى بعد انتهاء الحرب التي أرخت على الحياة الجديدة بظلها بعد عودة الناس إلى المدينة التي غادروها مرغمين بسبب الحصار والاشتباكات المشتعلة حتى تم إغلاقها، إذ تغيرت الأخلاق والحياة والبشر.
تروي الفتاة كيف قُتل والدها بالخطأ لمروره في لحظة بدأ فيها تبادل إطلاق الرصاص بين الطرفين المتحاربين: (الجيش “النظامي”، والجيش الحر) ليجمع في جسده رصاصهما كأنه جسد المدينة/الوطن. وتستيقظ العائلة على فقدان الأب والمعيل وكأنهم جميعاً أصابتهم الحرب في مقتل لتحمل وهي في هذا العمر الصغير عبئاً ثقيلاً. أما الشاب فيروي قصة أخيه الذي خطف من قبل من كانوا أصدقائه قبل الحرب فكانوا سجانيه في حمص القديمة وحين تحرر اعتقل على حاجز الجيش بتهمة تشابه الأسماء وبقى مفقوداً يبحثون عنه حتى تم تسليم هويته لوالده مع شهادة وفاة موقعة قبل عام إذ مات “بأزمة قلبية” في المعتقل.
ما تعجز الكاميرا عن وصف فداحته يرويه الرجل الأعمى، اللقطة الثمينة في الفيلم، فكيف له أن يعبر عما تغير في المدينة وما حدث لها وهو الذي لا يرى، يعيدنا في حديثه إلى فترة العودة للمدينة بعد انتهاء الاشتباكات فيخبرنا عن رحلة العودة والفرح الذي غمرهم في الطريق إلى أن صاروا في قلب المدينة فمنذ أن اقتربوا من الساعة القديمة فيها وصولاً إلى الحي لم ينبس أحد بكلمة لكنه كان يسمع البكاء الصامت، وعرف أن المشهد أكبر من أن يروى.
لقد تخيل حجم ما يرونه، إذ كان أثناء الحرب يسمع صوت انهيار البيوت بعد تبادل القذائف، البيوت التي تطبق على نفسها. يروي وكأنه يلمس روح المدينة التي أنهكتها الحرب وذاك التعب الذي يهد الروح من حجر وشجر وبشر.
تستمر الحياة بعد الحرب لكنها لا تنجو. فقد ذهبت الحرب بأخلاق الكثيرين وشوهتهم خاصة أولئك الذين عاشوا في ظروف غير آمنة وغير صحية بالمرة. كما نرى في قصة الفتاة التي قُتلت أمها في ليلة العيد من قبل شابين مراهقين بهدف السرقة. تقول: :أنا واثقة أنهما لو طلبا المال من أمي لأعطتهما إياه دون تردد, لكنهما قتلاها من أجل مبلغ تافه”. هكذا صارت بلا بيت ولا أهل وحيدة لا تعرف ماذا ينتظرها.
حكاية الأم نموذج لكثير من الأمهات الحمصيات بل والسوريات اللواتي غادر أبناؤهن وتفرقوا تحت ضغط الحرب المشتعلة إلى بلاد الشتات. تحدثنا الأم كيف صار البيت فارغاً بعد أن كان يعج بأولادها وأصدقائهم، تنظر من الشباك وتجلس مع الذكريات تنتظر عودتهم، تقول إنها تتواصل معهم عبر الشاشة فتشعر كأنها تشاهد فيلماً وأن هناك شيئاً ناقصاً دوماً فما الذي يُشبع حضن الأمهات.
بين القصص نرى أعمال ترميم ويوميات الناس البسطاء الذين تابعوا العمل ليعيشوا وبعض الحرف التقليدية التي عادوا إليها بحثاً عن لقمة العيش بينما خيل إلينا أنها انقرضت.
هل نجا من بقي بعد الحرب؟
يقول أحدهم: بعد الحرب أسوأ من الحرب ذاتها والحياة غدت خانقة ومعطلة رغم أنها تمضي. يرافق ذلك صور المحلات الكثيرة المغلقة والأماكن الخالية والركام.
تقول الفتاة: صار اليوم الذي لا يحدث فيه موت، أو حدث قاس هو اليوم السعيد الذي نتمناه وكأننا ننتظر كل يوم النجاة من المجهول الذي قد يحدث.
يبدو الإصرار على انتزاع الحياة والأمل رغم كل شيء في حركة الناس وابتساماتهم العفوية وضحكة الأطفال. يقول أحد الشبان إن التاريخ يعلمنا ان لا شيء سيدوم، وإن التغيير قادم لكن على المستوى الفردي لا شيء واضح أمام الناس، ولا يعرفون ماذا يمكن أن يتغير في حياتهم الآن؟ وماذا ينتظرون؟
كان الصمت الموسيقا التصويرية للمشهد في كثير من الأحيان أما البداية فكانت موسيقا الخوف الذي يسكن الذاكرة تلك التي توحي بالرعب والأشباح ثم أصوات الحياة اليومية، وصوت الرواة، وصوت الأذان الذي يوحي بالسكينة. ثم ينطلق صوت أحدهم في غناء الموشحات الحمصية الأصيلة لتمتزج المشاعر المتناقضة التي يعيشونها ويعبرون عنها بين الفرح و الحزن الثقيل والكره والحيرة والغضب.
يشرك زواهري أشخاصاً من الشارع يقفون للصورة ويمرحون فأهل حمص عرفوا بمبادرة الفرح وبالنكتة الحاضرة، ويقدم أشخاصاً في عملهم يتحدثون معه ويروون عن حياتهم اليومية.
القصص في ملتقى هارموني الثقافي:
عانت حمص من الحرب مدة طويلة مثل كل المدن السورية وربما أكثر فقد بدأت شرارة الأحداث فيها. وتزداد الحاجة فيها للعمل المجتمعي الذي يعنى بالإنسان سواء الملتقيات أو النوادي التي تقدم نشاطاً نوعياً وفعاليات ثقافية تجمع الشباب لتأسيس بنى جامعة وعمل مشترك يحررهم من عبء الماضي و الشرخ الحاصل، وأمراضه النفسية بالاهتمام واكتشاف كوامن طاقاتهم وإمكانياتهم واطلاقها بحثاً عن أفق جديد.
يحاول ملتقى هارموني الثقافي أن يقدم فعاليات على هذا المستوى إذ كانت بعض القصص التي رواها الفيلم جزءاً من مشروع الملتقى بعنوان ما وراء الألوان، تجتمع القصص لتحكي بعض قصة المدينة وذاكرة جيل من الشباب يحاول الاستمرار رغم كل شيء، وليس بوحهم بهذه القصص سوى جزء من التحرر من التجربة، و محاولة البحث عن شفاء منها.
سبق ذلك التحفيز على كتابة القصص عبر ورشات كتابة ثم عرضها مكتوبة في المعرض السنوي للملتقى على شكل خيم إذ تحولت كل خيمة إلى عمل فني متكامل فإلى جانب كل قصة منحوتة أو لوحة رسمت من وحيها وصور غرافيك صممت لها ومعزوفة موسيقية أيضاً وبعض الأشغال المتممة للديكور، في محاولة لوضع الزائر في جو القصة، أراد الشباب أن يخبروا العالم عبر قصصهم عن تجاربهم المريرة فكانت بمثابة شهادة قدموها وعبر وضع اليد على الجرح الشخصي الذي لم يعد شخصياً أبداً.
نجح أنس زواهري في فيلمه بنسج هذه القصص التي عمل عليها الملتقى سواء في المعرض أو خارجه، مع حياة المدينة اليومية سينمائياً، واستقراء عيون الرواة، وهم ينقلونها بصوتهم وحركات جسدهم التلقائية وعفويتهم، إذ يتحدثون، يصمتون، ويبكون. وترتبك حركاتهم، وتتهدج أصواتهم وتذهب النظرات إلى البعيد.
يقال إن عين الكاميرا تقدم الصورة بشكل مختلف عن عين الإنسان فالمشهد الكامل تعجز العين عن الإحاطة به أحياناً لكن وأنت تتابع الفيلم وتسير معه في طرقات المدينة القديمة ترتبك ذاكرتك في التعرف على مدينتك وستتردد بالإشارة إلى الأماكن بالأسماء، ليس لأن الكاميرا تقدم المشهد من زاوية مختلفة عن ذاكرتك فقط، بل لأن الحرب غيرت كل شيء في الأمكنة دون أن تأبه. وهذا ما لخصه زواهري في العبارة الأولى التي أُخذ منها عنوان الفيلم الذي يتابع رحلته في المهرجانات.
على صوت الموشحات الحمصية تنسرب مياه العاصي بهدوء، كأن الحياة التي تمر دون أن تترك أثراً وكأنها ليست أكثر من هامش حياة.
تقف الفتاة التي كبرت أكثر من عمرها تحت عبئها الثقيل تتأمل وردة تفتحت وسط الخراب كأنها رسالة أخرى بلسان الشباب ولكن ليس للعالم بل إلى الحياة نفسها فما زال هناك ورد قد يزهر.
بواسطة محمد الواوي | ديسمبر 2, 2024 | Cost of War, News, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
على الرغم من مرور أكثر من عقدين على بدء التعليم الافتراضي الجامعي في سوريا، وما وفره من خصائص تتصف بالمرونة والحداثة النسبية، يواجه الطلاب والمدرسون على السواء عوائق بسبب ضعف البنى التحية واللوجستية اللازمة.
تسوغ آية أسباب التحاقها بكلية الحقوق الافتراضية؛ منها ما يتعلق بخصوصية الأمومة وتربية الأطفال. تقول آية لـ (صالون سوريا): “اخترت الدراسة في الجامعة الافتراضية بسبب قدرتي على اختيار الأوقات التي تناسبني، كما أنني غير مقيدة بالحضور الدائم لكوني أم لطفلين. علاوة على ما سبق، أجد كل ما يلزمني من ملفات ومحاضرات وملخصات وغير ذلك على موقع الجامعة”.
خصائص جديدة
في عام 2002، أُحدثت أول هيئة عامة علمية باسم الجامعة الافتراضية السورية تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري مقرها دمشق، لكن التعليم الافتراضي في سوريا يواجه تحديات مرتبطة بتوفر البنى التحتية اللازمة من إنترنت وإنشاءات وأجهزة ذكية.
من وجهة نظر آية تتضمن محاسن هذا النوع من التعليم المعدل المطلوب المناسب للالتحاق بالجامعة إلى جانب أن ساعات الدراسة مريحة للطلاب والطالبات. تضيف آية: “يمكن للطالب أو الطالبة التواصل مع المدرس بغرض الاستفسار أو السؤال بسرعة نسبياً”.
ينسحب واقع التعليم الافتراضي على آمال وتطلعات المدرسين والمدرسات أيضاً، حيث فرض التعليم عبر الإنترنت الـتكيف مع خصائص جديدة بما تحمل من ميزات وصعوبات.
مارست نور التدريس عبر الإنترنت. خلال حديثها مع (صالون سوريا) تفرّق المدرّسة الجامعية بين ميزات ومساوئ كل من التعليم الافتراضي والصفي، فمثلاً: بيئة التعليم الافتراضية تتيح للطلاب التعلم من أي مكان؛ بينما يمنح التعليم الصفي المدرس والطالب التفاعل المباشر فيما بينهم. من ناحية أخرى، يتيح التعليم الافتراضي تنظيماً أكبر للوقت ومرونة في اختيار المدة الزمنية المناسبة لكل من المدرس والطالب، إلا أنه لا يسمح كثيراً بالتفاعل وتكوين العلاقات الاجتماعية بين الطلاب.
يتحلى التعليم الافتراضي بالمرونة الزمنية، توضح نور أن المدرسين يحددون جداول زمنية مناسبة للدروس، ما يسهل عليهم الموازنة بين العمل والحياة الشخصية، وكذلك الوصول إلى مراجع ومصادر تعليمية منوعة بهدف إثراء المحتوى المقدم؛ فضلاً عن أنه فرصة للتدريب على المهارات التكنولوجية والتعليمية الجديدة.
من الإيجابيات أيضاً، تشيد نور بالقدرة على توسيع القاعدة الطلابية، حيث يمكن للمدرسين جذب طلاب من مناطق مختلفة، مما يوسع شبكة التعليم ويزيد عدد المتعلمين.
افتراضي أم صفي!
ازدهر التعليم الافتراضي مجدداً أثناء انتشار فيروس كورونا والإغلاق المؤقت للمؤسسات التعليمية التقليدية، دفعت هذه الحالة الطارئة رنيم الحموي (طالبة إعلام) إلى دخول التعليم الافتراضي، تروي الحموي لـ (صالون سوريا): “كان هناك خوف من الاختلاط بسبب الجائحة، فوددت أن أضمن استمرار العملية التعليمية من دون انقطاع”.
تلعب عوامل سهولة التواصل مع المدرسين والمدرسات إلى جانب البعد الاقتصادي أدواراً في اختيار نوع التعليم، وهو ما حثّ الحموي على التعليم الافتراضي، تكمل الطالبة الجامعية حديثها: “التواصل مع المدرسين والمدرسات أسهل وأسرع”.
وتضيف الحموي: “التعليم الافتراضي أكثر اقتصادية من التعليم الصفي لأنه يتيح الدراسة من المنزل بشكل يخفف من تكاليف التنقل، وخاصة في الأوضاع الراهنة التي تمر بها البلاد، ومنها أزمة المواصلات”.
تفضل آية التعليم الافتراضي أكثر من التعليم الصفي التقليدي، تشرح موقفها: “كل شيء من حولنا بات معتمداً على الإنترنت، بحيث أحصل على ما أريد متى شئت. يضاف إلى ذلك سرعة الحصول على أية أوراق إدارية عبر الانترنت، وتتصف المناهج الدراسية بالتحديث الذي يواكب روح العصر“.
عقبات في الطريق
يواجه الطلاب والطالبات مشاكل لوجستية وعوائق مادية مختلفة ربما تحرمهم من إكمال تعليمهم الجامعي، تورد آية بعض هذه الصعوبات وهي ارتفاع ثمن باقات الإنترنت، بما لا يسمح لكثير من الطلاب بالاشتراك، ناهيك عن بطء الإنترنت أثناء المحاضرات (Online)، وارتفاع أسعار الحاسوب المحمول.
يعتمد التعليم الافتراضي بشكل أساسي على جودة شبكة الإنترنت، بيد أن الاتصال بالشبكة المحلية غير مستقر ويتعرض لمشاكل تقنية مزمنة، يفاقم المشكلة انقطاع الكهرباء لساعات طويلة. وهنا تخبرنا آية عن هذه المعاناة ومحاولتها لخلق الحلول: “إن ضعف الإنترنت والانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي يؤثران على العملية التعليمية أثناء المحاضرات (Online) بشكل كبير، لذا أستمع إلى المحاضرات المثبتة من قبل المدرس (Offline) في الموقع الإلكتروني”.
عدم توفر الحواسيب لا يتوقف على الطلاب وحدهم، بل حتى على المدرسين. لم يتمكن عمر وهو مدرّس جامعي من العمل في التعليم الافتراضي لعدم توفر الأدوات المادية الأساسية ومنها الحاسب المحمول، يقول: ”منذ تعطل الحاسوب السابق وفشل محاولة إصلاحه، لم أتمكن من اقتناء حاسوب جديد حتى الآن نظراً لارتفاع أسعار هذه الأجهزة في السوق بما لا يتناسب مع دخلي، لكني أحاول جاهداً تأمين المبلغ المطلوب لاقتناء الجهاز”.
تنطلق نظرة نور في تقييم التعليم الافتراضي في سورية من الظروف التي تمر بها البلاد كالبنية التحتية التكنولوجية، حيث إن الوصول إلى الإنترنت يشكل تحدياً يؤثر في قدرة الطلاب والمعلمين على المشاركة في التعليم الافتراضي.
وتشير نور إلى التفاوت في توفر الحواسيب مما يعوق وصول بعض الطلاب إلى منصات التعليم الافتراضي؛ فضلاً عن عقبات أخرى تؤثر على التفاعل بين المعلمين والطلاب وبالتالي على فعالية التعليم نفسه.
يمتاز التعليم التقليدي بقدرة المدرس والمدرسة على حض الطلاب والطالبات على المشاركة وإبداء الآراء والإجابة على التساؤلات أثناء الحصة الدرسية، في حين تنوه نور إلى عيوب تتعلق بفقدان التفاعل الشخصي والاتصال المباشر مع الطلاب، ويعاني المدرسون من صعوبات تقنية مثل عدم استقرار الإنترنت أو نقص المعدات اللازمة، مما يضر بعملية التدريس.
ترى نور أن التعليم الافتراضي يفرض على المدرسين المزيد من الوقت والجهد في إعداد الدروس والتفاعل مع الطلاب عبر المنصات الرقمية، كذلك يصعب تحفيز بعض الطلاب للحضور والمشاركة في الدروس الافتراضية في بعض الأحيان.
بواسطة طارق علي | نوفمبر 24, 2024 | Cost of War, News, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
تقطن أم عمر مع أولادها الثلاثة في منزل ضمن بناء كان يفترض إكمال بنائه وإكسائه لكنّ الحرب عاجلت مدينة دوما في ريف دمشق فتوقفت أحوال الاستثمار فيها كما سائر البلاد. قُتل زوج أم عمر خلال سنوات الحرب، وصار منزلها ركاماً لأسباب يطول شرحها وتبدو محاولة شرحها نكأ لجراح عقد انقضى على دمار المنزل الذي كان لسوء حظها- مجاوراً لغرفة عمليات تتبع فصيلاً مسلحاً. ورغم خسارتها لجنى العمر، إلا أنّ أم عمر ممتنة أنها وأطفالها خرجوا أحياء.
البحث عن مأوى
هامت أم عمر على وجهها في الشوارع لياليَ طوالاً لم يكن لينير عتمتها سوى سماء مشتعلةٌ بصنوف القذائف والمدافع والرصاص المخطط. قصدت جمعيات خيرية اصطفت على الطرف الآخر من النزاع بحكم التموضع الجغرافي والسياسي لكل طرف، لكنّها لم تفلح في العثور على المأوى. طردها قائد فصيل عسكري راحت تلتمس منه سكناً، ولو غرفةً، أيّ شيءٍ يقيهم أمطار شباط الغزيرة. قَبِل صديقٌ سابق لزوجها استضافتهم مؤقتاً، لكنّ زوجته رفضت غيرةً. بحثت في بيان قيدٍ عائلي تمتلكه بين أسماء إخوتها عالمةً مسبقاً بالنتيجة، وحدها هناك، من مات مات، ومن هاجر في وقتٍ سابقٍ نجا بنفسه.
ضاقت بأمّ عمر الدنيا واستحكمت حلقاتها وما انفرجت، على مضضٍ طلبت الإيواء من ابنة خالتها، وجرت العادة أن يسمع المرء عن زوجة أب تهين أولاده، عن زوج أم يهين أولادها، وهكذا، ولكن عن زوج ابن خالةٍ، فتلك كانت معاناةً أخرى، كان يهينها، يحقرها، جعل أولادها الصغار يعملون بـ “الفعالة” على صغر عمرهم، ضربها مراراً، حاول الاعتداء عليها أخيراً، فهربت من جديد لتهيم على وجهها في أضيق حيزٍ جغرافي يستحيل الخروج منه تحت وطأة إطباق حصار عسكري معلوم الأسباب.
الخيار الأخير
لم يبق أمام أم عمر إلا الالتجاء إلى إحدى كتل البناء الكثيرة التي لم يكتمل إنشاؤها في دوما وغيرها، حيث استقرت أم عمر وأطفالها في الطابق الثالث ببناء قريب من ساحة المدينة. تقول أم عمر: “يوم قررت ولا أدري كيف سأقولها، الاستيلاء على هذا المنزل وهو على”العظم “. كنت أعلم أنّ أصحابه هاجروا جميعهم ولن يعودوا، الآن على الأقل، هكذا قلت وقتها، وبعد كل هذه السنين لم يعد أحد منهم فعلاً، كان المنزل مقطّعاً ولكنّه غير مكسو، بلا نوافذ أو أبواب أو خدمات صحية وكهربائية، كان جدراناً فقط، جدراناً بلا طينة حتى”.
خلال الأشهر والسنوات التالية عملت أم عمر في الكثير من الأشغال بين الخياطة والحياكة والمياومة وشيئاً فشيئاً تمكنت من إنجاز العديد من الأمور لصالح المنزل الذي لا تملكه أساساً، ومشهد المنزل اليوم يبدو مغرقاً في سريالية عجيبة.
أين تلك السريالية؟ هي في جدار مطلي وآخر لا، في جدار بطينٍ وآخر لا، في جهة من المنزل لها نوافذها وأبوابها وأخرى لا، في مطبخ شبه مكتمل بنصف الأغراض، من كلّ شيء نصفه، حتى الخدمات الصحية، إلا أنّها تمكنت فعلياً من إتمام الشؤون الكهربائية، والمفارقة الأخرى أنّها استنزفت مدخرات تعبها على إتمام تمديدات الكهرباء في بلد لا كهرباء فيه.
في نهاية المطاف تدرك أم عمر أنّ هذا المنزل ليس لها، ولن يكون ولو حولته لقصر، وإذا ما عاد أصحابه فستلقى شرّ طردةٍ منه ولن يعوضها أحدٌ بقرشٍ واحدٍ، ولكن هل تملك أم عمر رفاهية الاختيار لئلا يكون هذا خيارها الوحيد بكل ما بذلته من أجل جعله صالحاً للسكن!
تشير في حديثها أنّها تعرف كل ذلك، وتضيف: “منذ أول يومٍ في الحرب هذه البلد ما عادت للفقير، كيف يمكن أن تكون البلد لأولادها الذين يحلمون بامتلاك منزلٍ فيها، بأبسط حقوقهم؟ كيف ترى السوريّ اليوم يتدبر أمر معيشته كلّ يومٍ بيوم؟ كذلك أفعل أنا منتظرة اليوم الذي سأطرد فيه من هذا المنزل، ولكنّي حينها لن أخاف كما كنت قبل سنين، فأولادي حينها سيكونون رجالاً”. تغالب دمعتها وتكمل: “ما لم يتركوني ويهاجروا كما يفعل الجميع”.
عقدة مركبة
يعاني السوريّ عقدةً مركبةً تقف حائلاً في وجه كل ما يمكن أن يفكر فيه تجاه مستقبله، فتلعب دوراً مركزياً وأساسياً في قراره بالهجرة، وفي سياق الهجرة من الضرورة التذكير أنّها لا زالت تتنامى باضطراد.
وتمثل مدينة حمص المدمرة بأكثر من نصفها مثالاً عن حلم السكن، فما بقي من أحياء من حمص، ومن بينها عكرمة على سبيل المثال تتراوح أسعار العقارات الجيّدة فيها بين 700 مليون و5 مليار، نعم 5 مليار في مدينةٍ لا شيء مغرٍ فيها للسكن، وفي حيٍّ ليس أبو رمانة ولا المالكي أو الشعلان في دمشق، مجرد حيٍّ عادي. ومن يعتقد أنّ الأحياء الشعبية أقل ثمناً يكون واهماً في ثورة جنون العقارات أمام العرض الوفير والطلب ما دون الشحيح، ضمن واحدةٍ من أغرب معادلات الاقتصاد.
“استبدلوني بمنزل بريء الذمة”
كان المهندس أحمد المنجد يريد الزواج من زميلته في الكلية بعد قصّة حب دامت سنوات عدّة، لكنّ والدها اشترط عليه امتلاك منزلٍ قبل الزواج. رغم ما مرّ به أحمد من ظروف وجدانية متعارضة لكنّه يبدو أنّه لم يفقد شيئاً من طرافته التي يعبر عنها بأنّها الشيء الوحيد الذي لا زال متمسكاً به، إذ قال لوالد الفتاة: “لنسكن لديك، أنت أصلاً ورثت منزلك من والدك، هل يمكنك شراء منزل الآن”.
يقول أحمد إنّه قضى أشهراً مبتسماً وهو يفكر في معضلة الحصول على البيت ساخراً في كلّ لحظة من فوضوية المنطق الذي قوبل به من طرف الوالد، فالمهندس الذي تخرج قبل سنوات قليلة، لم يكن ليجمع ثمن منزل، ولو كان يعمل بالمخدرات، كما يقول.
أخيراً قرر أحمد الهجرة إلى ليبيا، هناك حيث يتقاضى الآن ثلاثة آلاف دولار شهرياً، وهذه الطريقة الوحيدة ليتمكن من العودة يوماً ما وشراء منزل، لكنّ حبيبته تزوجت، فقرر أن يسمي ما حصل معه بأنّه: “جرى استبداله بمنزل عقاري مفرز 2400 سهم بريء الذمة ولا ضرائب عليه”.
لولا الحرب!
يتداول السوريون مراراً مقولة تنسب لحاكم الإمارات السابق وبأنّه قالها في ثمانينيات القرن الماضي في ذكرى تأسيس دولتهم ومفادها: “كيف سأطلب من مواطن إماراتي واحد الولاء لدولته وهو يقطن بالإيجار؟” وعليه بدأت مشاريع تمليك كل المواطنين لمنازل لتصل تلك الدولة منذ سنوات مرحلةً لا يوجد فيها مواطن دونما منزل.
تسترعي هذه المقولة الانتباه بشدّة، فهي تحمل بعدين، سياسياً واقتصادياً، ومن المجحف القول إنّ سوريا مع بداية الألفية الحالية لم تكن تسير في طريق مشابه عبر القروض الميّسرة والمسهلة التي تفضي لامتلاك شقة، عدا عن إنشاء مئات المجمعات السكنية في كلّ المحافظات وبأقساط شهرية تكاد لا تذكر أمام راتب شهري كان مجزياً وكافياً.
بنوكٌ شريرة
أما اليوم فقط تغيّر كل شيء، ولكن ما زال يمكن الحصول على قرض لشراء عقار، أعلاه ما يمنحه البنك العقاري وهو مئتا مليون ليرة سورية، يجري سدادها على عشر سنين، وبفوائد كبيرة بالطبع، وبالمحصلة سيحاج القرض وساطة وفوقها بضع مئات ملايين أخرى وربما مليارات لشراء عقار.
في حين تمنح البنوك الخاصة قروضاً أيضاً، بعضها يمنح قرضاً نصف مليار ويسترده ملياراً ونصفاً، فيما يُمكن وصفة بعملية سرقة وابتزاز منتشرة بشكل واسع في قطاع البنوك الخاصة وعلى رأسها البنوك الإسلامية التي وجدت طريقتها للحصول على أرباح خيالية دون استخدام الفوائد، بل تحت مسميات أخرى تجعلها أكثر شرعية وخنقاً للمواطن في آن.
مخاطر اعتياد المهانة
انقضى قرابة أربعة عشر عاماً على الحرب السوريّة، شيئاً فشيئاً اعتاد السوريّ في الداخل المهانة في كل مفصل وجزء من حياته. ناس كثيرون اعتادوا تناول الخبز والشاي، ومن الممكن قرص من البندورة وفلافل في مناسبات ليست كثيرة. وهناك الكثير الكثير من الباحثين عن الطعام في حاويات القمامة. ولكن كلّ ذلك يمكن بشكل أو بآخر معالجته في مشاريع التعافي المبكر أو الشروع بإعادة الإعمار أو إعادة هيكلة السياسة الاقتصادية وتحقيق انفتاح ليبرالي نحو العمل الحر والسوق الجماعي الذي يدمج بين المعسكرين الكلاسيكيين في الاقتصاد، الاشتراكية والرأسمالية.
ولكن من يؤمن منازل يسكنها أولئك المشردون، وبالمناسبة فحتى المستأجرون هم مشردون تحت وطأة ابتزاز الارتفاع المستمر للإيجار وهم ما يزالون يقطنون ذات العقار، فعلامَ يكون إيجار منزل في حمص 5 ملايين شهرياً، وفي طرطوس 6 ملايين شهرياً، وفي دمشق قد يصل إلى أكثر من 10 ملايين شهرياً. وأما أفقر الفقراء فلا يستطيعون إيجاد منزل غير مفروش بأقل من 500 ألف، وهو رقم يمثل ضعف راتب الموظف الحكومي.
تحقيق حلم يداوي جراح المقهورين
ثمّة شيء وحيدٌ يمكن قوله للإيضاح: إذا كان متوسط ثمن عقار متواضع في حيٍّ جيد نحو مليار ليرة، وكان من سيشتريه موظفاً، فإنّه سيحتاج جمع مرتبه لـ 300 سنة دون أن يصرف منه قرشاً واحداً! وهل يعلم القائمون على الأمر أن أسعار العقارات في دبي وبيروت وماليزيا باتت أرخص من دمشق!
لذا يسكن الناس، الكثير منهم، في بيوت على الهيكل، وبأفضل الحالات بالتشطيبات الأولية، مستغنين عن كل ما أمكن من تمديدات كهربائية وصحية، هؤلاء لا يريدون سوى حلم السقف والجدران والباقي تحلّه الأيام.
بواسطة د. علي محمد صافي | نوفمبر 12, 2024 | Culture, Roundtables, العربية, بالعربية, مقالات
ياسين الحافظ كاتبٌ ومفكر سياسي سوري من الطراز الرفيع، يعدُّ من المؤسسين والمنظرين للتجربة الحزبية العربية. اشترك في العديد من الأحزاب القومية واليسارية، ويعدُّ الحافظ في طليعة المفكرين التقدميين في العالم العربي، اتسم فكره بالواقعية النقدية، تحت تأثير منشأه الجغرافي والاجتماعي. حيث ولد ياسين الحافظ في عام 1930 بدير الزور السورية كما يروي هو في سيرته الذاتية، بل الأيديولوجية والسياسية، التي سطرها في كتابه: الهزيمة والايديولوجيا المهزومة.
عاش الحافظ في بيئة صحراوية عشائرية تقليدية، بقي تأثيرها عليه مدى الحياة، لكن اتصاله عبر والده بالشيخ محمد سعيد العرفي(1896- 1956)، مكَّنه من تجاوز تلك العشائرية، وكان ذلك أيضاً مناسبة للتعرف على إسلام سني نُزعت منه قشرته الصوفية – على حد تعبيره – وطُرِدت منه الخرافات، إسلام متزن، متوازن، بسيط إلى حد البداوة، وعلى استعداد للتصالح مع بعض منجزات العلم، وقد ساعده ذلك على الانعتاق الكلي المبكّر من التقليد العشائري، والانتقال إلى ممارسة سياسية حديثة، تتجاوز الممارسات السياسة القبائلية. وقد كان النضال ضد الاستعمار الفرنسي المدخل الأولي الذي قاده إلى ميدان السياسة، وبالتالي كان شغله وانشغاله منذ صغره يتعدى المصلحة الشخصية أو العائلية أو العشائرية، فكان الحافظ ممن أسهموا في بلورة التجربة الحزبية في دير الزور، بل في سورية والعالم العربي، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. (الحافظ، 1978، الهزيمة والايديولوجية المهزومة، ص6).
يُذكر على هذا الصعيد أن الحافظ انتسب إلى الحزب الشيوعي السوري عام 1955، ثم تم فصله منه بعد عام تقريباً بسبب انتقادات الحافظ للحزب، ثم شارك في صياغة المنطلقات النظرية لحرب البعث في مؤتمره السادس عام 1963، لكنه سرعان ما انشق عن الحزب وشكَّل ما عرف باسم حزب البعث اليساري، وقد انبثق عنه حزب العمال الثوري العربي 1965، وقد كان الحافظ أميناً للحزب حتى وافته المنية عام 1978.
لم تكن التجربة الفكري لدى الحافظ وليدة تأمل فكري بحت، فقد تشكلت بنية الوعي لديه ارتكازاً على تجربة شخصية كانت بمثابة الحاضنة التي عملت على تفتق روائز الوعي التقدمي لديه، فموقفه من المرأة ومن مسألة تحررها التي تعدُّ – حسبما يرى – رائزاً ومحكاً لتحرر المجتمع وتقدمه ككل. هذا الموقف قد ساهم في إبرازه وتأصيله، ما عاناه الحافظ من التمييز بسبب العرق والدين، فوالدته، كانت أرمنية مسيحية، وسط بيئة تقليدية محافظة، فعانت ما عانت من تمييز ورفض مجتمعي، مما انعكس بشكل غير مباشر على الحافظ، فكانت مواقفه الفكرية مبنية على خبرة حياتية مريرة، لاسيما أنه تم سجنه لمدة عام تقريباً غادر على إثر ذلك سورية إلى لبنان ليمضي فيه بقية حياته.
قضية والدته جعلت قضية تحرر المرأة في طليعة الأفكار التقدمية التي تبناها الحافظ، كذلك ساعدته في تجاوز الحدود الفاصلة بين البشر سواء أكانت عرقية أم دينية، الأمر الذي جعله منفتحاً على الآخر الغريب، وبالتالي كانت تجربته الفكرية والسياسية محكومة بهاجسين عميقين، وهما الديمقراطية الغربية والاشتراكية الشرقية.
فالتجربة السياسية للحافظ، كانت ذات طابع قومي فرضته وقائع الاستعمار الأوربي من جهة، وقضية فلسطين من جهة أخرى، ويتحدث هو نفسه عن هذه التجربة التي بدا بها راديكالياً ورومانسياً، وقد تمثلت راديكاليته بموقفه العدائي ممن تسبب في نكبة فلسطين، وهم الحكَّام العرب المتواطئون مع الاستعمار الذي مكن لإسرائيل احتلال فلسطين، أما مثاليته فكانت تتجلى بإيمانه بأن الحل يكمن في الإطاحة بالنخب الحاكمة واستبدالها بحكام أشبه بأنبياء صغار، فكان موقفه وأحكامه السياسية بادئ ذي بدء سطحية أو مسطحة، وقد استغرق هذا التسطيح قرابة عقد ونيف، حتى أدرك الحافظ أن الأزمة الحقيقة تكمن في العمق أو ما قبل أو ما تحت السطح، ويقصد بذاك الشعب؛ القاعدة العريضة لأي نخبة سياسية أو ثقافية. وبالتالي فالعيب ليس محصوراً بالنخب، بل يتسع لشمل المجتمع الذي أفرز هذه النخب، والمجتمع العربي بالذات هو المهزوم الحقيقي، وقد فاته اللحاق بموكب التقدم والحضارة، والفوات التاريخي مصطلح خاص بالحافظ، ويعني عدم اللحاق بالنهضة العصرية.
وقد ترافق هذا الانتقال الفكري السياسي من السطح إلى العمق –عند الحافظ – بانتقال اعتقادي من معتقد لآخر، فمن إسلام صوفي سطحي إلى إسلام عقلاني علماني متزن، ثم انتقال إلى معتقد جديد قوامه القومية العربية التي فرضتها القضية الفلسطينية، مع تلاوين يوتوبية، ما لبث أن انتقل إلى معتقد جديد وهو العقيدة الماركسية، دونما تجاوز كامل للقومية، فقد كانت ماركسيته متصالحة مع قوميته، كما يصرح هو: لم أعد قوماوياً بل قومياً (أو أموياً) وبالتالي لم تعد الأممية دعوة إلى تخل عن القومية، بل دعوة إلى فهم المصلحة القومية في سياق عالمي رحب وأكثر توازناً وواقعية، وأخيراً دعوة إلى تجاوز النرجسية القومية، وإلى تواضع في فهم الذات القومية… من هنا كنت على الدوام، وعلى درجة متفاوتة من الوعي، أضع الثورة القومية الديمقراطية في المكان الأول والأولي في سيرورة المجتمع العربي وتقدمه.” (الحافظ، 1978، الهزيمة والايديولوجية المهزومة، ص11-12).
ومن هنا كان الحافظ يدعو إلى تعريب الماركسية، أو تكييف الماركسية للأوضاع العربية الملموسة، ولم يكن يرى من تناقض بين القومية والماركسية، وأن كل ما يبدو من تناقض بينهما إنما مردَّه إلى الوهم، وما إن تجاوز الحافظ هذا التناقض حتى تفوقت ماركسيته على قوميته، وبدا المنطق الماركسي مُحكماً متسقاً، بينما بدا المنطق القومي العربي مفككاً ساذجاً. والحديث هنا عن الماركسية غير المؤسساتية وغير السوفيتية، التي انتقدها الحافظ على مدار سنوات، لكنه سرعان ما وجد نفسه ضمنها متجاوزاً نقده لها، في تناقض يبدو غريباً إلى حد ما.
وينتقد الحافظ منهج السياسات العربية، ويرى أنها إما سياسيات ثورية رومانسية أو واقعية محافظة. والنتيجة في كلتا الحالتين تكمن في النزوع المحافظ الذي يحكم الرؤية السياسية العربية. فالواقعية المحافظة تتنكر بالنتيجة للقوى الكامنة أو الممكنة لدى الأمة، ولذا تتجه تلقائياً إلى الخنوع والمصالحة، وبالمقابل فإن الثورية الرومانسية تجد نفسها بالنهاية عاجزة عن الفعل السياسي، فتقع إثر سلسلة من الإخفاقات، في نزوع يائس واستسلامي ومحافظ سياسياً. (الحافظ، 1997، التجربة التاريخية الفيتنامية، ص145)
وينتقد الحافظ أيضاً الفكر العربي التقدمي بفرعيه القومي والماركسي، ويرى أنه ” فكر مستريح، بلا إشكاليات ولا هموم، لذا فهو متفائل، وهو متفائل لأنه فكر أيديولوجي، فكراني، يعيش مع نفسه لا مع الحقيقة الواقعية… الفكر القومي العربي الذي ما زال فكراً تقليدوياً في جوهره ( وبالتالي هو قوماوي وليس بالقومي) … وقد اختزل ( وبالتالي سطح) المسألة القومية إلى مسألة الوحدة العربية واستراح، في حين أن مسألة الوحدة العربية رغم أنها التتويج والمآل، تشكل جانباً من جوانب المسألة القومية، وتظاهرة من تظاهراتها.( (الحافظ، 1997، التجربة التاريخية الفيتنامية، ص132-133).
ويرى الحافظ أن ثمة عوامل عدة ساهمت في إفشال كل التجارب النهضوية، في بلادنا العربية، بما فيها التقدمية الماركسية، ومن بين تلك العوامل مثلاً عدم بزوغ ثقافة ليبرالية عربية حديثة، وعدم ولادة أنتلجنتسيا عربية حديثة ثورية، أضف إلى ذك أن الماركسية العربية قَدَّمت نفسها للشارع العربي كطبقة متعالية؛ وهي طبقة خواجات أو متخوِّجة، وهذا ما جعلها معزولة ومنبوذة، خلافاً للماركسية الفيتنامية التي شكلت حركة شعبية واسعة؛ لأن نشوؤها بالأساس كان قومياً لا محلياً. (الحافظ، 1997، التجربة التاريخية الفيتنامية، ص91-92). وليس كما الماركسية العربية، تحمل نفس الشعارات القومية والأممية، لكنها تمثِّل على الأرض نخبة معزولة من الأنتلجنتسيا.
أدرك الحافظ الدور الذي يلعبه العامل الأيديولوجي في نجاح أو فشل أي تجربة ثورية، ومن هنا رأى أن الناصرية قد أخفقت؛ ليس لأنها برجوازية صغيرة، بل لأن أيديولوجيتها متأخرة ومحافظة، وتفتقر إلى وعي كوني تاريخي. لقد كان عبد الناصر فرصة تاريخية ضاعت على الأمة العربية، لأن الأنتلجنتسيا العربية والمصرية خصوصاً لم تكن تملك وعياً مطابقاً لحاجات التقدم العربي، لهذا فشلت التجربة القومية الناصرية.
وفي لبنان حيث كانت محطته النهائية، تعرَّف خلال تواجده هناك على أعمال المفكر المغربي عبد الله العروي (1933-1971)، وقد ساعدته تلك الأعمال على تجاوز الأيديولوجيا بمعناها التقليدي، كما ساعده العروي على وعي البعد التاريخي للواقع العربي، حيث كان العروي ينشد التاريخانية كأساس وحيد للتقدم العربي، وهذا التقدم لا بد أن يتم على خطى أوربية ليبرالية، فحاضر أوربا هو مستقبل الأمة العربية، ومن هنا ندرك كيف أن الحافظ جمع بين القومية والماركسية والليبرالية، برغم كل الواقعية والنقدية التي اتسم بها فكره. وهذا مصير كثير من الكبار الذين انتهوا إلى توليفة تجمع المتناقضات في أطروحة واحدة.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ“
بواسطة أديبة حسيكة | نوفمبر 5, 2024 | Culture, Poetry, بالعربية, مقالات
(1)
في وقت فراغي
كنتُ أملأ الأوراق البيضاء بالحقول
كان يبدو الفجر أقرب و السحاب يمرّ فوق الطرقات بلا خسائر..
وكان
الماضي
يمتلئ
بالألوان.
لا شيء مثل اللحظة
حين لا تجد المسافة الكافية لتخترع أجنحة
تكاد تنمو كزهرة برية.
بدأتُ أجمع صوتي من الريح
و أفسّر الكلام المعطوب كثغاء قطيع خائف.
صارت كل التفاتة فراغاً في النافذة
أتعبَتني
الأقنعة
القصائد الحُرّة
و رائحة الدم في المخيّلة.
…
(2)
و كما لو أنني
أشتهي الغرق لأنني التقيتُ بك
ماذا سيحدث
إن نظرتُ إليك بحبّ، دخلتُ في افتتان الزرقة،
قرأتُ أمام عينيكَ قصيدة، و أغلقتُ البحر
ورائي؟
أريد
أن أفرّ من الخمر و ألجأ إلى الأنفاس
خلف الستارة عاشقٌ يسحب
خيوط اللهفة ليربطها في الأصابع كالزرازير الملونة
وحين بلوغ الطيران دوخة العطر يغيب في الصرخة العميقة، و يقطف
ا
ل
ش
ه
ق
ا
ت
عن وجه الماء.
أشعر
باللّذّة آخر الموت
بالأشياء تخضع للأسماع
بالجنون يشاركني النفخ في السكون فتنمو على الجدران الروائح…
النرجس السكران.. طربون الحبق… عبيق الجوري.. ضحكات بعيدة…
طرقات نسيتها تمشي
وجهك القديم
وصدى أغنيات.
…
(3)
سأكتفي
بالذي كنته حلم عاشقة عابر
أحدّق في بداية النوم كأنّك أنا نطير فوق جناح العاصفة إلى أن تغلق الممرّات
أبوابها.
غارقة
في عرائي
ستنبت للعيون وشوشات، ستكفّ الأصابع عن الإيقاع الرتيب
والإشارات عن المرور فوق يومي
الطويل.
أربّي الأخطاء بجانب الطريق و ألوذ بالموسيقا
قبل أن أتفادى
السفلة… النمامين.. القتلة.. الجند… السكارى… العجائز..
الفقراء
ا
ل
م
ص
د
و
م
ي
ن
بالواقع.
الأكاذيب كانت قصيرة
رغم هذا يجهلني الشعر و يمنع الرواة من تحرير الألم
ظلّ يكسِّر الصوت حتى شاخت النصوص
لكنه
أبقى على صرير المخيلة.
…
(4)
كل شيء
من أجل طريق عائد إلى البيت يحوّلني إلى عائلة من الغرباء
ماذا يحدث؟
لو أُبذر الحنين في حضن السطور حين لا أجيد لغة الكلام !
لو
تفتحين
عيونك
أيتها
الحقيقة.
كان لي تعب و نسيان،
كان لي أماكن على شكل ذراعَين
حبّ تؤجّجه الأغاني
استثنائي و ساذج
يمارس التنفس على نحو خفي
ملاذ من التيه
يتبع ما وراء الحدس كي لا
تخونه
الحياة.
سألتُ الشرفة عن أجنحتها مثل قميص في نوبة ذهول
ها أنا انتظر اللاشيء كمن تتوقف عن الاستجداء
كأن يكون الذهول أعمق من النظر
كأن تكون اللحظة المحفوفة بالمخاطر تأخذني على محمل الجنون
كأن يكون الزحام المصاب بضيق الصدر يقودني إلى
سفر
في
الفراغ
مصطحبة معي مسافة طويلة يكتمها الترقب
و كلمة مشنوقة تتدلى
على عنق القصيدة
كشاهد عيان.
…
(5)
من يستطيع أن يعطّل مخارج الصرخة؟
بينها و بين الوصول شفتان مرتعشتان
وقبل أن تشيخ الحبال بفعل الصوت المحايد..
توشك الشبابيك أن تقفل عيونها على الشرفات المضيئة
والصورة يسوَدّ وجهها
حين انكشاف نضارة الأسماء.
.
بكل تطرفها
النَعَم التي جفّفت المرايا
أَرَتْني النجوم في عزّ الظهيرة.
بموفور لغته
النص المستكين يؤدي إلى الماضي إذا ما صادفته جمله اعتراضية غاضبة
ي
ت
ه
يّ
ب
فصاحة الواقع.
مشقّة الاعتذار
بكامل وداعته
لم تستطع أن تبدّل صرختي إلاّ إلى بكاء عميق.
…
(6)
و ناداها باستعجالٍ بادٍ قبل أن ترتّب أصابعها على ثقوب اللحظات العابرة:
أحملُ بين ذراعيّ أخباركِ الساخنة
أيتها المزدحمة في الفراغ كنسيان معنّت.
أما آن لسيقان الريح المجنونة أن تنفرج عن حلم
يهبّ دفعة واحدة كزفير موسيقى مطارَدة؟
نقطة تخلد متأخرة للنوم ولا تخاف هوة الأخطاء التأويلية بين الفواصل؟
أصابع اللوحة تتلمس
رائحة الألوان الطازجة
تدل على
قبلات تجز عشب الجسد
عيون تتلصّص على شعشعة النشوة
وشفاه فارغة تمتلئ بالكرز الأحمر
هذا الأديم المحموم
أما آن لجماجم الخوف الزاحفة أن تصرخ تحت انكشاف الجرح
إذن
فلتمنحنا كهوف الترقب الطويل بعض الجنون.
في متن النصوص المواربة حيزٌ محايدٌ للآيروتيك
من السهل أن نخترع مناسبة رومانسية لاقتراف الغواية بلا نهايات
فقط
بعين واحدة نوقظ الارتعاش في الجناحين
والمعنى العارم على غصن الشجر العاري.
بواسطة عامر فياض | أكتوبر 29, 2024 | Cost of War, News, Reports, بالعربية, تقارير, مقالات
لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود، ليزيد من قهر وعذاب الناس، المحرومين من أبسط مقومات الحياة، وليُقلق راحتهم ويؤرِّق نومهم ويحول حياتهم إلى ما يشبه الجحيم، في ظل عجزهم عن توفير أبسط ما يحتاجه الإنسان العادي لمقاومة ظروف الحر الشديد.
في وقتٍ بات فيه تشغيل المكيفات خلال الصيف أمراً طبيعياً وضرورياً يُحرم معظم الناس في سوريا من تشغيل أية وسيلة تبريدٍ، بما فيها مراوح الهواء، في ظل انقطاع الكهرباء التي لا تأتي غالباً سوى أربع ساعاتٍ على مدار اليوم. ومن أراد أن يحصل على نعمة التكييف، وهو أمر بات حكراً على الأثرياء، فسيحتاج إلى مولدات الكهرباء ذات الاستطاعة العالية، والتي تحتاج إلى تكاليف كبيرة نتيجة ارتفاع أسعارها وصعوبة توفير الوقود، أو سيلجأ إلى تركيب ألواح الطاقة الشمسية التي تُكلف عشرات ملايين الليرات.
ولكي يجلبوا بعض البرودة إلى بيوتهم التي تحولت إلى مخزنٍ للحر، لم يبق أمام معظم الناس سوى الاستعانة بالمراوح التي تعمل بواسطة البطاريات، وهو ما حملهم أعباء مادية تفوق طاقاتهم، إذ وصل سعر المروحة العمودية، المزودة بقاعدة متحركة والتي تعمل بواسطة الكهرباء أو البطارية، إلى نحو مليون ونصف المليون ليرة، فيما تخطى سعر المروحة، التي تعمل بواسطة بطارية خارجية، حاجز المليون ليرة، هذا عدا عن سعر البطارية التي ستحتاجها. ورغم أن تلك المراوح قد أصبحت خياراً وحيداً بالنسبة لمعظم الناس، إلا أنها لا تستطيع العمل لوقت طويل، إذ لا تكفي ساعة كهرباء لشحن بطاريتها التي تعمل في أحسن الأحوال لمدة أربع ساعات.
وفي ظل عجز كثير من الفقراء والمُعدمين عن شراء تلك المراوح لجأ الكثير منهم لشراء المراوح المُصنعة بطرقٍ بدائية. وتتكون المروحة من فَراش بلاستيكي بأربع أو خمس شفرات، موصول إلى محرك صغير يعمل بسرعة واحدة، مُثبَّت على زاوية معدنية صغيرة يمكن تعليقها على الجدار. وقد انتشرت تلك المراوح في الأسواق بشكل كبير، ويبلغ متوسط سعرها نحو 70 ألف ليرة، ويمكن تشغيلها بواسطة بطاريات الإنارة البديلة، لكنها، ورغم حجم الإقبال الكبير على شرائها، تفتقد لأبسط شروط الأمان، إذ يمكن أن تتسبب بأذى جسدي إذا تم لمس فَراشها غير المجهز بأي شبك حماية، كما يمكن للفَراش أن يخرج من مكانه خلال دورانه، ويمكن للمحرك أن ينفصل عن القاعدة، نتيجة عدم القدرة على التحكم في سرعة دورانه.
بسطات وعربات لبيع الثلج
في ظل أزمة الكهرباء وشلل عمل البرادات في معظم البيوت بات توفير مياه الشرب الباردة أمراً صعباً بالنسبة لمعظم الناس، وهو ما اضطرهم لشراء الثلج بشكل يومي، ليتحملوا أعباء مادية أثقلت كاهلهم، هذا إلى جانب صعوبة توفير الثلج في كثير من الأحيان، نتيجة عجز كثير من البقاليات والمحلات التجارية عن تأمين التبريد اللازم لحفظه. وفي ظل هذا الواقع انتشرت منذ بداية فصل الصيف، في الشوارع وعلى الأرصفة، بسطات وعربات لبيع قوالب الثلج الكبيرة، حيث يقوم الباعة بتقسيم القالب، الذي يباع كاملاً بأكثر من 25 ألف ليرة، إلى نحو ستة قطع، تباع القطعة، التي تزن نحو كيلو ونصف كيلو غرام، بسعر يتراوح بين خمسة وستة آلاف ليرة. وإذا ما أرادت العائلة أن تستعين بالثلج لتبريد الماء فستحتاج بالحد الأدنى لقطعتين أو لثلاثة أكياس من مكعبات الثلج، هذا في حال تم وضعه في حافظة للبرودة، وهو ما سيكلفها نحو عشرة آلاف ليرة يومياً، أي 300 ألف ليرة شهرياً، ما يعادل راتب موظف حكومي تقريباً.
ورغم أن قوالب الثلج المباعة على العربات والبسطات قد أوجدت حلاً لمشكلة توفر الثلج، إلا أنها قد تكون عرضة للتلوث وغياب الشروط الصحية، فهي غالباً تُلفّ بمواد غير صحية كالخيش والبطانيات، وتتعرض لأوساخ وغبار الشوارع، هذا بالإضافة لعدم معرفة مصادر معظمها، فقد تكون مُصنعة من مياه ملوثة وغير صالحة للشرب، وفي معامل غير مرخصة ولا تخضع لشروط التعقيم والرقابة الصحية، لذا قد تؤثر سلباً على صحة الناس وتكون سبباً لبعض الأمراض، كونها غير صالحة للاستهلاك البشري، إذ كان استخدامها ينحصر سابقاً في تثليج الأسماك وبعض أنواع اللحوم.
برادات عاطلة عن العمل
اعتاد معظم الناس فيما مضى على تخزين وتفريز الأطعمة والمؤونة في ثلاجات بيوتهم، لتوفر عليهم الكثير من الجهد والأعباء الإقتصادية، وتتيح لهم إمكانية تحضير العديد من أصناف الطعام في وقت قصير. ولكن نتيجة ارتفاع درجات الحرارة وغياب الكهرباء تحولت معظم البرادات في بيوتهم إلى “نملية”، ليحرموا من أبسط عاداتهم اليومية التي كانت تغني مطابخهم، ويتخلوا عن عادات المؤونة وتخزين الطعام، فباتوا يطهون كميات قليلة منه خوفاً من تعرضه للتلف، ويكتفون بشراء كميات محدودة من المواد الغذائية كالألبان ومشتقاتها والخضار والفاكهة واللحوم، فيما لجأ البعض لوضع عبوات المياه في برادات الجيران، الذين تتوفر لديهم المولدات الكهربائية أو أنظمة الطاقة الشمسية، واضطر البعض الآخر للعودة إلى الطرق البدائية في تبريد الماء، كوضعه في أباريق الفخار، ولفِّ عبوات المياه بأكياس الخيش والأقمشة الصوفية لتحافظ على برودتها.
وفي محاولة بائسة لبعث الحياة في براداتهم التي أصبحت شبه خاوية، لجأ بعض الناس للاستعانة بقوالب الثلج وعلب المياه المجمَّدة ليضعونها في الثلاجة بجوار الأطعمة والمؤونة، ليحافظوا على صلاحيتها لأطول فترة ممكنة، حالهم كحال الكثير من محلات بيع اللحوم التي باتت تغطي بضاعتها بقطع الثلج الكبيرة، لتحافظ عليها من التلف، في ظل ارتفاع درجات الحرارة، وتكتفي بعرض كميات قليلة منها، نتيحة عجزها عن تشغيل مولدات الكهرباء التي ستُحمِّلها أعباء مادية كبيرة، تجعل عملها غير مجدٍ، وتضطرها لرفع أسعار بضاعتها التي تراجع حجم الإقبال عليها بشكلٍ كبير.
أزمة المياه تفاقم مرارة الصيف
في وقتٍ يحتاج فيه الناس للاستحمام لأكثر من مرة يومياً لمقاومة حر الصيف والتعرق الشديد، ساهم الانقطاع الطويل للكهرباء في خلق أزمة مياه في عددٍ من أحياء العاصمة ومحيطها وبعض المدن الكبيرة ذات الكثافة السكانية العالية، وذلك نتيجة شلل عمل المضخات المركزية، التي تضخ المياه من الآبار والخزانات الرئيسة إلى الشبكات التي تغذي الأحياء والحارات، لتحرم كثيراً من البيوت من وصول المياه إلى خزاناتها، وخاصة في ظل شلل عمل المضخات المنزلية. كما شهدت بعض المناطق عمليات تقنين في المياه، التي يتم وصلها ليومٍ واحد مقابل يوم أو يومين قطع، فيما اقتصرت مدة توريدها إلى مناطق أخرى على أربع ساعات على مدار اليوم وأحياناً ساعتين فقط. وقد أجبر ذلك الواقع الكثير من الناس على نقل المياه إلى بيوتهم بواسطة الغالونات، التي يملؤونها من البقاليات وبيوت بعض الجيران، أو على تعبئة خزانات بيوتهم من سيارات الباعة الجوالين، التي نشطت في الآونة الأخيرة بشكل كبير في عدد من المناطق كمدينة جرمانا، وقد وصل سعر برميل الماء لأكثر من خمسة عشر ألف ليرة، وهو ما شكل عبئاً مالياً إضافياً على الناس العاجزين حتى عن توفير لقمة عيشهم.
معاناة أخرى
ساهمت ظروف النزوح، خلال سنوات الحرب، في ازدياد حجم الكثافة السكانية بشكل كبير في دمشق ومحيطها وأريافها، وخاصة في المدن الكبيرة كجرمانا وصحنايا، وهو ما فاقم حالة الاختناق والاكتظاظ والازدحام البشري، وأدى لتزايد أعداد السيارات الخاصة والآليات ووسائط النقل والتكاسي، لتساهم بدورها بمزيدٍ من الاختناق وتلوث الهوء وازدحام الشوارع، وبالتالي في رفع معدلات درجات الحرارة، لتفاقم حجم المعاناة مع فصل الصيف.
وفي السنوات الماضية ازدادت نسبة البناء العشوائي في محيط دمشق وأريافها بشكل كبير، لتستوعب أعداد السكان القادمين من المحافظات الأخرى، وخاصة في مناطق المخالفات والعشوائيات، وقد ساهم شكل الأبنية العشوائية وغير المنظمة وتقاربها بل والتصاقها ببعضها في قتل مساحات التنفس وانعدام فرص التهوية أمام السكان، لتُطبق الخناق عليهم وتزيد من حرارة المكان.
ونتيجة تزايد الازدحام السكاني وانقطاع الكهرباء اكتظت معظم الشوارع والأرصفة وبعض شرفات البيوت بمولدات الكهرباء، التي يُشغلها السكان وأصحاب المطاعم والمقاهي والمحلات التجارية، ليساهم دخانها الكثيف في تلوث الهواء ورفع حرارة المكان وخلق شعورٍ من الاختناق لدى العابرين في الشوارع، هذا عدا عن ضجيج أصواتها التي تجعجع طوال الوقت لتصدِّع رؤوسهم وتطغى على أحاديثهم.
وفي ظل صعوبة التأقلم مع الحر الشديد داخل منازلهم، لم يبق خيار أمام كثير من الناس سوى الهروب منها إلى الحدائق العامة، المزدحمة بهم ليل نهار، ليفترشوا الأرض تحت ظلال الأشجار، حاملين معهم أطعمة ومشروبات تكفيهم لقضاء أطول وقت ممكن، فيما لجأ البعض إلى دخول المساجد، لقضاء بعض الوقت فيها، وخاصة خلال فترة الظهيرة، لينعموا بالقليل من هواء التكييف وبشرب الماء البارد.