الحرية وأطيافها المشعة في رواية “زهر القطن” لخليل النعيمي

الحرية وأطيافها المشعة في رواية “زهر القطن” لخليل النعيمي

في بادية مترامية الأطراف لا تلحظ بداية لها أو نهاية يستشعر خليل النعيمي جماليات الحياة العفوية والفطرية في بيئة قاحلة وجافة، إذ يراها مزركشة بالشمس والندى والهواء في روايته العاشرة “زهر القطن” الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، بسرد يحاكي السيرة الذاتية لتشابهها مع حيثيات حياته التي عاشها إلى حد ما.

بادية الشام ومنطقة الجزيرة مسرح أحداث وحياة شخوص عمل النعيمي التي توزعت عبر مونولوج داخلي بين شخصيتي الأب والابن وحوار قليل بينهما وبين آخرين.     كان الولد مسحوراً بقدرة أبيه على قص الحكايا وقدرته على الكلام والتعبير عن مكنوناته ليرينا جانبه الطفولي الآخر عبر الصمت الذي لم يستطع الطفل في داخله أن يعبر عن اسمه أو ينطق بإحساسه للبنية الشعثاء التي عشقها طفلاً ولذا عندما طلب من أبيه أن يعلمه الكلام كانت العبارة الذهبية التي تفوه بها الأب وهي :” من أراد أن يتكلّم، عليه أن يتعلّم”.  كانت هذه العبارة هي البوصلة التي تحرك بها وجدانه في حركة تنقله بالأمكنة عبر الصحراء الشاسعة التي تبتلع الحياة والتي استطاع الأب أن يتآلف معها ويطوعها وينحت أسباب الوجود والاستمرار بفعل طاقة الحكاية التي يتقنها، فطاقة الكلام دليل الأنسنة في بيئة تتماهى مخلوقات الوجود مع بعضها من نباتات وشوكيات وحيوانات وبشر، ودائماً كلها في مواجهة الفناء من أنواء الطبيعة؛ للجوع؛  للأمراض السارية؛ للرمال المتحركة.

  توق الابن للكلام جعل من التعلم هدفاً له ولكن كلما تطورت أسباب الوجود كلما ضاقت دائرة المسموح، حيث تفاجأ وهو التواق إلى المزيد من الانطلاق والحرية بأن الكلام له محاذير وخطوط حمراء يجب ألا يتجاوزها وهنا كانت أولى مواجهته مع القمع ليشير بذلك إلى حقبة نهاية الستينات التي أتت بعد فورة المد الوطني ونشاط الأحزاب السياسية بكل تنوعها.

 بدأ صاحب الخلعاء نصه بعتبات نصية متتالية ترك للقارئ مهمة فك ألغازها بدءاً من العنوان “زهر القطن” الشفيف الهفيف وعلاقته بهذه البيئة المتقشفة لنعرف أنه عاصر قطاف زهر  القطن وعرف النساء البيضاوات اللواتي يشبهن القطن في مواسم جنيه، وعبر استهلالات أخرى من أحد أقوال “دارون” تعكس البون الهائل بين التقدم العلمي وبين البيئة البدائية البعيدة عن الحياة التي عاشها أبطاله والقول الآخر الذي لخص فيه تاريخ الكائن بما يحكيه لنفسه وما يحكيه للآخرين وبما يفعله أخيراً ليخلص بعدها إلى الاستهلال الثالث بأن الحقيقة صيغة ذهنية محض لا علاقة فيها للغة والأشياء، هذه العتبات يقف عندها القارئ مطولاً محاولاً إيجاد علاقة بينها وبين النص الذي يكشف أسراره رويداً رويداً.

البادية والصحراء تحيل إلى الصمت والتأمل لاتساع الفراغ من حوله وعجز الكائن عن فهمها لذا تبدو وجوداً محملاً بالغموض والتوجس الذي يجعل الفرد يتأمل في أسرار الوجود وملابساته لتكون الحرية بالنسبة له للعقل والجسد، حرية كونت ملامح هويته التي بزغت في أعماقه بشكل فطري ومتصاعد.

تواكبت حكاية ترحل الابن مع بحثه عن أماكن التعلم، فمن مدرسة “سنجق شيخموس” في عامودا والتي نال فيها الشهادة الابتدائية لينتقل إلى مدينة الحسكة في مدرسة التجهيز للمرحلتين الإعدادية والثانوية حيث عاصر فيها بعضاً من النشاطات السياسية أواخر الستينات وبروز التيارات القومية واليسارية وظهور بعض الأحزاب ذات الشعارات العالية، ليصل بعدها إلى العاصمة ولينفتح وعيه على الحياة الواسعة في دمشق حيث رأى من بعيد قسوة الحياة غير المحتملة التي كان يعيشها هو وأهله في تلك البيداء المفتقرة لأوليات العيش.

خليل النعيمي من القلائل الذين استطاعوا التعبير عن إحساسهم بعوالم الصحراء المتقشفة بعد عبد الرحمن منيف وإبراهيم الكوني، حيث شح المكان والطبيعة الجرداء والعجاج الذي يسبب الاختناق وحجب الرؤية وتلك الرمال المتحركة التي تبتلع الحياة بالإضافة لكائنات الطبيعة المخيفة من جرادين وعقارب وحيات، طوعها لتكون وسيلة عيش وتيقظ لروح الكاتب العالية التي رأت جمالاً يشرق في نور الشمس المتلألئ في صباحاتها والندى الخفيف مبلبلاً أحاسيسه بنشوة لامتناهية، فرغم وجود أسرته في هذا الحيز من صحراء بخيلة ولكنها بذات الوقت مفعمة بمعاني الوجود المهيبة وممتلئة بالروح العالية للانعتاق من كل قيد، وربما كان قدرته وأهله على احتمال هذه البيئة ترجع لعدم معرفتهم بأي شكل لبديل آخر، وعاشوا فيها كما الإنسان الأول الذي ولد في الطبيعة وبدأ يتلمس أسباب الحياة والعيش ويتأنسن فيها.

يقول غاستون باشلار ” البيت هو ركننا في هذا العالم! ، ولهذا يتعلق الإنسان بمكان الولادة والطفولة، هو المكان الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة وتشكل فيه خيالنا ومن غيره يصبح الإنسان كائناً مفتتاً”. والنعيمي يتوافق مع هذا القول ويرى في المكان غير الثابت، الخيمة التي تتلاعب بها الريح في الحل والترحال وذلك التراب المترامي الأطراف ومكاناً أليفاً وحميمياً في كثافة وجوده الأول وركنه الأولي، فهو يقف مطولاً عند المكان الأول رمز الكينونة التي صاغت وجوده وأوليات وعيه، ذلك الجدار المائل المهتز لهوية تفتش عن مقومات وجودها، لبشر يختصرون الحياة بحكم وأقوال أفرزتها طبيعة المكان حيث يبرر كل سلوك اعتماداً على قانون حفظ البقاء” فكل ما يحتاجه الإنسان كي يحيا هو أكل حلال” بعيداً عن ثنائية الحلال والحرام لأناس لا يملكون قوت يومهم وتعبير “حبل الصدق قصير” في  كسر لبديهية المثل المعروف في المفاهيم السائدة وخاصة لجهة واقعية ما يجري في العلاقات الشخصية لأنه في حالات المكاشفة لا أحد يعرف “ما يلقى من نفايات عندما يكشف خفايا شخص آخر” وفق تعبيره .

الاحتفاء بالجسد وإطلاق العنان لحاجاته ورغباته جزء أكيد من عناصر تكوين شخصيته وأسلوب فهمه للتعالق مع الحرية كنزوع طبيعي للإنسان لا يعترف فيها لما يصادرها من قوانين وتشريعات وأعراف ونظم سياسية، لأنها شيء أصيل في وجوده وهو حق له لا منة لأحد فيها، في التقاطه العالي لمعنى الألوان في الطبيعة البكر التي نشأ عليه ليكون الجنس ملفعاً ببياض الأنثى الذي امتزج مع رهافة ولون زهر القطن ضمن إحساس شفاف بصفاء اللون وعفوية التمازج وبعيد عن فهم التحريم والتدنيس للعقلية الذكورية المتعارف عليها.

 في تلك البادية المترامية الأطراف عاش بطله وكأنه الكائن الأول في الوجود، وفيها كانت أولى إرهاصاته لتحديد هويته وملامح كيانه، كان أشبه بذرة رمل في تلك البيداء الواسعة لا شيء يميزه عن سواه لدرجة أن الكاتب لا يعطيه اسماً في تضمين فكرة إن لا كينونة تميزه أو هوية تعبر عنه،  ولذا كان نزوعه الفطري تجاه الحرية، حريته ككائن فطري ما من حواجز تعوق حركته أو ما يفكر به ومن هنا كانت استجابته الطبيعية لنداء الجسد فهو لم يلقن بكوابح الغريزة الاجتماعية وموانع الأعراف ولكنه الجوع رفيقه الدائم وقسوة مريرة في الحياة لم يدرك هولها إلا عندما غادرها ولذا كان ارتحاله الدائم بحثاً عن كينونة ووجود بما فيها من كشف واكتشاف لعوالم جديدة تشبع قلقه الشخصي والمعرفي لمجاهل الوجود.

من المعروف أن الرواية فن ارتبط بالمدينة، ولا يعني ذلك أن أحداثها تقع في بيئة مدينية وإنما تتضمن وعي الكاتب الذي دخل معمعة المدينة وفهم أجواءها وتنوع عوالمها واتساع مجاهل خبراته فيها لتكون المدينة بوابته إلى العالم الفسيح الذي أضاء له الاهتمام بأدب الرحلات الذي انعكست ظلاله في روايته التي بين أيدينا، مما يثير التساؤل أهي سيرة ذاتية للكاتب وهو المهووس بالترحال، وربما هذا الميل للارتحال دليل نزوعه لفلسفة الطريق “الكافكاوية” ولذا كان أدب الرحلة ميداناً واسعاً خاض فيه ونجم عنه أكثر من كتاب على غرار “كتاب الهند الطريق إلى قونية” وسواها يعكس فيها مقاومة الحنين للمكان الأول بالمزيد من الترحال، فلحياته الشخصية آثار كثيرة نراها مبثوثة في ثنايا العمل وبعيدة عن الأسلوب التقريري في توثيق أي حكاية بل كان ميدان الذاكرة خزاناً خصباً لاشتغالات السرد في تكثيف بؤر جمالية علقت بمخيلته وأثرت على حياته وأسلوب عيشه ومن الاتساع إلى الاتساع من البادية إلى البحر نهاية المطاف وكأن العوالم لا تسعه فيهرع إلى الأوسع والأبعد ..الأبعد

يطرح القراءة كبديل عن الفعل أو كعلاقة استدلال في المحيط المنظور إذ يقذف بأسئلته لوعي القارئ: ما جدوى القراءة إذا لم تغير واقع الإنسان ويعجب كيف احتمل كل ذلك الجوع من كل النواحي في مغامرة سردية محدودة الشخوص ولكن يقابلها توغل في عالمهم الداخلي حيث يرصد ذلك  التيه في الصحراء: “عرفنا مصيرنا إن بقينا رابضين كالكلاب في مكان لم يعد يلائمنا”. من هنا يبدأ لديه هوسه بأدب الرحلات فهو يرى أن تنقلاته ضمن بلده على اختلاف جغرافيتها وتنوع تضاريسها أفرزت لديه وعياً جديداً وفهماً أوسع للحياة مما حرض لديه المزيد من الرغبة باكتشاف عوالم أخرى وهو التواق للحرية ليصطدم بالقمع في المدينة، عندما اصطدم بمحققين يسألونه عن ديوان شعر أصدره بحجة الحرب التي تدق أبوابها ليتساءل  “لماذا لا تقوم الحرب وننتهي من هذا الاحتضار فالراحة والعذاب شيء واحد” وربما يستطيع كل شخص أن يدع  أموره تمشي بقليل من التنازل ولكن هو لا يستطيع لأنه فطر على الحرية على كل المستويات  ليفر إلى بيروت  حيث لا يعرف إلى أين،  هل هو الهروب إلى العدم أو إلى عدم العدم الخيارات الآتية مفتوحة على أسوأ الشرور أو أقلها وربما إلى خير كبير يمكن أن يصيبه، ما من يقين في شيء من ذلك، غير أن الثابت ذلك النزوع الكبير للحرية واكتشاف مجاهل جديدة وبوابات مختلفة للوجود لتكون النهاية المتلجلجة بين التردد للعودة وبين سير السفينة الذي يحسم هذا التردد بتحرك المركب مساقاً إلى أقداره الآتية. 

سوريا: صحة الفم والأسنان ليست على قائمة الأولويات

سوريا: صحة الفم والأسنان ليست على قائمة الأولويات

على مدار سنوات، عانت دليلة (68 عاماً- ريف دمشق) من تسوس ونخر ظاهرين في عدد من أسنان الفكين السفلي والعلوي، مع ذلك لم تقدم على زيارة الطبيب بسبب تردي الوضع المادي للعائلة، غير أنها قررت أخيراً الخضوع لسلطة الأمر الواقع نتيجة ألم مباغت في ضرس سفلي مكسور، بقي جذره عالقاً منذ عقود.

أثناء المراجعة، نصحها الطبيب بانتزاع الضرس كلياً، وتركيب جسر (تعويضات سنية) عوضاً عنه في حال لم تفلح المسكنات، لكن بعد احتساب التكلفة، اكتفت المريضة بمسكن آلام نجح في تهدئة الوجع مؤقتاً؛ على إثره، شعرت دليلة براحة نفسية لأنها أجلت الإصلاحات إلى أجل غير مسمى.

وبعد سؤال عدد من المرضى والأطباء، تبين أن تكلفة “تلبيس” معدن زيركون (وضع تاج فوق السن المتضرر) لضرس واحد فقط متفاوتة، وقد تصل إلى حدود مليون ونصف ليرة سورية، غير أن تكلفة معالجة نخر وإضافة حشوة دائمة تقترب من حدود 500 ألف ليرة سورية في عيادات خاصة متنوعة ضمن مركز المدينة، بيد أن التكلفة تنخفض ضمن بعض المراكز الطبية أو عيادات في أحياء شعبية وحتى بريف دمشق.  

اشتكى طارق مؤخراً من ألم في أحد الأضراس، ما دفعه إلى قصد طبيب أسنان قريب من مسكنه في منطقة مزة 86، بلغت تكاليف حفر الضرس وتعبئته بحشوة دائمة 150 ألف ليرة سورية بعد خصم الطبيب 50 ألف ليرة من الكلفة الكلية لكون طارق أحد زبائن العيادة السابقين.

شعر طارق بأن التكلفة مرتفعة بالمقارنة مع المراجعة الأخيرة لسبب مماثل، ونظراً لتذبذب الأسعار وضع في حسبانه أنها ستصل إلى 100 ألف ليرة. مع ذلك يعتقد طارق أن أجور الطبيب تبدو معقولة بالنظر إلى أجور عيادات أخرى في مركز المدينة، ولهذا تشهد عيادته ازدحاماً. 

ينقل طارق عن الطبيب شكواه الدائمة من قلة توفر المواد الطبية وارتفاع ثمنها المستمر، وفي ظل تقنين حاد في الكهرباء، يرتكز الطبيب على مصدر طاقة شمسية لتشغيل أجهزة عيادته.

قطاع صحة متدهور

يبرز تقرير (هدر الحق في الصحة خلال النزاع السوري) الصادر عن شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية، والمركز السوري لبحوث السياسات في عام 2023 مكانة الاعتماد على الدعم الإنساني بعد ما أدّى النزاع إلى تدهور حاد في خدمات الصحّة العامّة والتمويل الخاص بها، حيث انخفض الإنفاق على الصحّة العامّة بنسبة 68% بالقيمة الفعليّة بين عاميّ 2010 و2020. (المركز السوري لبحوث السياسات 2021).

وبحسب التقرير، رافق هذا التدهور تزايد كبير في الاحتياجات الصحية، وزيادة الحاجة إلى الدعم الإنساني الدولي. ويستند التقرير إلى بيانات خدمة التتبُّع المالي التابعة لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية؛ إذ تلقى قطاع الصحة حوالي 2.3 مليار دولار أميركي، ما يمثّل 9.3% من إجمالي التمويل الإنساني المقدّم إلى سوريا عبر برامج الاستجابة الإنسانية منذ العام 2011 حتى العام 2022.

وبعد حوالي 13 عاماً من اندلاع النزاع، تقدر منظمة الصحة العالمية عدد الأفراد الذين يحتاجون مساعدات صحية بـ 15 مليون شخص؛ أي 65% من السكان.

معالجة مكلفة

على الطرف الآخر، يبدو المشهد الاقتصادي مربكاً، فمع بداية شهر تموز 2024، ارتفع وسطي تكاليف المعيشة لأسرة سورية مكوّنة من خمسة أفراد إلى نحو 13 مليون ليرة سورية، أما الحد الأدنى فقد وصل إلى 8 ملايين ليرة سورية، وفقاً لـ”مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة” الصادر عن صحيفة (قاسيون) المحلية.

ولا يتناسب حجم الإنفاق العام للأسرة مع الدخل الشهري، حيث يبلغ وسطي الرواتب والأجور في القطاع العام حوالي 300 ألف ليرة سورية (21 دولاراً أمريكياً).

ويحد انخفاض الدخل وتضخم الأسعار من قدرة المرضى على مراجعة عيادات طب الأسنان، كذلك يلعب الألم دوراً في تقرير زيارة الطبيب من عدمها. يعمل طبيب الأسنان أنس الحريري في عيادة بمنطقة جديدة الشيباني بريف دمشق. خلال عمله، لم يصادف الطبيب حتى الآن معالجات وقائية ومعاينات دورية للاطمئنان على صحة الفم والأسنان مرجعاً ذلك إلى تردي الوضع الاقتصادي للأفراد.

يفيد الحريري بأن نسبة الحالات البسيطة التي كانت تراجع الطبيب مثل النخر أو الوجع الطفيف باتت أقل. لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث أسهم تدهور الدخل إلى جانب الجهل في إهمال المعالجات أو الأمراض اللثوية ما دامت لا تسبب ألماً، يعقب الطبيب: “على الرغم من أن تداعياتها خطيرة، وقد تسبب فقد أسنان”.

ولا يزال يُقبل قسم من المرضى على المعالجة التجميلية وتبييض الأسنان، إلا أن الطبيب يقول: “إن القسم الأكبر من الحالات يرتبط بألم شديد يمنع المريض من النوم مثل الخراجات”.  وعن الفئات العمرية التي تقصد العيادة، يوضح أن فئة الأطفال هي الأكثر حضوراً.

 ويسجل الطبيب الاختصاصي بعض ملاحظاته المرتبطة بتدهور الوضع الاقتصادي، حيث يطلب بعض الأهالي اقتلاع السن المؤقت للطفل بدلاً من المعالجة بهدف تقليص التكلفة إلى الحد الأدنى على الرغم من خطورة أن يفضي الإجراء إلى مشاكل تقويمية لاحقاً، بحسب تحذير الطبيب لذوي الطفل.

استيراد مرتفع الثمن

لا يخفي الحريري أن معالجة عدة أسنان مثل “سحب عصب” (إزالة اللب والعصب المصاب من جذر السن) وغيره تتطلب أجراً يعادل دخل أكثر من شهر لموظف أو عامل، مع العلم أن تسعيرة المعالجة في الريف أقل من العاصمة.

وانعكس تأثير الأزمة الاقتصادية وصعوبة الاستيراد على أسعار المواد الطبيبة أيضاً، يشير الطبيب إلى أن أغلب المواد مستوردة، وهي إما مفقودة في السوق أو متوفرة بأسعار تتجه نحو الارتفاع بين أسبوع وآخر، ومن جهة ثانية فإن الجهات الموردة باتت معدودة، ما سيزيد سعر المعالجة في المحصلة النهائية.

وبالنسبة للأطباء، تبدو الموازنة صعبة بين رفع أجور المعاينة للمرضى، وبين زيادة التكاليف نتيجة الارتفاع المستمر في أسعار المواد واحتياجات العيادة الأخرى؛ لذا يتخوف طبيب الأسنان أنس الحريري من أن رفع أجور معاينة ومعالجة الأسنان قد يخفّض نسبة المرضى المراجعين للعيادة بالتوازي مع تدني مستوى الدخل.

خارطة سورية مقسمة بمجاري الأنهار: والسوريون ضحايا انعدام الأمن المائي

خارطة سورية مقسمة بمجاري الأنهار: والسوريون ضحايا انعدام الأمن المائي

كانت السباحة في نهر الخابور أو الفرات أحد النشاطات المحظورة علينا حينما كنا صغاراً إن لم يكن برفقتنا أحد من ذوينا، وذلك لأنهما كانا كغيرهما من الأنهار السورية في النصف الأول من التسعينيات خطرين بفعل استمرارية التدفق ومن الخطورة بمكان السباحة فيهما، وإن بقي الفرات بنسبة ما يتدفق حتى وقتنا الحالي، فإن أنهاراً مثل «الخابور وجغجغ – وزركان و – البليخ – والساجور”، باتت أنهاراً شبه جافة، ويمكن تشبيهها بـ “الوديان السيلية”، لعدم استقرار الجريان فيها وهي مرهونة بارتفاع معدلات الأمطار، والحال ذاته ينطبق على أنهار أخرى في سورية مثل العاصي وبردى واليرموك والكبير الجنوبي والكبير الشمالي وقويق وعفرين والنهر الأسود، إضافة إلى أنهار صغيرة في منطقة الساحل السوري، كلها باتت شبه جافة، وجريانها لم يعد يصل إلى مستويات التدفق التي كانت تعد طبيعية واعتيادية في ثمانينات القرن الماضي، وهو مرتبط بالأمطار وحسب.

انعكاس للمشكلة

يمكن اعتبار أزمة مياه الشرب التي تعاني منها مدينة الحسكة و54 منطقة وقرية تتبع لها في الريف الغربي انعكاساً لمستوى “الأمن المائي”، الذي تعيشه سورية حالياً، فالمحطة المشكلة من 22 بئراً كانت تعد  المصدر الوحيد لمياه الشرب لهذه المنطقة قبل دخول القوات التركية إليها في تشرين الأول من العام 2019، وكانت “آبار علوك”، تعد في حسابات الحكومة السورية مصدراً احتياطياً وبديلاً لـ “محطة آبار رأس العين”، التي دخلت خارطة الحرب في وقت مبكر من عمر الحرب في سورية، وخرجت عن الخدمة بفعل سرقة محتوياتها بعد خروجها عن سيطرة الدولة في العام 2013، وحين البحث عن مصادر بديلة لـ علوك في المحافظة التي تحتوي ثلاثة سدود رئيسة هي “الشرقي – الغربي – الجنوبي”، تقول مصادر هندسية لـ صالون سورية إن المسطحات المائية للسدود الثلاثة لم تكن ضمن خيارات البدائل، فبحيرة السد الغربي في أدنى مستوياتها، وتتصل مع بحيرة السد الشرقي ذات العمق الضحل وبالتالي ارتفاع مستوى العكارة فيها لمعدل غير قابل للتعقيم، أما بحيرة السد الجنوبي والتي تعد الأكبر لم تكن صالحة للشرب بسبب ارتفاع مستوى الشوائب الثقيلة ضمن العينات المائية التي قطفت وأرسلت من قبل المؤسسة العامة لمياه الشرب في الحسكة إلى مخابر الوزارة لتحليلها والحصول على النتيجة التي كانت متوقعة قياساً على مستوى التسرب النفطي الذي شهدته البحيرة بين العامين 2015-2016 من حقول النفط الواقعة إلى الشرق من البحيرة وتعرف باسم “حقول البريج”. وعلى الرغم من أن الحكومة السورية كانت قد بدأت في مرحلة ما قبل الحرب بمشروعين ضخمين في المنطقة، الأول استجرار مياه نهر الفرات لتكون مياهاً للشرب في محافظة الحسكة، ولم يكتمل المشروع بسبب الحرب، والثاني وضع حجر الأساس في آذار من العام 2011 لاستجرار الحصة السورية من مياه نهر دجلة نحو منابع الخابور في رأس العين بما يعني أن المنطقة ستكون مؤمنة  من حيث توافر المياه وتوسيع شبكات الري الزراعي، لكن المشروع لم يعد مسافة أبعد من “حجر الأساس”، بفعل الحرب أيضا. تقول معلومات نقلتها مصادر هندسية لـ صالون سوريا، إن مشروع استجرار مياه نهر الفرات اكتمل وبالفعل وصلت كميات تجريبية إلى خزانات الضخ التابعة لمؤسسة المياه في مدينة الحسكة، لكن لا يبدو أنها ستدخل ضمن كميات كافية للمدينة وما يتبعها من مناطق، وسيبقى نحو مليون ونصف الميلون من السكان متأثرين بالصراع السياسي بين القوات التركية وقوات سورية الديمقراطية الذي تحولت “محطة علوك”، إلى إحدى أهم أوراقه، وحتى الوصول إلى حل يعيش السكان على ما توفره الصهاريج من مياه بسعر يصل إلى 7000 ليرة سورية للبرميل الواحد، أي تكلفة أسبوعية تصل إلى 90 ألف، وشهرياً إلى 360 ألفاً، أي ما يعادل 24 دولارا شهرياً في ظل مستويات دخل لا تزيد عن 100 دولار شهرياً في أحسن الأحوال.

الفرات.. تحت رحمة السياسة

كشفت معلومات حصل عليها “صالون سوريا”، من مصادر هندسية أن العاملين في سد الفرات يحاولون الوصول بمخزون البحيرة إلى الحد الأعظمي بعد سنوات من عدم الوصول إليه، وذلك بالاستفادة من مستوى تدفق مستقر عند حدود 350 متراً مكعباً في الثانية من الأراضي التركية، علماً أن الاتفاق الذي وقع مع أنقرة في ثمانينيات القرن الماضي ينص على ضمان الجانب التركي لتدفق لا يقل عن 550 متراً مكعباً في الثانية، وتلتزم سوريا بتمرير 54 بالمئة من الوارد المائي نحو العراق، ويعد “سد البعث”، في الرقة آخر السدود الثلاثة التي بنتها الحكومة السورية على مجرى النهر إضافة إلى سدي الفرات وتشرين. وتقول المصادر ذاتها إن قلة الوارد قد تلمس في انخفاض مستوى النهر في مناطق الرقة قبل سد البعث، أما ما بعد السد وصولاً إلى البوكمال قد لا يلمس من قبل السكان انخفاض مستوى النهر إلا إن قل الوارد لمستوى أقل من 200 متر مكعب بالثانية من الأراضي التركية، وهذا الانخفاض ينعكس على عدة مستويات، أولها من ناحية جودة المياه التي تنقل من النهر إلى محطات ضخ مياه الشرب، والثاني بتوقف محطات الرفع والضخ الخاصة بالري، والثالث من حيث انتشار الحشرات وارتفاع مستوى التلوث في بعض مناطق النهر الأمر الذي يساعد على انتشار الأمراض الوبائية في مناطق ريف دير الزور والرقة.

وفي هذا الصدد يقول أطباء من محافظة الرقة إن هناك حالات اشتباه بعودة مرض “كوليرا”، للظهور في مناطق الرقة ودير الزور خاصة في المناطق الواقعة إلى الشرق من نهر الفرات بسبب ارتفاع مستوى التلوث وانعدام التعقيم في محطات ضخ مياه الشرب، كما إن المسطحات المائية والسواقي التي تأخذ مياهها من الفرات تحولت في أجزاء منها إلى ما يشبه المستنقعات الأمر الذي يساعد على تكاثر الحشرات بشكل كبير في ظل غياب عمليات مكافحتها، ما يؤدي إلى الاشتباه بوجود مرضا “الملاريا”، عند بعض المرضى، ولا يمكن البت في تشخيص هذا المرض تحديداً لانعدام وجود القدرات المخبرية في مناطق الرقة ودير الزور التي تسيطر عليها “قسد”، وأخطر ما في الأمر أن السكان ولقلة وصول مياه الشرب لقراهم يعتمدون على مصادر غير آمنة لمياه الشرب ما يزيد من معدلات الإصابة بـ الأمراض الوبائية أو حتى الوهمية.

ري بالملوث

الأمر ذاته ينسحب على مناطق دمشق وريفها التي تعاني من قلة الوارد المائي من نهر بردى بفروعه كاملة خلال فترة الصيف وتحول أجزاء كبيرة منه إلى مجرى للصرف الصحي فقط. وبحال مماثلة تقريباً تعيش الأراضي الزراعية في مناطق حوض العاصي في محافظتي حماة وحمص، ونتيجة لاعتماد مصادر ملوثة لري المزروعات فإن احتمالية انتشار أمراض مثل “الكوليرا”، تبدو مرتفعة بشكل كبير.

يقول “أبو مصطفى”، في حديثه لـ صالون سوريا: أبلغ من العمر ستين عاماً، وأذكر أن بردى في سبعينيات القرن الماضي وحتى منتصف الثمانينيات كان مقبولاً، لكنه ومنذ أزيد من 35 عاماً تحول إلى مجرى للصرف الصحي صيفا، ونهر ملوث بنسبة كبيرة خلال فترة الشتاء إلا إن كان مستوى التدفق كبيراً في السنوات التي تشهد أمطاراً غزيرة، وعلى الرغم من معرفتي وغالبية الفلاحين بتلوث مياه بردى بمعدلات عالية إلا أننا لا نجد بديلاً لري المساحات الزراعية التي نملكها، لكن لا بد من الإشارة إلى أن ازدياد عدد المعامل والورشات المرخصة وغير المرخصة التي تصل مخلفاتها إلى النهر أحد أهم أسباب ارتفاع معدل تلوث المياه، ومع ارتفاع تكاليف حفر الآبار وصعوبة الحصول على تراخيص لذلك، يبدو أننا سنبقى نروي مزروعاتنا من بردى، أو سنقوم بحفر آبار بطرق غير نظامية ولو كان الأمر مكلفاً.

في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية في ريف حلب الشمالي، يعتمد السكان على حفر الآبار في ظل غياب وجود سلطات معنية بتنظيم استخراج المياه الجوفية التي تُعد الخزان الاحتياطي لسورية في سنوات الجفاف، ويقول “أبو ميلاد”، القاطن بالقرب من مدينة عفرين: لا يمكن الوصول إلى النهر، فأرضي بعيدة عنه، وهو أساسا شبه جاف في فصل الصيف، لذا حفرت بئراً بتكلفة عالية جداً قبل سنوات تعادل 5000 دولار أمريكي تقريبا، وهو الخيار الوحيد لضمان وجود مياه تؤمن عائلتي على مستوى الشرب ومزرعتي على مستوى الري الزراعي.

“ماويّة” حكايات اليباب الشاسع ومتعة السرد المزدوج

“ماويّة” حكايات اليباب الشاسع ومتعة السرد المزدوج

“قصص في اتجاه واحد” عنوان فرعيّ أرفقه القاص أنس ناصيف بالعنوان الرئيس “ماويّة”. وماويّة، بحسب الكاتب، قرية تقع شرق مدينة سلميّة في محافظة حماة. وبحسب معرفتي، فإنّ مفردة ماويّة باللهجة العاميّة، تطلق في مناطق من الريف السوريّ، لوصف كلّ ما هو نديّ ورطب، وكأنّ فيه ماء. وقصص هذه المجموعة_ منشورات المتوسّط، إيطاليا 2024_ تنبع من ماويّة، ثمّ تمضي في اتجاه واحد، وهو مصير هذه القرية في الحرب السوريّة الراهنة.

ماويّة المكان الرئيس الحاضر دائماً، حيث يرصد أنس ناصيف في متوالية قصصيّة سيرورة عديد من أهلها وصيرورتهم، قبل الحرب وانتهاء بها. في هذه المتوالية تتوافر الأحداث، وتتكاثر الشخصيّات بين عابرة وثابتة، يتكرّر حضور بعضها في القصص مع إضافة فكرة عنها أو أكثر لتملأ حيّزها السرديّ المحدّد لها. للقصص سارد وحيد، يحكي بضمير المتكلّم “أنا”، هو ابن ماويّة، مقيم فيها، وله دوره الخاصّ في قصص عدّة، لتأكيد المصداقيّة وقوّة التأثير.

يتجاور الزمن السردي والزمن الواقعي ويتشابكان باتساق متقن، يبدأ الزمن السرديّ عندما:”وصلت المعارك إلى ريف حماة الشرقيّ، وأصبحت ماويّة إلى جوار جبهة قتال عريضة بين النظام وعدد من التنظيمات، بدأت بقوّات تتبع للمعارضة وانتهت بداعش.” وصولاً إلى يوم هجوم داعش وارتكاب مجزرة أخرى فيها. أمّا الزمن الواقعي فهو بشقّين الحاضر والماضي، يتناوبان في حضورهما في القصص برمّتها. الماضي مثقل بالحياة والعيش رغم الضيق، والحاضر مثقل بالموت والضيق الأشدّ! ومحظوظ هو من استطاع الهرب والنزوح، بحقيبة ملابس وصور العائلة.

يتماشى السرد سلساً، عفويّاً، وممسوكاً بإحكام واتزان، فلم يترهّل رغم تعدّد الشخصيّات والأحداث في القصّة الواحدة. سرد حيويّ رشيق، وغنيّ شيّق، يكتظّ بحكايات حاضر الشخصيّات وماضيها، بطباعها وأمزجتها، وانشغالاتها المختلفة. الماضي آمن إنّما غير بهيج، وكأنّما “ماويّة” مولودة من رحم الفقر والتهميش، وأهلها منذورون للكفاح الدؤوب، يعملون في مهن مختلفة؛ مزارعون، تجّار مواشي، دكنجيّة… شخصيّات عاديّة ومهمّشة، رافضة للفساد والظلم لكنّها عاجزة، بينها نورس ذو الإعاقة الذهنيّة، وقد ساعدته إعاقته في إبراز شجاعة لا يجرؤ عليها العقلاء من حوله. يحبّه الجميع ويتعاطفون معه، حتّى أنّ الكاتب أفرد له قصّة جميلة وقاهرة بعنوان “المجانين يصيبون منذ المرّة الأولى”، وجعلها فاتحة القصص.

تتأرجح النصوص بين الفنّ القصصيّ وبين الفنّ الروائيّ، تقارب النوفيلا/الرواية القصيرة أحياناً كثيرة. ففي هذه النصوص تغيب شروط القصّة القصيرة الأساسيّة: زوايا التقاط الأحداث الرئيسة، الخواتيم التي تشكّل لحظة التنوير، وحضور عدد قليل من الشخصيّات والأحداث. استعاض عنها القاصّ بسرد تقليديّ جاذب، وتكثيف واقتصاد لغويّ لافت، وحداثة في الشكل. توزّع السرد في نصوص بعناوين منفصلة، إنّما ليست فصولاً روائيّة، بل حافظ كلّ نصّ فيها على فرادته وخصوصيّته، ليجسّد قصّة قصيرة تامّة. قصص جمعها ناصيف بخيط سرد روائيّ يخصّ وحدة المكان والزمان وظهور بعض الشخصيّات في نصوص عدّة. سرد تقليدي يتوهّج في ازدواجيّته المدهشة، طافح بحكايات الناس في ماويّة، أحداث كثيرة وتفاصيل اكتظّت بها حياتهم، بعضها يثير السخرية والضحك أحياناً، والسخرية هنا بقصد إبراز مفارقات الحياة البشريّة عامّة، وحسب. نتابع الأحداث بعين تصدّق ونفس تتأثّر، وصولاً إلى النهايات المريعة من نزوح، وإعاقة، وموت كثيف؛ قُتلت أغلب الشخصيّات. تتطوّر الشخصيّات بتطوّر الأحداث، وإن ورد تصوير لحدث ما يخصّ الحرب وكوارثها، فليس المقصود عرضه لذاته، إنّما وظّفها ناصيف بإتقان في سياق السرد، فهي تشكّل الركيزة الأساسيّة في تطوّر الشخصيّات، وانقلاب نمط حياتها المفاجئ رأساً على عقب، وفي تحديد مصائرها في النهاية. 

أمّا القصّة الطويلة والمؤثّرة “ومضت لتنطفئ” وهي الأطول بين القصص، فإنّها تشمل عناصر النوفيلا وتجسّدها بامتياز. فبطلها “نعيم” شابّ عاديّ يسعى للعيش ببساطة وكرامة، خجول ومسالم، يعاني من مشاعر اليتم والوحدة، يحلم منذ الصغر بالسفر إلى خارج البلاد كي يرى العالم. تعترض حياته عراقيل وخيبات عديدة، يجتازها من دون صخب أو استسلام. تظهر حوله شخصيّات عديدة، بينها من حضر في قصص أخرى، فتجري أحداث جديدة، من خلالها تبرز جوانب أخرى من شخصيّته، وتطول سيرته. ذات يوم يطلّ الأمل على نعيم، ليدبّ الحماس فيه ويخرجه من قوقعته ماويّة للمرّة الأولى، فيذهب إلى مدينة سلميّة لتأمين مستلزمات دكانه الذي تطوّر هو الآخر من بيع الفلافل وتوابعها وحسب إلى مطعم لخمس خبراء صينيّين. يعزّز مجيء هؤلاء حلم نعيم بالسفر إلى الصين. لكنّ الحرب جعلت الأمل مجرّد وميض سرعان ما انطفأ! وينتهي نعيم إلى ما لم يكن متوقّعاً! فنلمس المفارقة في اسمه، والتلميح إلى الواقع الأليم عبر العنوان المخاتل “ومضت لتنطفئ”، واقع يشمل البلاد كلّها!

يتناوب خطّا السرد الروائيّ والقصصيّ باقتدار في رسم لوحة جداريّة لـماويّة، وتصوير بعض من عاداتها وطقوسها والمعتقدات، الأحلام الصغيرة والأشغال، النجاحات الضئيلة والانكسارات الكثيرة، ومواكبتها للحداثة والتكنولوجيا، شخصيّات تتكاثر وأحداث تتناسل، وصولاً إلى اليوم المأساويّ الرهيب، وزّعها ناصيف بحذاقة فنّيّة على سطح اللوحة بأكمله، حيث تبرز حكاياتها متّصلة ومنفصلة في آن معاً. قصص واقعيّة صيغت بأسلوب تقليديّ تخلّلته حوارات مدروسة ومقنعة، وللمصداقيّة، ورد بعضها بلهجة عاميّة ماويّة إنّما مفهومة، ومن دون مغالاة. وبخيال يحلّق فوق أرض الحكايات، وبقليل من التلميح وكثير من التصريح، يمسك الكاتب بتلابيب القارئ حتّى النهاية، يأسره بمتعة الفنّ، بتوهّج السرد التقليديّ، بتماسكه وحيويّته، بالصدق، وبساطة اللغة، بالحبّ الكبير لماويّة، بحلوها ومرّها ومفارقاتها المضحكة والمبكية، أدرجها ناصيف بإسهاب غنيّ وشيّق، لا شطط فيه أو لغو. يحكي بلغة أنيقة وشفيفة، يعرّفنا ببعض الشخصيّات كلّ على حدة، عن بساطتهم وطيبتهم، تحرّكاتهم وأعمالهم، نزقهم وشجاراتهم، ذكائهم وجهلهم، فقرهم وقلّة حيلتهم، صبرهم وتآزرهم، محبّتهم للغناء وترديد العتابا، وتفضيلهم الحياة الهادئة الرتيبة الآمنة. ونساء ماويّة مكافحات، كرامتهنّ وحفظ العائلة فوق كلّ اعتبار، ذوات أكتاف تحمل أطناناً من المسؤوليّة وقوّة التغلّب على الضنك في الظروف كلّها، مثل عزيزة، في القصّة البديعة “دائرة أمّ محمّد عزيزة”، وهي وغيرها من الشخصيّات الرئيسة تلتصق بذاكرة القارئ.

تتسيّد بطولات فرديّة القصصَ، باستثناء القصّة اللافتة “باص الشام” فالبطولة فيها جماعيّة. عشرات الركّاب يسافرون إلى العاصمة كلّ لمبتغاه، بينها تبرز شخصيّات عديدة، يسلّط القاص السرد عليها، وكعادته، يثير القاص الضحك والإحساس بالأسى والقهر معاً. ركّاب يجمعهم المنبت الواحد، والشعور الواحد بالخوف من تكاثف الثلج ومن الحواجز الأمنيّة، وبالرعب حين عبورهم الطريق الذي، يتربّص فيه عادة أحد قنّاصيّ المعارضة المسلّحة بوسائط النقل القادمة من مناطق محسوبة على النظام! ليجمعهم المصير الواحد أيضاً. يختم السارد قائلاً:”عشرات القلوب كانت تخفق فوق أربع عجلات، خفّضت رأسي، ورحت أفكّر كيف سينتهي هذا الطريق المخيف، ومتى سنعبر.” سؤال يُجمع عليه السوريّون حتّى اليوم، وقصّة تشملهم جميعهم!  

في خضمّ حياتهم المعتادة وسعيهم لتأمين كفاف العيش، يجد الأهالي أنفسهم بغتة وسط حرب تقود مصائرهم، وترسم خواتيمهم القاسية والمرعبة. قرية لا ناقة لها أو جمل في هذه الحرب، فنأت بنفسها عمّا يجري منذ انطلاق الانتفاضة في البلاد، الأمل الذي لم يتعدّ الوميض، إذ سرعان ما تحوّلت الثورة إلى حرب. ذاك النأي لم يشفع لماويّة المسالمة، فانهالت عليها الكوارث من ضفّتيّ الاقتتال! وهي كما يقول السارد:”القرية الصغيرة عليها أن تكابد ذلك الموت كلّه.” يحكي السارد تفاصيل ما حدث لماويّة من دون إطلاق أحكام تخصّ أيّاً من طرفي النزاع، ففيما يبدو يؤثر الرؤية بعينيه الاثنتين، ليحقّق اتزان المنطق الموضوعي وإقناعه. فالحرب لا شكّ، تطحن الجميع!

وسط ذلك الإبهام والعماء المرعب، لم يتوقّف الأهالي عن أعمالهم اليوميّة، وتبعاً للسارد: “امتصّت ماويّة الحرب دون أن تفهمها، فراح يناور سكّانها داخل متاهة الممكن لتحصيل لقمة العيش، وللمضيّ قُدماً وإن برؤوس أطرقت في الأرض من شدّة الفقد والخوف.” حين سئلت أم محمد عزيزة الخمسينيّة عن رأيها في الثورة، أجابت:”رأيي لا بيقدّم ولا بيأخّر عدم المؤاخذة.” وبثلاث كلمات فقط أجاب علي المدلّل الثمانينيّ سائله عن رأيه بإسقاط الرئيس، فقال:”حاج بقا، تعبنا.” تعب هذا العجوز الذي عاش طول عمره محتمياً في ماويّة وراضياً، بعيداً عمّا يحدث خارج بيته، لا يأبه بأيّ تغيير، لتأتي الحرب التي لن تكتفي فقط بأن:”هشّمت أشياء يومه الرتيبةّ.”

ثمّة إحساس خانق بعزلة ماويّة جرّاء إهمال العاصمة لها، وستحدث المجزرة ثانية، وثانية وسط تجاهل وسائل الإعلام الوطنيّة، وصمتها المطبق! كما في قصّة “دكّان علي المدلّل”. وثانية أيضاً، لم تمدّها بتعزيزات عسكريّة، رغم الوعود الدائمة! كما ورد في قصّة “السقوط نحو القمر”، فأسقط في يد الأهالي فتكفّلوا بالدفاع عن قريتهم بأسلحتهم البسيطة. وبات الشباب يقضون الليالي على الأسطح للحراسة، بينهم نبيل الردّاد، لم يكن بلغ العشرين بعد، فحين هجم الدواعش، بوغت بنفسه يهرب في اتجاه معاكس عوض تنفيذ قراره بمشاركة الأهالي الدفاع عن القرية، ليختار “السقوط نحو القمر”، وينام بسلام في قلب القمر المكتمل المعكوسة صورته على سطح ماء البئر!

أطبق الموت على ماويّة والبلاد عامّة، وتبعاً لقول السارد: “الشباب كانوا يموتون من دون أن يدري أهلهم من أجل ماذا يموتون.”ويقول في قصّة أخرى:”شبّان لم تتح لهم البلاد أن يكبروا ويضيفوا على ألبوماتهم صوراً تُظهر شيب شعرهم وتجاعيد وجوههم…” فمن الشبّان من قتل، ومنهم من خُطف، وآخرين عُذّبوا في السجون تحت الأرض!

ورد في مقدّمة القصّة الثانية” بيت العتابا الضائع” الوحيدة الخالية من حديث الحرب: “لقد استغرق منّي عشر سنين حتّى وجدته، بيت العتابا الذي غنّته جدّتي في المساء اللاحق لجنازة أخيها سليمان، ولم تعد تتذكّره.” فبات يشكّل له وسواساً لعقد من الزمن بحثاً عنه، لكنّ السارد لم يصرّح بم يحتاجه، واكتفى بإخبارنا بأنّه وجده عندما اصطحب جدّته التسعينيّة لزيارة قبر أبيه/ابنها، وهناك باغتت حفيدها بتذكّره وغنائه لابنها. ليخمّن القارئ، بعد قراءته  القصص الثمانية المتبقّية، أنّ السارد كان يريده لينشجه لماويّة في مقتلها!  

أنس ناصيف حكّاء بارع، يؤبّد ماويّة وقد جفّت عروقها في قصص يانعة وبديعة رغم الأسى العميق عمق جراحها، قصص لا يجيز غناها الآسر اختصارها أبداً. تغوي قارئها حتّى النهاية، تعلق في وجدانه عميقاً، وتنحفر في  ذاكرته مديداً.

تراجع الغطاء النباتي في سوريا يُنذر بأخطار بيئية كارثية

تراجع الغطاء النباتي في سوريا يُنذر بأخطار بيئية كارثية

ظروف الحرب وتبعاتها، العمليات العسكرية التي أدت لإحراق واقتطاع وتجريف مساحاتٍ كبيرة من الأشجار في مختلف أنحاء البلاد، عمليات التحطيب الجائر، ازدياد أعداد المفاحم التي تعتمد على الأشجار، واندلاع الحرائق الكثيرة التي التهمت مساحاتٍ واسعة من الغابات والأحراج، كل ذلك أدى إلى تراجع حجم الغطاء النباتي، الذي مازال يتآكل يوماً بعد يوم، وبات يُنذر بأخطار بيئية كارثية على المدى القريب، قد تترك آثارها السلبية على الأجيال القادمة، مع ازدياد حجم التلوّث البيئي وتغير طبيعة المناخ وخسارة التنوع الحيوي وانتشار الأمراض التي يمكن أن يخلّفها غياب المساحات الخضراء، التي سيحتاج تعويضها إلى سنواتٍ طويلة.

في ظل تفاقم أزمتي الوقود والكهرباء اللتين تشهدهما البلاد منذ سنوات الحرب وحتى اليوم، لجأ كثير من الناس لاستخدام الحطب في التدفئة وطهو الطعام، فاضطروا لاقتطاع الأشجار وشراء الحطب من الأسواق التي انتعشت خلال السنوات الماضية، بعد تحول عمليات التحطيب الجائر إلى تجارة رائجة، ولجوء الكثيرين ممن جعلتهم ظروف الحرب فقراء وعاطلين عن العمل لمهنة بيع الحطب، كونها سهلة ومتاحة وتحقق أرباحاً جيدة. ولم يقتصر استخدام الحطب على البيوت فقط، وإنما انتشر استخدامه بشكلٍ كبير في كثير من المطاعم والأفران ومحلات الفطائر كبديل عن مادتي الغاز والمازوت اللتين بات من الصعب توفيرهما.

ولم تقتصر عمليات التحطيب الجائر، التي انتشرت في أغلب المحافظات السورية، على الأحراج والغابات ومختلف أنواع الأشجار البرية، بل طالت الكثير من أشجار الحدائق العامة والشوارع. ففي دمشق مثلاً، وبحسب وكالة الأنباء الرسمية سانا، نظمت مديرية الحدائق نحو 100 ضبط مخالفة لقطع أشجار مختلفة الأحجام خلال شتاء العام الماضي، هذا بالإضافة لضبط مستودعات أخشاب مُخالفة وغير نظامية،  فيما تحدَّث مدير الحدائق في محافظة دمشق سومر فرفور عن ضبط أكثر من 25  حالة قطع للأشجار ضمن المسطحات الخضراء، وعن تعرض نحو 40 شجرة صنوبر، عمرها أكثر من 20 سنة، للتحطيب في منطقة عقدة القابون، وعن توقيف 15 شخصاً كانوا يقومون بقطع الأشجار والأغصان في الشوارع والأماكن العامة. 

الغوطة التي كانت رئة العاصمة وسلة غذائها، وكغيرها من معظم مناطق ريف دمشق، تراجعت مساحات غطائها النباتي خلال سنوات الحرب وما بعدها، لتتحول إلى منطقةٍ شبه جرداء، فإلى جانب ما خسرته خلال العمليات العسكرية، التهمت عمليات التحطيب ما نجا من أشجارها، لتطال معظم بساتينها التي كانت تمدُّ أسواق دمشق بالفاكهة، وهو ما أدى لفقدان كثيرٍ من أنواع الأشجار التي كانت الغوطة تتميز بها، كالجوز البلدي والمشمش. وبعد أن كانت من أخصب الأراضي السورية، ساهم غياب الغطاء النباتي بتراجع خصوبة تربتها التي كانت تستمد المواد العضوية من مخلفات الأشجار، كبقايا الثمار والأوراق وغيرها، كما ساهم أيضاً في تغيير مناخ المنطقة، إذ كانت أشجارها تساهم في الحفاظ على الرطوبة الجوية وتنقية الهواء.  

وفي محافظة السويداء لم تعد عمليات التحطيب، المستمرة منذ سنوات، تقتصر على العمل الفردي بل أصبح هناك مجموعات وعصابات مسلحة تعمل ليل نهار، مستعينةً بالمناشير الآلية، لتلتهم  مساحات واسعة من الأحراج التي تضم أشجاراً معمِّرة، كأشجار السنديان، يصل عمر معظمها إلى مئات السنين، وخاصة في منطقة ظهر الجبل، التي لطالما كانت، بما تمتلكه من مناظر طبيعية ساحرة وهواء نقي، متنفساً لسكان المدينة ومقصداً للتنزه والاستجمام. وفي كثير من الحالات طالت عمليات التحطيب بعض البساتين والكروم لتفني أشجارها المثمرة التي يعتاش أصحابها من محاصيل ثمارها. ولم تعد عمليات التحطيب في المحافظة تقتصر على فصل الشتاء، بل باتت تنشط حتى خلال فصل الصيف، حيث تقوم بعض عصابات التحطيب بتخزين ما تقطعه من أشجارٍ في المستودعات، لتباع كأخشاب لبعض الورش الصناعية، أو كحطب خلال فصل الشتاء.  

وطوال السنوات الماضية لم تتوقف الاعتداءات المتواصلة على الغابات السورية، سواء من قبل تجار الحطب، الذين يبيعونه لبعض المحافظات، أو من قبل بعض الفقراء الذين وجدوا في مهنة التحطيب  مصدر رزقٍ أفضل من المهن الأخرى، التي تراجع حجم مردودها المادي بشكل كبير، وخاصة مهنة الزراعة التي تأثرت بارتفاع أسعار الأسمدة وأجور النقل وصعوبة توفير المياه والوقود. هذا بالإضافة للجوء كثير من أبناء المناطق الجبلية الباردة لتحطيب الأشجار المحيطة بهم، بما فيها أشجارهم، خلال فصل الشتاء لينعموا ببعض الدفء في ظل شح كميات المازوت المدعوم وارتفاع أسعاره في السوق السوداء، ووصول سعر طن الحطب لنحو ثلاثة ملايين ليرة.    

نشاط عمل المفاحم

خلال سنوات الحرب وما بعدها ازدادت أعداد المفاحم في الساحل السوري بشكل كبير، وارتفعت وتيرة نشاطها على نحوٍ غير مسبوق، بعد أن تحولت إلى مصدر رزقٍ للعديد من المُعدمين والعاطلين عن العمل، وإلى تجارة رابحة لكثير من المتنفذين، خاصةً بعد تراجع استيراد مختلف أنواع الفحم، واعتماد معظم المطاعم والمقاهي وأسواق بيع فحم الأراكيل والشواء على الإنتاج المحلي. 

وقد ساهم نشاط عمل المفاحم، التي تعتمد على تحويل الأشجار إلى فحم، في اقتطاع الكثير من أشجار الغابات والأحراج، وفي نشوب كثير من الحرائق، التي قد تندلع نتيجة تطاير شرر بعض الأخشاب والعيدان والقشور المشتعلة، لتلتهم مساحات واسعة من الأشجار، خاصة أن مواقع المفاحم تتواجد عادةً ضمن الغابات والأحراش وفي أماكن بعيدة يصعب الوصول إليها، وهو ما يشكل الكثير من المخاطر البيئية في ظل انعدام أبسط  الشروط الفنية ومقومات الأمان والسلامة.

ويرى كثيرون أن بعض أصحاب المفاحم قد يكون لهم دور مباشر في افتعال الحرائق، لكي يقوموا باستثمار المساحات التي تعرضت للحرائق وتحويل أشجارها المحروقة إلى فحم، فيما قد يلجؤون لافتعالها، في بعض الأحيان، لكي يغطوا على عمليات قطع الأشجار التي تستخدمها المفاحم.    

وإلى جانب التهامها لمساحاتٍ واسعة من الأشجار تَتسبَّب المفاحم في العديد من الأضرار البيئية، كونها تنتج كميات كبيرة من غاز أول وثاني أوكسيد الكربون وغيرها من الغازات والأبخرة التي تؤثِّر على الغطاء النباتي وحياة بعض الحيوانات، كما أنها تنتج كميات كبيرة من مركبات الهيدروكربونات، التي تساهم بشكل مباشر بالإصابة بأمراض السرطان.

سوريا تفقد أكثر من ثلث غاباتها

 تشير بعض التقارير إلى فقدان سوريا نحو ثلث غاباتها خلال سنوات الحرب وما بعدها، وذلك نتيجة الحرائق الكثيرة، التي باتت تتكرر كل عام، ونشاط عمل المفاحم وعمليات التحطيب الجائر التي ساهمت أيضاً في اندلاع كثير من الحرائق، نتيجة تساقط بقايا الأغصان والأوراق اليابسة  بين الأشجار الخضراء لتكون بمثابة وقود أولي لأي شرارة قد تتحول إلى حريقٍ كبير.

 وتشير إحصاءات وزارة الزراعة إلى أن أعداد الحرائق، التي اندلعت في سوريا بين عامي 2011 و2018، قد تجاوزت الـ 3400  حريق، وأن المساحات التي تم إخماد الحرائق فيها قد تجاوزت 220 ألف دونم. وبحسب بعض المصادر المحلية فقد تم تسجيل نحو 400 حريق في عام 2014، التهمت  نحو 1925 هكتاراً من الغابات والأحراج، وتسجيل ما يزيد عن 500 حريق في عام 2015، التهمت نحو 2867 هكتاراً، فيما سُجل نحو 819 حريقاً في عام 2016، التهمت نحو 2000 هكتار.

 وقد شهد العام 2020 سلسلة حرائق كبيرة ، لم تعرف البلاد لها مثيلاً من قبل، من حيث الضخامة والكثافة وحجم الأضرار، التهمت مئات الدونمات والهكتارات، وتوزعت بين محافظات اللاذقية وأريافها، وطرطوس وريفي حمص وحماه، هذا بالإضافة لأرياف جبلة وصافيتا ومنطقة حميميم وأحراش القرداحة ومحيط جبل الأربعين وغيرها، وقد اقتربت النيران في بعض المناطق من منازل المدنيين، ووصلت إلى مستودعات التبغ وأدت لانهيار جزء من المباني، كما أدت إلى مقتل عددٍ من الأشخاص وإصابة العشرات بجروح وحالات اختناق. وقد تدخل الطيران الروسي حينها لإخماد الحرائق التي استمرت لعدة أيام، وتصدر هاشتاغ “سوريا تحترق” مواقع التواصل الاجتماعي.  

أضرار بيئية كارثية

يلعب الغطاء النباتي دوراً بيئياً وحيوياً هاماً، إذ يقوم بتنقية الهواء، وتخزين الكربون والحفاظ على الرطوبة، لذا يؤدي فقدانه إلى حدوث تغيرات مناخية كبيرة وإلى تراجع كميات الأمطار وارتفاع درجات الحرارة وانعدام إمكانية امتصاص غازات الاحتباس الحراري، كما يؤدي فقدانه أيضاً إلى إبقاء التربة معرضة لأشعة الشمس بشكل دائم، وهو ما يفقدها رطوبتها وخصوبتها، ويؤثر على حياة بعض النباتات الصغيرة والأشنات والطحالب التي تعيش في ظلال الأشجار. وإلى جانب ذلك،  تلعب جذور الأشجار دوراً هاما في تماسك التربة وحمايتها من الانجراف، وخاصة في المناطق الجبلية، وتساهم في نشر الرطوبة تحت الأرض، وبالتالي في إحياء الكثير من الأعشاب والنباتات البرية المفيدة للطبيعة، لذا غالباً ما تصاب المناطق غير المُشجَّرة بالجفاف وانجراف التربة.

من جهة أخرى، أدى تراجع الغطاء النباتي في سوريا إلى إحداث خللٍ في التنوع الحيوي، وإلى تراجع  أعداد الحيوانات البرّية، التي تشكل جزءاً من الهوية البرية للغابات السورية،  فالحيوانات الكبيرة والمتوسطة الحجم  والتي تحتاج للاختباء بين الأشجار الكثيفة والمتقاربة، لم يبقَ لها مكان مناسب للعيش في كثير من الأحراج والغابات التي تآكلت بشكل كبير، فيما حُرم الكثير من الحيوانات الصغيرة من أي مصدر غذائي بعد غياب الأشجار التي كانت تتغذى على ثمارها، وقد ساهم هذا كله في تهجير بعض أنواع الحيوانات التي باتت مهددة  بالانقراض، ومنها غزال اليحمور والضبع السوري والذئب العربي والنيص، هذا بالإضافة لاختفاء الكثير من أنواع الطيور من أماكن عدة، كطائر الحسون والحجل وبعض طيور البوم، وهو ما سيشكل خسارة وطنية كبيرة في التنوّع الحيوي الذي لطالما اشتهرت به سوريا لسنوات طويلة.

المعاناة اليومية للعمال من أجل لقمة العيش في فلسطين

المعاناة اليومية للعمال من أجل لقمة العيش في فلسطين

منذ عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر وإسرائيل تقوم بعمل همجي حقيقي لا يمكن تسميته إلا بالإبادة تجاه الفلسطينيين يفوق ما قامت به النازية من مجازر بحق يهود العالم، ولكن هل هذا يعني أن الفلسطينيين كانوا قبل طوفان الأقصى يعيشون في حال من الهدوء؟ ليس التاريخ بعيداً فلو عدنا قليلا لوجدنا أنه حافل بالمجازر الإسرائيلية وبالانتهاكات المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني. فمنذ سنوات وكل عام تقريباً تقوم إسرائيل بقصف غزة بالفوسفور والأسلحة المحرمة دولياً، لكن سياستها لا تنحصر بالعدوان المسلح الذي تلجأ له كل حين بل تتبع مخططاً سياسياً عدوانياً ممنهجاً يضمن لها السيطرة الكاملة عن طريق بناء بنية تحتية تجعل دولة إسرائيل متحكمة في حياة ومصائر الفلسطينيين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، باستخدام كل الأشكال التي تمزق حياتهم يومياً بشكل مباشر وغير مباشر.

فعلى سبيل المثال، أقامت إسرائيل شبكة الطرق في الضفة الغربية، بين المدن والقرى والبلدات بشكل يخدمها ويعوق حركة  الفلسطينيين فتصبح المسافات مضاعفة، وهناك  600 وأكثر من الطرق الداخلية في الضفة الغربية مخصصة للمستوطنين ، إضافة لبناء وإقامة  الجدار العازل،  لقد أرادت تحويل أماكن وجود الفلسطينيين في الضفة إلى كانتونات منفصلة ومعزولة من السهل السيطرة عليها وإفقارها والتحكم بها، فأقامت  نقاط التفتيش والحواجز العسكرية  والمعابر بحيث تقطع هذه الطرق وتجعل التنقل من الصعوبة بمكان، حيث يتم حجز الفلسطينيين لساعات طويلة فيها، إمعاناً في الاذلال والانتهاك. وفي الحقيقة هناك عقبات كثيرة تقف أمام حرية التنقل للفلسطيني أولها تقسيم المناطق وتصاريح العمل.

البحث عن عمل وصعوباته

ترى الباحثين عن عمل يصطفون طوابير أمام المعابر ونقاط التفتيش والمستوطنات. فبعد أن قامت إسرائيل بمصادرة أراضي الضفة الغربية وأقامت عليها المستوطنات لم يعد امامهم سوى العمل لديها، خاصة أنه من غير المسموح لهم بممارسة المهن البيضاء التي تنال أجراً عالياً وتكون في قمة الهرم الاجتماعي فسلطات الاحتلال  تعدّ الفلسطينيين النوع الأدنى الذي عليه ممارسة المهن ذات الياقة الزرقاء التي تتطلب جهداً عضلياً كالبناء والمقالع الصخرية والأعمال الزراعية المرهقة والخدمات وكل الأعمال التي يأنف الإسرائيليون من ممارستها بما فيها أعمال بناء المستوطنات، إمعاناً في الاحتقار وتدمير الانتماء.

فكثيراً ما يضطر الفلسطينيون للعمل في أراضيهم ذاتها بعد أن صادرتها الدولة المحتلة، وأقامت عليها مزارع المستوطنات.  يتحدث الكاتب الاسكتلندي ماثيو فكري  في كتابه “تشغيل العدو- قصة العمال الفلسطينيين في المستوطنات الإسرائيلية” الصادر عن مركز دراسات ثقافات المتوسط بترجمة يزن الحاج عن ظروف العمال الفلسطينيين من خلال لقاءات معهم  وعن معاناتهم بدءاً من الوقوف على الحواجز وفي سوق العمل وأمام المستوطنات طوابير طويلة عارضين قوة عملهم للمساهمة في بناء هذه المستوطنات اللاشرعية والتي تقام على أراضيهم المصادرة منهم وتتوسع باستمرار وبأيديهم. ولا يخفى على أحد أنها تقام لتمزيق المكان والسكان وإحكام سلطة الكيان عليها. ومن خلال اللقاءات يتحدثون مع ماثيو كيف يعيشون ذلك التناقض على أشده بين معرفتهم بخطورة المستوطنات على قضيتهم  واضطرارهم لهذا العمل من أجل العيش، إنه التمزق المهين الذي يتخطى عدم الارتياح إلى الذل والشعور بالنبذ جراء  نظرة الآخرين إليهم بدونية وحتى  الاتهام بالخيانة دون التفهم لحقيقة الظروف التي تجبرهم على ذلك.

فالسلطة الفلسطينية التي تعاقب على العمل بالمستوطنات بالسجن لمدة تصل خمس سنوات غير قادرة على تأمين فرص عمل لهذا العدد الكبير من المواطنين عدا أنها مكبلة بقيود سلطات الاحتلال فمثلا ينص بروتوكول باريس على قيام إسرائيل بجباية العائدات الضريبية من الضفة وتحويلها للسلطة الفلسطينية التي تحتاجها لدفع رواتب موظفيها لكن إسرائيل لا تقوم بدفعها دائما مما يربك السلطة الفلسطينية ويجعلها عاجزة عن دفع الرواتب.

 كما تتحكم إسرائيل بحركة التجارة دخولا وخروجاً وتتحكم بالحدود ولهذا غير مسموح للسلطة الفلسطينية بالقيام بأي شكل من أشكال التنمية المستدامة، بينما يسبب حصار إسرائيل خسارة  للاقتصاد الفلسطيني تقدر ب 3,4 مليار دولار سنوياً إضافة إلى ما يضيع عليها نتيجة عدم السماح لها بالتنقيب عن المواد الخام، وقدّره البنك الدولي بمليار دولار.

 تحاصر إسرائيل رؤوس الأموال الخاصة ولا يسع أصحابها العمل دون التعامل مع رجال أعمال إسرائيليين كل هذا جعل المستوى المعيشي يتدهور باستمرار ومعدل البطالة يزداد باستمرار وهذا ما يدفع السكان للعمل الموصوم بالنظرة الدونية أو تهمة الخيانة.

يقول أمين سر الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين هناك 350000عاطل عن العمل عائلاتهم بحاجة إلى قوت يومها ولا يمكننا الطلب منهم بالتوقف “.

بينما تضيق إسرائيل الخناق عليهم بمصادرة أراضيهم فلم يعد أمامهم أرض لزراعتها ولا لرعي المواشي، فهي تحصرهم في مساحات ضيقة لممارسة نشاطهم الحياتي، بحجة أن الأراضي باتت مناطق عسكرية أو مناطق ألغام أو ستصبح محميات طبيعية أو أن الدولة استولت عليها بذريعة قانون عثماني يمنح الأراضي للدولة إن لم تستثمر لمدة ثلاث سنوات من قبل أصحابها دون النظر إلى أن أصحاب الأرض لا يستطيعون الاقتراب منها.

تطبق قيود الحركة حتى على المواشي فمن يريد تربيتها فضمن حدود القرية ويشتري لها علفاً.

هكذا يذهب الفلسطينيون للعمل في أراضي المستوطنات الزراعية والتي هي أرضهم المصادرة، أو لبناء المستوطنات نفسها.

وحسب الأونروا فإن ربع الفلسطينيين لاجئون في أرضهم ينظرون إلى بيوتهم القديمة من عتبات بيوتهم الجديدة بعد تهجيرال 67 ثم أتى التهجير بسبب الاستيلاء على الأراضي لبناء الجدار العازل وبالمناسبة فإن تحليل مسار الجدار العازل حسب قول ماثيو فكري، يتماشى مع خطط إسرائيل لتوسيع رقعة المستوطنات، أما حفظ أمن إسرائيل فليس سوى كذبة.

ورغم كل هذا لا يحصلون على العمل بسهولة أو احترام، يتناول الكاتب الظروف السيئة التي يتعرضون لها ويعملون تحتها بدءاً من معضلة الحصول على تصاريح العمل الضرورية للتنقل أيضاً إذ يتم إبرازها، عند كل نقطة تفتيش أو حاجز ودونها لا يمكن نيل أي عمل بشكل مرخص ومن يعمل دون هذا الترخيص يتعرض للسجن لكن عدداً لا بأس به من العمال بلا ترخيص يدخلون إلى المستوطنات تهريباً، إذ يضطرون لعرض قوة عملهم بسعر أبخس من المعتاد وتحت طائلة الاستغناء بل والذهاب إلى السجن حين تعلم الشرطة بأمرهم وهذا يجعلهم تحت رحمة  صاحب العمل، بينما أجور العمال في كل الأحوال سواء حصلوا على تصريح أو لم يحصلوا هي حكماً أقل من الحد الأدنى للأجور الذي ينص عليه القانون الإسرائيلي للعمل فعلى نفس العمل يتقاضى العامل الإسرائيلي ضعف الأجر.

جيش احتياطي من العمال ومعضلة السماسرة

 للحصول على عمل يلجأ العمال إلى السماسرة وهم صلة الوصل بين أصحاب المستوطنات وبين العمال ويقومون بتأمين تصريح العمل ودفع الأجور.

غالباً ما يكون السماسرة على معرفة تامة بالطرق ومداخل المستوطنات وعلى صلات جيدة مع أصحابها كما يتقنون اللغة العبرية التي تحرر بها عقود العمل وهكذا فهم يعملون لصالح رب العمل الذي ينتقيهم من العائلات الكبيرة ذات المكانة لضمان عدم تعرض العمال لهم، وبتصريح العمل يتم ابتزاز العمال من قبل صاحب العمل والسمسار معا بالتهديد بإلغاء التصريح لو طالبوا بحقوقهم أو بزيادة الأجور أو لو حاولوا إقامة نقابة للدفاع عن أنفسهم أمام المحكمة الإسرائيلية.

ولأن فرص العمل تبقى محدودة وطالبي العمل كثر إضافة لدخول العمالة التايلندية على الخط، نجد جيشاً احتياطياً من العمال في طوابير الانتظار وهذا يمنح رب العمل القدرة على التخلي عن أي عامل بسهولة وتوظيف غيره، وهو ما يدفع البعض للعمل دون تصريح وبظروف أكثر سوءاً. كالعمل لساعات أطول من غيرهم ويرضون بأي أجر المهم أنه يدفع لهم نقداً.

 وأمام كل هذا لا يفكر أحد بشروط الأمان أو الحماية في مكان العمل مما يعرضهم لمخاطر كثيرة بالإصابة والإضرار بالصحة يتنصل منها صاحب العمل حتى أنه لا يقوم بإسعاف العامل المصاب لو وقع أي حادث وكثيراً ما يتم رميه خارج المستوطنة لانتظار أهله الذين سيأتون لإسعافه.

وصف رئيس نقابات عمال فلسطين السماسرة بأنهم “متلاعبون بالقانون وعديمو الضمير في تعاملهم فخمس العمال الفلسطينيين تعرضوا لسوء معاملة من السماسرة واللافت للانتباه أن أجرهم يكون من ضمن أجر العمال، وكل وثائق العمل والعقود يتم تحريرها باللغة العبرية مما يجعل العمال في ضبابية حول شروط العمل التي وافقوا عليها أو معرفة حقوقهم.

عمالة الأطفال والنساء واستغلال مضاعف

لا يقتصر توصيف العمال على البالغين فهناك أيضا يتم تشغيل الأطفال والمراهقين والنساء خاصة في الغور وذلك  في العناية بالأرض وقطاف المحاصيل، ويتم استغلالهم أبشع استغلال، حيث يمثل هذا العمل إضافة للجهد المبذول والتعب، انعدام الأفق لحياتهم.

ينكر المستوطنون تشغيل الأطفال، بينما يحصل هؤلاء على أجور قليلة كما النساء اللواتي يشكلن عشر العمال وينلن أجوراً لا تصل لنصف أجر الرجال.

 يبدو الأطفال أكبر من عمرهم ويتكلمون بالسياسة ويفهون الواقع الضاغط. لقد شوهت طفولتهم حتى خارج العنف اليومي.

عملهم سخرة لكنهم لا يملكون رفاهية الاحتجاج

يعاني العمال الزراعيون من العمل لساعات طويلة والأجر القليل وسوء المعاملة وفقدان أدوات الحماية كما في التعامل مع المبيدات الحشرية أو حالة عمال التمور الذين يعملون دون قفازات تحمي أيديهم  من الأشواك الحادة، كل هذا  دون تأمين صحي.

وهذا ينطبق على العمال الصناعيين فلا حماية من الحوادث ولا تأمين ولا نقابات تدافع عنهم فهم لا يستطيعون الانتساب للتنظيم النقابي الإسرائيلي أما نقابات العمال الفلسطينية فلا صلاحيات لها ضمن المستوطنات، وهكذا فالعمال الذين أثبت أنهم يتعرضون لإساءات عنصرية ودينية ولعنف سيكولوجي و70 بالمئة منهم يتعرض لعنف جسدي، لا يستطيعون الإضراب احتجاجا أو من أجل تحسين شروط العمل.

صدرت قوانين عن محكمة العمل العليا الإسرائيلية تلزم أصحاب العمل بالدفع حتى للعمال الفلسطينيين أجوراً تتناسب مع الحد الدنى للأجور وتعويض نهاية الخدمة وتعويض العطل الرسمية وتعويضات الحوادث ونفقات العلاج  لكن هذا بقي حبراً على ورق فأصحاب العمل اتبعوا فوراً طرقاً تمنع هؤلاء العمال من المطالبة بتنفيذ القوانين فامتنعوا مثلاً عن تسليم العامل أي وثيقة تدل على الأجر أو ساعات العمل قد تستخدم ضدهم يوماً ما.

فالتمييز المستمر ضد العمال الفلسطينيين وصل إلى درجة ازدراء القوانين الإسرائيلية نفسها.

أما العمال فلا يملكون رفاهية الشكوى لأن أي قضية ستستغرق وقتاً للبت فيها وهذا يعني تعطلهم ودفع تكاليف مادية لا يملكونها كما لا يملكون أي وثائق أو شهود لتقديمهم للمحكمة.

يقارن الكاتب ظروف عمل العمال الفلسطينيين واضطرارهم للعمل دون وجود خيارات مع السخرة حسب تعريف منظمة العمل الدولية ويرى أن الاضطرار وبيئة العمل وتأثير العمل جسدياً ونفسياً بشكل سلبي على العامل يمكن أن يدرج كل هذا عملهم تحت بند السخرة.

يذكر الكاتب حوادث مؤلمة عن التعامل مع العمال المصابين، ومنذ عملية طوفان الأقصى تم تعليق تصاريح 200 ألف من العمال الفلسطينيين ومنعهم من الوصول إلى أعمالهم ليواجهوا البطالة وخطر الجوع مع عائلاتهم، مع تصاعد الأصوات المطالبة ضمن الكيان بإعادتهم للعمل لما شكل ذلك من تعطيل حيوي في سوق العمل الإسرائيلية وخسارة وصلت إلى أكثر من مليار دولار، فحتى العمالة الهندية والتايلندية لم تسد مكانهم.

كل هذا ليس سوى جزء من آلام الشعب الفلسطيني المستمرة وبشاعة ما تفعله إسرائيل منذ 7 أكتوبر ولم ينجح العالم بإرغامها على وقف هذه المجزرة.