بواسطة الحسناء عدرا | يوليو 20, 2023 | Cost of War, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
يُعد توفير خدمات الرعاية الطبية والصحية جزءاً أساسياً من التنمية المطلوبة لتحقيق العدل الاجتماعي في أي دولة. إلا أنه بسبب تداعيات الحرب التي استمرت لأكثر من عقد من الزمن، فإن أنظمة الرعاية الصحية سورية أصبحت مبتورة وتحقيق الرعاية الصحية والتلطيفية يشكل تحدياً كبيراً بسبب ضعف إمكانية توفيره في البلاد.
وتوضح مديرة الرعاية الصحية الأولية في وزارة الصحة الدكتورة رزان طرابيشي معنى مفهوم الرعاية الصحية والتلطيفية بأنه: “نهج للصحة والرفاهية يشمل كل المجتمع ويتمحور حول احتياجات وأولويات الأفراد والأسر والمجتمعات المحلية، إذ تتناول الصحة بجوانبهما البدنية والنفسية والاجتماعية الشاملة والمترابطة”.
وتؤكد طرابيشي أنه بحسب هذا المفهوم يجب أن تكون: “الرعاية الصحية ميسرة لكافة الأفراد والأسر في المجتمع بوسائل مقبولة لديهم ومن خلال مشاركتهم التامة وبتكاليف يمكن للمجتمع والدولة تحملها”، حيث يتم تقديم الخدمات الصحية من خلال مراكز الرعاية الصحية الأولية والفرق الجوالة والعيادات المتنقلة. وتنوه طرابيشي إلى ضرورة توافر هذه الخدمات بشكل مجاني لتحقيق مبادئ العدالة والإنصاف وعدم التمييز في المجتمع.
الرعاية التلطيفية
تعتبر الرعاية التلطيفية نوعاً من أنواع الرعاية الصحية، وتشرح طرابيشي هذا النوع بأنه “الرعاية التي تقدم للمريض وللقائمين على رعايته من ذويه بهدف الحد أو التخفيف من معاناتهم في مواجهة المرض وعيش المريض بكرامة واستطاعته الاعتماد على نفسه قدر المستطاع”. وتشمل الرعاية التلطيفية دعم الأسرة نفسياً واجتماعياً أثناء رحلة المرض، حيث يتم تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للمريض وأسرته، وتقديم المشورة للمرضى الذين لايزالون تحت العلاج. وفي الوضع المثالي، تُقدم الرعاية التلطيفية لجميع مراجعي المراكز الصحية كل حسب مرضه وحسب عمره وحاجته. فحاجات المسنين وأصحاب الأمراض المزمنة والسارية والأمهات الحوامل وحديثي الولادة متنوعة ومختلفة ويجب أن تُقدر ويتم تلبيتها بشكل مناسب من قبل الأطباء وطاقم التمريض والمتطوعين داخل المركز وعبر الزيارات المنزلية.
وتُنوه طرابيشي إلى أن “سوريا تعد من الدول التي تبنت الرعاية الصحية الأولية وباشرت العمل بها بتقديم الخدمات الصحية وفق العناصر الأساسية التالية كالتوعية والتثقيف الصحي، الإصحاح البيئي وتوفير مياه الشرب النظيفة.” إضافة إلى تقديم خدمات برامج التغذية كالترصد التغذوي، وخدمات الأمومة والطفولة المتكاملة، وخدمات برنامج التلقيح الموسع ومنها تقديم لقاحات الأطفال ضد الأمراض الشائعة ولقاحات السيدات في سن الإنجاب ولقاحات الكوفيد والأمراض الطارئة والأوبئة.
التخفيف من آلام المرضى ودعمهم نفسياً
قررت لمى الاستعانة بممرضة للعناية بوالدتها المصابة بسرطان الثدي، وذلك لانشغالها برعاية مولودها الجديد وعدم تمكنها من ملازمة والدتها طوال الوقت، الإتيان بعاملة مختصة بالرعاية التلطيفية ساهم على نحو كبير بتحسين حياة المريضة، وعن هذه التجربة تقول لمى: “كان إحضار ممرضة مختصة بالرعاية التلطيفية خياراً صائباً ساهم في تحسين حياة والدتي وعدم استسلامها للمرض، ففكرة ممارستها ليومياتها بشكل طبيعي يمدها بالقوة، فوجود مرافق يدعم المريض أمر أساسي وجوهري للتغلب على المرض وآلامه المبرحة”. وتضيف لمى أن دور الممرضة لا يقتصر فقط على تقديم الدواء في المواعيد المنتظمة وتخفيف حدة الألم، بل إتقان دور المستمع والإنصات لهم جيداً والتعبير عن مشاعرهم، فالدعم النفسي من أول مهام الرعاية التلطيفية، إلى جانب توفير سبل الراحة واستبعاد الأسباب التي تخلق أجواء غير مريحة.
وتؤكد لمى أن مفهوم الرعاية التلطيفية خفف عنها من وطأة الشعور بالذنب بسبب عدم تمكنها من المكوث المستمر مع والدتها، فالممرضة تظل ملازمة للمريض على مدار 24 ساعة في المنزل من لحظة بدء الخطة العلاجية إلى حين انتهائها.
القابلات القانونيات
تعمل سناء كقابلة قانونية منذ عامين في مدينة اللاذقية، حيث قدمت الرعاية الصحية لمئات الحوامل وساعدتهن على الولادة المنزلية وداخل المستشفى، تقول لـ”صالون سوريا”: “لدورنا أهمية كبيرة تبدأ في الثلث الأول من الحمل ويشمل الإشراف على رعاية النساء الحوامل من مراقبة نبض الجنين وانقباض الرحم وصولاً إلى مراقبة العلامات الحيوية المرافقة للمخاض والولادة وما بعدها”.
تطور دور القابلة عن مفهومه القديم الذي كان يقتصر على التوليد فقط، دون الاكتراث بأبعاده النفسية والاجتماعية، وتعقب سناء بالقول: “هناك نظرة تقليدية حول القابلة نبعت من المسلسلات القديمة بأنها مجردة من المشاعر وتقوم بدور التوليد فحسب، لكن هذا مفهوم خاطئ”.
تحرص القابلة على زرع الثقة والحب والطمأنينة مع الحامل عند الاستعداد للولادة ومراقبة وضعها الصحي، وأحياناً أخرى القيام بعملية الولادة نفسها عند تغيّب أو تأخر الطبيب، وعن ذلك تقول: “أنظر إلى الحامل بعيني الرأفة والحب، أدعمها نفسياً عند المخاض وأحاول التخفيف من وجعها عبر التدليك والعلاج المائي، أشعرها بأنها بأيدي آمنة”. وتتابع حديثها: “في إحدى المرات كنت أرعى إحدى الحوامل ريثما يصل الطبيب الذي طال انتظاره، حاولنا الاتصال به لكنه لم يجب، حان موعد ولادة المرأة، فقمت بتوليدها على الفور، لكنه جاء بعد الانتهاء”.
اضطرابات النوم
لجأت أم تيم إلى أحد أفراد الرعاية الصحية لعلاج طفلها من اضطرابات النوم وحالات الهلع التي كانت تلازمه إثر حادثة الزلزال الذي ضرب سورية في 6 شباط ٢٠٢٢، وعن تجربتها تقول لـ”صالون سوريا”: “كان طفلي ينتابه شعور بالفزع لمجرد ذهابه إلى السرير، ويقضي ساعات طويلة بالبكاء والشعور بالخوف، إلى جانب الكوابيس”. وتضيف أم تيم أنها تمكنت بدعم من مختصة في العلاج النفسي السلوكي بأن تساعد طفلها على تجاوز الأزمة النفسية والتغلب على اضطراب ما بعد الصدمة عبر اللعب والرسم والتحدث ومنحه شعور الأمان”.
رعاية مرضى الزهايمر
وعن رعاية مرضى الزهايمر، تشرح جمان وهي عاملة في مجال الرعاية التلطيفية تجربتها مع والدها الذي أصيب بالخرف المعتدل: “عندما يصاب عزيز لديك بداء الزهايمر، يتحول إلى طفل صغير يجب مداراته بصبر وحب كبيرين”. وتضيف الشابة: “لم يخطر في بالي قط أن يصيب والدي بالمرض، أكثر ما يحتاجه المريض هو الاحتواء واللطف والقدرة على تحمل سلوكيات المريض التي تبدأ بالتغير كالتفوه بالكلمات النابية وعدم الاهتمام بالنظافة الشخصية”. بالرغم من مهارة جمان، لكنها طلبت يد العون من شقيقها لتحمل جزء من المسؤولية بعد ما قامت بتدريبه على المهام التي يجب التعامل مع مريض الزهايمر، وتضيف جمان: “دربت أخي على رعاية والدنا أثناء أوقات غيابي، كوضع جدول مهام وإشراك والدنا ببعض النشاطات اليومية كترتيب السرير وارتداء الملابس كي يبقى ذهنه يقظاً”.
خاتمة
يجب التنويه إلى أهمية الأنواع البديلة للرعاية الصحية نتيجة الأضرار الكبيرة التي لحقت بمراكز الرعاية الصحية في سوريا جراء الحرب، فقد خرج عدد كبير من المراكز الصحية عن الخدمة، لكن يتم العمل على استبدالها بفرق جوالة وعيادات متنقلة مع وضع خطة محددة لإعادة ترميم المراكز المتضررة. فقد شملت الخسائر جراء الحرب العديد من الجوانب كنقص بعض التجهيزات وعدم القدرة على الصيانة بسبب التكاليف الباهظة والحصار الاقتصادي، إلى جانب النقص الفادح في المحروقات والكهرباء.
بواسطة نادر عقل | يوليو 16, 2023 | Culture, Roundtables, العربية, مقالات
تكمنُ مأساة أحمد برقاوي، بصفته فيلسوفاً عربيّاً معاصراً، في أنّه يتحرّك فوق أرضٍ تنهار تحته من كلِّ جانب، فهو صاحب تجربة فلسفيّة عميقة لها أبعادها الشخصيّة والأكاديمية والثقافيّة؛ لكنَّ هذه التّجربة لم تكن مُقْنِعة له على الإطلاق. إذ إنَّ فكره يتأسَّسُ رؤيويّاً ورؤياويّاً في آن على حدْسٍ أو استبصارٍ عميق لحقيقة “الأنا”. وهذا “الأنا” ليس نموذجاً يُختزلُ فيه النّوع الإنسانيّ، كما هو الحال بالنسبة إلى الإنسان الأعلى عند نيتشه، أو الأنا المتعالي عند هوسِّرل أو الدازاين عند هيدغر وإلى ما هنالك.
إنَّ الأنا الذي يكتشفهُ برقاوي في أعماقه هو أنا جريح، وعوضاً عن أن يرتقَ هذا الجرحَ يسعى جاهداً من أجل أن يزيده اتِّساعاً؛ لأنّه يريدُ من أناه أن يزداد نزيفاً كي يزداد تطهُّراً؛ لذلك يتحوَّل موقفه من فلسفة تؤكِّد الأنا في مواجهة العالم توكيداً فارغاً، إلى فلسفة خلاصيّة ترمي إلى تقويض كلّ ما يُسهم في تكوين هذا الأنا؛ ذلك أنَّ برقاوي يصدر عن معرفة كاشفة، بالتُّراث، الذي كوَّن وعي الإنسان العربيّ المعاصر، فهو يفهمُ ما أفضى إليه هذا التُّراث من تعيُّنات معرفيّة للثقافة العربيّة، قدّمت أنماطاً من تفكير العرب بعامَّة وكثير من مثقَّفيهم بخاصّة، تنبجس ينابيعُها من القرون الأولى من الهجرة، وتلاقحت هذه الأنماطُ أنفسها مع صدى حداثة وتكنولوجيا الحضارة الغربيّة، فجاءت النتيجة، وهي المُتَفقِّه الحداثويّ التكنولوجيّ، أي الإنسان العربيّ الراهن، الذي هو ضحيّة تراث ينزعه من لحظته الراهنة ليرمي به في غياهب التاريخ، وحداثة–تكنولوجيّة غربيّة تُملي عليه كيفيّة غزو الفضاء وتفتيت الذّرة واستباق المستقبل.
ولقد استطاع برقاوي أن يُدرك عُمق المأساة، فأناه ممزّق بين النكوص إلى تراث لم تَعُدْ تُجدي مقولاته والطُّفور إلى حداثة –تكنولوجيّة غربيّة ليس ابن جِلدتها؛ بل هو دخيل عليها. ومن هنا لم يقتنع بتأسيس نظرة جديدة إلى العالم تنبثق من نقد التُّراث على طريقة أدونيس والجابري وأركون وغيرهم؛ كما رفض رفضاً قاطعاً أن يُطبِّق المناهج الفلسفيّة الغربيّة على الثقافة العربيّة على طريقة وجوديّة عبد الرحمن بدويّ أو وضعيّة زكي نجيب محمود أو شخصانية عبد العزيز الحبابي وغيرهم. ولئن كان برقاوي الشَّاب شغوفاً بالماركسيّة في بدايات حياته الثقافيّة؛ إلا أنّه أخذ على الماركسيين العرب كافّة وفي مُقَدّمتهم صادق جلال العظم –كما تُفصح عن ذلك كتاباته المتعدّدة-أنّهم كانوا معنيين بنقد تفسير الظواهر، ولم تكن الظواهر أنفسها موضوعاً لتفكيرهم في أيّ وقت.
كانت نقطة البَدْء الفلسفيّ عند برقاوي هي الأنا العربيّ المنكسر أو المهزوم، هذا الأنا الذي هو –في حقيقته الأصليّة-يُشبه كومة من الرُّكام خلّفتها عصور استبداديّة سابقة، وأنظمة سياسيّة معاصرة واحديّة-قمعيّة، واستسلام شبه كامل أمام الغرب الأمريكيّ-الإسرائيليّ، ودعوات سلفيّة جهاديّة ليقتل النّاس أنفسهم بأنفسهم، وانهيارات اقتصاديّة تُذَكِّر بأزمنة الطّواعين والمجاعات.
كان لا بدّ بالنسبة إلى برقاوي، وهو لا يجد أيّ أرض صالحة لتأسيس بنائه الفلسفيّ أن يُشيِّدَ هذا البناء على أنا هو نفسه، لقد كانت صرخته الفلسفيّة مدويّة، فكتابه “الأنا” لا يقول فيه أكثر من كلمة بسيطة وعفويّة يستخدمها كل واحد منّا يوميّاً، وهي “أنا”.
لقد أراد بتوكيده لأناه وحدَه الإنباه إلى ما هو مُهمل ومَنْسيّ ومنبوذ على المستوى الثقافيّ العربيّ، وهو هنا لا يريد الرجوع إلى الأنا من أجل تكريسه بطريقة نرجسيّة خالية من المعنى؛ بل يريد الرجوع، لأنّه لا يمكن الركون إلى أيّ شيء سوى هذا الأنا المنكسر.
أراد برقاوي أن يضع هذا الأنا عينه في مواجهة النُّخبة العربية، دينيّاً وسياسيّاً وثقافيّاً واقتصاديّاً، ليقلب لهذه النُّخبة ظهرَ المِجَنّ، او بالأحرى ليكشف عُرْيها وتهافتها وأجنحتها الكاذبة، فهذه النُّخبة دفعت بالإنسان العربيّ المعاصر إلى “قعرِ الحضيضِ الأوضعِ”، فقتلته وسجنته وشرّدته وهجّرته ومزّقته على جميع المستويات؛ لذلك لفظة النُّخبة هي هنا -في حقيقتها-ذات مدلول مُغاير لمعناها القاموسيّ، فهي لا يمكن أن تدلّ إلا على الرَّعاع الذين ساقوا البلاد والعِباد إلى الهلاك.
ينبثق شُعاع ساطع من أنا برقاويّ، شُعاع يُريد من هذا الأنا المُنكسِر أن يتحوّل إلى ذات، فجاء كتابه “أنطولوجيا الذّات” إكمالاً بارعاً لكتابه “الأنا”؛ ذلك أنّه يَنْشُد إحداث نُقلة في وعي الإنسان العربيّ من أجل أن يستحيل من أنا إلى ذات.
نفهم من كتابه “أنطولوجيا الذَّات” أو علم وجود الذَّات، أنّه استخدم الأنطولوجيا ontology وهي علم الوجود بما هو موجود، من أجل غايات واضحة بالنسبة إليه، فهو لا يهيب بهذا المصطلح ذي الأصل اليوناني، من أجل أن يستعين به، من أجل كشف معنى وجود الذّات الإنسانيّة؛ بل أُرجِّح أنّه استخدم هذا المُصطلح ليزيد المأساة عُمقاً، فتاريخ الأنطولوجيا الغربيّة بدءاً من برمنيدس (نحو 540 ق.م-480 ق.م) وصولاً إلى مارتن هيدغر (1889 م-1976 م)، وهو تاريخ محاولات الكشف عن حقيقة الوجود. إذ الأنطولوجيا هي العلم المَعني بتقديم إجابة عن السؤال الفلسفيّ الأكثر جوهريّة وهو: لماذا كان ها هنا وجود ولم يكن بالأحرى عدم؟ وجاءت الأجوبة عن هذا السؤال من قِبَلِ الفلاسفة الغربيين متنوِّعة ومتباعدة ومتناقضة إلى أقصى حدّ؛ لكنَّ برقاوي لم يخض في كتابه سجالاً مع تاريخ الفلسفة الغربيّة، إذ إنّه في ذلك لَمِنَ الزَّاهدين؛ لأنّه يعرف معرفة تامّة أن تاريخ الفلسفة الغربيّة مُغلق على نفسه، وغير قابل لإعادة النَّظر، لا لأنّه حَسَمَ مشكلة حقيقة الوجود؛ بل لأنّه تاريخ بلغ نهايته، فاكتمل، وأيّ نقاش فلسفيّ يأتي في مساره، هو نقاش خارج سياقه الحضاريّ. وهنا على وجه التحديد تأتي أهميّة برقاوي فهو لا يريد في “أنطولوجيا الذَّات” أن ينكشف معنى الوجود في ذاته، كما أراد هيدغر أن ينكشف معنى الوجود في مقولة الدازاين؛ ذلك أنَّ برقاوي كان شغوفاً إلى أقصى حدّ بتبيان أنَّ الوجود الحقيقيّ هو وجود الذَّات، وهدفه من وراء ذلك هو تقويض الوجودات الأخرى كافّةً التي تُريد العودة بهذه الذَّات إلى حالة الأنا المُنكسر، وحتى الفلسفة الغربيّة نفسها تنضاف إلى الأسباب التي أدّت إلى تغييب الذَّات الفلسفيّة العربيّة، هذه الأسباب التي يُمكن إرجاعها إلى انهيار حضاريّ تامّ على جميع المستويات، إلا أنَّ السبب الرئيس هو الأنظمة السُّلطويّة الغاشمة التي تسعى إلى تفريغ الذَّات من مضمونها الأنطولوجيّ البرقاويّ من أجل حشوها بالقشّ، لتحويل الإنسان إلى دُمية.
أراد برقاوي وضع أنطولوجيا الذَّات من أجل مواجهة أيديولوجيا السُلطة القائمة على تكريس الدُّمى، هذه الدُّمى التي تتكلّم حينما يأذن السُّلطان، وتخرس حينما يأمر السُّلطان، وتفتك ببعضها بعضاً مرضاةً للسُّلطان. وقسْ على ذلك في كلّ شيء، تحديداً في العلاقة مع الغرب الأوروبيّ، فهذه الدُّمى أنفسها تُكَفِّر الغربيين؛ لكنها تتقمَّص حضارتهم، وتلعنهم غير أنّها تدين لهم بكلّ أسباب الحياة المدينيّة، ولذلك فتح برقاويّ أبواب الكينونة الموصدة في وجه الإنسان العربيّ من أجل أن يُحقِّق له نُقلة نوعيّة في نظرته إلى نفسه، نُقلة تحوِّلهُ من أنا منكسر إلى ذات.
تحضر في شخصيّة أحمد برقاويّ المعاناة الوجوديّة للإنسان الفلسطينيّ، أي تحضر فيه روح الصُّعود إلى الينابيع، إنّه صعود لا يتوقّف، من أجل استعادة الذّات، أعني الذَّات المجذوذة الصِّلة بأرضها؛ ولكن لا ترمز الأرض في فكر برقاوي إلى أرض مُعيّنة، بل ترمز إلى كلّ أرض سليبة في جميع المعاني.
إنَّ أنطولوجيا الذَّات في فكر برقاوي هي أنطولوجيا الأرض، فالذَّاتُ أرضاً والأرضُ ذاتاً، هي جدليّة حائرة في حنينها الكيانيّ العنيف إلى نداء الأعماق، ومن شدةّ شغف أحمد برقاوي بهذا النّداء، أصبح يصيح مثل الحلاج:
طلبتُ المُستَقرَّ بكلِّ أرضٍ فلم أرَ لي بأرضٍ مُستقرّا
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”
بواسطة علي محمد إسبر | يوليو 10, 2023 | Culture, Roundtables, العربية, مقالات
تكوّنت شخصيّة المفكِّر السُّوريّ ذي الأصول الحَلبيَّة ساطع الحُصْري (1879-1968 م) بين رماد العثمانيين ونار الطُّورانيين، فقد شهد أفول “السَّلطنة العثمانية” وبزوغ النزعة القوميّة التُّركيّة، ولئن كان منذ ريعان شبابه وبداية عمله بصفته مُدَرِّساً ميّالاً إلى العثمانيين، إلا أنّه بعد تولِّيه لمناصب إدارية رفيعة (قائممقام) أيّد “جمعيّة الاتّحاد والتَّرَقِّي”، وشعر بسعادة غامرة حينما قوَّضت هذه الجمعيّة عرش عبد الحميد الثاني سلاطين بني عثمان عام 1909، وحوّلت “الخلافة العثمانيّة” إلى حالة صوريّة. هذا، ورغم تماهي ساطع تماهياً كاملاً مع الأتراك، حياةً وثقافةً ولغةً؛ إلا أنّه قد حدث انعطاف كبير في شخصيته دفعه إلى أن ينقلب على حياته السَّابقة انقلاباً كاملاً، فقطع علاقاته مع “جمعيّة الاتّحاد والتّرقي”، ووجد فيها خطراً يفوق خطر العثمانيين؛ لأنّه بدأ يكتشف ظهور نزعة عرقيّة تعمّ أرجاء تركيا، وتدفع الأتراك إلى استبدال ولائهم للعرق بولائهم للدِّين الإسلاميّ.
وجد ساطع نفسه مخدوعاً مرَّتين: الأولى، حين اعتقد أن سلاطين بني عثمان يمثِّلون المسلمين كافةً ويدافعون عن حقوقهم؛ والثانية، حينما ظنَّ أنَّ جمعية الاتّحاد والتّرقي يمكن أن تطوِّر إصلاحاً شاملاً يشمل العرب الخاضعين للاحتلال التركيّ الوارِث للاحتلال العثمانيّ.
اكتشف ساطع أنّ هُويته بصفته إنساناً ينتمي إلى أرضٍ بعينها هي هُويّة ضائعة، وأنّه لا بدّ من إنباهِ أبناء جلدته من العرب إلى إعادة النَّظر في معنى وجودهم في أُفق هُويّتهم القوميّة؛ لأنَّ العثمانيين طمسوهم في هُويّة دينيّة أخضعتهم لفكرة الولاء لـ”الخلافة الإسلاميّة العثمانيّة”، فغيَّبَ هذا الإخضاعُ عينُهُ في عقولهم الشُّعور بانتمائهم القوميّ. دعْ أنَّ القوميين الأتراك-الذين شاركهم ساطع نفسه في إصلاحاتهم التربويّة-بعد أن ركّزوا جهودهم على فصل الدِّين عن الدّولة، تبنّوا نظريّة عرقيّة تقول بسيادة العرق التركي على بقيّة الأعراق التي خضعت شعوبها باسم الإسلام للخلافة العثمانيّة وكان أحد أهم واضعي هذه النظريّة بهاء الدّين شاكر الذي انتهت حياته بالاغتيال في برلين عام 1922 على يد أرشافير شيراكيان أحد أعضاء الحزب الثوريّ الأرمينيّ لمسؤولية شاكر عن الإسهام في الإبادة التي تعرَّض لها الشَّعب الأرميني.
دفعت هذه التحولات ساطعاً إلى أن يكتشف عُمق مأساة الشُّعوب العربيّة التي خضعت باسم الإسلام للعثمانيين، وستخضع باسم سيادة العرق التُّركي للطُّورانيين؛ لذلك كان لا بدّ-في رأيه-من تقديم رؤية جديدة لماهيّة الوجود العربيّ.
ويمكن أن نؤكِّد من دون مبالغة أنَّ ساطعاً استطاع قبل غيره من المفكِّرين العرب أن يفهم أنَّ الوجود القوميّ لشعب من الشُّعوب، لا يمكن أن يُؤسَّسَ على العقيدة الدينيّة التي تعتنقها غالبيّة أفراد هذا الشَّعب، ففي رأيه أنَّ الوجود القوميّ للشَّعب أعلى منزلة من أيّ انتماء روحيّ في ما يتعلّق بضمان وحدة هذا الشَّعب. ويبني ساطع على هذا الفهم أنّه لا توجد أيّ علاقة تضايف بين القوميّة والدِّين، بمعنى أنَّ القوميّة لا تتكوَّن من أتباع دين بعينه، ولا الدِّين يتوقَّف على قوميّة من القوميّات؛ إلا في حالة الدِّين اليهوديّ الذي يقوم على الربط بين العِرق والاعتقاد، غير أنَّ هذا الربط مشكوك فيه تاريخيّاً وآثاريّاً وأنثروبولوجيّاً؛ أمَّا الدِّين المسيحيّ والدِّين الإسلاميّ، فهما دينان عالميان ولا يصلحان كي يكونا أساساً لأيّ قوميّة، لأنهما يسريان في قوميات متعدّدة.
وهنا نجد أنَّ ساطعاً كان مختلفاً عن القوميين العرب الذين وظَّفوا الدِّين الإسلاميّ لصالح فكرة القوميّة العربيّة، من أمثال زكي الأرسوزي وميشيل عفلق وعصمت سيف الدولة وغيرهم، إذ أدرك قبلهم على نحوٍ مبكِّرٍ جدّاً الإشكاليات التي يُمكن أن تُثار بسبب تحويل الظَّاهرة الدينيّة إلى ظاهرة سياسيّة!
بعد قيام الثورة العربيّة الكبرى عام 1916، ومآل الأحداث إلى تتويج فيصل بن الشريف حسين ملكاً على سوريا عام 1918، استدعى فيصل ساطعاً ليتولّى منصب وزير المعارف في أول حكم عربيّ مستقل عن الأتراك في سوريا.
لم يدعُ فيصل ساطعاً إلى هذا المنصب الكبير، لو لم يكن ساطع قد خدم الثورة العربيّة الكبرى-وهو في تركيا-، بمعنى أنَّ هناك دوراً مستوراً لساطع في الثورة العربيّة الكبرى، بدلالة أنّه كيف يسوِّغ الملك فيصل لنفسه-وهو من زعماء الثورة ضدّ الأتراك-أن يدعو رجلاً كان في مرحلة من مراحل حياته موالياً للعثمانيين ثم للقوميين الأتراك، لكي يُؤسِّس أول وزارة للمعارف في سوريا؟
أخذ ساطع على عاتقه بعد أن انخرطَ في حركة النهضة القوميّة العربيّة، أن يضع الأساس النّظري لفكرة القوميّة العربيّة، إذ بعد أن استبعد العامل الدِّينيّ من تكوين القوميّة، استبعد العامل التاريخيّ، فإحياء التاريخ المشترك في نظر ساطع يمكن أن يكون سبباً في إيقاظ أحقاد وصراعات ونزاعات دفينة تمزِّق الوحدة القوميّة، كما أنَّ العامل الجغرافيّ، بصفته أساساً للوحدة القوميّة، يمكن أن يُفضي إلى نزعة إقليميّة ضيّقة. وبذا افترقَ ساطع عن منظِّري القوميّة العرب على اختلاف مشاربهم.
وجد ساطع أنَّ اللغة العربيّة هي العامل الوحيد الذي يُمكن أن تُبنى عليه القوميّة العربيّة، فاللغة ليست شيئاً عارِضاً بالنسبة إلى الكينونة الإنسانيّة، بل إنَّ فيزيولوجيّة أي إنسان لا تكتمل إلا إذا صار ناطقاً بلغةٍ من اللغات. وهذا يعني أنَّ اللغة مقوِّم كِياني لوجود شعب من الشُّعوب أو أمَّة من الأُمم. ولئن كانت اللغة حاملاً رئيساً لمعتقدات شعب من الشُّعوب، فهذا لا يعني أنَّ لهذه المعتقدات الأولويّة على اللغة نفسها بحسبانها ماهيّة تكوينيّة مشتركة بين أفراد هذا الشَّعب.
والحقيقة أنَّ ساطعاً عرف معرفة عميقة أنَّ فكرة القوميّة العربيّة في أُفق الدِّين أو التاريخ أو الجغرافيا، ليست إلا مفهوماً صوريّاً غير قابل للتطبيق؛ لأنَّ أفراد الشَّعب العربيّ رغم وجود تنظيرات تفترض وجود قيام وحدة بينهم؛ إلا أنَّ واقعهم الحقيقيّ يتجلّى في كونهم دَيِّنون بأديان مختلفة، ولكلّ دينٍ منها نسقه الفقهيّ أو اللاهوتيّ الخاصّ به، وله تصوّراته الميتافيزيقيّة المتوافقة أو المتناقضة مع غيره من الأديان؛ بل بدأ التنازع داخل الدِّين الواحد، فظهرت الطوائف والفرق داخل كلّ دينٍ بعينه. هذا إلى تنامي الأحقاد التاريخيّة الموروثة عن تجارب مريرة، وظهور النزعات الإقليميّة والشعوبيّة والقبليّة والعشائريّة داخل النسيج العربيّ الواحد؛ لذلك بحث ساطع في ما وراء هذا كلّه عن العنصر الحقيقيّ الموحِّد والجامع للشعوب العربيّة ووجده في اللغة.
أراد ساطع أن تكون اللغة العربيّة أساس انتقال الوجود القوميّ العربيّ من مستوى النظريّة إلى مستوى تطبيقها. ولم يغب عن ساطع أنَّ اللغة العربيّة إذا أُعيد توظيفها بعد تفريغها من العناصر التراثيّة التي تقف وراء تقهقر العرب وتمزّقهم وانقسامهم، يمكن أن تكون وسيلة عُظمى لإعادة تأسيس الثقافة العربيّة على نحو يُنتج حركة حداثة أصيلة لا تكونُ محاكاةً للحداثة الأوروبيّة؛ بل حداثة تنبع من توتّر إيجابيّ داخل الحضارة العربيّة يمكن أن تُقدِّم أنساقاً ثقافيّة إبداعيّة في مجالات العلوم كافّةً.
لقد فهم ساطع العروبة فهماً وجوديّاً عميقاً؛ ولم يكن طائفيّاً ولا متحزِّباً ولا إيديولوجيّاً، ويدلّ فكره على براءة كبيرة، أعني براءة التفكير الحرّ غير الَمشوب بأيّ نظرة مغلقة، فقد كان يعنيه الإنسان العربيّ، وهذا الإنسان عنده يكون عربيّاً إذا كان يتكلّم اللغة العربيّة، وليس مهماً هنا دين هذا الإنسان ولا عِرقه ولا تاريخه، بل فقط كونه ناطقاً بلغة عريقة تحمل في داخلها إمكانيّات هائلة لإعادة تأسيس معنى الوجود السياسيّ للنّاطقين بها، وهذا الوجود السياسيّ لن يتأسس إلا في أُفق ثقافيّ تضمنه اللغة العربيّة وحدها.
فشل ساطع، وتلاشى حلمه بيوتوبيا القوميّة العربيّة المفقودة التي حلّ محلّها كلّ ما واجهه ساطع من إقليميّة وطائفيّة وانقسامات سوسيولوجيّة. لكن يبقى ساطع الحُصْري تجربة إنسانيّة فريدة داخل تراجيديا الثقافة العربيّة الباحثة عن جذورها المفقودة.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”
بواسطة سلوى زكزك | يوليو 6, 2023 | Cost of War, العربية, بالعربية, تقارير, غير مصنف, مقالات
يكشف الواقع السوري الراهن أزمة بنيوية حقيقية وعميقة ما بين السوريين والسوريات في داخل البلاد وخارجها (دول اللجوء). هل ثمة ضرورة لتسليط الضوء على هذه الأزمة! أم سنفعل ما درجنا عليه دوماً وهو الهروب إلى الأمام تحت ذرائع مختلفة مثل الحفاظ على وحدة العائلة والمجتمع! أو ضرورة الحفاظ على التلاحم مهما كان شكليا!
هل ينتمي ما أناقشهُ هنا إلى خانة النم، الغيرة، التشكيك، الحسد، الإدانة، الفذلكة! لا أدري أبداً لأن كل عرض مرتبط بردود فعل مختلفة، وعدم الدراية هنا ليس بسبب نقص المعرفة أو غياب الحقيقة، بل يعود لسبب جوهري وأصيل، وهو انكفاء السوريين والسوريات عن مواجهة الواقع بصورة جمعية؛ وانكفاء المختصين عن خوض غمار عمل قد تصنفه الغالبية في خانة نكث الأخطاء وربما الأحقاد؛ وقد يعتبره البعض عملاً خطيراً قد يدمر البنية المجتمعية التي يتوافق الجميع على ادعاء صلابتها وتماسكها وربما تجانسها! إذن هي ضرورة على الرغم من عدم ضمان النتائج، هي ضرورة تبدو آنية لكنها صادمة ونتائجها منفرة للغالبية ومرفوضة أيضاً، لكن جدياً فقد آن الاوان لكبس الملح على الجرح علّ تلك الصرخة تجد طريقها نحو التشكّل والإعلان.
على أحد مواقع التواصل الاجتماعي مجموعة لسوريات يعشن في ألمانيا، تبدو رسائلهن المتداولة بعيدة كلياً عن اهتمامات سوريات الداخل، مشاكل الأطفال في دور الحضانة والمدارس، مشاكل تعلم اللغة، لكن الأكثر جلبا للإدانة! أجل الإدانة من أهل الداخل، هي الأسئلة عن مواقع بيع الألبسة الأنيقة، مواقع تسوق الإكسسوارات والحلي الجميلة عبر الإنترنت، ويبدو أن الأكثر مدعاة لإثارة النعرات! أجل نعرات! قد يصح تسميتها نعرات بينية، هي الأسئلة عن بطاقات السفر وأفضل البلدان الأوروبية أو المدن الداخلية لقضاء الإجازات! هنا يفلت الحبل المشدود بقسوة ويتعالى القهر، تفلت الغيرة الكامنة من عقالها، ويعلو صوت الاتهامات بالتقصير والجحود.
فكيف لشعب إن صح التوصيف يعتبر التنزه في حدائق جدباء وكأنه نزهات في غابات خضراء ومنعشة أن يتقبل كل هذا الفرق في نمط الحياة! حتى قبل الحرب كانت المسابح مستحيلة وحلم الغالبية وخاصة الشباب والأطفال والطفلات والشابات. البحر وشواطئه مشروع قد يتحقق كل عشر سنين مرة واحدة، أما ركوب الطيارة فهو غصة خانقة بعدها صمت مطبق مغطس بالقهر.
تبدو القضية إذن مغرقة في القدم والحرمان متأصل في الوجدان العام وفي تفاصيل الحياة اليومية، المقاربة هنا لا تنتمي أبداً إلى مفاهيم أو معايير جودة الحياة أبداً، بل تنتمي بشكل مباشر إلى فعل الحياة أو العيش إن صح التعبير.
من نافل القول التأكيد على أن ما يجري يعبر فعلياً عن معارك مؤجلة بين طرفين متناقضين، والتناقض هنا في نوع الحياة وشكلها وفي تفاصيل العيش وليس بين البشر، التناقض هنا برسم المكان والزمان لا برسم الأشخاص حتى وإن كانوا أبناء أو إخوة أو أصدقاء أو أزواجاً أو أحبة.
قد يكون أهل الخارج محقين تماماً في ضيقهم وانزعاجهم من آلية التعامل معهم من قبل أهلهم أو شركائهم أو أصدقائهم في الداخل، لدرجة تبدو العلاقة وكأنها مع صندوق مالي على أهل الخارج ملأه دوما لتزويد أهل الداخل بكل ما يطلبونه.
تتغير العلاقة وتتحول إلى نمط جديد استهلاكي مفرط في أنانيته ومتكل على طرف واحد، فقط بذريعة أنه الأكثر وفرة، نمط غير تبادلي أبداً حتى دون أي وعد بسداد الممنوح أو جزء منه، أو التعويض بأساليب استرضائية قد تكون غير مالية، هنا تحديداً يكمن الخلل! طرف محروم من كل شيء وطرف يملك ما يستحقه أو ما يحصل عليه بعرق جبينه وبصورة شخصية بحتة، وهو فعلياً يحتاجه للعيش، لكن بنظر الآخر البعيد المقيم في بلاد الحرمان والعوز وفقدان الأمن النفسي والصحي والغذائي، فإن أهل الخارج محكومون بتقاسم ما يجنونه مع أهل الداخل. يقول جورج: “العشرة يورو لا تفعل شيئاً هناك، لكنها بالنسبة لي قد تكون كافية لشراء كيلو من اللحم يكفيني لإعداد عشر وجبات أو أكثر!” المصيبة هنا أن من يعيش في الداخل ينشئ حساباته على مقدار حاجته، على ما يعجز عن جمعه أو تأمينه، العلاقة هنا باتت فخاً خطيراً، والإجابات غير كافية أو مقنعة، يسود منطق الحاجة على منطق الحقوق وتتحول العلاقة إلى ما يشبه الصراع، ويمكن القول إنه صراع حقوق بكل ما في الكلمة من معنى.
على إحدى الصفحات أيضاً، تسخر إحداهن من الطلبات المتكررة لقريباتها بشراء كريمات واقية للشمس أو مغذية للبشرة ومن ماركات جيدة، السخرية هنا لا تتعلق بالعاطفة أبداً، بل بالجغرافيا تحديداً، على أهل الداخل الاكتفاء بأسوأ الكريمات، تماهياً مع واقعهم وتفاصيل حياتهم السيئة!
يتم هنا توجيه رسالة ربما تكون غير مقصودة، تقول الرسالة: “إن جودة الكريم تتناسب طرداً مع المكان، ومع الجنسية!” يا لها من صدمة واقعية ومتجددة؟ وقد تقول إحداهن بلهجة الخبيرة الواقعية والمتمرسة: “زيت الزيتون البلدي هو الأفضل، في إشارة إلى نظرية الجود من الموجود!” وكأن الشعب السوري بكامله قادر على تأمين زيت الزيتون الأصلي والصحي والشافي لكل الأخاديد التي تركها العمر الملطخ بالحرب.
قضية العلاقة ما بين الداخل والخارج قضية مركبة، أطرافها كثر والمتأثرون بها كثر أيضاً، لذلك غالباً ما يتم الرد على أحد إشكالاتها بطريقة متذمرة وقاسية. تقول نوال عن تجربتها: “يتعامل معي أهلي وكأنني بحر لا تجف أمواله!” هي محقة في ذلك طبعاً، لدرجة أن أمر إرسال المال إلى أهلها بات عبئاً مادياً ونفسياً خانقاً. وتحاول نوال التخفيف منه بمباعدة الاتصال مع أهلها كي لا تتعرض يومياً لنفس الأسئلة ولنفس المطالب. تحاول عبثاً إرسال رسائل مفادها أن ساعات عملها طويلة وبأنها مثقلة بالأعباء والوقت ضيق والمناخ البارد يؤثر على طاقتها ولياقتها النفسية وبأنها مضطرة لتنفق كما ينفق زملاؤها وجيرانها لتثبت حضورها بينهم. لم تنفع كل تلك المحاولات ولم يصدقها أحد حتى حين أرسلت لهم بالورقة والقلم كما يقال الفروقات السعرية الكبيرة نتيجة ارتفاع الأسعار الذي طرأ على أوروبا خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وفي الحقيقة لا أحد يريد أن يصدقها، فحجم الاحتياج يتضاعف في سوريا والعجز يتضاعف والحل الوحيد هو في نوال شخصياً دون أي تعاطف، وربما بلا أدنى شكر أو تقدير من أهلها وذويها وبعض صديقاتها الذين باتوا كلهم شركاءها الفعليين في أجرها.
الخيبة قاسم مشترك بين الجميع فمن يبددها؟ لا أحد! واعتماد أهل الداخل على أهل الخارج مرده بشكل أساسي هو عدم إيمانهم أو قناعتهم بأن أحداً ما سيكترث لأمرهم في الداخل. لا موارد كافية والغلاء صار بعبعاً متوحشاً والمرض وكلفته العالية وفقدان السكن والأمان كلها عوامل تشعل نار العوز وتثقل أكتاف الجميع. وإن طالب أهل الخارج أهلهم في الداخل بعمل إضافي لتأمين دخل إضافي ستكون النتيجة هي التشكيك بالعاطفة والمزيد من الشكاوى وحكايات الظلم المتجدد، والتدخل في تفاصيل حياة الممنوحين من قبل المانحين بات تهمة وبات مصدراً جديدا للتناحر والغضب والسجالات ما بين أفراد الأسرة الواحدة، بغض النظر عن سؤال الحقوق وأسئلة الواجب والارتباط والمسؤولية.
“كل شيء ضاق حتى ضاع،” هي العبارة التي تصف الواقع بصدق، ضاعت الطمأنينة والوفرة والمحبة جراء الضيق المتكامل والشامل للجميع. والخلل الذي أصاب العلاقات المجتمعية والأسرية تحديداً بات عصياً على الحل، الكل يطلب من الكل، والكل عاجز عن الاكتفاء بما لديه أو تأمين الكفاية لسواه. وحين يصبح العجز المتبادل أساساً للعلاقات، يتحول العجز إلى عقم عاطفي ونفسي وتشاركي.
إن إعادة بناء العلاقة ما بين الخارج والداخل وتنظيم أسس الدعم المادي هي قضية مؤرقة، قد تجد بعض الحلول إن تمكن ابن من تأمين فيزا لأمه الوحيدة أو (وللأسف) قد يكون الخلاص بموت الأهل أو مقاطعة صديق أو صديقة بصورة نهائية نتيجة العجز غير القابل للمناورة أو التفاهم أو الحل. وإن حمّل البعض الزمن إمكانية توليد حلول أو استنباط آليات تخفف العجز، فإن الزمن يجيء بالمزيد من الأحمال الثقيلة ومن الأزمات الجديدة والمستجدة لا غير.
بواسطة فدوى العبود | يوليو 3, 2023 | Culture, Roundtables, العربية, بالعربية, غير مصنف
لا تكمن أهمية الشاعر السوري محمد أحمد عيسى الماغوط -12 كانون الأول 1934- 3 نيسان 2006- ولا يمكن اختزالها فحسب في تأسيسه للقصيدة الحرّة أو عباراته الانفجاريـــّة في شعره ونثره ومسرحه التي صاغتها ظروف التشرّد والحرمان أو مكانتِه في نقلِ “القصيدة العربية في الخمسينات من الذهني والميتافيزيقي والتأمليّ الصرف لليومي”1
بل في البعد الفكريّ والفلسفيّ لأعماله الأدبية أيضاً. وفي الوقت الذي تمَحوَر فيه الوعي العربي حول مقولات ومفاهيم غنائيّة وشعارات خلبيّه شوّشت على هويته التي فتتّتها الواقع، أتى الماغوط ووضع الركام الذي يتشكل منه الإنسان العربي أمام عيني الأخير تحت مجهر الشعر والنثر والمسرح؛ وكان سؤاله مزدوجاً وموجَّهاً للفاعل والمفعول به، للسلطة والشعوب التي لا تتقدم إلا حين تضع ذاتها موضِعَ سؤال.
لذلك كان سهمه مشدوداً في عدة اتجاهات، ضد النخب والسلطة بكافة أشكالها الدينية والثقافية والسياسية المضللة والمراوغة والحداثة الخادعة والإنسان البسيط الذي ينخدع بسهولة جراء توحّشّ الجهل؛ فقد أراد في كتاباته أن يحرك –ومن خلال-الجملة الشعرية المتفجّرة-الغضب كما أراد أن يثير في نثره الأسئلة وفي مسرحه السخرية. ولم ينجُ المثقف العربي وهو رهين المحبسين (السُلطة والملعقة) من المسؤولية؛ فالأخير يحمل شوكته لاقتسام الدجاجة لكن لا يعثر في صحنه سوى على العِظام! يذكرنا محمد الماغوط بالمفكرين الفرنسيين في الخمسينيّات والذين شَّرحوا حاضر فرنسا بحثاً عن مستقبلها.
ومنذ ديوانه حزن في ضوء القمر رفض الشاب القادم من سلمية،-والذي تنقل بين دمشق وبيروت وعمل في الصحافة ليحترف الأدب السياسي الساخر،-أشكال التقدم الخلبيّ الذي يقوم على انتهاك الفطرة النقيّة للحياة الإنسانية، فلا معنى لأي تطوّر لا يستند للوعي والحرية والكرامة؛ ورغم أنّه كان حداثيًّا في اللغة، إلاّ أن روحه البريّة وحياته التي رضَّها الجوع والتشرد لم تمنعا سؤاله عن ماهية الحداثة بكونها جعجعة بلا طحين.
إنّ مكانة الماغوط في المنعطف السوري كمسرحي ألف العديد من المسرحيات الناقدة التي أسهمت بتطوير المسرح السياسي في الوطن العربي وكتابته للرواية وريادته في القصيدة النثرية أسّسوا للقطيعة المعرفيّة عبر النقد الذاتي والأفكار التي تفكك البنية الذهنية للإنسان العربي والمسؤول العربي والتراث العربي، هذه الكتابة المتمردة شكلت نوعاً من الصدمة أو يمكن أن نطلق عليها ما يسميه غاستون باشلار القطيعة الايبستمولوجيّة مع إرث كامل، ، فقد وضع الماغوط في سلة جميع أسباب القهر وسخر منها بكوميديا واقعيّة فكان نثره ومسرحه كاختراق عمودي لزمن أفقي وراكد.
يذكرنا في أصالة تفكيره وواقعيته وخياله المارق بأريستوفان رائد المسرح الإغريقي. وفي مسرحيته “غربة” يسخر من شعر القافية والوزن في واقع بلا قافية ولا وزن فكان مسرحه رصداً للعوائق القائمة في ثلاثية أطرافها كلها مُدانة.
لقد صور بشكل كاريكاتوري المختار والأستاذ العاجز والسلطوي المتحذلق والمتلاعب بالكلمات، ووضع المواطن البسيط في مسرحياته (ضيعة تشرين-غربة-شقائق النعمان-كاسك ياوطن) أمام مرآة، ولعل مسرحية غربة أشدها عمقاً ووضوحاً فكرياً.
إن نقد الذات حاضر في نصوص الماغوط فشخصياته المسطّحة تفتقر لأي بعد مستقبلي أو نمو درامي، قد تتغير أدوار الشخوص بين فصل وآخر كما في مسرحية غربة لكن ثباتها في كينونة لا تتبدل لم يكن حيلة فنيّة فقط بل دلالة على حال الإنسان العربي الذي لا يتغير ولا يسائل نفسه، ولذلك ثمن باهظ سيدفعه مستقبلاً.
لقد أثمر اليأس والخوف في جعلها شخصيات ثابتة في الزمان. فالنماذج التي يختارها في مسرحه والأمكنة مجرد ماكيت مصغّر للوطن العربي والإنسان العربي أراد من خلاله للمتلقي اأن يراقب هويته وتفكّكها.
شكّك بالمثالية دافعًا الكلمة لأقصى حدودها محمومًا بتثوير الوعي ضدّ ذاته عبر قياس المسافة بين الأقوال والأفعال، وكان حداثيًّا ساخراً من الحداثة وشاعراً يائساً من الشعر والشعراء، يهجو اليمين واليسار (ما أذربَ ألسنتنا في إطلاق الشعارات، وما أرشق أيدينا في التصفيق لها، وما أعظم جلَدنا في انتظار ثمارها، ومع ذلك فإن منظر ثائر عربي يتحدث عن آلام شعبه للصحفيين وهو يداعب كلبه الخارج للتو من الحمام، لا يهزّنا).2
ألا يحتاج الإنسان للانقلاب على نفسه حتى يتحرر قبل أن ينقلب على السلطة بكل أشكالها السياسيّة والثقافيّة والدينيّة!
إن التأمل في مسرح الماغوط يثير الأسئلة الفلسفيّة والوجوديّة التي يتجاهلها الإنسان العربي المقهور، يفكك أسباب قهره. فيكتب في قصيدة بدوي يبحث عن بلاد بدوية:
آه كم أتمنى، لو أستيقظ ذات صباح
فأرى المقاهي والمدارس والجامعات
مستنقعات وطحالب ساكنة
خياماً تنبح حولها الكلاب
لأجد المدن والحدائق والبرلمانات
كثباناً رملية
آباراً ينتشل الأعراب ماءهم منها بالدلاء.
كيف أمكن فتننا عبر الكلام فالمصيبة أمامنا ولا نراها!
يدور الفصل الثاني من مسرحية غربة حول عيد الكذب وكأن المواطن العربي حصان رابح في رهان الكذب الذي يشربه علقماً ويحسبه ماء.
أبو ريشة في المسرحية رجل مكلوم يريد الهرب، تنصحه غربة: ولما بتهاجر لبعيد إنسى الكذب. (ياترى هل استطاع-أبو ريشة الحالي الذي هاجر عبر البحر-أن يتخلص من بنية زائفة شكلت وعيه وهل أمكنه أن يراجع قناعاته؟).
إنّ ما يمنح أهمية وقيمة مسرح الماغوط في المنعطف السوري هي قربه من النبض العام للإنسان، وتركيزه على التناقضات التي شكّلت وعيه، وعلى سرياليّة الواقع العربي التي صبغت مسرحه بالفانتازيا السوداء. يقول في حوار معه: (فماذا يعنيني من السفن الفينيقية التي كانت تعبر المحيطات، وأنا لا أستطيع أن أعبر زقاقاً موحلاً طوله متران؟).3
وتكمن أهمية تجربته في المنعطف السوري في كشفه الغطاء عن المفارقات الواقعية الهزليّة ووضعها أمام الحس النقدي عبر روح سقراطيّة شكاكة وساخرة.
كان سقراط قد أنزل الفلسفة من التفكير المجرد بالكون والطبيعة نحو الذات الإنسانية ومع الماغوط لم يعد الشعر متعالياً ونخبويـًّا بل تحول إلى فعل يوميّ، في انحيازه لكينونة الإنسان.
في مقطع من قصيدة حريق الكلمات من مجموعة حزن في ضوء القمر يكتب:
سئمتك أيها الشعر، أيها الجيفة الخالدة
لبنان يحترق
يثب كفرس جريحة عند مدخل الصحراء
وأنا أبحث عن فتاة سمينة
أحتك بها في الحافلة
عن رجل عربي الملامح، أصرعه في مكان ما.
بلادي تنهار
ترتجف عارية كأنثى الشبل
وأنا أبحث عن ركن منعزل
وقروية يائسة، أغرر بها.
ياربــّة الشعر
ببلاد خرساء
تأكل وتضاجع من أذنيها
أستطيع أن أضحك حتى يسيل الدم من شفتيَّ
كان الماغوط في شعره ونثره انفجارياً ولا يساوم:
لقد آن الأوان
لتمزيق شيء ما
….
يا أرصفة أوربا الرائعة
أيتها الحجارة الممدّدة منذ آلاف السنين
تحت المعاطف ورؤوس المظلات!؟
أما من وكرٍ صغير
لبدويّ من الشرق
يحمل تاريخه فوق ظهره كالحطّاب
إن تحرير العقل العربي لن يكون إلا بوضع الذات أمام مرآة، والاعتراف بالهزيمة والضعف وكمثقف يعرّي الماغوط حقيقة المثقف ذاته. يكتب في سياف الزهور “: حيث تبين لي أن كل آرائي ومواقفي الحازمة ضد هذا الإغراء أو ذاك، ماهي إلاّ أوهام وترّهات وأن ثقتي بنفسي ليست عمياء وصماء، بقدر ماهي مضحكة وبلهاء”.
الماغوط واقعي وحين يسأل عن المبادئ يجيب “ماذا أفعل؟ الفم يساري والمعدة يمينّية”.
إن رثاؤه وألمه هو لحال المواطن العربي صانع التاريخ وما آل إليه: “منذ سبعة آلاف سنة بنيت الأهرامات ونقلت حجارتها على ظهري من أسوان إلى الجيزة، تحت لسع السياط وحريق الهاجرة، والآن أتألم وأشكو ضآلة الأجر وسوء المعاملة”.
لقد وضع تحت عدسة مكبرة وعبر مسرحه الذي هو مسرح أفكار ازدواجيتنا العميقة.
وفي نص بعنوان: حوار بين مسؤول عربي وكاتب نجد أن ممثل اليسار سافر لأداء مناسك الحج وأن حملة القضايا هم أكثر من أساؤوا لها. وحين يُسأل عن مستقبل الشاعر العربي يجيب: (في ملعقته).4
فأمراضنا مستعصية على العلاج والريبة التي تسم علاقتنا ببعض كبشر أولاً وكمثقفين ثانًيا داء عضال: وفي كتابه سأخون وطني وفي نص بعنوان يا شارع الضباب يصف حال المثقف العربي بحيث يخوِّن التقدمي شاعراً آخر ويصفه بالرجعي ثم يأتي آخر ويخوّن الأول باعتباره من جماعة سياسيّة وينظر له كمرتهن ومشبوه، ثم ثالث متطرف يخوِّن الاثنين.
في أحد حواراته يتساءل الماغوط: إذا لم يستطع الكاتب العربي أن يعبر عن رأيه في أدق مرحلة تمرّ بها أمته، فماذا يكتب؟
يجيب: عن وحام الأميرة ديانا.
(ولذلك ما جدوى إصدار كتب جديدة؟
وشق طرق جديدة؟
وركوب سيارات جديدة.
وإجراء انتخابات جديدة
بل ما جدوى أن ننتعل أحذية جديدة
ونرتدي معاطف جديدة
ومايوهات جديدة
والوطن عتيق…. عتيق.5
عاش غريباً وحزنه لم يكن شخصياًّ. إنه حزن على مستقبل وقف العسس في طريقه ومنعوه من المرور، ويبدو أنهم نجحوا لا لأن العيب فيهم بل لأننا كنا شركاء في تدمير هويتنا وركودها لزمن طويل.
كان الماغوط مسرحيًّا وشاعراً برتبة مفكر، وفي كل سطر من شعره ونثره وعبارة في مسرحه سؤال ورجّة ولا يهم أن تأتي الفلسفة عبر المنطق أو اللامنطق بالإقناع أو الفكاهة من نافذة المسرح أو الشعر أو حتى الجنون.
ربما يمكننا إلى جانب التعريفات الكثيرة للفيلسوف أن نضيف أن الفيلسوف هو من لا يعرف أنه فيلسوف، والماغوط مفكر لم تغرِه الألقاب ولم يسعَ لها.
كتب محمود درويش في شهادته عنه” كان، دون أن يقصد، أباً روحيًّا لأكثر من جيل من شعراء قصيدة النثر”6.
ولعلنا نقول إن أبوّة الشعر ليست الوحيدة، لقد استطاع أن يمنح البسطاء مرآة لمشاهدة واقعهم وشاهدوا أنفسهم فوق الخشبة وضحكوا عليها ومنها، لكن لم يرغبوا بتغييرها، تركوا حاضرهم راكداً فنجح العسس في سرقة مستقبلهم.
ثمة حكمة تقول: إذا حدقت في نكتة لوقت طويل سوف تبكي.
لقد تبقت لنا الغصّة، وها هو حزن الماغوط يسافر في البحر، تائـهاً في أزقة أوربا أوهائماً على وجهه في العراء، السوريون الآن أحزان متنقلة ومحمد الماغوط: نائم الآن…. لكن حزُنـــَه حرٌ طليق.
هوامش
1-العاشق المتمرد، شهادات، إعداد على القيم، منشورات وزارة الثقافة، دمشق .2006
2-المرجع نفسه
3-المرجع نفسه
4-محمد الماغوط اغتصاب كان وأخواتها، حوارات، تحرير وتقديم خليل صويلح، دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع، عمان، الأردن .2021
5-المرجع نفسه.
6-العاشق المتمرد، شهادات، إعداد على القيم، منشورات وزارة الثقافة، دمشق 2006
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”
بواسطة عبد الحميد داوود | يونيو 29, 2023 | Culture, Roundtables, العربية, مقالات
ارتبطَ اسمُها نضالاً وكفاحاً بقافلةِ شهداءِ السادسِ من أيار الذين قضوا وقد بذلوا نفوسَهم نضالاً في سبيل حريةِ أوطانِهم، وهي أول مَن لبَّى نداءَ السجناءِ مِن الأدباءِ ومعتقلي الرأي، وانبرت تدافعُ عنهم بنفسها وبقلمها الجريء، وتفضحُ حالَ السجونِ العثمانية الممتلئة بألوانِ العذابِ والاضطهادِ، التي رزح بها خيرةُ رجالِ الفكرِ والأدبِ والوطن، ولم تدخر جهداً كي لا يعلَّقوا على المشانقِ المنصوبة، لعلَّها توقِفُ ذلكَ الظلمَ الذي جرى على يدِ السفَّاح جمال باشا الذي وصفتهُ بِشرُّ طاغيةٍ ابتليت به البلاد، غيرَ خائفةٍ من عقابهِ ولا متهيبةً مشانقه وجواسيسه.
تُمثِّلُ ماري عجمي، الشاعرةُ والأديبةُ والصحافية الدمشقيَّة أو كما سمَّتها وداد سكاكيني ” أديبةُ الشَّام”، رمزاً بارزاً من رموزِ النهضة الثقافية والاجتماعية النسويَّة في سوريا في القرنِ الماضي، فهي التي وهبت الصحافةَ السورية في بداية انبثاقها، أولَ مجلةٍ نسائيةٍ ثقافيةٍ اجتماعيةٍ أسمَتها ‘‘العروس’’، وكانت رائدةَ أولَ مشروعٍ نهضويٍّ نسويٍّ، وبذلك تُعدُّ من مؤسسي الصحافةِ النسوية السورية، وقد ساهمت في تلك الثورةِ النسويةِ من خلال مشاريعِها التنويريةِ التشاركية، والعملِ في الصحافةِ وإنشاء الجمعيات والأندية الأدبية والمدارس.
ماري المناضلة:
سعتْ ماري غيرَ مُتخوّفةٍ ولا مُباليةً بِبطشِ السلطاتِ العثمانية إبانَ سياسةِ التتريك التي تعرَّضتْ لها البلاد، وجَهِدت بكلِ ما أمكنها أن توقفَ أحكامَ الاعدامِ التي أصدرتها المحكمة العُرفيةِ وطالت كوكبةً من رجالِ الأدبِ والفكر، وكانت الصحافيةُ الوحيدةُ التي دخلت السجونَ العثمانية وقابلت المحكومينَ المثقَلينَ بالسلاسلِ واطلعت على أوضاعِهم وظروف اعتقالِهم ووصفتْ أحوالَهم وما عليها من قهرٍ وحرمانٍ واحتقار للكرامةِ الإنسانية، ونقلتْ عنهم همومهم وطموحاتهم ورسائلهم، محاولةً بلقائها لبعض المتنفذين أن توقِفَ بعضَ الأحكامِ أو تخفّفها، وحين قابلت جمالِ باشا طلبتْ منه أن ينهي اعتقاله لرجالِ الثقافةِ والفكرِ الذين يوشكون على الإعدام، عقاباً لهم على تحديهم للحكمِ العثماني ومطالبتهم بتحرير بلادهم، وسعتْ لتشكيل لجنة تدافع عن حقوقهم وتطالب الواليَ جمال باشا بالعفو عنهم.
تقولُ ماري: ” لقدْ كنتُ أسمعُ أنينَ أولئك الشهداء، وأُبْصرُ مواكبهم المزمِعةَ على الرحيل، وأرى المشانقَ المنصوبةَ كأنَّها مواقفَ مناطيدِ المجدِ المحلّقة إلى السماء … “
لقد استطاعتْ ماري أن تتخطى اعتلالَ صحتها منذ شبابها، وأن تستعين بعكازها الذي رافقها دوماً لتحقيقِ نضالها وأهدافها الوطنيةِ رغم صعوبةِ الظروف، فبثباتِ روحها وإرادتها القوية، كانت تتقدمُ إلى جمال باشا لتطالبه بالعدلِ والإنسانيةِ تجاه رجالِ الفكرِ والثقافةِ.
مولد ماري وتعليمها:
وُلِدتْ ماري عجمي في دمشق القديمة بِمحيط الكاتدرائية المريميَّة في 14أيار / مايو عام 1888م من زوجةٍ ثانيةٍ لأبٍ كهل من أصلٍ حَمَويٍّ هُوَ يُوسف عَبده العجمي وكيل الكنيسة الكاتدرائية ويعمل في الحياكةِ وتجارةِ الحرير، انتقل جَدُّهُ إليان الحَمَوِيّ إلى دمشق وهُنَاكَ اكتسبتْ عائلتهُ اسم العَجَمي، لِتجارتهِ بالحُلْيِ إلى بلادِ العَجَم (فارس) كَمَا هُوَ معروف، عاشَتْ ماري في مدينةِ دمشق التي ارتبطت بها بروابطِ الحُبِّ والانتماء، ودرستْ الابتدائِيَّةَ بالمدرسةِ الإيرلندية ثُمَّ تابعت دراستها الإعداديَّة في المدرسةِ الروسيةِ؛ وُهِبتْ ماري منْذُ صِغَرها رُوحاً طموحةً، وقلباً تَفتَّحَ على دمشق التي أحبَّتْها وتَغْنَّتْ بها، نشرتْ أوَّلَ مقـالةٍ لها في جريدة ” المحبة ” وهيَ ابنةُ ثلاثة عشرَ ربيعاً، واستفادتْ من مكتبةِ نعمان قساطلي ومجلةِ ” الجامعة ” لفرح أنطون، وبعدَ أن أشبعتْ رُوحهَا من العربيةِ وآدَابها انتقلت لِتَعلُّمِ الإنجليزيَّة حتَّى أتقنتْها.
وَبغيةِ تحصيلِ علمٍ متسامٍ، واكتسابِ خبرةٍ ثريةٍ في الحياةِ، وتحقيقاً لِطمُوحها الرَّامِي إلى نهضةٍ عربيَّةٍ، حَوَّلت مسيرتَهَا الدّراسِيَّة نحوَ فنِّ التمريض في الجامعةِ الأمريكيةِ ببيروتَ في عام 1905، غيرَ أنَّها اضْطُرَّت للاستغناء عن هذا المشوارِ بسبب تدهُّور حالتها الصحيَّة، ومذَّاك الحين، اتَّسع نطاقُ اهتماماتِها ليشمَلَ تحريرَ المرأةِ وتعزيزَ دورهَا في المجتمع، وذلكَ عبرَ تبنيّها لمشروعٍ يَتَمَثَّلُ في تحطيمِ القُيود والتحدِّيات التي تعترضُ طريقَ المرأة، وإزالةِ العوائق التي تُؤخِّر تقدُّمها؛ وإنَّ براعتِها في ذلك الميدانِ وإخلاصها لهذَا الغرضِ، جعلا منها مثالاً يُحتذَى بهِ في النَّضال النَّسوي، وعُنصراً فاعِلاً في بناء مجتمعٍ أكثرَ تقدُّماً.
مجلةُ العَرُوسِ.. عَرُوس الصحافةِ السُّوريةِ:
واجهتِ الشَّابةُ السوريَّةُ ماري عجمي المجتمعَ الشرقيَّ بمشروعِها الإصلاحيَّ الجريء، فقد حملتْ بينَ كفَّيها مشروعاً إصلاحِيّاً وتنويريّاً، يُنادي بتحريرِ المرأةِ وإعطائِها مكانتها المُستحِقَّة واللَّائقةَ في المجتمع لتكونَ شريكةً فاعِلةً في النَّهضةِ العربيةِ الوليدة؛ وكانتْ تلك الفترةُ مليئةً بالتحوُّلات العميقةِ في الدولة العثمانية، التي انعكستْ تداعيَاتها على الشُّعُوب الخَاضِعة لهيمنتها، فقد بدأت نهضةً فكريةً وليدةً تتسلَّلُ بينَ طبقات المجتمع من المفكرين والأدباء، وكانت مقتصرة على الرَّجالِ دون النساء في مجتمعٍ حرَّم خُروجَ المرأةِ ونشاطَها.
لمْ تتردَّد ماري في مُواجهة مجتمعٍ رافضٍ لخروج المرأة إلى مضاميرَ تُعدُّ مِنَ المُحرَّمات، فأسَّست عامَ1910 م أَوَّلَ مجلَّةٍ نِسائيَّة في المنطقة العربية تدعو إلى تحرير المرأةِ وتمكينها وتختصُّ بقضاياها، وسمَّتها “العَرُوس” وقالت إنَّها عَرُوسُ المجتمعِ السُّوري، وعَمِلتْ ماري رئيسةً لتحرير المَجلَّة وإدارتِها، ووظَّفت عدداً منَ الفتيات المتعلَّمات للتحرير فيها مُستعينةً بأسماء مستعارةٍ خَشْيةً منْ انتقام المُجتمع.
قسَّمتْ ماري المجلَّة إلى أبوابٍ عدة أبرزها “حديثٌ ذُو شجونٍ”، حيثُ تضعُ انطباعَهَا وآرَاءَهَا حول بَعضِ القضايا وما تطالعهُ في المجلَّات الأجنبيةِ، وخصَّصت أبْواباً للمباحث النفسيَّة والفنونِ الجميلة والرُّوايةِ وتدبيرِ المنزل والاجتماع.
أصدرت ماري من عروسها أحد عشر مجلداً، طوال فترتي الحكمين التركي والفرنسي، وقد حملت أعباء المجلة وحدها، تلك التي ينوء بمثلها عُصبة من الرجال.
يبْرزُ هذا التنوُّع في الأبواب والتركيزُ على العُلُوم النفسية والاجتماعية الدَّور الرِّيَادي لهذه المجلَّةِ، أمَّا مَقَالاتُها التي يَعْلو فيها نَقْدُهَا فقد وقَّعتْها باسْمِ “ليلى”، ومنَ الواضحِ أنَّها كانت تحملُ رسالةَ التغْيِير والإصلاح في مجتمعٍ ما زالَ يرفضُ أن تكون المرأةُ شريكةً في الحياة العامَّة.
منبر العروس:
شَرَعتْ مجلة “العَرُوس” الآفاقَ أمامَ النساء ليعبِّرنَ عمَّا بداخِلِهنَّ وَيُبرِزْنَ أصوَاتَهُنَّ وَآراءَهُنَّ فيما حَولهُنَّ، فكتبتْ فيها عددٌ منَ السيَّدات الأديباتِ مثل روز شَحفة وأُنس بركات وزينب فواز وأديل عَجْمِي وسلمى كسَّاب وَنازك العابد وعفيفة صعب وغيرهنَّ.
كما كَتَبَ في “العَرُوس” رِجَالُ الفِكرِ والأدب في تلكَ الفترة كجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وجميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي وإيليا أبو ماضي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم والأخطل الصَّغير وعباس محمود العقاد وَغيرُهُم.
إن كَثْرَةَ الأدباء حوْلَ “العَرُوس” وَمُشَاركَتِهمْ الأفكارَ والمشاريعَ ذاتِها تُوحِيَان بالثَّقَافة الواسعةِ والمشروعِ النهضويِّ الذي اضطلعتْ بهِ ماري عجمي لتكونَ رائدةً في مجتمعٍ عاشَ قُرُوناً طوالاً في جهالةٍ مُطْبِقةٍ، ولِكُونِها واحدةً منهم، كانت قريبةً مِمَّا يُعانيهِ الأديبُ حتَّى تَتَجلَّى الفكرةُ أمامهُ ليحيلها إلى نصٍّ يُومضُ بما يبْتَغيه لذا صاغت قصيدةً تحكي عن حياتهِ، وَوحي فكرته، مُعَبِّرةً عن مُعَاناتِهِ، فأنشدتْ:
إن صفتْ خَمْرٌ بأقْدَاحِ الهَوَى مَــالَ يجْلُوهَا بأبْكَارِ البيانِ
أو شكتْ طيرٌ بأوداء الحمى هَــاجَهُ النَّـوْحُ فأبْكاهُ جِنَان
إنْ تقُولُوا ما بـِــــهِ مِنْ لـــوعَةٍ ليسَ ما فيهِ التياعُ بلْ حنان
كُـــلُّ قلْبٍ فـــــــــي البرايَـــــا قلبهُ فارحـموهُ إنَّهُ قلـبُ الزمانِ
رسائلُ حبٍّ في دهاليزِ الموت:
معَ اندلاعِ الحرب العالميةِ الأولى عام 1914م، ضاقت السلطاتُ العثمانيةُ بالصُّحف والمجلاَّتِ ذَرعاً فأغلقتِ الكثيرَ منها وكانتْ مجلة “العَرُوس” إحداها، كَما اعتقلت الكُتَّاب والأدُباء الوطنيين الأحرار المناهضينَ لسياساتهم، ومِنهُم بِترو الذي أملَتْ ماري رسائِلَهَا إليهِ في السِّجنِ حُبَّاً وامتِعاضاً مِنَ القمعِ الخارجي ومِنَ السجنِ المجتمعي الذي يَحُرمُ المرأةَ حُرِّيَّتها ومُطالبَتها بحُقوقِها.
كانَ المناضِلُ والصَّحفيُّ اليونانيُّ الفذْ وكيلُ مجلةِ “العَرُوس” في بيروت بِترو باولي قد وَقَعَ في حبِّ الكاتبة السورية ماري عجمي، التي أجَابتهُ بِمثلِ حُبِّهِ فَخُطِبَا وقد جمعتْ بينهُما روحُ النضالِ والكفاحِ ومحاربةِ الظلم والاستبداد التُّركي، إلَّا أنَّ السعادَةَ لم تَدم طويلاً، فبِترو كاتِبُ مَقَالاتٍ لاذِعةٍ ناقِدةٍ تهاجم السلطاتِ العثمانية وتدعو إلى التحرُّر والاستقلال، وقد كان يُوقِّعُ مقالاتهِ باسمِ “الباتِر”، الاسمِ الذي كانتْ ماري تُحبُّ أن تُناديهِ بهِ، فقَبَضَ عليه الأتراكُ وأُودِعَ في سجن عاليةَ في لُبنانَ، وكانتْ ماري تقطعُ المسافات ذهاباً وإياباً لزيارته، حتى نُقل إلى سجن قلعةِ دمشقَ، حيثُ استمرَّت زياراتُها له وللسجناء السياسيِّين والأدباء، تَطَّلعُ على أحوالهم وتنقلُ معاناتِهم، وقد خاطبتهُ مَرَّةً “أتدركُ أنَّكَ في سِجنِكَ أكثرَ حُرِّيةً مِنِّي، وَأنَّ السَّلاسِلَ والأقفالَ التي يَغلُّونَ بِها أيدِي السُّجناءِ ليستْ بأشدَّ مِمَّا تُوجَّه إلى ذاكِرَتِي”.
كانت ماري ترشُو الخُفراء في السجن لِلقاءِ خطيبِها والأدباءِ المسجُونينَ، وإن لم تستطِع، كانت تُرسلُ لهُم الرسائلَ، أو تُناجيهم عبرَ قساطِلِ المياه التي تنقُلها من عين الفيجه إلى السجنِ، ولم يخرج بِترو من السجن حَتَّى أُعدمَ معَ رفاقه في قافلةِ شُهداءِ السادسِ من أيَّار في العاصمةِ اللبنانيةِ بيروت، لم تنس ماري حبيبها الذي ذهبَ ضحيَّة الظُّلم والاستبدادِ وكان الحزنُ يتشَظَّى في قلبِها ويدفعُها إلى متابعةِ النضالِ بقلمها الدَّامي ضِدّ ظلمَ الأتراك واستبدادهم ولم تحبَّ ماري بعدهُ أحداً، بل كوَّنت فلسفتها في الحبِّ من تلكَ التجربةِ المؤلمة في دهاليزِ الموت:
يا وَاهبَ العُشَّــــــــــاقِ نضــــرتَهُ كالزَّهرِ يلهبُ حُسنَهُ وَرَقَهُ
ما الحُبُ أن ترجو مُوَاصلةً أو أن تظلَّ الدهر من عشقِه
الحُـــــــــــبُّ معنى لستَ تدركــــهُ مــــا لم تــرَ الأنوارَ مُنبَثِقه
لقد منحت ماري عجمي بقلمِها الحرِّ ولُغتها الرصِينةِ القدرةَ على نقلِ تجربةٍ عاطفيةٍ جذّابةٍ مليئةٍ بالحبِّ والألمِ في آنٍ معاً، فانصهرَ الحبُّ مع الكفاحِ من أجل الحريةِ في بوتقةٍ واحدةٍ، لتخرُجَ منها صورةٌ رائعةٌ لامرأةٍ عصاميةٍ لا تخشى الموتَ ولا تركع أمامه طالما كان الثمن هو الحرية والكرامة.
نشاطها النضالي والأدبي:
عبَّرت ماري بِتلقائيَّتها وفطنتها عن مساحاتٍ جديدةٍ في عالم الأدب والثقافةِ والإعلام واستطاعت من خلال ” العَروس ” أن تُنشئَ نهضةً نسويةً على مُستوى عربيٍّ، سمحت من خلالها للمرأةِ السورية التأكيدَ على دورها التفاعلي وقدرتها في تحمُّلِ مسؤوليةِ النهوض بالمُجتمع والنضال للتَّحرُّر من الاستعبادِ العُثماني. تقول عنها وداد سكاكيني: “وحين اتصلتْ بالمجتمع وتغلغلت في شؤونه وشجونه جعلت تدمغ بالحجة البالغة ما يُفترى على المرأة ظُلماً وكيداً، داعية قومها إلى تحريرها وتبصيرها، وإلى رفع مستواها بالتعليم والتقويم، لكي تكمِّل الرجل ويتعاونا معاً على بناء الأسرة والمجتمع”.
درست ماري الأدبَ العربيَّ في مدرسة الفرنسيسكان ( دار السلام ) مدةَ أربع سنوات في مطلع الثلاثينيات وسافرت إلى بغداد بقصدِ التدريس عام 1940م، لكنَّها لم تمكث هناك أكثر من سنة، عادت بعدها لتنصرف إلى النشاطاتِ الأدبيةِ والاجتماعية، وبعدما أثبتت الكاتبةُ مهارتَهَا اللُّغويةَ الفذّة وَقُدرَتَهَا على الترجمةِ بإتقانٍ، ترجمت أعمالَ عددٍ من الكاتبات الأمريكيَّات والإنجِليزيَّات اللواتي تركنَ بصمةً لافِتةً في عالمِ الأدب، مثلَ دُوروثِس دوكُس ولُويزا آلكوت وآلِن رُوبنسون، وقدَّمَت ترجَمَاتٍ عربيَّةً لِرُوايةَ “المَجْدَليَّةُ الحسنَاءُ” وكتاب “أمجد الغايات” للكاتبِ باسيل ماسِيوز.
ماري الشَّاعِرة:
وصفَ إسماعيل مروة شِعرَها قائلاً : عُرفَتْ ماري عجمي بجَودَةِ شِعْرِها ونَثْرِها، وقُدرتِها على نقْدِ هذَيِنِ الفَنَّينِ حتَّى أنَّها اُختيرت لتكونَ عضواً في لجنةِ النقدِ الأدبيِّ في جمعيةِ الرابطةِ الأدبية، وقد امتازَ شِعرُها بالرِّقة والعذوبة، والمَتانة والجَزالة في القافية واللُّغةِ والسَّبكِ والبلاغةِ العالية، وعمقِ المعنى وحُسنِ اختيارِ الكلمةِ، والتزامِ أوزانِ أشعارِ العربِ وقوافيهم. يقولُ محمود حاج سعيد عن ماري عجمي: ” لَمْ تعطِ ماري عجمي الشعرَ إلا جانباً يسيراً من اهتمامها، ولو تفرَّغتْ لهُ، كما تفرَّغَ فُحولُ الشُّعراءِ، لكانت شاعرةً تقِفُ إلى جانبِ كبارِ الشُّعراءِ دون ريبٍ، وقد امتازَ شِعرُها بالرِّقةِ والعذوبة، ومتانةِ القافية، وبلاغةِ المعنى، وحُسنِ اختيارِ الكلمةِ”
كان شعرها يدور في فلك الشؤون الذاتية والقضايا الاجتماعية والإنسانية والإشادة بالفلاح والعامل والجندي وحول جمال الطبيعة وحبها، ولا سيما دمشق وغوطتها، وكان لشعورها القومي أثر بيّن فقد تغنّت بلبنان وفلسطين وبغداد ومصر.
ويضيف إسماعيل مروة ” تتحول رباعية الحب والحزن والطبيعة والذات الشاعرة إلى مرتكز لرؤية الوجود والعالم في محاور البناء الفكري والوجداني والتخيلي لقصائد ماري عجمي، مؤثّرة في اختيارها موضوعاتها الشعرية.
وهي صاحبهُ قريحة شعرية اصطبغت بالرومانسيةِ لولعِهَا بالطبيعةِ التي عدَّتها محراباً لها، حيثُ هُناكَ يطيبُ العيشُ:
وأطيبُ العيشُ افتِراشُ الثَّرى وَشربَةٌ مِن سلسَبيلٍ عجيــب
فـــي ظِلِّ دوحٍ عابقٍ بالشَّـــذا يهتزُّ في الأصباحِ بالعندليب
كما وصفَ أمين نخلة شِعرَهَا قائِلاً: “أمَّا الشِّعرُ فإن ماري عجمي لمْ تجنحْ إلى نظمهِ إلَّا في بعضِ ما كانت تتحرَّكُ لهُ نَفْسُها في الأحيانِ من حُبٍّ للإيقاع وطربِ النَّغمةِ أو في بعضِ المخايلِ السامية، إنَّما شِعُرها أشْبَهُ شيءٍ بالزَّهرِ الزكيِّ في جِبالنا اللُّبنانيةِ أيامَ الرَّبيعِ يخرجُ إذْ يخرج فلا يدري أحَدٌ كيفَ طَلَعَ من قلبِ الأرض”.
كانتْ ماري تُولي دِمشْقَ بالغَ الحب وتُؤثِرها بالغَ الإيثار، وتَخُصّها بقصيدةٍ أو مُوشَّحٍ بَديعٍ كأنَّهُ نجْوَى المُحِبَّ للمحْبُوب، وكأنَّها كَتَبتْهُ وهي بعيدةٌ عن جُلَّقٍ مُشتاقةٌ لِرياضِها وغُوطَتِها وشَتَّى مَحَاسِنِها:
دمشقُ! إِذا غِبْتِ عن ناظِرِي فَرسمُكِ في حُسنِه الزَّاهرِ
مُقيمٌ على الدهرِ في خاطِرِي
يَهُـــــــبُّ نسيمُ الصَّبـــــا هاتِفًـا أَمَا والَّذي طــابَ من تُربتِكْ
إذا فتَّح الوردُ في روضـــتِكْ وغنَّــى الهزارُ على دوحتِكْ
سَمِعْتُ شَتَاتَ الأغَاني فَمَا اهْتَزَّزْتُ اهتِزَازي لأنشُوَدَتِك
ولا عبقت نفحةٌ في الفضا ألذُّ وأطـــــــــــيبُ مِــــن نَفْحَتِك
ذَهَبَتْ ماري ترنو بعيداً في أفقِ الكلماتِ، واستبصرتْ فضاءاتٍ رحبةً في الشعرِ وجاستْ أغواراً سحيقةً في الأدبِ والنَّثر قلَّما وَصَلَها أحد، لتعبِّرَ عن رؤَاهَا في دَعمِ أُمَّتِها واستنهاضِ الهممِ لصالحِ وَطَنِها، فَوَجَدت في الكلمةِ والأدَبِ ضوءاً تلتَمِسُ فيهِ طَريقاً إلى قُلُوب أبناءِ الوطن، تُقوِّي مِن عَزَائِمهم وتَشُدُّ عَضَدهُم لِلنُّهُوض بالاقتِصَاد المَحلِيِّ وتحفِيزِهِ، وتَحْرِصُ أن يَكونَ الاعتمادُ على المُنْتَجات المحليةِ في مُخْتَلَفِ المجالاتِ، فتناشدُ أبنَاءَ وَطَنِهَا بأنْ يلتَفِتُوا إلى ثرواتِ أرضِهِم ويستَثْمِرُوها ويَقِفُوا في وَجهِ المستعمرِ الذي يَسلِبُهُم خيراتِ بلادهِم ولقمةَ عيشِهم فتقولُ: “إنَّ المحراث في يدكَ أيُّها الرجُلُ، لسيفٌ تَذُودُ بهِ عنْ حَيَاتِكَ، والمِغْزَلُ في عينيكَ، أرهفُ سهم تناضلُ بهِ، دونَ مالكَ واستقلالكَ”.
وفي هذا السياقِ، لم تتوانَ ماري عن دعمِ العُمَّالِ والفلَّاحينَ في موقفٍ لافتٍ، حيثُ نسجتْ قصيدةَ “أملُ الفلَّاح” التي أبهرت الجميع بأسلُوبها البلاغيَّ ومضمونِها، وتوِّجت بالجائزةِ الأولى في محطة الإذاعةِ البريطانية بِلُنْدُن عامَ 1947، وكانَ تكريمُها للفلَّاح بأسلوبٍ فريدٍ من نوعه:
هُوَ الزَّارعُ الفــــلاحُ لولا جهــــــــــــادَهُ لَما شَمتْ بالرِّيحانِ حُسْنُ المخايلِ
هوَ الطَّوْدُ للعبءِ الثقيلِ وقدْ بَدَا على وَجْهِهِ من اتِّقَـــــــــادِ المَشَــاعِلِ
نبيٌّ فقدْ أوْحَى إلى القَفَرِ بالشَّذى وعلَّقَ أقراطَ الغصــــــــونِ الحَوامِلِ
رسَالَتُهُ طيبٌ وجنيٌ ونَشُّــــــــــــــــوةٌ وَكعْبَتهُ الخضـــــــــراءُ حجُّ القوافِلِ
نواد أدبية وثقافية:
بعدما انتهتِ التطلُّعاتُ إلى خيبةِ أملٍ بعدَ سيطرةِ الإنجليزِ والفرنسيين على دولِ المنطقة العربية، عادت ماري إلى توعية الشعبِ العربي والصدح بحقيقة مصالحِ الانتدابِ، وخاضت معركةً أدبيةً ونضاليَّةً شرسةً ضد الاستعمارِ الفرنسي الذي بذلَ كل ما بوسعهِ لإسكات صوتِها الحر وقلمِها الثائرِ، وحاولَ استمالَتَها بالذَّهبِ والجواهر، إلَّا أنها رَفَضَتْ كُلَّ المغرياتِ التي قُدِّمت لها، والذي ردَّ بتعطيل مجلة العروس نهائياً؛ وبعدَ أن تأكَّدت من أن حضارتيهما لم تأتِيا لتُعطيَ الشعوبَ العربيةَ حُقُوقَهَا وتمكِينَهَا من الحُكمِ الذَّاتيِّ، بلْ جاءت للاستيلاءِ على ثَرواتها واستعبادها، وزادت مقالاتُهَا حِدَّةً ساخرةً بفَرَنْسا ووعودِها الإصلاحيَّةِ ومُحاجَتِها وتبيَان كَذِبِهَا وَلُصُوصِيَّتها وتلاعُبِها بالبلادِ والعبادِ.
وَفي سَعْيها الدَؤُوبِ للإسهامِ في تحسينِ واقعِ المجتمعِ، أسَّستْ ماري مدرسةَ بناتِ الشُّهداءِ سنةَ 1920م بِالتَّعاونِ مع نازكِ العابدِ، وتعاونتْ مَعَ فاطمة مردم وسلوى الغزِّي في تأسيسِ جمعيَّةِ “يقظة المرأة الشامية”، وجمعيةِ “نُور الفيحاء” ونَاديها، بهدفِ تحقيقَ التَّنميةِ الاجتماعيةِ والثقافيةِ للأفرادِ والمجتمعِ.
أسَّسَتْ أولَ رابطةٍ ثقافيَّةٍ في دمشقَ عُرفت باسم الرابطةِ الأدبية، انتُخِبَت ماري عُضواً في لجنةِ النقدِ الأدبيِّ في الجمعيةِ ذاتها عامَ 1921م، والتي انضمَّ إليها العديدُ من المثقَّفينَ والكتَّاب والفنَّانين من بينهم خليل مردم بيك وفخري البارودي وشفيق جبري، واصلتْ عَمَلَها المُثمر لثلاثِ سنوات حتى أغلقتها السلطاتُ الفرنسيةُ، وتحوَّلَ منزِلُهَا إلى صَرْحٍ ثَقَافِيٍّ هامٍ يجتمعُ بين جدرانه كوكبةٌ من أعيانِ دمشقَ مِنَ المثقفينَ والأُدَباء مِنَ النساءِ والرجالِ للحوار ومداولةِ قضايا الثقافةِ والسياسةِ.
بقيت ماري مستمرَّة في الدعوةِ إلى الحُرِّيَّةِ والعدالةِ وغرسِ الحسِّ الوطنيِّ وبُذورِ مناهضةِ الانتدابِ الفرنسي في نفوسِ الطلَّابِ واليافعينَ في مسيرتها للتعليمِ في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، وإنارةِ العقولِ بالوعي والمعرفة، والتحريضِ على الانتفاضِ ضِدَّ القمعِ والدعوة إلى التحررِ من براثن الاستعمار، فأضحى منزلها منبراً للمثقفين يجتمعونَ فيهِ لمناقشة قضايا المجتمع العربيِّ ونهضتهِ والتداولِ فيها، وَدَعَتْ إلى النضال والثورة ضد الاستعمار والظلم، ودافعت بمقالاتها وخُطبها عن قيمِ الحرية والعدالة، ومنحت الشعبَ العربيَّ صوتًا وهيبةً وكرامةً، فهتفتْ بالنفسِ الثائرةِ التي تتوقد بين جنْبيِّ الشبابِ العربيِ في نضالهِ ضدَ الغاصبينَ لأرضهِ:
كــــــانَ كالبُلبُـلِ فـــي أيكَتِـــــهِ يَتَغَنَّــــــى بالقوافـــــــــي العامـِـرهْ
فَرَمَـى الكأسَ وألقــَـــــــــى نـــــايه وَمَضـَـــى للحــربِ نفساً ثائرهْ
باعَ يومَ النصرِ طوعاً روحهُ فهيَ ومضٌ بالنِّصالِ القاهرهْ
كـيْ يَدُكَّ الأرضَ بالخصــمِ فلا تتصبَّاهُ العوادِي الجائرهْ
هَلْ لَهَا إلَّا غيــورٌ حــــــــــــــــــازِمٌ لا يَهَابُ الموتَ، نارٌ صاهــرهْ
تَعْصِفُ النخوةُ في أضلاعهِ عصفةُ الريحِ بروضٍ عاطـِرهْ
فقد كانت الكاتبةُ والأديبةُ الرائدةُ ماري عجمي الشخصيةُ الإنسانيةُ المؤثرةُ التي تركت بصماتٍ وإرثًا لا يُنسى في عالمِ الشعرِ والنثرِ والأدب والثقافة، وواجهت التحديَّات بشجاعةٍ وعزيمةٍ وحكمة، وعملتْ دونَ كللٍ على إرساءِ دعائمِ نهضةٍ فكريةٍ وثقافيةٍ واجتماعيةٍ في الأوساطِ العربيةِ.
الموت وحيدة:
لم تتوانَ ماري عن مُواصلةِ مشوارها الأدبيِّ والنضالي، ولم يبلُغْ منها اليأسُ محلاً فبعدَ إغلاقِ مجلةِ العَرُوس، في عامِ 1940م سافرت إلى العراقِ بقصد التدريس، وكانت من تلاميذها الشاعرةُ المبدعةُ نازك الملائكة، وبعدَ عودتِها إلى دِمَشْقَ، بدأ مرضها يتفاقم، وانزوتِ الشاعرةُ المناضلةُ في سبيل قضايا الوطنِ والمرأةِ وتحريرها وتكسير قيودِ المجتمع، وأصبحت تذوبُ وحيدةً في محيطِ الوجعِ، لا يزورها إلا بعض صديقاتها المقربات، حتَّى وافتها المنيةُ في 25 ديسمبر/ كانون الأول عام 1965م، ودُفِنت في دمشق، في جنازةٍ لم يشهدُها سوى 16 شخصاً من أقاربها ليسَ بينهم أديبٌ إلَّا فؤاد الشايب، ليبقى إرثُها يشعُّ نوراً وتألُقًا في عالمِ الأدبِ والثقافة.
وَمِنْ الكُتُبِ والمقالاتِ التي نُشرت وتحدثتْ عن أدبها، يأتي “ماري عجمي.. في مختاراتٍ منَ الشِّعرِ والنثر”، الذي يضمُّ أروعَ ما خطَّتهُ هذه الكاتبةُ الرائِدةُ، والذي نشرتهُ الرابطةُ الثقافيةُ النسائيةُ في منتصف القرن الماضي، وتباينتَ الردودُ حولَ هذا الإصدارِ الفريد، إذ نُقِشَ على صفحاتهِ الأولى بيتانٍ للزعيمِ السوري فارس الخُوري، الذي ردَّده عددٌ من المعجبين، مؤكدينَ بذلك على عبقريةِ الشَّاعرة الفذَّة:
يا أُهيلَ العبقريـــة سَجِّلوا هـذي الشَّهادهْ
إنَّ ماري العجميَّةَ هي مــــيُّ وزيــــــــــادهْ
ومنَ الشهاداتِ الأدبيةِ التي أُبرمتْ بحق الشاعرةِ والأديبةِ ماري عجمي، قالَ عنها رئيف الخوري في مهرجانِ تأبيِنها: ” نذرتْ حياتها نذراً للأدبِ، حتَّى ليمكن القولُ إنَّها ترهَّبت للأدبِ ولم تكن عروساً لغيرِ القلم “.
أمّا شهادةُ الشاعر خليل مردم بك فيقول فيها: لا أُحِبُّ من غوايةِ المرأةِ إلَّا غوايَتَهَا في الأدب، وأكثرُ ما يعجبني من أدبِ المرأةِ هو سحرُ الحياءِ، وهذانِ المعنيانِ ماثلان في الآنسة ماري عجمي وأدَبِها “، وقال أيضاً واصِفاً أدَبَها وشِعْرَها: ” جَمَعَتْ ماري بينَ الصناعتينِ النثرِ والنظم، فلها المقالاتُ والخُطبُ والقصائدُ، وعالجتِ الترجمة كما عالجت الإنشاء “
كما وصفتها الأديبَّةُ ناديا خوست: بأنَّها ” متألِّقَةُ الرُّوحِ، وَطَنيَّةٌ، حَادَّةُ البصرِ والبصيرةِ، جريئةٌ وعملاقةٌ، وكَتَبتْ بلُغَةٍ مُضرجةٍ كالفجرِ”.
وقال عنها الصحفي والأديب عبد الغني العطري في كتابه << حديث العبقريات >> وقد سمَّاها ” الأديبة الشاعرة والمناضلة الرائدة”، يقول: ” نحن لم نقمْ لها تمثالاً في حيِّها وهي جديرة بذلك، ولم نطلق اسمها على شارع وهي أهل لذلك أيضاً “.
وأشارت الأديبة كوليت خوري: لا شكَّ في أنها حتى هذه اللحظة لم تأخذ حقها من التاريخ.. ولم تحتل المكانة التي تليق بها في سجلِ المجد..”.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”