المعاناة اليومية للعمال من أجل لقمة العيش في فلسطين

المعاناة اليومية للعمال من أجل لقمة العيش في فلسطين

منذ عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر وإسرائيل تقوم بعمل همجي حقيقي لا يمكن تسميته إلا بالإبادة تجاه الفلسطينيين يفوق ما قامت به النازية من مجازر بحق يهود العالم، ولكن هل هذا يعني أن الفلسطينيين كانوا قبل طوفان الأقصى يعيشون في حال من الهدوء؟ ليس التاريخ بعيداً فلو عدنا قليلا لوجدنا أنه حافل بالمجازر الإسرائيلية وبالانتهاكات المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني. فمنذ سنوات وكل عام تقريباً تقوم إسرائيل بقصف غزة بالفوسفور والأسلحة المحرمة دولياً، لكن سياستها لا تنحصر بالعدوان المسلح الذي تلجأ له كل حين بل تتبع مخططاً سياسياً عدوانياً ممنهجاً يضمن لها السيطرة الكاملة عن طريق بناء بنية تحتية تجعل دولة إسرائيل متحكمة في حياة ومصائر الفلسطينيين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، باستخدام كل الأشكال التي تمزق حياتهم يومياً بشكل مباشر وغير مباشر.

فعلى سبيل المثال، أقامت إسرائيل شبكة الطرق في الضفة الغربية، بين المدن والقرى والبلدات بشكل يخدمها ويعوق حركة  الفلسطينيين فتصبح المسافات مضاعفة، وهناك  600 وأكثر من الطرق الداخلية في الضفة الغربية مخصصة للمستوطنين ، إضافة لبناء وإقامة  الجدار العازل،  لقد أرادت تحويل أماكن وجود الفلسطينيين في الضفة إلى كانتونات منفصلة ومعزولة من السهل السيطرة عليها وإفقارها والتحكم بها، فأقامت  نقاط التفتيش والحواجز العسكرية  والمعابر بحيث تقطع هذه الطرق وتجعل التنقل من الصعوبة بمكان، حيث يتم حجز الفلسطينيين لساعات طويلة فيها، إمعاناً في الاذلال والانتهاك. وفي الحقيقة هناك عقبات كثيرة تقف أمام حرية التنقل للفلسطيني أولها تقسيم المناطق وتصاريح العمل.

البحث عن عمل وصعوباته

ترى الباحثين عن عمل يصطفون طوابير أمام المعابر ونقاط التفتيش والمستوطنات. فبعد أن قامت إسرائيل بمصادرة أراضي الضفة الغربية وأقامت عليها المستوطنات لم يعد امامهم سوى العمل لديها، خاصة أنه من غير المسموح لهم بممارسة المهن البيضاء التي تنال أجراً عالياً وتكون في قمة الهرم الاجتماعي فسلطات الاحتلال  تعدّ الفلسطينيين النوع الأدنى الذي عليه ممارسة المهن ذات الياقة الزرقاء التي تتطلب جهداً عضلياً كالبناء والمقالع الصخرية والأعمال الزراعية المرهقة والخدمات وكل الأعمال التي يأنف الإسرائيليون من ممارستها بما فيها أعمال بناء المستوطنات، إمعاناً في الاحتقار وتدمير الانتماء.

فكثيراً ما يضطر الفلسطينيون للعمل في أراضيهم ذاتها بعد أن صادرتها الدولة المحتلة، وأقامت عليها مزارع المستوطنات.  يتحدث الكاتب الاسكتلندي ماثيو فكري  في كتابه “تشغيل العدو- قصة العمال الفلسطينيين في المستوطنات الإسرائيلية” الصادر عن مركز دراسات ثقافات المتوسط بترجمة يزن الحاج عن ظروف العمال الفلسطينيين من خلال لقاءات معهم  وعن معاناتهم بدءاً من الوقوف على الحواجز وفي سوق العمل وأمام المستوطنات طوابير طويلة عارضين قوة عملهم للمساهمة في بناء هذه المستوطنات اللاشرعية والتي تقام على أراضيهم المصادرة منهم وتتوسع باستمرار وبأيديهم. ولا يخفى على أحد أنها تقام لتمزيق المكان والسكان وإحكام سلطة الكيان عليها. ومن خلال اللقاءات يتحدثون مع ماثيو كيف يعيشون ذلك التناقض على أشده بين معرفتهم بخطورة المستوطنات على قضيتهم  واضطرارهم لهذا العمل من أجل العيش، إنه التمزق المهين الذي يتخطى عدم الارتياح إلى الذل والشعور بالنبذ جراء  نظرة الآخرين إليهم بدونية وحتى  الاتهام بالخيانة دون التفهم لحقيقة الظروف التي تجبرهم على ذلك.

فالسلطة الفلسطينية التي تعاقب على العمل بالمستوطنات بالسجن لمدة تصل خمس سنوات غير قادرة على تأمين فرص عمل لهذا العدد الكبير من المواطنين عدا أنها مكبلة بقيود سلطات الاحتلال فمثلا ينص بروتوكول باريس على قيام إسرائيل بجباية العائدات الضريبية من الضفة وتحويلها للسلطة الفلسطينية التي تحتاجها لدفع رواتب موظفيها لكن إسرائيل لا تقوم بدفعها دائما مما يربك السلطة الفلسطينية ويجعلها عاجزة عن دفع الرواتب.

 كما تتحكم إسرائيل بحركة التجارة دخولا وخروجاً وتتحكم بالحدود ولهذا غير مسموح للسلطة الفلسطينية بالقيام بأي شكل من أشكال التنمية المستدامة، بينما يسبب حصار إسرائيل خسارة  للاقتصاد الفلسطيني تقدر ب 3,4 مليار دولار سنوياً إضافة إلى ما يضيع عليها نتيجة عدم السماح لها بالتنقيب عن المواد الخام، وقدّره البنك الدولي بمليار دولار.

 تحاصر إسرائيل رؤوس الأموال الخاصة ولا يسع أصحابها العمل دون التعامل مع رجال أعمال إسرائيليين كل هذا جعل المستوى المعيشي يتدهور باستمرار ومعدل البطالة يزداد باستمرار وهذا ما يدفع السكان للعمل الموصوم بالنظرة الدونية أو تهمة الخيانة.

يقول أمين سر الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين هناك 350000عاطل عن العمل عائلاتهم بحاجة إلى قوت يومها ولا يمكننا الطلب منهم بالتوقف “.

بينما تضيق إسرائيل الخناق عليهم بمصادرة أراضيهم فلم يعد أمامهم أرض لزراعتها ولا لرعي المواشي، فهي تحصرهم في مساحات ضيقة لممارسة نشاطهم الحياتي، بحجة أن الأراضي باتت مناطق عسكرية أو مناطق ألغام أو ستصبح محميات طبيعية أو أن الدولة استولت عليها بذريعة قانون عثماني يمنح الأراضي للدولة إن لم تستثمر لمدة ثلاث سنوات من قبل أصحابها دون النظر إلى أن أصحاب الأرض لا يستطيعون الاقتراب منها.

تطبق قيود الحركة حتى على المواشي فمن يريد تربيتها فضمن حدود القرية ويشتري لها علفاً.

هكذا يذهب الفلسطينيون للعمل في أراضي المستوطنات الزراعية والتي هي أرضهم المصادرة، أو لبناء المستوطنات نفسها.

وحسب الأونروا فإن ربع الفلسطينيين لاجئون في أرضهم ينظرون إلى بيوتهم القديمة من عتبات بيوتهم الجديدة بعد تهجيرال 67 ثم أتى التهجير بسبب الاستيلاء على الأراضي لبناء الجدار العازل وبالمناسبة فإن تحليل مسار الجدار العازل حسب قول ماثيو فكري، يتماشى مع خطط إسرائيل لتوسيع رقعة المستوطنات، أما حفظ أمن إسرائيل فليس سوى كذبة.

ورغم كل هذا لا يحصلون على العمل بسهولة أو احترام، يتناول الكاتب الظروف السيئة التي يتعرضون لها ويعملون تحتها بدءاً من معضلة الحصول على تصاريح العمل الضرورية للتنقل أيضاً إذ يتم إبرازها، عند كل نقطة تفتيش أو حاجز ودونها لا يمكن نيل أي عمل بشكل مرخص ومن يعمل دون هذا الترخيص يتعرض للسجن لكن عدداً لا بأس به من العمال بلا ترخيص يدخلون إلى المستوطنات تهريباً، إذ يضطرون لعرض قوة عملهم بسعر أبخس من المعتاد وتحت طائلة الاستغناء بل والذهاب إلى السجن حين تعلم الشرطة بأمرهم وهذا يجعلهم تحت رحمة  صاحب العمل، بينما أجور العمال في كل الأحوال سواء حصلوا على تصريح أو لم يحصلوا هي حكماً أقل من الحد الأدنى للأجور الذي ينص عليه القانون الإسرائيلي للعمل فعلى نفس العمل يتقاضى العامل الإسرائيلي ضعف الأجر.

جيش احتياطي من العمال ومعضلة السماسرة

 للحصول على عمل يلجأ العمال إلى السماسرة وهم صلة الوصل بين أصحاب المستوطنات وبين العمال ويقومون بتأمين تصريح العمل ودفع الأجور.

غالباً ما يكون السماسرة على معرفة تامة بالطرق ومداخل المستوطنات وعلى صلات جيدة مع أصحابها كما يتقنون اللغة العبرية التي تحرر بها عقود العمل وهكذا فهم يعملون لصالح رب العمل الذي ينتقيهم من العائلات الكبيرة ذات المكانة لضمان عدم تعرض العمال لهم، وبتصريح العمل يتم ابتزاز العمال من قبل صاحب العمل والسمسار معا بالتهديد بإلغاء التصريح لو طالبوا بحقوقهم أو بزيادة الأجور أو لو حاولوا إقامة نقابة للدفاع عن أنفسهم أمام المحكمة الإسرائيلية.

ولأن فرص العمل تبقى محدودة وطالبي العمل كثر إضافة لدخول العمالة التايلندية على الخط، نجد جيشاً احتياطياً من العمال في طوابير الانتظار وهذا يمنح رب العمل القدرة على التخلي عن أي عامل بسهولة وتوظيف غيره، وهو ما يدفع البعض للعمل دون تصريح وبظروف أكثر سوءاً. كالعمل لساعات أطول من غيرهم ويرضون بأي أجر المهم أنه يدفع لهم نقداً.

 وأمام كل هذا لا يفكر أحد بشروط الأمان أو الحماية في مكان العمل مما يعرضهم لمخاطر كثيرة بالإصابة والإضرار بالصحة يتنصل منها صاحب العمل حتى أنه لا يقوم بإسعاف العامل المصاب لو وقع أي حادث وكثيراً ما يتم رميه خارج المستوطنة لانتظار أهله الذين سيأتون لإسعافه.

وصف رئيس نقابات عمال فلسطين السماسرة بأنهم “متلاعبون بالقانون وعديمو الضمير في تعاملهم فخمس العمال الفلسطينيين تعرضوا لسوء معاملة من السماسرة واللافت للانتباه أن أجرهم يكون من ضمن أجر العمال، وكل وثائق العمل والعقود يتم تحريرها باللغة العبرية مما يجعل العمال في ضبابية حول شروط العمل التي وافقوا عليها أو معرفة حقوقهم.

عمالة الأطفال والنساء واستغلال مضاعف

لا يقتصر توصيف العمال على البالغين فهناك أيضا يتم تشغيل الأطفال والمراهقين والنساء خاصة في الغور وذلك  في العناية بالأرض وقطاف المحاصيل، ويتم استغلالهم أبشع استغلال، حيث يمثل هذا العمل إضافة للجهد المبذول والتعب، انعدام الأفق لحياتهم.

ينكر المستوطنون تشغيل الأطفال، بينما يحصل هؤلاء على أجور قليلة كما النساء اللواتي يشكلن عشر العمال وينلن أجوراً لا تصل لنصف أجر الرجال.

 يبدو الأطفال أكبر من عمرهم ويتكلمون بالسياسة ويفهون الواقع الضاغط. لقد شوهت طفولتهم حتى خارج العنف اليومي.

عملهم سخرة لكنهم لا يملكون رفاهية الاحتجاج

يعاني العمال الزراعيون من العمل لساعات طويلة والأجر القليل وسوء المعاملة وفقدان أدوات الحماية كما في التعامل مع المبيدات الحشرية أو حالة عمال التمور الذين يعملون دون قفازات تحمي أيديهم  من الأشواك الحادة، كل هذا  دون تأمين صحي.

وهذا ينطبق على العمال الصناعيين فلا حماية من الحوادث ولا تأمين ولا نقابات تدافع عنهم فهم لا يستطيعون الانتساب للتنظيم النقابي الإسرائيلي أما نقابات العمال الفلسطينية فلا صلاحيات لها ضمن المستوطنات، وهكذا فالعمال الذين أثبت أنهم يتعرضون لإساءات عنصرية ودينية ولعنف سيكولوجي و70 بالمئة منهم يتعرض لعنف جسدي، لا يستطيعون الإضراب احتجاجا أو من أجل تحسين شروط العمل.

صدرت قوانين عن محكمة العمل العليا الإسرائيلية تلزم أصحاب العمل بالدفع حتى للعمال الفلسطينيين أجوراً تتناسب مع الحد الدنى للأجور وتعويض نهاية الخدمة وتعويض العطل الرسمية وتعويضات الحوادث ونفقات العلاج  لكن هذا بقي حبراً على ورق فأصحاب العمل اتبعوا فوراً طرقاً تمنع هؤلاء العمال من المطالبة بتنفيذ القوانين فامتنعوا مثلاً عن تسليم العامل أي وثيقة تدل على الأجر أو ساعات العمل قد تستخدم ضدهم يوماً ما.

فالتمييز المستمر ضد العمال الفلسطينيين وصل إلى درجة ازدراء القوانين الإسرائيلية نفسها.

أما العمال فلا يملكون رفاهية الشكوى لأن أي قضية ستستغرق وقتاً للبت فيها وهذا يعني تعطلهم ودفع تكاليف مادية لا يملكونها كما لا يملكون أي وثائق أو شهود لتقديمهم للمحكمة.

يقارن الكاتب ظروف عمل العمال الفلسطينيين واضطرارهم للعمل دون وجود خيارات مع السخرة حسب تعريف منظمة العمل الدولية ويرى أن الاضطرار وبيئة العمل وتأثير العمل جسدياً ونفسياً بشكل سلبي على العامل يمكن أن يدرج كل هذا عملهم تحت بند السخرة.

يذكر الكاتب حوادث مؤلمة عن التعامل مع العمال المصابين، ومنذ عملية طوفان الأقصى تم تعليق تصاريح 200 ألف من العمال الفلسطينيين ومنعهم من الوصول إلى أعمالهم ليواجهوا البطالة وخطر الجوع مع عائلاتهم، مع تصاعد الأصوات المطالبة ضمن الكيان بإعادتهم للعمل لما شكل ذلك من تعطيل حيوي في سوق العمل الإسرائيلية وخسارة وصلت إلى أكثر من مليار دولار، فحتى العمالة الهندية والتايلندية لم تسد مكانهم.

كل هذا ليس سوى جزء من آلام الشعب الفلسطيني المستمرة وبشاعة ما تفعله إسرائيل منذ 7 أكتوبر ولم ينجح العالم بإرغامها على وقف هذه المجزرة.

ساندرا علوش تضيء على آلام اللاجئين سينمائياً

ساندرا علوش تضيء على آلام اللاجئين سينمائياً

كان لقضايا اللاجئين في أوروبا وتحوّلات الهويّة التي يعيشونها هناك، دور لافت في نشاط ساندرا علوش (1987) الإعلاميّ، مؤخراً. فاكتشاف المجتمعات الجديدة، ترك أمامها أسئلة مؤلمة عن العنصرية والتهميش وتلك الحيوات المؤجلة لآلاف اللاجئين في أوروبا.

“علوش” التي بدأت عملها مذيعة في العديد من إذاعات سورية المحلية، عملت أيضاً مقدمة برامج تلفزيونية في قناة (الدنيا) وكانت شاشة الإخبارية السورية هي آخر محطة عمل لها قبل الهجرة.

عانت “علوش” بدايةً من التهديدات الأمنية من قبل بعض من يسمّون أنفسهم “المعارضة السياسية”، وذلك نتيجةً لعملها مع قناة إعلامية مؤيدة؛ وبعد استقالتها من الإخبارية السورية عام 2012، تمّ تخوينها وملاحقتها من قبل بعض من يدعون “الوطنية”، فما كان أمامها سوى الهروب خارج البلاد.

لجأت الصحفية الشابة في بداية الأمر إلى لبنان، حيث بقيت هناك لثلاثة سنوات ومارست عملها كإعلامية، إلى جانب خوضها تجربة المشاركة في مسابقة “مذيع العرب” ووصولها إلى النهائيات. في هذه الأثناء استطاعت الحصول على تأشيرة سفر مخصصة للصحفيين المهدّدين أمنياً، وحسمت أمرها بالانتقال في عام 2015 إلى فرنسا برفقة زوجها.

محطة للأمل

اتجهت “علوش” برفقة زوجها، طارق حداد والذي يعمل كمخرج ومصوّر، إلى صناعة التقارير والأفلام حول اللاجئين والمهاجرين في أوروبا الغربية مع قناة (ARTE) الفرنسية الألمانية، والتي أنتجت بالتعاون معها أيضاً سلسلة وثائقية بعنوان “من دمشق إلى إلزاس”؛ تبعها العديد من الأفلام الوثائقية مثل “غرباء في الغابة” والذي حصد عدداً من الجوائز منها: جائزة أفضل فيلم وثائقي قصير أجنبي (HIIDA)، وجائزة الاستحقاق المرموقة من مسابقة Impact DOCS، وكذلك جائزة التقدير من مهرجان الأفلام الإسكندنافية الدولي (SCIFF)، إضافة إلى جائزتي أفضل مخرج وأفضل مونتاج في مهرجان لوس أنجلوس للأفلام المستقلة (LAIFFA).

وكذلك قامت بإنتاج فيلم “حارس المعبد“، وفيلم ” إنجلترا بعد كاليه”، انتهاءً بفيلم “في عيونكم” الذي تم عرضه لأول مرة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وهكذا استعادت ساندرا علوش بعد كل ذلك جزءاً كبيراً من توازنها المهنيّ بعد الهجرة، وتطوّر الأمر إلى فتح أبواب أخرى في قضايا الهجرة واللجوء.

تعمل “علوش” حالياً مع منظمة (New Women Connectors) كضابط مناصرة، حيث تقوم بحضور اجتماعات على أعلى مستوى في “البرلمان الأوروبي” والأمم المتحدة للدفاع عن حقوق اللاجئين والمهاجرين.

كما تتعاون مع شبكات حقوقية مثل الشبكة الأوروبية ضد العنصرية (ENAR) ومنظمة Avocats Sans Frontières – محامين بلا حدود، وصندوق الأمم المتحدة للنساء WPHF.

ومن الجدير بالذكر أنه قد تم اختيارها من قبل مكتب “الكويكر” في الأمم المتحدة (QUNO) كمستشارة في مجال الهجرة واللجوء، كما اختارتها شبكة الأمم المتحدة للم الشمل (FRUN) كسفيرة لها.

في عيونكم

واليوم نتوقف مع آخر أعمال ساندرا علوش وهو فيلم “في عيونكم” الذي يعرض واقع الهجرة بعيون المهاجرين واللاجئين. كان الهدف من هذا الفيلم -على ما يبدو هو أن يكون واقع هؤلاء اللاجئين، أيضاً، مرئياً في عيون المجتمعات المضيفة. إذ يتناول الفيلم الوثائقي القصير، معاناة اللاجئين والمهاجرين من خلفيات عربية وإفريقية وجنوب شرق آسيوية في بلاد أوروبا الغربية. ويعالج خصوصاً مشكلة الأشخاص ممن لا يملكون أوراقاً ثبوتية؛ ويكشف لنا الشريط الكثير عن تجاربهم لنتعرّف على العوائق والعقبات التي تخلقها “السياسات العنصرية” للحكومات الأوربية أمامهم، والتي قد تؤدي في بعض الأحيان إلى تدميرهم!

تحاول فكرة هذا الوثائقي التأكيد على أنه من غير العادل معاملة اللاجئين بشكل مختلف عن غيرهم من الناس، في الوقت الذي يبذلون فيه كلّ ما لديهم من أجل “الاندماج” و”العمل الإيجابي” في المكان الذي قد قادهم القدر إليه.  كما نلتقط من المشاهد والحوارات التي تابعناها؛ أثر فجوة اللغة والثقافة والأيديولوجيا، وتكريس النظرة الفوقية للقادمين من دول العالم الثالث، مما يعوق اندماجهم ومجاراتهم لشعوب تلك البلاد.

وفي حديثها معنا قالت ساندرا علوش: “الحكومات الأوروبية لديها منطقها المبني على نظرة استعمارية فوقية وهذا واضح في كل الجوانب، فمثلاً نظام الفيزا مختلف تماماً إذا كان الزائر قادماً من دولة مثل كندا أو البرازيل عنه إذا كان الزائر قادماً من دولة إفريقية أو شرق متوسطية أو جنوب شرق آسيا؛ بالتالي ليس لكل المهاجرين نفس الحقوق ونفس المعاملة وهذا يخلق ظلماً اجتماعياً تدفع ثمنه المجتمعات المهاجرة من خلال عدم تكافؤ الفرص في التعليم والعمل والمشاركة السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية وتتسبب بعزل هذه المجتمعات وخلق مشاكل أكبر للدول المضيفة”.

وتضيف: “لكن بالمقابل هناك مسؤولية تقع أيضاً على المجتمعات المهاجرة في تقبل الثقافة الجديدة التي دخلوا إليها، وتغيير بعض العادات والتقاليد والمفاهيم التي لا تتناسب مع المجتمعات الأوروبية ومحاولة تغيير الصورة النمطية عن المهاجرين واللاجئين وتعريف المجتمعات المضيفة بالجانب الإيجابي من ثقافاتنا المختلفة”.

من ناحية أخرى يطرح الفيلم المشاكل من نظرة واقعية، عقلانية، بعيداً عن اللعب على وتر الضحية. يقدم وجهة نظر خبراء من المجتمعات المهاجرة، ويناقش هؤلاء القضية من جميع الجوانب مقترحين حلولاً عملية.

نرى بعض التجارب الفردية الناجحة التي تمثل كفاحاً حقيقياً في بيئة غير متعاونة، ينتج عنها قصص نجاح مؤثرة وملهمة، فقد تحولت معاناة بعض اللاجئين إلى مشاريع مناهضة للعنصرية التي طالتهم وتطول سواهم، فهم لا يكتفون بعرض المشكلة وتصوير المعاناة، بل يحاولون طرح الحلول والمقترحات أيضاً.

لقد كانت ساندرا علوش لاجئة من بين هؤلاء قبل وقت قصير، ومرّت بمعظم تلك الصعوبات، وتحدثنا اليوم عن ذلك قائلة: “لطالما كنت مهتمة بحقوق الإنسان والعدالة والحرية، وتبلورت هذه القيم من خلال تجاربي الشخصية والمهنية التي وجهتني بشكل أو بآخر لأن أدرك أنني أريد تسخير طاقتي لتحسين أوضاع المجتمعات المهاجرة والمهمشة في أوروبا. ولربما أدخل المجال السياسي يوماً ما للتمكن من تمثيل جزء من اللاجئين والمهاجرين هنا.. كل شيء وارد.. فأنا أؤمن بأن التغيير المطلوب يحدث من داخل مجالس النواب الأوروبية وبالأساليب الديموقراطية المتاحة؛ مدعومة بضغط شعبي” على حد تعبيرها.

وعن رحلة صناعتها لفيلم “في عيونكم” قالت ساندرا علوش في حديثها لموقع صالون سوريا: “بدأت العمل على تطوير الفكرة في أبريل/ نيسان 2023 بالتعاون مع الصحفي الأرجنتيني “إنريكه تيسيري” المقيم في فنلندا، والناشط أيضاً في الدفاع عن حقوق المهاجرين. ثم بحثنا عن فرص للتمويل وقمنا بتقديم الفكرة للشبكة الأوروبية ضد العنصرية ENAR وحصلنا على تمويل صغير بقيمة 5500 يورو. قمت بالتصوير وحدي في شهر أغسطس/ آب في هولندا وفرنسا وسويسرا وبلجيكا، وتعاونت مع طارق حداد لتنفيذ العمليات الفنية البصرية والسمعية، كما حصلت منه على حقوق استخدام مقطوعات موسيقية من تأليفه في الفيلم لتكون هي الموسيقى التصويرية. عُرض الفيلم للمرة الأولى في مدينة أوتريخت ضمن فعالية قمت بتنظيمها مع منظمة New Women Connectors، حيث دار نقاش مع الحضور حول الفيلم وموضوع الهجرة واللجوء؛ ثم عرضنا الفيلم في بروكسل بحضور عدد من منظمات المجتمع المدني”.

أما عن الصعوبات والتحديات التي واجهها ويواجهها الفيلم حالياً، تقول علوش: “تركزت الصعوبات بالنسبة لي في الميزانية المحدودة التي فرضت علي تنفيذ الفيلم بأقل الإمكانيات؛ ومن ثم أصبحت الصعوبات في التسويق، والذي يتطلب شبكة علاقات قوية مع منصات ومحطات مختلفة، خاصة وأنه يتناول موضوع حساس قد يتعارض مع سياسات معظم المنصات وقنوات العرض”.

ومع ذلك لا تزال “علوش” تسعى لتسويق “في عيونكم” والمشاركة في العديد من الفعاليات، لعلها تتمكن من إيصال الرسالة الحساسة والمهمة التي يطرحها الفيلم، حيث ينافس حالياً في عدة مسابقات، من ضمنها مهرجان أفريقيا لحقوق الإنسان، حيث سيتم عرضه في العاصمة كيب تاون.

ويبدو أن ساندرا علوش لن تتوقف عن توثيق وتصوير الواقع لنا، ولكن هذه المرة بطريقة أكثر ابتكاراً، إذ تقوم الآن بالتنسيق والتعاون مع مغني الراب اللبناني بو ناصر طفار، لإنتاج عمل جديد يستعرض أهم أحداث الشرق الأوسط خلال الأعوام الخمسة عشر الفائتة، والذي سيمثل تجربة فريدة، وسيكون عملاً ذا طابع جديد ومختلف، من خلال دمج النضال السياسي بالموسيقى.

الإعلام المسموم    

الإعلام المسموم    

لا أبالغ إذا قلت إن كثيراً من البرامج التي تقدمها فضائيات العالم العربي إعلام مسموم غايته ترسيخ المعلومات المزيفة، وزرع أفكار ومعتقدات خطيرة ومؤذية في عقول ونفوس المشاهدين. غير أن مُقدم البرنامج ليس وحده المسؤول عن هذا الانحطاط، بل هناك شبكة ذات نفوذ كبير توجه الإعلام إلى الانحطاط، معتمدة على أشخاص ارتضوا أن يكونوا خدماً لأصحاب وممولي تلك البرامج.

في الواقع ترددت أن أكتب عن تلك البرامج لكن لاحظت أن الكثيرين يتابعونهم ويتأثرون بها بل يطلبون رأيهم في مشاكل شخصية جداً (مثلاً زوجة تسأل مقدمة البرنامج السيدة ياسمين عز التي تقدم برنامج – كلام الناس – على MBC مصر): “هل زوجي يحبني؟” ياسمين عز سيدة جميلة جداً تملك كاريزما بسبب طريقتها في الكلام إذ تبدو واثقة جداً من نفسها ودوماً تقول إنها تعتمد على مراجع علمية – لكنها ولا مرة قالت اسم المرجع – تقدم برنامج – كلام الناس – الذي هو بإختصار تحقير لإنسانية المرأة (قبل أنوثتها)، وإعلاء كبير للرجل الذي تسميه فرعون، للأسف لديها متابعين خاصة من النساء اللاتي تقدم لهن نصائح تدعي أنها مثبته علمياً دون أي إثبات. على سبيل المثال، في إحدى حلقاتها تحدثت بحماسة أن أكبر خطر على العلاقة الزوجية أن تقدم الزوجة صحن السلطة للزوج وقد خلطت البندورة (المؤنثة) مع الخيار (المذكر)، وأن لديها مراجع علمية حديثة تؤكد كلامها لكن لا مجال لذكرها الآن. تستفيض مي عز بشرح خطورة تقديم صحن السلطة بخلط البندورة (المؤنثة) مع الخيار (المذكر). كلام لا يقبله عقل ولا منطق، ومع ذلك تلك الحسناء مي عز تدعمها شبكة إعلامية مهمة (MBC مصر)، وأفترض أن المسؤولين عن برنامجها يُعدون لها الحلقات، التي تُقدمها بحماسة معتمدة على جمالها وأنوثتها وصباها. تقول مي للمرأة: “عليك أن تطيعي فرعونك (قصدها الرجل الزوج) وتحثها من باب الواجب أن تستيقظ كل ربع ساعة في الليل لتُقبل زوجها من رأسه! لم تذكر بضرورة وجود منبه! ومن حسن الحظ أنها اختارت رأس فرعون (الزوج لتقبيله بدل عضو آخر!). مي عز تعتمد على الاستفزاز، وحده الاستفزاز يصطاد الناس ويوقعهم في شباك التفاهة والتخلف واللا منطق. وهفي كل حلقاتها تلقي اللوم على الزوجة، فمثلاً تقول للزوجة: “عيب عليك تقولي لفرعونك يكفي ما أكلت، عيب دعيه يأكل ومحل ما يسري يمري، وصحة وهنا على قلبك.” يعني مش مهم أن كان الزوج يشكو من ارتفاع الكولسترول أو سكر الدم أو أمراض أخرى، فالزوجة يجب أن تبتهج أن فرعونها يأكل حتى لو أكل خروفاً، حتى لو تسبب الأكل في موته مثلاً!

المُخزي أن كثيراً من الإعلاميين المشهورين والمعروفين بتنورهم طلبوا إجراء حوار مع (مي عز) ربما لإحراجها في المواضيع التي تطرحها أو لسؤالها عن المراجع العلمية التي تعتمد عليها دون ذكرها علناً. وكم أحسست بالخيبة حين دعاها نيشان (وهو مُعد برامج عديدة وإعلامي له تاريخ مهني مُشرف) إلى برنامجه (في دبي)، حيث احتشد الناس في القاعة لكن مي عز لم تأت! لم تحترم الجمهور ولا نيشان اكتفت بأن تحججت بوجود أسباب منعتها. هذا الغياب استفز نيشان للتحدث عن عدم احترامها للناس، وقال كلاماً عنها لا أريد ذكره؛ فرفعت مي عز دعوى تشهير بها ضد نيشان في دبي وربحت الدعوى. وأجرت حلقة خاصة تتباهى فيها أن القضاء العادل في دبي أنصفها. هنا لا يُمكن أن نتجاهل أي قضاء ينصف ويدعم دجالة ومحتقرة للمرأة، لكن القضاء الإماراتي وقف إلى جانب مي عز. وكم أحس بالذهول حين يُفتح باب الأسئلة وتبدأ السيدات بسؤال مي عز: “هل زوجي يحبني؟”، “هل أسامحه على خيانته؟” ومي عز تسامح الرجل (الفرعون على خيانته) وتقول بحماسة: “احتياجات زوجك غير احتياجاتك والزمي الصمت وإياك أن تعاتبيه كي لا يُطلقك.”

بالتأكيد لا أستطيع تغطية برامج ترسيخ التخلف والعودة إلى عصر الجواري؛ فهناك أكثر من مئتي قناة دينية واجتماعية تقدم إعلاماً مسموماً، ثمة برنامج يقدمه شيخ يبدو ورعاً ويدعو إلى الفضيلة، وفي كل حلقة يتناول موضوعاً (بالغ الأهمية برأيه). الحلقة التي قدمها لمدة ساعة لجمهوره العريض المسحور بكلامه وخشوعه المنافق كان عنوانها (القبلة) وبدأ كلامه بالأسف الشديد على الانحطاط الأخلاقي في الوسط الفني وتأثير هذا الانحطاط في جيل من الشباب والشابات ودفعهم إلى الرذيلة. واستهجن بشراسة تبادل القبل بين الممثلين وقال هذا “عهر،” وأكمل بسر خطير مدعياً أن الممثلين الرجال يقولون عن الممثلات النساء اللواتي يقبلن تبادل القبل مع الممثل الرجل (عاهرات)! وإن عادل إمام الذي تبادل القُبل مع كل الممثلات رفض أن تدخل ابنته الوسط الفني لأنه وسط عاهر يسمح بالتعري والإغراء والقُبل.

 لو يسأل أحد هذا الشيخ ما رأيه بالعظيمة فاتن حمامة أو شاديا وغيرهن ماذا سيقول عنهن! فاتن حمامة أثرت في أجيال من نساء في عمرها وحتى أثرت في المراهقين وبينت لهم معنى الكرامة واحترام المرأة. فيلمها الرائع (الخيط الرفيع) الذي أبدعت فيه في طرح تنمر الزوج وإذلاله لزوجته بعدم منحها الطلاق أثار موجة من الحماسة والفكر واستطاعت العديد من الزوجات الحصول على الطلاق بسبب الحماسة والحق الذي ولده في أنفسهن ونفوس القضاة هذا الفيلم. كانت فاتن حمامة تسمح بالقبلة مع العديد من الممثلين (عمر الشريف، محمود ياسين، أحمد مظهر..) لكنها بقيت مُجللة بكرامتها. غاية الفن التعبير الصادق عن الحياة، ليس من الطبيعي أن عاشقين لا يتبادلان الُقبل. قدم الشيخ المنافق الدجال مدعي العفة والوقار حلقة كاملة عن (القبلة)، وليته تكلم في هذه الساعة عن جوع وعطش وموت أطفال غزة وما يحصل في غزة، ليته تكلم عن البطالة لدى الشباب والفقر وعدم قدرتهم على الزواج.  

الخطورة الأكبر في الإعلام المسموم الذي يريد إعادة المرأة إلى عصر الجواري هو الذي تقدمه امرأة مثقفة حاصلة على دكتوراة في علم الاجتماع وفي الفقه الديني ثيابها أنيقة تتحدث ببراعة وخبث. سألتها شابة (البرنامج يسمح بالأسئلة) وصوتها يرتجف من الألم: “أنا مهندسة متزوجة منذ خمسة عشرة عاماً تجمعني بزوجي قصة حب، ولدينا طفلان أصبحا في سن المراهقة، حدث أن توفي زوج ابنة خالتي ففوجئت أن زوجي تزوج ابنة خالتي بعد أشهر قليلة لا تتخيلي جرح كرامتي وألم أولادي، أطلب نصيحتك؟” وكانت نصيحة السيدة الحاصلة على دكتوراه في علم الاجتماع: “زوجك رجل عظيم عليك أن تشكريه فهو يحمي امرأة وحيدة أرملة من الرذيلة ويعتني بأطفال أيتام”. وتم قطع الاتصال حين صرخت الزوجة المجروحة: “وكرامتي!.”

الإعلام المسموم هدفه سحق كرامة المرأة وتشكيكها بنفسها وقدراتها، وإقناعها أنها كي تعيش بسلام وسعادة عليها أن تطيع السيد، الفرعون، الرجل وأن تتقبل خياناته كأنها نكته لأن حاجات الرجل الجنسية أقوى من حاجات المرأة. مع العلم أننا درسنا في الطب أن غريزة الرجل الجنسية مساوية تماما لغريزة المرأة، وأحب أن أشير إلى كتاب رائع كتبته الطبيبة الأميركية إيدا لوشان تُرجم إلى العربية بعنوان (أزمة منتصف العمر الرائعة) تتحدث فيه كيف أن الرجل يتأثر كثيراً بأزمة منتصف العمر حيث ينخفض هورمون التستوستيرون (الهورمون الذكري) إلى النصف، لذا يلجأ لإقامة علاقات مع شابات في العشرينات ليوهم نفسه أنه مازال في أوج الوهج الجنسي، أتمنى لو تخصص حلقات لهكذا كتاب رائع في الفضائيات بدل نماذج الحلقات الطاغية المذكورة أعلاه.

تداخل الخاص بالعام في الأحداث الكبرى: الهزات الأرضية الأخيرة في سوريا

تداخل الخاص بالعام في الأحداث الكبرى: الهزات الأرضية الأخيرة في سوريا

في فجر الثالث عشر من آب الجاري حدثت هزة أرضية بقوة 4.8 درجة على مقياس ريختر في كل من سوريا ولبنان والأردن. وتركزت الهزة في سوريا بمدينة سلمية التابعة لمحافظة حماة والتي تبعد عنها ثلاثين كيلومتراً إلى الشرق منها. وفي يوم الجمعة السادس عشر من آب أصاب نفس المنطقة زلزال ثاني تباينت التقديرات بشأن قوته من 4.8 إلى 5.2 درجات.

يقول المثل العامي: “إن الناس تجهل ما لا تعرفه!”، ولكن في مشاعر ذاكرة الناس في سوريا ما يزال زلزال السادس من شباط العام الماضي 2023 حاضراً، ما أدى إلى تضاعف خوف الناس لأنهم يعرفون ماذا يعني الزلزال وماهي تبعاته وآثاره المدمرة.

 ولحسن الحظ، جاءت النتائج سليمة ودون ضحايا، لكن مع وجود عشرات  الإصابات بجروح طفيفة أو بكسور بسيطة نتيجة التدافع أثناء الهرب أو نتيجة لانهيار بعض الجدران المتصدعة من الزلزال الماضي، أو بسبب تداعي البيوت وعدم ترميمها وإصلاحها لأسباب مادية بحتة تعكس حجم التراجع الاقتصادي وضعف القوة المالية وانصراف الناس للإنفاق وبالحد الأدنى على الضروريات المباشرة والآنية.

إن المتابع للمشهد السياسي والاقتصادي والعسكري العام في المنطقة يعتقد أن حدثاً مثل هزة أرضية سيمر خفيفاً وسريعاً وكأنه شأن شخصي ذو نطاق ضيق ولا ينعكس إلا على أهل المنطقة التي ضربتها الهزة، فالموت المحدق من كل حدب وصوب يقتل يومياً عشرات الأشخاص في غزة وفي لبنان وفي سوريا أيضاً. نظن أنه وفي سطوة الموت بالمدافع وبالقنابل وفي زحمة التدمير العنيف وحروب الإبادة الدائرة، أن موتاً طبيعياً ينتج عن تمرد بسيط أو جراء تحرك عنيف للطبيعة لا قيمة له أبداً ولا ينبغي أن نحرك ساكنا حياله.

لكن المشهد كان مختلف تماماً وتحديداً في مدينة سلمية المعروفة بمدينة الفكر والشعر والثقافة نسبة إلى الشاعر والكاتب المسرحي محمد الماغوط والشعراء فايز خضور وعلي الجندي، والمفكرين عاصم وسامي الجندي وحسين الحلاق وسواهم الكثيرون و الكثيرات.

يمكن القول وبكل وضوح وثقة، إن انعكاس الهزة الأرضية على ردود الأفعال وما رافقها من تعليقات وكتابات وحوارات مجتمعية في بقعة صغيرة من الجغرافية السورية كان مرتبطاً بشدة بالواقع العام في المنطقة العربية وخاصة ما تشهده من حروب ومن اضطرابات عسكرية وارتدادات شعبية على واقع زاخر بالعسكرة وبالرصاص جراء وجود احتلالات متعددة، ما يفرض حالة عامة من القلق الشعبي العارم وكأن البلاد على فوهة بركان قاتل، ويخلق جواً من الترقب لحل ما يجب التوصل إليه، أو على الأقل ضرورة وجود رد حاسم أو مانع لما يعوقه من تردد سياسي عالي المستوى وحالة من الغموض الجيوسياسي، وبخاصة في ظل حالة الصمت السائدة ما بين الحكام وشعوبهم في دوامة عارمة من إنكار كل طرف للطرف الآخر.

عبر أحدهم على صفحة الفيس البوك بعد حدوث الهزة قائلاً: “نعيش في موقع جغرافي تحفة، مفتوح على جميع جبهات الحروب والكوارث الطبيعية والعسكرية”. يتداخل الخاص بالعام هنا، لم تعد تعني الجغرافيا سوى الانتماء إلى منطقة مشتعلة، والأسماء ليست بذات قيمة، نعيش على وقع الرصاص، نصحو على معركة وننام وصخب المعارك يرافقنا حتى في نومنا.

اللافت أيضا هو درجة السخرية العالية التي رافقت الحدث، سخرية مرة لكنها لاذعة، كأن تكتب إحداهن: “بعد كل هزات البدن اليومية جاءت الهزة الأرضية ليتلاشى البدن، لكن على من؟ بتنا شعبا ضد كافة أنواع الهز”. وقال أحدهم في شكل مباشر يربط بين الضربات المتوقعة ما بين إيران وإسرائيل هازئاً: “بينما ننتظر الرد من فوق ويقصد السماء يأتينا الرد من تحت ويقصد باطن الأرض” إنها السخرية التي تشي بحجم الخراب الراسخ وبحجم العجز المستقر.

 في محيطنا القلق والمشتعل ينتظر الناس النيزك علّه يحمل خلاصاً نهائياً لجميع المشاكل العالقة، يعتقد غالبية اليائسين أن أحلامهم في التغيير والاستقرار وإرساء الأمن والسلام كلها أفعال إعجازية غير قابلة للتحقق، هم متأكدون أنه لا خلاص في ظل مواجهة غير عادلة ومحسومة سلفاً لصالح الأقوى والأكثر شراً وتجاهلاً للحقوق وللعدالة.

 لكن للمصائب وجه آخر، وجه تعاضدي رغم قلة الحيلة وسطوة الخراب، كتب أحدهم على صفحته: “سيارتي في تصرف كل من يحتاج التنقل أو الإسعاف.” كما وضع شخص آخر عنواناً لمركز مبني على أسس الحماية من الزلازل والهزات داعياً الناس لكي يقصدوه ويقضوا ليلتهم هناك مع الإشارة إلى توفر الكهرباء وهذا شأن عظيم في ظل أزمة انقطاع تام للكهرباء، أزمة خانقة وطويلة تعوق الحياة برمتها، فكيف إذا ما زادت الهزات الأرضية واقع الحياة سوءاً وخوفاً. وهنا تجدر الإشارة إلى ما كتبته سيدة تحتفي بالهزة بسخرية فائقة قائلة: “الحمدلله على نعمة الهزات! بفضل الهزة حضرت الهانم الكهرباء لمدة ثلاث ساعات متتالية، هزة محرزة وضاوية!”

على صفحته على الفيس بوك كتب أحد الأطباء: “بينما كنا نقطب جرحاً غائراً في كف شاب ونساعد امرأة على الصحو من إغمائها بسبب الخوف، سمعنا صراخ طفل وصل حتى غزة!” يربط الطبيب هنا بين واقعين داخلي وخارجي، خاص ومحدد وعام غير محدد.

بات ما يجمع الشعوب المنكوبة هو صراخ الأطفال وعجز الأطباء والمشافي وإغماء الناس من شدة الصدمة. يبدو الحال واحداً لكنه يتوسع ويتعمم.

 خرج أحدهم إلى الشارع وهو يحمل بيده طاولة الزهر التقليدية، لقد اختبر هذا الشعب معنى الوقت الطويل خارج البيت بانتظار الفرج أو النجاة، وبدلاً من قضائه بالخوف والترقب، سيلعب الرجال أشواطاً بطاولة الزهر ساخرين من الزلزال وسواه من الشدّات القهرية المتسلسلة.

 أما عن ربط الهزة بالوضع الحربي المتأزم وصراع الوجود المحتدم في الجغرافيا القريبة انتماء والبعيدة جغرافيا، فليس المقصود بتاتاً المقارنة ما بين الحدثين لأن حجمهما وآثارهما وتجلياتهما مختلفة فعلياً، لكن قوة الوجود في خضم هذه الأحداث الجسام في ذات البقعة من الأرض حتى لو بلغت المسافات مئات الكيلومترات هي الرابط الأقوى والأكثر تجذراً، وهي خيط الربط الفعلي لأن ثمة شراكة حقيقية مبنية بين كل من يموت وبين كل من يقتل أيضاً، بين الضحايا جميعهم وبين مصائرهم المجهولة والمتروكة للعبث.

 في لوحة دراماتيكية ساخرة لشخص يخرج إلى سطح بيته ليجد أن خزانات المياه التي سدد ثمن مائها مئات آلاف الليرات قد سالت على السطح بعد انفجار السطح السفلي للخزانات نتيجة الاهتزاز القوي وضغط الهزة. تأمل ملياً في الماء المسفوح كالدم المجاني، وقال ساخراً، ممتلئاً بالقهر: “غداً سأقضي نهاري هنا وأنا أشرب المتة على وقع تدفق المياه المشتراة بمئات آلاف الليرات أيضاً.” صمت وتحسس السطح المعدني لأسفل الخزانات، كاد أن يختنق لأن الخراب  بدا أكبر مما كان يتوقعه وقال: “سأوجل شرب المتة على السطح لما بعد الغد، بعد أن أشتري خزانات جديدة.”

 هكذا نحن، مجرد خزانات مهترئة تطرد كل عوامل الحياة من جوفها نحو احتضار طويل ونازف.

رعي المواشي في سورية ومخلفات الحرب

رعي المواشي في سورية ومخلفات الحرب

يرتبط رعي المواشي في ذاكرتي، بالحليب الطازج الذي كنا نحصل عليه من رعاة القطعان الذين كانوا يعتبرون الطرف الجنوبي من مدينة الحسكة مكاناً ممتازاً للرعي حينما كان يسمى هذا الجزء من المدينة بـ “الچول”، وهو برية كان يتخللها بعض من المساحات المشجرة بالصنوبر الحراجي، ثم إن هذه القطعان باتت أبعد بعد أن تحول “الچول”، إلى كتل من المباني الحكومية والسكنية بُعيد بناء المدينة الرياضية في العام ١٩٩٨، وصار الوصول إلى أماكن الرعي محظورا علينا من قبل ذوينا بفعل أن المسافة باتت طويلة، وبالتالي هي خطرة، لكن هذه المسافة لم تكن خطرة بالمطلق في حسابات الرعاة، وفهمت منذ ذاك الوقت أن خطورة الابتعاد عن الكتل العمرانية والمدن تختلف من منظور إنسان لآخر، فما كان يخيف ذوينا غير موجود في حسابات ذوي رعاة المواشي، لكن الأمر اختلف جذريا منذ العام ٢٠١١ وبعد أن أخذت الحرب خطاً تصاعدياً تحول رعي المواشي من مهنة مفرداتها الاسترخاء في الهواء الطلق والنوم بأمان مطلق بين القطيع، إلى مهنة معقدة الظروف.
الألغام.. خطر ممتد
يجتاز سعيد بقطيعه مسافات طويلة جنوب مدينة الشدادي بريف الحسكة ويحاول قدر المستطاع ألا يخرج عن الخارطة التي اعتادها خلال الرعي وتجنب أماكن التي لم يدخلها سابقاً، وبقايا المواسم في الأراضي الزراعية أو الأعشاب التي تنمو على أطراف نهر الخابور تبدو مساحات آمنة بالنسبة له، ويقول لـنا:”ما سمعته عن انفجار ألغام أو عبوات ناسفة تركت في الأراضي المفتوحة بعد انسحاب داعش ومن قبله الفصائل المسلحة بمختلف تمسياتها، أو حتى الألغام التي تنشرها “قوات سورية الديمقراطية”، حول بعض المناطق لمنع السكان من الاقتراب من القواعد الامريكية أو سواها من النقاط الحساسة، يجعلني دائما أفكر في ضرورة ألا أقترب من مكان لا أعرفه، أو غير مجرب من رعاة مواشي آخرين، فالألغام خطرٌ غير متوقع أو محسوب النتائج، والموت قد يبدو خياراً رحيما إذا ما تمت مقارنته بخسارة الأطراف، وبالتالي فقدان القدرة على العمل”.
ويتفق معه “أبو إبراهيم”، الرجل الذي يقترب من إنهاء عقده الرابع من العمر، ويعمل برعي قطيع الماشية الذي يملكه بالقرب من مدينة تدمر، الـذي يقول: أعمل برعي الأغنام منذ كنت طفلاً، كنا نجتاز البادية دون أي خوف من شيء، ربما كانت الذئاب والضباع ما يثير في أنفسنا بعضا من المخاوف لكنها تتبدد في ظل مرافقة “الكلاب للقطيع”، حالياً يجب على الراعي أن يعرف أين يضع قدميه، فالأرض التي يسير عليها بقطيعه قد تحتوي مخلفات حربية كالألغام أو العبوات أو حتى القذائف غير المتفجرة التي تعد من المخلفات الطبيعية للمعارك التي شهدتها البادية قبل أن يتحول داعش من جهة مسيطرة على المنطقة إلى عصابات موزعة على البادية، وهناك ألغام جديدة يزرعها التنظيم على بعض الطرقات أو في بعض المساحات المفتوحة لأغراض تخدم مصالحه، وهذا ما يجعل من الرعي مهمة صعبة فإن انفجر لغم بمجموعة من الأغنام ستكون الخسارة المادية كبيرة، وإن تفجر اللغم بالراعي فسيكون ثمة مصيبة كبرى قد حلت به وبعائلته، ولا يبدو أن نهاية الحرب في سورية ستكون نهاية لهذا الخطر، وربما سنظل نسمع بانفجار المخلفات الحربية حتى زمن طويل ما بعد الحرب.

داعش والعصابات
خلال عدة أشهر شهدت المناطق الواقعة إلى الجنوب من ريف الرقة الواقع إلى الغرب من نهر الفرات عدة حوادث استهداف من قبل خلايا تابعة لتنظيم داعش لـ رعاة مواشي، ويقول أبو جاسم الذي يقترب من الخمسين من العمر إن 11 شخصاً قضوا خلال إحدى الهجمات التي نفذها تنظيم داعش، ويروي تفاصيل الحادثة التي وقعت في الأسبوع الأول من شهر تموز الحالي، أن مجموعة من التنظيم اختطفت راعياً في الخامسة عشرة من عمره، وحين وصل الخبر لسكان القرية هبت مجموعة من شبانها لنجدة الفتى وقطيعه، ليتبين أن الخلية التابعة لـ داعش أعدت كميناً محكماً بانتظارهم ليقضي 9 أشخاص على الفور فيما توفي اثنان في وقت لاحق متأثرين بإصابتهم، ويصف “أبو جاسم”، أن الدافع في مثل هذه العمليات يتعدى السرقة والحصول على التمويل الذاتي ليصل إلى حد الثأر والانتقام من السكان الذين رحبوا وفرحوا بخروج داعش من المناطق التي يعيشون فيها.
بدوره يروي أبو مصطفى القاطن في مدينة تدمر التي كانت إحدى أبرز النقاط التي ينتشر فيها التنظيم وسط سوريا، أن رعي المواشي في مناطق بعيدة عن المدن الكبرى بات أمراً خطراً، ولم يعد أي راع يغامر بالبقاء ليلاً في المناطق البعيدة عن المدن على خلاف ما كان يحدث قبل العام 2011، ويقول الرجل الذي يبلغ من العمر حوالي 60 عاماً في حديثه معنا: الهجمات التي يتعرض لها رعاة المواشي تجعل من عملهم من أخطر المهن التي يمكن ممارستها في ظل انتشار عصابات داعش، وعصابات أخرى تعمل على سرقة المواشي وبيعها في الأسواق أو تهريبها إلى العراق أو الأردن، وهذه المهنة لم تعد كما كانت قبلاً حيث كان الرعاة يقضون عدة أيام في البادية قبل أن يعودوا إلى المناطق التي انطلقوا منها، كما إن بعض الرعاة كانوا يقيمون مخيمات في عمق البادية أو ضمن الأراض الزراعية البعيدة عن التجمعات السكانية ليكسبوا أكبر قدر ممكن من المراعي المجانية، الأمر اليوم بالنسبة لهم مغامرة بأرواحهم وبالقطيع، فإن لم يتمكن عناصر داعش من سرقة القطيع أبادوه بإطلاق الرصاص قبل فرارهم من المنطقة، فهم لا يتركون أي شيء حي خلفهم.
تحول غالبية مربي المواشي إلى الرعي في المناطق الأكثر أمناً بالقرب من المدن الكبرى في الداخل السوري أو في محيط العاصمة السورية من خلال استثمار الأراضي المحصودة بدفع بدل نقدي لأصحاب هذه الأراضي مقابل الحصول على حق رعي مواشيهم لمخلفات زراعات مثل القمح والشعير، كما إن البعض من رعاة المواشي تحول إلى التخييم في مناطق قريبة من المدن وآمنة ليعتمدوا على شراء الأعلاف لمواشيهم ما زاد من تكاليف المهنة وبالتالي قلة الأرباح التي يتوقعونها من العمل، وعلى هذا تبدو مهنة رعي المواشي في سورية واحدة من أخطر ما يمكن أن يعتمد عليه السوريون من مهن لتأمين احتياجاتهم المعاشية.

بيع الأمل: السحر والشعوذة تجارة رابحة

بيع الأمل: السحر والشعوذة تجارة رابحة

 في ظل الظروف الصعبة والمتدهورة، يلجأ الكثير من الناس في سوريا إلى السحر لحل مشكلاتهم الشخصية المأزومة. تغّص دكاكين الشعوذة بالمريدين على نحو يفوق الوصف، تبيع الوهم لناس يركضون وراء بصيص صغير من الأمل ويدفعون الملايين لشراء ما يعتقدون أنه حلول.

أنفقت سمر (37عاماً) عشرات الملايين ثمناً لهوسها المجنون بزيارة رجال السحر والتبصير وجميع أعمال التنجيم دون أي شعور بالذنب في حالة تصل إلى درجة الإدمان، تقول: “منذ قرابة عشر سنوات وأنا مهووسة بقراءة الفنجان والطالع والكف والحسابات الرقمية. بدأ الأمر كتسلية ثم سرعان ما تحول إلى هوس مرضي، عندما أسمع عن أحد ما ماهر في هذه الأمور أقصده حتى لو كان في مكان بعيد جدا”.

 لم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل بلغت درجة الهوس بالشابة التي تعمل صيدلانية لأن تتواصل مع دجال في المغرب كانت قد سمعت عن مهارته في ربط الزوج عن كل النساء باستثنائها، وتتابع حديثها: “لدي مخاوف من أن يهجرني زوجي، أو يتزوج بأخرى، يخفي عني دوماً تفاصيل عمله ولا يسمح لي بإمساك هاتفه. لدي شكوكي حول خيانته، لذلك ألجأ إلى أهل التنجيم لمعرفة أخباره وعما إذا يوجد امرأة غيري في حياته، في إحدى المرات دلوني على منجم  معروف في المغرب، وتواصلت معه عبر الواتساب، طلبت منه حجاب لربط زوجي عن النساء وعدم زيارة أهله”.

 بالرغم من أن أحد الأسباب التي تدفع لأعمال السحر هو الثراء، غير أنها تبذر مالاً كثيراً لقاء هذه الرغبة، ما يجعل المعادلة غير منطقية، تقول: “لا أستطيع ذكر الرقم على وجه الدقة، لكنه يتجاوز 100 مليون على مدار السنوات، كنت وما زالت أقصد أي أحد أسمع بوجوده سواء في دمشق أو في أي محافظة سورية”.

“معملك عمل” بهذه الكلمات تلقت الشابة سارة تعليقات لا متناهية على منشورها في إحدى مجموعات “الفيسبوك” حول شعورها المتواصل بالتعب والإرهاق والبكاء الهستيري والهلوسات وعدم القدرة على النوم ليلاً. بعد أن أجرت تحاليل طبية اتضحت أنها سليمة، تقول: “جافاني النوم منذ شهرين، تجتاحني نوبات هلع وبكاء هستيري غير مبرر، كما كنت أرى ملامح أشخاص غير واضحة، سمعت كثيراً عن أعمال السحر لكن لم يخطر ببالي أن الأمر سيحدث معي بالفعل”.

 امتثلت الشابة لنصائح الفتيات واحتمالية إصابتها بالسحر وأن عليها البحث جيداً في منزلها عن قطعة مشبوهة مرمية في زاوية ما، وبالفعل عثرت الفتاة على  قطعة قماش مهترئة أسفل عامود سريرها بعد أن قلبت بيتها رأساً على عقب بالبحث، وتضيف: “بحثت والدتي وأختي في كل شبر بالمنزل وفي جميع الأماكن غير المتوقعة، وبعد التنقيب الدقيق لمدة ست ساعات وجدنا خرقة قماش ممزقة ملتفة على بعضها بعضاً بإحكام، قمنا بفكها بصعوبة لنجد ورقة صغيرة مكتوب عليه طلاسم غير مفهومة. تكمل الشابة حديثها: “اتصلت أمي على الفور بجدتي لترشدها ما العمل، فنصحتها بإحراقها على الفور ورش ملح مقروء عليه آيات قرآنية في أرجاء المنزل، وبالفعل تحسنت بعد ذلك بكثير وعدت إلى حالتي الطبيعية”.

صور عارية بحجة فك السحر

يستغل المنجمون حوائج الناس وتعلقهم بقشة الأمل للخلاص من مشاكلهم ووضع حد نهائي لمعاناتهم، فيمتثل الكثيرون والكثيرات لرغبات المنجمين وطلباتهم الغريبة دون وعي. وفي الوقت نفسه، هناك بعض الناس ممن لا يذعن لها، كحال فادية الذي دفعها تدهور حالتها الصحية بسبب عمل مكتوب لها من قبل طليقها أن تلجأ إلى أحد الدجالين للخلاص، إلى جانب العراقيل التي تواجهها طوال عامين، تقول لنا عن تجربتها: “عشت جحيماً لا يطاق مع زوجي السابق، لجأت إلى أحد المنجمين الذي بدأ يطلب مني صوراً عارية للقسم الأيسر من جسمي بحجة تطهيري من السحر الذي يتسبب لي بكل هذا الألم، وأنه سيستدعي الجن لخدمته في طرد العمل ورده إلى صاحبه.” تُضيف قائلة: “يتذاكى البعض ولا يطلب صورة لكامل الجسد، بل جزءاً منه للتمويه كي يبرهن أن قصده شريف ولمتطلبات العلاج، باعتبار أن الشخص الذي قد يبيت نوايا سيئة سيطلب حتما صورة طولية لأغراض جنسية بحتة، لكني لم أصدقه وقطعت التواصل معه”.

لم تكن أناهيد بمنأى عن الطلبات الغريبة لمزاج رجال التنجيم تحت مسمى الاتصال بالجن السابع ونيل مبتغاها، تقول السيدة: “لم أنجب لزوجي طفلاً ذكراً ويهددني منذ سنوات بالزواج من امرأة أخرى كي تنجب له ذكراً يحمل اسمه، ذهبت إلى أحد الشيوخ لصنع عمل له كي يمنع ذلك.” تتابع حديثها: “ينجح الأمر لكن يكلفني مبالغ كبيرة مع صور لأجزاء من جسدي، أحياناً يطلب صورا لقدمي أو أصابع يدي وهي مطلية باللون الأسود، أو ارتداء ملابس داخلية باللون الأحمر، لا أمانع في الأمر طالما أن زوجي لن يكون مع امرأة غيري”.

ضغوط الحياة تدفع الأشخاص للالتحاق بقوى غيبية لتحقيق أهدافهم

تؤكد أريج الرز المتخصصة في علم الاجتماع أن “السحر أمر متداول منذ القدم، وتشتهر فيه المجتمعات الشرقية على مر التاريخ، ما يفسر لجوء العديد من الأفراد إليه وممارسته على نحو مستمر، فهو أمر شائع وأصيل ضمن هذه المجتمعات نتيجة القصص المروية عن النتائج المحققة والتي قد تكون محض خرافات وليست حقيقية.” وتضيف أن إيمان البعض بأنها قصص حقيقية عزز لديهم الرغبة باللجوء إلى هذه الأعمال لتحقيق رغبات معينة لديهم يعجزون عن تحقيقها.

اللجوء إلى أعمال التنجيم لا يقتصر فقط على الشريحة البسيطة غير المتعلمة، بل يطال أيضاً فئة المثقفين، والسبب كما توضحه الأستاذة أريج المتخصصة في علم الاجتماع هو: “بعض المثقفين ونتيجة حالة العجز التي قد يمرون فيها لتحقيق أهدافهم، وكثرة القصص المحكية عن أعمال السحر ونتائجه أثيرت لديهم الرغبة في التجربة وتحقيق ما عجزوا عنه..” وتتابع حديثها: “لكن إغفال العقل واللحاق بهذه الأفعال بصورة مطلقة يعتبر أمراً منافياً للعلم، ما يجعل لحاق المثقفين بالسحر أمراً مستغرباً، لكن في ظل الضغوطات التي يعاني منها معظم السوريين\ات ستظهر ميول للالتحاق بقوى غيبية لتحقيق الأهداف المأمولة”.

لا تنكر الرز أن عوامل التربية والعادات الشعبية التي تعمل على ترسيخ مفهوم قوى السحر بتحقيق المستحيل تعمل على تعزيز هذا المفهوم لدى الفرد وتجعله إحدى الطرق التي قد يسلكها عند الحاجة، لا سيما أننا في مجتمعات مارست و تناقلت وترسخت لديها هذه الأعمال على مدار السنين.