زيارة الى رئة دمشق.. وغوطتها

زيارة الى رئة دمشق.. وغوطتها

رغم مرور سنوات على استعادة الحكومة السورية سيطرتها على غوطتي دمشق الشرقية والغربية، فأن المشهد في الغوطتين المعروفتين قبل الأحداث بأنهما جنتان من جنان الأرض لاتساع البساتين الخضراء فيهما وجمال أشجارهما المتنوعة ومياههما الوفيرة، لا يزال كالح السواد من دون ظهور ملامح أي تحسن، إذ تحولت المساحات الخضراء إلى قفار، ومشهد الدمار والركام والبيوت المتهالكة والطرقات السيئة يطغى على مدنهما وسط انعدام شبه تام لأبسط مقومات العيش.
وتمتد الغوطة الغربية من ربوة دمشق غربا وجنوبا وتحيط حيي المزة وكفر سوسة في دمشق ببساط اخضر، وتضم العديد من المدن والبلدات والقرى، أبرزها داريا ومعضمية الشام والكسوة وصحنايا والأشرفية وسبينة ووادي العجم والهيجانة ويمر بها نهر الأعوج، وتشتهر بكافة أشجار الفاكهة والبساتين والمروج وزراعة مختلف أنواع الخضار.

مدينة العنب
وتعد مدينة داريا أكبر مدن الغوطة الغربية وعرفت خلال الأحداث بـ«أيقونة الثورة»، وتقع على بعد 8 كلم جنوب العاصمة دمشق، وتبلغ مساحتها 120 كلم مربع، وكان معظم سكانها يعملون بالزراعة، وأطلق عليها كثيرون «مدينة العنب» لشهرتها بزراعة جميع أنواعه، وتعرف أيضا بـ«مدينة المتنزهات»، وقد استعاد الجيش النظامي السيطرة عليها في آب (أغسطس) 2016، بعدما سيطرت فصائل المعارضة المسلحة عليها لنحو أربع سنوات، وذلك اثر حملة عسكرية مسعورة شنها ضدها أسفرت عن تهجير نحو ألفي شخص من مقاتلي المعارضة وعائلاتهم نحو الشمال السوري، ومقتل 2712 شخصاً، بحسب فريق التوثيق في داريا، إضافة إلى دمار نسبة كبيرة من المباني السكنية والبنى التحيتية والمزارع والمنتزهات والمعامل.
وبخلاف ما تقوله الحكومة منذ زمن بعيد بعودة الحياة الطبيعية إلى مناطق المدينة كافة، فإن المشهد على أرض الواقع في داخلها يؤكد عكس ما تروجه الحكومة، إذ لا تزال أكوام الركام موجودة على جانبي طريق مدخلها الشمالي على أوتوستراد المتحلق الجنوبي وأغلب المباني على الجانبين مدمرة ومجرف الكثير منها، وحركة السيارات والمارة ضعيفة.
المشهد في مدخل المدينة الشرقي المتفرع عن أوتوستراد دمشق – عمان الدولية يبدو أفضل قليلا عما هو عليه في المدخل الشمالي، إذ أن هناك حركة أكثر للسيارات والمارة في بداية الطريق المؤدية إلى وسط المدينة ويصل طولها ما بين 3 و4 كيلومترات وتتموضع عليها حواجز عدة للجيش والقوى الأمنية.
وتشاهد في هذه المنطقة الممتدة من بداية الطريق وحتى منتصفها تقريباً عدد من المحال التجارية وقد عاودت نشاطها، مع وجود حركة للمارة وإن كانت خجولة، كما يلاحظ أن معظم الأبنية سليمة ومأهولة وقد طال الدمار عدد قليل منها، على حين لا تزال معظم المنتزهات ومزارع العنب والفواكه الأخرى التي كانت موجودة على جانبي الطريق خلف المحال التجارية والأبنية، غارقة بالدمار، بينما يقتصر مشهد الخَضار على بقع صغيرة للغاية مزروعة ببعض الخضراوات، بعد أن كانت المنطقة يضرب بها المثل كمنطقة للتنزه ويؤمها الآلاف، خصوصاً في أيام العطل الرسمية للترويح عن النفس، بسبب جمال مزارعها ومتنزهاتها.
في وسط المدينة عند “دوار الباسل”، حيث نصبت عناصر الجيش النظامي حاجزاً ضخماً، وتتفرع منه طرقات رئيسية تؤدي إلى أحياء عدة في المدينة، منها النكاشات والشاميات وشريدي، يبدو حجم الدمار أقل من الموجود في طريق المدخل الشمالي، وكثير من الأبنية الطابقية لا تزال قائمة، لكنها أُعيدت إلى ما قبل مرحلة الإكساء (على العظم) من جراء عمليات النهب و«التعفيش»، مع وجود شقق مسكونة في عدد من الأبنية، لكنها قليلة جداً؛ الأمر الذي دل عليه رؤية ملابس منشورة على بعض الشرفات.
وتبدو حركة المارة في شوارع المنطقة التي تم فتحها بشكل جزئي ضعيفة، وتقتصر على عدد قليل من الشباب وكبار السن من الرجال والنساء، ويقول رجل خمسيني لـ”صالون سوريا” بحذر وهو يسير في الطريق بسبب انتشار العناصر الأمنية والمخبرين: «العيشة هون صعبة جدا. لأنو مافي كهربا ولا مي ولا سرافيس ولا تلفونات ولا تغطية موبايل، ويلي بصعّب العيشة أكثر أنو مافي ناس»، ويلفت إلى أن عائلات كثيرة عادت إلى بيوتها عندما سمحت الحكومة بذلك ولكن معظم تلك العائلات «هربت لأنو ما بينعاش هون، وبقيت بعض العائلات وعائلتي منها، لأننا ما بنقدر ندفع ايجارات». ويشير إلى معاناة مريرة للكثير من العائلات عندما تريد الذهاب إلى مدينة دمشق بسبب عدم وجود وسائل نقل عامة، ويضيف «الواحد لما بدوا يروح بيهكل هم من قبل بنهار وبالزور بدبر حالوا مع سيارة طالعة أو سوزوكي أو ميتور (دراجة نارية) ».
وبعدما كانت المنطقة قبل اندلاع الأحداث مركزاً تجارياً كبيراً، تبدو الحركة التجارية فيها شبه معدومة؛ فمعظم المحال التجارية (الأثاث المنزلي، العصرونيات، المأكولات الجاهزة، والعصائر والسوبر ماركات..) دمرت واجهاتها ونهبت محتوياتها، على حين عدد قليل منها لا يزال مغلقا، بينما أقدم بعض أصحاب السوبر ماركات وهم يعدون على أصابع اليد على ترميم محالهم وإعادة افتتاحها.
ويؤكد أحد أصحاب المحال المغلقة لـ«صالون سوريا»، أنه لا يفكر نهائيا بالعودة وإعادة افتتاح محله، ويقول، «طالما ما في ناس بالبلد، لماذا أعود؟، لمن سأبيع البضاعة؟، هل اتركها واتفرج عليها»؟، ويضيف «العودة ستكون كلها خسارة بخسارة، وكل من عادوا وافتتحوا محالهم يؤكدون أنهم ما بيطلعوا باليوم حق غدا العيلة. هذا إذا ما كانوا عم يخسروا لأنو الألبان والأجبان وكثير من المواد بدها تبريد وما في كهربا، وأكيد عم يخرب كتير منها وبيكبوها».
في منطقة أحياء الخليج شمال غرب درايا والتي كانت تشتهر بمزارعها الجميلة، وخصوصاً منها العنب، لا يزال الدمار يطغى عليها وهي خالية من البشر والشجر، وسط معلومات من كثير ممن كانوا يسكنون فيها، بأن السلطات تمنع منعاً باتاً الأهالي من العودة إليها، ولا حتى زيارتها للاطلاع على ما آلت إليه أوضاع منازلهم وأراضيهم الزراعية.

رئة دمشق
لا يختلف المشهد كثيرا في الغوطة الشرقية التي كانت قبل الحرب  رئة دمشق و”متنزه” الدمشقيين والسوريين عموما وتقدر مساحتها بنحو 110كم مربع، وتمتد نحو الشرق والجنوب محيطة مدينة دمشق ببساط أخضر وتشتهر بكثافة أشجار الفواكه وتنوعها وزراعة مختلف أنواع الخضروات.
وتضم الغوطة الشرقية التي استعاد الجيش النظامي السيطرة عليها في عام 2018 بعد حملة عسكرية خلفت مئات القتلى ودمار وتهجير معظم سكانها الذين كان عددهم قبل الحرب أكثر من مليوني نسمة، العديد من المدن والبلدات والقرى منها دوما التي تعد مركزها الرئيسي، وعربين وسقبا وزملكا وجرمانا والمليحة وعقربا وحزّة وكفربطنا.
التطبيل والتزمير منذ زمن بعيد من قبل الحكومة بعودة الأهالي إلى مدن وبلدات وقرى الغوطة الشرقية، وأنها تعمل على إعادة الخدمات الأساسية إليها، ينفيه حديث كثيرون من أهالي المنطقة، ويقول احدهم لـ«صالون سوريا»، إن «كل ما تقوله الحكومة غير موجود على الأرض. الدمار والركام مازال موجودا في معظم المناطق، والناس الموجودة، منهم لم يخرجوا من بيوتهم أصلا، وهناك من عاد ليستر نفسه في ظل الغلاء الكبير، ولكن عدد من عادوا ليس كما تزعم الحكومة بأنه كبير». ويضيف «الناس الموجودة في الغوطة تعيش في بيوت متداعية، وما تم فتحه من طرقات في أغلبه جرى بجهود الأهالي على نفقتهم، وشبكات المياه والصرف الصحي لم يجر إصلاحها والكهرباء معدومة فكل يوم نراها ساعة أو نص ساعة وأغلب الأيام نراها ساعة كل يومين أو ثلاثة، والناس عايفة حالا فهي ما بتقدر تشترك بالمولدات الضخمة، ومع انعدام الكهرباء تنعدم المياه وخليها لله».
مواطن أخر من مناطق الغوطة الشرقية، وبعدما يؤكد لـ«صالون سوريا»، أن الناس أُصيبت بعقدة نفسية من جراء الانقطاع المتواصل للكهرباء وعدم توفر الماء والمواصلات، يقول، «بعد المغرب كثيرون لا يجرؤون على الخروج من منازلهم، فقد يقتل المرء ولا أحد يدري به مع تزايد عصابات السرقة والنهب وذلك يحصل رغم الانتشار الكبير لحواجز الجيش والأمن وعناصرهما في معظم المناطق»، بينما تتحسر سيدة من أهالي الغوطة الشرقية في حديثها لـ«صالون سوريا» على «أيام زمان (قبل الحرب) لما كانت الغوطة تعج بالناس من كل سوريا لتروّح عن نفسها بين البساتين وبين الشجر وجنب المي، أما اليوم يا حسرتي تعا شوف لا ظل بساتين ولا ظل شجر ولا ظل مي. كلو راح بالحرب».
وبينما يؤكد كثير من أهالي الغوطة الشرقية الذين يأتون إلى دمشق أنهم يجبرون على دفع إتاوات  عند خروجهم وحين عودتهم، يتحدث بعضهم عن استيلاء على منازل كثير من المهجرين .

“بعت كليتي كي أعيش”

“بعت كليتي كي أعيش”

“إذا ضل الدولار يطلع نحن بالداخل رح نبيع أعضاءنا”، بهذه الجملة علق أحد المتابعين على التقرير الصادم الذي عرضته قناة أميركية عن حالات بيع الأعضاء من لاجئين سوريين في تركيا.
يبدو أن الإرتفاع الكبير لأسعار صرف الدولار في سوريا وسوء الأوضاع الاقتصادية مهدا الطريق لكثير من السوريين لبيع أجزاء من أجسادهم مقابل مبالغ مالية حدّ آلاف الدولارات، علّه يخفف من مرارة الأيام قادمات الأيام، إذ لا شيء ينبئ بأنّ القادم يكون خيراً، فهل يصل السوريّ وقتاً يصير فيه باب الرزق الوحيد له هو بيع كلية أو سواها من جسده الغض الذي زادته هموم العيش نحولاً.

الكلية مقابل العيش
“بعت كليتي لشخص محتاجها، أنا فيني عيش بكلية وحدة وخلي عيلتي كلها تعيش، بحق الكلية التانية”. يقول مازن ف ( 50 عاماً) لـ “صالون سوريا”. مازن يعمل كسائق سيارة أجرة في مدينة دمشق. باع كليته بمبلغ 18 مليون سوري (5.200 دولار أميركي)، عبر وسيط لم يرغب بتسميته، “إذا بحت بتفاصيل عنه قد أضرّه، وبالتالي أضرّ نفسي، لأنني أعلم جيداً أنّ هذه التجارة ممنوعة، ولكن هل ظل أمامي حل آخر؟”.
مازن تعرف على الوسيط عن طريق سائق أجرة آخر باع كليته بذات الطريقة وتم الأمر خلال ليلة وضحاها.
يقول مازن: “اشتريت بالمبلغ الذي حصلت عليه سيارة الأجرة التي أعمل عليها الآن، كان ذلك في صيف العام ما قبل الماضي”، يخبر “صالون سوريا” أنّه تمكن من سداد جميع ديونه، وبالتالي أيضاً تمكن من تحسين مستوى حياة أسرته، “اشتريت السيارة بسبعة ملايين، والباقي وفرته لمصاريف أخرى، اليوم سيارتي يتعدى ثمنها ثلاثين مليون ليرة سورية، الحمدلله”.
ربما يكون حظ مازن أفضل من حظ كثر لا زالوا يبحثون عن مشترٍ ليبيعوا أعضاءً من أجسادهم مقال مبلغ مادي، إن كبر أو صغر، إلا أنّه لا شك سيحل مشاكل كبرى.
“أبو عرب” أحد هؤلاء “الغلابة”، يتنقل من منشور إلى آخر في موقع “فيسبوك” عارضاً كليته للبيع عبر تعليق مختصر “متبرع كلية زمرة الدم A+ مقابل تعويض مادي يلي بيعرف حدا يخبرني، للتواصل خاص”. لا يخشى الرقابة والوقوع في أخطار الملاحقة الأمنية وقرارات منع تجارة الأعضاء، قام بوضع مناشدته تلك على واحد من منشورات مشفى الكلية الجراحي. ويصطلح فعلاً على تسميتها مناشدة، فهو ككثر من السوريين عزيزي النفس، يطلب ما يسميه “تعويضاً”.
لايهم ما ينتج عن العملية الجراحية من مخاطر جسدية، بل الأهم بالنسبة لهؤلاء المبلغ المادي الذي يحصلون عليه والكفيل بأن ينسيهم الكابوس الأسود الذي خيم على أيامهم نتيجة سوء المعيشة والغلاء الفاحش للمواد الغذائية والاستهلاكية. لكن السؤال ماذا يفعل مازن وأبو عرب وغيرهما بعد نفاذ المال والعملة الآخذة بالانهيار يوماً تلو آخر؟.

خصية للبيع
رغم أن بيع الكلية والقرنية هو الشائع بشكل أكبر في سوق بيع الأعضاء بسوريا، فإن لبيع الخصية نصيب من هذه التجارة، يخضع الأمر للعرض والطلب، في محاكاة للسوق الاقتصادي العام، الرجال وحدهم هم المستهدفون هنا، وحتى وإن لم يكن لها “زبائن” في سوريا فالعرض قائم في دول مجاورة.
“أنا جاهز للتبرع بخصيتي مقابل مبلغ مادي وأنا في سوريا”. كتب شخص اسمه أبو ثائر هذا التعليق على منشور في صفحة عراقية تبحث عن رواد لبيع الأعضاء في الدول القريبة، وبالمثل قام عبود عبود بالتعليق على المنشور ذاته معلناً جهوزيته الكاملة لبيع خصيته مرفقاً مكان إقامته ورقم هاتفه، كتب: “بدي اتبرع بالخصية وأموري تمام ومتزوج وعندي عيال وأنا من سوريا دمشق”. هل يبدو الأمر جنوناً؟ مغامرة؟ مجازفة؟ كل هذا يصلح لتسمية ما كتبه عبود على العلن، ولكنّها الحاجة، وهل ثمة ما يقهر الرجال أكثر من الحاجة والعجز أمام أولاده.
لا تقتصر مناشدات بيع الرجال للخصية في الصفحات المخصصة لبيع الأعضاء على “فيسبوك” بل تتعدى ذلك للنشر علانيةً في صفحات مخصصة لبيع الأثاث المنزلي والكهربائيات وحتى بيع وشراء الموبايلات. أمر غريب حقاً، ولكن مجدداً هي الحاجة مشفوعة بجهل القوانين.
الفقر في البلاد يجرد الرجولة من مضمونها الجسدي، الحصول على المال بأية طريقة وحده يجسد مقولة الرجال بأفعالها، أن يخسر الشخص عضواً من الجسد ليبقي على شيء من كرامته بسبب قلة موارد الكسب وفرص العمل واستبداد تجار الأزمة بالشعب وقوتهم، وتغافل الرؤية الاستثمارية عن انتشال المساكين من كابوسهم المظلم.

في الطب
“سهى” اسم مستعار لطبيبة جرّاحة تحدثت إلى “صالون سوريا”. الطبيبة لم ترغب الكشف عن اسمها لئلا تطالها المساءلة القانونية أو الطبية العامة عن هويات أشخاص بعينهم، ترى أنّ الوازع الأخلاقي والأمانة الطبية تقتضي صون تلك الأسرار، تحدثت سهى عن تجربتها في هذا النوع المشبوه من الإتجار بالأعضاء، وكشفت أنها عاينت عدة حالات ممن باعوا أعضاءهم وخضعوا لعمليات جراحية ضمن ظروف غير صحية، لكنهم بعد ذلك أخذوا يعانون من مضاعفات كثيرة لازالوا لحد الآن يتلقون علاجاً لها.
سئلت عن مسؤولية الطبيب في إجراء هذا النوع من العمليات ونقل الأعضاء البشرية، أجابت بأنّ الأهم بالنسبة للطبيب هو الحصول على موافقة اللجنة الطبية لإجراء العملية بدافع إنساني، ولايخفى على أحد أن هذا النوع من العمليات يتضمن صفقة مالية كبيرة بين البائع والمشتري!، وأصبحت تلك العلاقة الوطيدة هي التي تؤمن سبل العيش الكريم للفقير وتاجر البيع بالأعضاء على حد سواء، وكل ذلك في مغافلة للقانونين الإنساني الطبي والجنائي.

في القانون
يعاقب القانون السوري جريمة الاتجار بالأعضاء البشرية بحسب مرسوم مكافحة جرائم الإتجار بالأشخاص رقم 3 لعام 2010، وتم تحديد العقوبة لمن يقدم على بيع عضو من جسمه ضمن شبكة أو خليه تعمل في هذا الأمر، وفق المادة 10 من المرسوم، بـ “يعاقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات، وبالغرافمة من مئة ألف إلى مئتي ألف ليرة سورية، كل من انضم إلى جماعة إجرامية هدفها، أو من بين أهدافها، ارتكاب جرائم الإتجار بالأشخاص، مع علمه بأغراضها”.
رئيس قسم الطب الشرعي في جامعة دمشق الدكتور حسين نوفل كشف أن هناك عصابات طبية تتعامل مع عصابات عربية ودولية للمتاجرة بالأعضاء وخاصة بقرنية العين، و هناك آلاف الحالات خاصة في بعض المناطق الحدودية وفي مراكز اللجوء.
مضيفاً أن هذا الكشف لا يعكس إلا قمة جبل الجليد لتلك الجريمة المنظمة وشبكتها العنكبوتية وأعمالها التي لا تقتصر في حدود بلد واحد وتطال سرقة الأطفال الرضع من عائلاتهم ضحايا الحرب.

على اتجاهين
كثيرة هي الطرق التي تهدف لاجتذاب الزبائن – بائعي الأعضاء البشرية – ومن وسائل التواصل الاجتماعي إلى الإعلانات المنتشرة في شوارع دمشق وتلك القريبة من المستشفيات والصيدليات، غالبية الإعلانات تعنون الضرورة الإنسانية لإيجاد متبرعين من زمر دم مختلفة أو كلية أو قرنية مع مكافأة مادية، وهذا يؤخذ باتجاهين، حاجة إنسانية في حالات معينة، وحالة مغافلة للقانون في مكان آخر وحالات أخرى، والأكيد أنها تخفي في طياتها كواليس سلسلة صفقات كبيرة لتجارة الأعضاء، الفقر أم الحاجة، والحاجة لمن يدفع المال ويبقي على حياة شخصين حالفهم الحظ ولم يكونوا ضحايا قذائف الحرب التي أزهقت أرواح الألاف بدون أن يدفع لهم أحد!

قشر البندق والفستق “اختراع” سوري ضد البرد

قشر البندق والفستق “اختراع” سوري ضد البرد

دفعت الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة، وفقدان الكثير من الموارد الأساسية وأهمها موارد التدفئة في فصل الشتاء وبرده القارس، دفعت المواطن في شمال وشمال غربي سوريا إلى البحث عن ابتكارات وبدائل أقل كلفة. في قشور البندق والفستق الحلبي والمدفأة الخاصة بها، وجد الكثيرون ضالتهم، أمام غلاء أسعار الحطب والديزل.

صوبة القشر
ينهمك عبد الحليم، نازح من مدينة خان شيخون في منطقة سرمدا ومجموعة من العمال في الورشة الصغيرة، بقص وتجميع مدافئ أطلقوا عليها إسم “صوبات قشر”، وسط زحمة من المعدات والآلات البسيطة والمكونات الأساسية للمدفأة. يسابقون الوقت وقد بدأ يقترب فصل الشتاء فيزداد مع اقترابه الطلب على هذا النوع من المدافئ التي تعمل على بقايا قشور الفستق الحلبي والبندق واللوز وغيرها من قشور الثمار، كونها أقل تكلفة من المازوت أو الحطب عند السوريين أصحاب الدخل المحدود.
ويقول عبد الحليم: “مع بدء إرتفاع أسعار المحروقات الخاصة بالمدافئ وأسعار الحطب في الأسواق السورية، بدأ السوريون بالبحث عن بدائل أقل تكلفة، ووجدوا أن وسيلة التدفئة بقشور البندق والفستق الحلبي وغيرها، تتناسب إلى حد ما مع دخلهم المحدود”. مضيفاً أن ذلك تزامن مع بدء انتشار هذا النوع من المدافئ “صوبات القشر”، التي تصنع عبر مراحل. تبدأ بمدفأة كانت تعمل سابقاً على الديزل، ثم يجري تفريغها وإضافة خزان صغير إلى جانبها لتعبئة القشر مع جهاز كهربائي بقوة 12 فولت ينظم وقت عمل آلة دفع القشور من الخزان إلى داخل المدفأة للحصول على الدفء.
ويضيف: “أول من ابتكر هذا النوع من المدافئ هم أهالي مدينة خان شيخون جنوب إدلب، وأهالي مدينة مورك شمال حماة قبل عدة سنوات، كون هذه المدن والقرى المحيطة بها هي الأشهر في سوريا بزراعة الفستق الحلبي وبعملية قشر ثمار الفستق. ومع الزمن ابتكر البعض هذا النوع من المدافئ، وبدأوا باستخدام القشر بعد تجفيفه كوسيلة تدفئة (نقية).
وأكمل، أنه خلال العامين الماضيين، بدأ ازدياد الطلب لدى المواطنين في شمال سوريا على هذا النوع من المدافئ، هرباً من استعمال مدافئ المازوت والحطب باهظ الثمن. استعمال صوبة القشر، ساعد على توفير نصف التكاليف خلال فصل الشتاء، (أي أنه يمكن للمواطن شراء طن من قشر الفستق الحلبي بحوالي 120 دولاراً أمريكياً وسيكون بمقدوره التحكم بهذه الكمية طيلة الفصل)، بينما صوبة الحطب لا يمكن التحكم باشتعالها فتعادل تكاليفها لدى الأسرة ما قد يصل إلى 2 طن من الحطب خلال فصل الشتاء وبرده القارس في مناطق الشمال السوري بكلفة مادية قد تصل إلى 300 دولار.

إستيراد القشر
يقول أبو ربيع وهو تاجر حر في منطقة سرمدا الحدودية، إنه مع إرتفاع أسعار الوقود الخاص بالتدفئة وأسعار الحطب، بدأ المواطن بالسعي وراء ما يساهم في التخفيف من المصاريف الحياتية اليومية، والتي تبرز صعوباتها مع قدوم فصل الشتاء كل عام، ما دفع عدداُ من التجار إلى توفير قشور الفستق الحلبي والبندق واللوز من تركيا، ونعمل على شرائها وإدخالها إلى الأسواق في شمال سوريا بأسعار تتراوح بين 120 دولاراً أمريكياً إلى 135 بحسب النوع والجودة. فعلى سبيل المثال، هناك من يرغب باستخدام قشر الفستق الحلبي كونه أكثر اشتعالاً ودفئاً في المنزل، بينما آخرون يرون أن قشور البندق أكثر حظاً في توفير الدفئ.
ويضيف، أن رغبة السوريين تزداد في استخدام قشور الفستق الحلبي والبندق واللوزيات كوسيلة للتدفئة، كونها أقل كلفة من الوقود والحطب، حيث يمكن تعبئة كمية بوزن حوالي 3 كيلو غرام من القشر في خزان المدفأة وإشعالها. وتحصل الأسرة بذلك على دفء لا يقل عن 6 ساعات متواصلة، بكفلة لا تتجاوز 4 دولارات، بينما قد تصل كلفة استخدام الحطب أو الوقود (الديزل) لذات المدة، إلى 6 أو 7 دولارات.
من جهته، يقول أبو أمجد (نازح من ريف حماة ويقيم في مدينة الدانا شمال إدلب)، إنه يضطر في فصل الشتاء إلى تركيب 3 مدافئ في منزله. مدفأة لمضافته وثانية للأسرة وثالثة لأبنائه الذين يمضون وقتهم في الدراسة. “الأمر الذي دفعنا إلى اختيار هذا النوع من مدافئ القشر و وسائل التدفئة الخاصة بها (قشور الفستق الحلبي والبندق وغيرها) منذ عامين، أنها أقل كلفة وذات آثار صحية محدودة على الأطفال، فضلاً عن أن اشتعاله في المدفأة لا يسبّب دخاناً كثيفاً كالحطب الرطب أو المازوت (الديزل) الرديء”.
ويضيف، أن كمية استهلاك القشور للمدافئ الثلاثة خلال فصل الشتاء لا تتجاوز 2 طن من القشر بقيمة 200 دولار أو أكثر قليلاً، بينما في فصول الشتاء السابقة، كان يعاني كثيراً من تكاليف التدفئة، حينما كان يعتمد على الحطب والمازوت، وقد تتجاوز التكلفة حوالي 800 دولار، ويعود السبب في ذلك إلى بطء اشتعال مادة القشر في المدفأة.
“لا شحار ولا بقع دخان أو بقايا زيوت محترقة في قعر المدفأة”، بهذه الكلمات عبرت أم جميل (52 عام) عن سعادتها بعد أن تمكنت من شراء مدفأة قشر واستخدامها في فصل الشتاء.
وتضيف: “في السنوات السابقة كان يتوجب علينا نزع المدفأة بشكل يومي عند الصباح واخراجها بعيداً عن المنزل والقيام بتنظيفها من بقايا المازوت الرديء، وما أن نعيدها إلى مكانها وإشعالها مجدداً، حتى تتكون طبقات الشحار على جدارها الداخلي والبواري، ويتسرب الدخان المزعج في الغرفة، فضلاً عن عدم اشتعال كميات لا بأس بها من المازوت وانتشاره على جوانب المدفأة، بينما اليوم أشعر بسعادة في فصل الشتاء، كنت أفتقدها سابقاً. استعمال مدفأة القشر لا يسبب أدنى إزعاج لأي فرد من أفراد اسرتي لسهولة إشعالها وانعدام الدخان المتصاعد وعدم تشكّل الشحار في البواري”.

سوريات تواجهن الموت… بالكتابة

سوريات تواجهن الموت… بالكتابة

ركّز تمكين النساء على البرامج دون المشاريع، ولم يشمل النساء المتميزات أو الحاملات لميزات قيادية أو ريادية.
تنوعت برامج دعم النساء، لكن جلّها ركّز على عناوين نمطية تحت شعار تمكين النساء، مثل الخياطة والتطريز وحياكة الصوف والتمريض والحلاقة والتجميل والدعم النفسي، حتى مشاريع التدريب في العالم الرقمي كانت مقدمة لتنمية الجانب التقني في حياتهن، وليس لإعداد نساء عاملات أو مختصات في هذا الحيّز المهم. فكانت النتيجة: لا النساء تمكنّ ولا المشاريع تجاوزت خانة الأمنيات، وكل ما تحقق اقتصر على قوائم بأسماء مكررة أحيانا للمنخرطات في هذه الورشات.
حافظت الكتابة على وصفها عملاً خاصاً بالنخبة، مع أن الرغبة بأن تصبح بعض النساء كاتبات أوسع من كل الحدود المقيدة لهذا الحلم.
تجدر الإشارة إلى أن حجم المنتج الأدبي بعد العام 2011 وخاصة ما بين 2013 و2019 كان أكبر من المتوقع وخاصة لكاتبات سوريات. نحن هنا لسنا بمجال نقد تلك التجارب من الناحية الأدبية، بل تجب الإشارة إليها كونها شكّلت ظاهرة نوعية اتسعت بسرعة ونمت بغزارة وخاصة لدى الكاتبات المهاجرات واللاجئات.
لم نسأل النساء يوماً عن رغبتهن بالكتابة. وارتبطت في المخيّلة الجمعية رغبة المرأة في الكتابة والتعبير بالعشق وبالخواطر السطحية والعابرة. لم نعترف يوماً بفعل الكتابة خارج أسوار الممنوعات والأسرار بين شابات أو مراهقات، والأهم أننا لم نعتبر فعل الكتابة عملاً يؤمّن مصدر عيش للكاتبات. لطالما شجّع الكثير من السوريين بناتهم على اختيار مهنة التعليم كمهنة حصرية مرغوبة ومناسبة للنساء، حتى عندما يتفوقن ويتمكن من تحصيل معدلات تؤهلهن لدراسة الطب. عائلات كثيرة دفعت بناتهن إلى اختيار اختصاص الطب النسائي أو الجلدية.
الحقيقة المخبأة والمتحايل عليها تقول: بأن الكتابة حلم لكثير من النساء في كافة مراحل أعمارهن، ويرددن عجزهن عن ذلك أو استسلامهن لقرارات العائلة. والحقيقة الأهم أن نساء كثيرات وخاصة الشابات يطمحن لطباعة كتب خاصة بهن!
إذن، تبدو الكتابة أكبر من حلم، ويبدو لقب كاتبة مسعى تتمنى الكثيرات الالتحاق بركبه، حتى الأميات يرددن: (لو أني تعلمت الكتابة لأصبحت شاعرة أو كاتبة سيناريو وقصص وروايات).
الأحلام قصص جاهزة تنتظر النشر
قررت صاحبة إحدى دور النشر المرخصة في دمشق، اللحاق بتلك الأحلام. دعت عشرات من النساء للكتابة. مغامرة، لاقت قبولاً عظيماً. وأتبعت خطوتها بإصدار ثلاث مجموعات متتالية لكاتبات، يكتبن للمرة الأولى عشن حياتهن حالمات بأسمائهن مدونة على صفحة في جريدة يومية أو على على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، فكيف بأسمائهن تصير حبراً على ورق!
تحولت الكتابة إلى ورشة تدار بين مجموعة خاصة بالكاتبات الحالمات واللاتي أبدين حماساً منقطع النظير، وتلهفاً للمزيد من الكتابة والتزاماً بالملاحظات والتصحيحات اللغوية.
صدرت المجموعات الثلاث على التوالي في الأعوام،2019، 2020، 2021.
أثناء التدريبات على صفحة كل مجموعة لكل كتاب، تم التعرض لكيفية كتابة نصوص حساسة للنوع الاجتماعي، كيف يمكن للنساء النجاة عبر قصصهن، النجاة من تكرار الأفعال الشاذة التي تنمط النساء في خانة محددة وتنمط الرجال في خانات أخرى. كانت فرصة لتتعرف الكاتبات على الآخر، كيف سيقرأ قصتي، كيف سيفهم ما أقصد، وعبرت الكثيرات عن رغبتهن بالكتابة لمجرد الكتابة.
احتوت المجموعة الأولى على أربع عشرة قصة لأربع عشرة كاتبة وحملت اسم “النقش على جلد المدينة”، تميزت القصص بالوجدانية وبتعدد المواضيع، لكن قضايا النساء كانت مهيمنة على المحتوى وعلى اللغة وانفعالاتها.
أما المجموعة الثانية والتي حملت اسم “نكتب لننجو”، فقد احتوت على خمس عشرة قصة لأربع عشرة كاتبة وكاتب. واللافت أن أحدهم علق بأن قصة الكاتب كانت الأكثر تعرضاً بشكل مباشر لقضايا النساء وخاصة قضية حيازة العائلة ورجالها تحديداً لجسد المرأة وبالتالي فإن الرجل هو الذي سيبرّر القتل فقط من أجل صيانة هذه الملكية وستكون النساء هن الضحايا.
يمكن القول إن المجموعتين الأولى والثانية قد تركتا الخيار مفتوحاً أمام الكاتبات والكاتب حول اختيار مضمون القصة، لكن المجموعة الثالثة شهدت تغيراً جديداً، إذ شارك فيها كاتبان وأربع عشرة كاتبة، وكانت المواضيع محددة مسبقاً وتختصّ بأشكال العنف الواقع على النساء، ويبدو عنوان المجموعة “الاختباء على الحافة” خير إشارة إلى حال النساء في مواجهة عنف متعدّد ومتسلسل ومتأصّل، كما أشارت مقدمة المجموعة إلى نظرية الرواية النسوية الأولى عبر شهرزاد وحكايات “ألف ليلة وليلة” كفعل هروب وليس كفعل نجاة.
لاقت المجموعات الثلاث استحساناً وقبولاً كبيراً، وكانت فكرة الكتابة الجماعية أكثر الأفكار تقديراً، لأنها أكدت على إمكانية المشاركة في النصوص وفي القضايا وضمن غلاف واحد، وهذا بمثابة
حلم أزلي تتوق إليه النساء في سعيهنّ إلى توحيد خطاب نسوي تشارك فيه النساء جنباً إلى جنب مع الرجال لبناء عالم أقلّ عنفاً وهمجية.
لطالما ركّزت عناوين برامج الدعم الموجّه للنساء على الأهداف الآنية وأغفلت الهدف الأسمى وهو تغيير حياة النساء نحو الأفضل.
هل تجاهلت برامج الدعم العناوين الإبداعية عمداً؟ في زحمة الحرب الدائرة يتم تسويف قضايا النساء الأساسية وتصويرها على أنها غير صالحة لهذا الزمان.
تم اختزال كل عناوين الدعم بالإعانات الغذائية المباشرة ووسائل تحصيلها وسبل العيش والدعم النفسي، على حساب عناوين إبداعية مثل الكتابة والمسرح والسينما والعروض الفنية الإبداعية والصحافة، ويمكن التأكيد على ذلك من خلال عدد الورشات وأعداد المشاركات ومن خلال النتاجات المباشرة لهذه العناوين.
السؤال: كيف يمكن تحويل الأفكار الإبداعية إلى منتج مادي تستفيد منه النساء مادياً؟ لقد أفرزت السنوات العشر الماضية مواهب خلاقة وخاصة في الإعلام المرئي والمسموع والتصوير والتحقيقات الصحفية، وقد أثبتت النساء حضوراً متكاملاً من حيث الدوافع والالتزام والعمل الجادّ على تطوير المهارات.
الحرب والخسارات، تشكّلان طاقة محفزة للحياة في مواجهة الموت. هل يمكن لفعل غير الكتابة أن يجابه الموت بالإبداع؟ إنه ليس سؤال عرضي، بل دعوة لإعلاء شأن الكتابة، لربطها بالحقوق، ولدمج الأهداف بالمشاريع.
راوغت شهرزاد عبر الحكايات لتحفظ رأسها من الجز، لكنها بقيت أسيرة القصر وأسيرة الملك.
الكتابة كفعل للنجاة، ليس لحفظ الرأس ملتصقاً بالجسد فحسب، بل لحفظ الحياة في أعلى الخيارات وأكثرها قيمة، نكتب لننجو؟ نعم وستنجو معنا الحياة بأبهى وأكثر تجلياتها عدالة، خارج حدود الجدران والصمت والتغييب.

دمشق، الأول من كانون الأول 2021

كبار السن في دمشق… الحياة ثقيلة هنا

كبار السن في دمشق… الحياة ثقيلة هنا

في الحروب، يحصي المتقاتلون عدد القتلى وكأنه الإنجاز الأهم لهم، ويتبادل الصحفيون أرقام الضحايا في جداول تحتل الأهمية الأولى على شاشات الأخبار. أما السياسيون وموظفو المنظمات، فيركزون على مشاهد الدمار والدم، في ظن منهم بأنهم بذلك يدقون ناقوس الخطر.
في الحرب، وما بعدها، وحين يتوقف موسم القتل المباشر بكل صنوف الأسلحة، تبدو الصورة الواضحة للخراب. خلال استعراض هذه الصورة يكون النقص سمة عامة، الغالبية تركز على الأطفال كضحايا، وينفرد الصحفيون الاستقصائيون بذكر عدد الضحايا من النساء على حدة ومن الرجال على حدة، ويصوبون الأنظار إلى فداحة موت الأطفال والأمهات، وكأن كل الرجال مقاتلون! الضحية ضحية، مهما حاولت وسائل الإعلام التمييز بين صريع أو صريعة، بين طفل أو كهل، كل الدراسات الاقتصادية والاجتماعية ترتدي هنا ثوب الإنكار لمعنى موت الأشخاص، أي شخص كان، رجلا، أم امرأة أم طفل، المعنى هنا مجرد رقم.
اللافت في الرؤية العامة للمشهد هو غياب سمة الاستمرارية والمتابعة، المشاريع آنية التخطيط ومتكررة الأهداف، والاستدامة لا تعني البناء على ما تم عمله، بل تعني استمرار التمويل واستمرار النزيف، حتى لو تكررت نفس العناوين بنفس الأساليب ولنفس الأشخاص، لا خبرات متراكمة لمشاريع طويلة الأمد وتشغيلية، تولد من لدنها فرصا متجددة تستقطب أفواجا متتالية من المستفيدين/ات من برامجها وجدواها.
تبدو المقدمة طويلة وتغص بالتفاصيل قبل الوصول للفكرة الرئيسية، لماذا وكيف تُرك كبار السن وحيدين ووحيدات؟ لماذا تضخمت مشاكلهن/م حتى شكلت مشهدا مربكا وخانقا وعاجزا؟ لماذا عجزت كل البرامج عن إدماجهم/ن في الخطط الوطنية والإنمائية بل والتكافلية؟ والمبررات هنا ضحلة وسطحية، ليسوا بذات أهمية؟ أحوالهم / ليست إسعافية، إذن هم خارج الأولويات.
يبدو أن أحدا لم يخطط مشروعا من أجلهم في الأساس، ُتركوا للعناية الإلهية أو للرعاية العائلية الهشة، أو للنسيان والتجاهل، نعم إن توصيف ما جرى ويجري هو تجاهل تام واستنكاف جمعي ومؤسساتي عن تقديم الخدمات المطلوبة لهذه الفئة من السكان.
قد يقول البعض: “الأطفال في المرتبة الأولى من الأهمية لأنهم مستقبل البلاد!” وقد يقول البعض الآخر: “إن عملية التنمية لا تتطلب إدماجهم وتتجاوزهم نحو فئات شابة أكثر حاجة للعمل وللخدمات ولمشاريع التأهيل، وأكثر انتاجا وإبداعا وأقل تكلفة”.
يتعرض كبار السن للإهمال والتهميش، وتصبح حيواتهم ثقيلة يتمنون الموت بدلا عنها، وتبقى أحوالهم أسيرة الكتمان وكأنه هروب إلى الأمام من حقيقة ساطعة وموجعة، وتتحمل النساء العبء الأكبر، مع أن بعض الرجال يقوم بخدمة نفسه وحيدا، وأحيانا يقوم على خدمة زوجته أيضا في آن معا، لغياب الداعمين والمساعدين، بل قد يضطر الرجال للعمل في مهن لا تناسب أعمارهم وأجسادهم المتعبة كشطف الأدراج أو البيع على بسطات بائسة أو التسول، عدا عن غياب الضمان الصحي الذي يؤمن الاستشفاء الكريم للمتقدمين في السن وهو حق وضرورة.
سارة سيدة سبعينية غير متزوجة وبلا عائلة، فقدت كل مدخراتها خلال عشر سنوات من الحرب المكلفة والمرعبة، منحت بيتها لإحدى الجمعيات وهو يساوي الكثير مقابل أن تنتقل إلى دار عجزة عائد لهذه الجمعية، حيث يتم الاعتناء بها و “تطبيبها” وتقديم وجبات الطعام لها، هي الآن مصابة بكسر في عنق الفخذ، لم يجروا لها عملية جراحية تحت ذريعة أن وضعها الصحي لا يحتمل إجراءها، تشعر بالغبن والندم، لا شيء يعود للوراء، بيتها صار ملك للجمعية وهي تنتظر موتها بين ساعة وأخرى، وقلبها وعقلها في مكان مختلف.
طالما تقدمت بعض المنخرطات في قضايا المرأة مقترحات عديدة لبعض الجهات الرسمية أو الأهلية أو المانحة، لتأسيس مأوى للعجزة في بعض المدن، ملجأ للنساء الهاربات من العنف والتهديد بالقتل أو من الإجبار أو الاضطرار على العودة إلى بيئات غير آمنة عائليا ومجتمعيا، مأوى للنساء الوحيدات بلا عائلة أو أقارب، أو ممن سافر أبناؤهن وتركن وحيدات أو تحت اشراف الأقارب، أو المساعدات المرافقات غير الخبيرات، أو النساء المعوزات اللاتي فقدن بيوتهن أو تم طردهن من بيوت العائلة بعد إشغالها من طوابير المهجرين وفاقدي القدرة على شراء بيوت جديدة أو استئجارها، النساء المكتئبات أو فاقدات القدرة على خدمة أنفسهن وإدارة تصاريف حيواتهن اليومية.
تعمل حلا كمرافقة صباحية لسيدة وحيدة، يتكفل ابنها باجر حلا وتتكفل ابنتها بأجر مرافقة أخرى للفترة المسائية. لا مشكلة مادية في حياة السيدة مريم، يصر ولداها على تزويد والدتهما بكل شيء أساسي وكمالي، يدللان المرافقتين ويرسلان الهدايا لهما، كل أدوية الأم مرسلة من كندا حيث يقيم الولدان، لكن السيدة مريم لم تعد قادرة على تحمل وجود أيا من المرافقتين معها، تصرخ بهما، ترفض مساعدتهما، لا تسمح لهما بالأكل ، وقد تعرضتا للطرد من قبلها عدة مرات، شخص الطبيب النفسي إصابة السيدة مريم باكتئاب حاد وحاجة ماسة لمتابعة علاجها في مركز متخصص يضم أقرانا للسيدة مريم، شركاء وشريكات بنشاطات مختبرة وضرورية، باتت السيدة مريم مصدر خطر على نفسها وعلى المرافقتين، مما استدعى قدوم ابنتها من كندا وإغلاق بيت العائلة وإيداع والدتها في مركز غير مؤهل للعلاج والدعم النفسي، تعالج السيدة مريم بالإبر المهدئة والأدوية التي تكبح نشاطها البدني وردود أفعالها الطبيعية، بدلا من النشاطات المعاوضة والدائمة ، علاج متخلف وقاس، ولا يلبي إنسانية العلاج، لكن ما باليد حيلة ، هكذا تقول ابنتها وهي تبكي لأن والدتها لم تتعرف حتى إلى ابنتها.
وماذا عن كبار السن فاقدي الملكية والذين يضطر بعضهم للنوم في الحدائق أو في زوايا الأرصفة أو مداخل الأبنية؟ ماذا عن كبيرات السن اللواتي لم يفكر أحد ذات يوم بدمجهم في نشاط اقتصادي مدر للدخل، ليتم بعده تسويق ما صنعته أيديهم، فيؤمن لهم دخل داعم وإحساس بجدوى العمل وجدوى الحياة.
تعيش سامية وكأن حياتها كلها برنامج من المناوبات الليلية، كل يومين في بيت اخت لها، فقدت بيتها ولا تملك مالا لدفعه بدلا للإيجار، اجتمعت الأخوات الأربع وقررن أن تنام في بيوتهن بالدور، تحاول قضاء يومها في الطرقات أو في الأسواق الشعبية أو في الحدائق الحزينة والمكتظة بالغرباء مثلها، لتخفف من ثقل وجودها، تنسى في أي بيت تركت معطفها البني أو خفها المنزلي المريح، لا تفتح الثلاجة في أي بيت تنام فيه، وثيابها المتسخة يتعذر غسلها حسب الحاجة، عليها انتظار شقيقاتها ليسألنها عما ترغب بغسله. خارج الفهم الحقيقي لعملية التنمية، وتراكما لقاعدة تمييزية تخرج كبار السن من دائرة الأحقية بالرعاية، وبأن هذه الرعاية هي تنمية مجتمعية ترفع مستوى الحياة بشكل عام وتؤسس لتعاقد مجتمعي تشاركي ومؤسساتي، تغدو الحيلة ثقيلة، مرعبة وغادرة، وثقل الحياة غير قابل للتليين أو التخفيف، لأنه يحرم فئة واسعة ومهمة من حقوقها الإنسانية الأساسية.
تكاد أن تخلو البلاد من فئاتها الشابة أثناء الحروب وبعدها، وتبقى فئة المتقدمين/ات بالسن فئة واسعة العدد وخارج المشاركة، وقد يكسبها المجتمع لو استثمرت طاقاتها الحية ولو وظفت خبراتها المتراكمة في إحداث تواصل معرفي ووجداني منتج، لابد من تخفيف وطأة الحياة الثقيلة ودعم كبار السن، ليس من أجل حياة أكثر عدلا وإنسانية، بل من أجل مساواة مواطنية، حقيقية وبناءة.
وإن كانت الحروب هدامة، فالمساواة وحدها الكفيلة بالبناء، التنمية عملية متواصلة وتعنى بالجميع، أطفالا وشبابا وكهولا.

دمشق في 30 أيلول 2021

 الصورة: محمد تاج الدين، دمشق

جابرني، الله يجبرك… صرخة في دمشق

جابرني، الله يجبرك… صرخة في دمشق

على استحياء، تمد امرأة ثلاثينية يدها وفيها قطعتان من البسكويت من نوافذ السيارات المتوقفة في ساعة متأخرة من الليل على أحد شاخصات المرور وسط دمشق، وتقول لكل سائق بلهجة مسكورة القلب والخاطر: “جابرني الله يجبرك. جابرني الله يجبر خاطرك. جابرني الله يخلي أولادك”.
المرأة التي تظهر عليها معالم الفقر الذي تعشيه من جسدها النحيل، وشحوب وجهها، وثيابها البالية. وبعد ترديدها لعباراتها السابقة لكل سائق، تمعن النظر بوجهه وملامحه وكلماته، ترقبا لردة فعله. فبعض السائقين ومن دون نبسهم ببنت شفة، يأخذون قطعة من البسكويت ويدفعون ثمنها المحدد من قبل المرأة بـ500 ليرة سورية، وآخرون يأخذوا قطعتين أو ثلاث ويدفعوا ثمنها مع ابتسامة خفيفة، بينما يدفع سائقون ثمن القطعة ضعف، وبعضهم يشتري عدد أكبر من القطع، وهو ما يدخل السرور على قلب المرأة وتظهر علاماته على وجهها، مع ترديدها عبارات الدعاء لهم من قبيل: “الله يجبرك. الله يوفقك. الله يخلي ولادك. الله يحفظك من كل شر”.
بالمقابل، يحجم سائقون عن الشراء، ويوحون بذلك إما برفع الحاجبين، أو رفع كف اليد، أو الرأس، في حين يعبر البعض عن رفضه بترديد عبارة: “الله يبعتلك”. مرة أو أكثر. اخرون يردون بإغلاق نوافذ السيارة والامتناع عن النظر إلى المرأة التي تقابل ذلك بصدر رحب وعدم الإلحاح عليهم والانصراف من أمام سيارتهم.

عزة نفس
وفي دلالة على عزة نفس كبيرة لدى المرأة، رصد “صالون سوريا” امتناعها عن أخذ مبلغ مالي من أحد أصحاب السيارات الفارهة من دون أن يأخذ مقابله البسكويت، ودخولها في جدل معه بسبب إصراره عليها لكي تأخذ المبلغ على حين تشترط هي عليه أخذ البسكويت لكي تأخذ المبلغ، وقولها له مع سيطرة حالة من التوتر عليها “أنا لست شحّاده. أنا قوية. أنا اعمل لأعيش. بتحب تشتري أهلا وسهلا، ما بتحب براحتك”، الأمر الذي رد عليه السائق بشراء علبة بسكويت كاملة منها تحتوي نحو 40 قطعة ودفعه ثمنها رزمة من الأوراق المالية تقدر ما بين 20 – 50 ألفا، والقول لها “الله يقويك اكتر، روحي نامي”.
خلال دردشة قصيرة مع “صالون سوريا” أثناء توقفها على نافذة السيارة وشراء عدد من قطع البسكويت منها، أوضحت المرأة أن الحرب أفقدتها “عمود بيت العيلة” (زوجها)، ودمرت “بيتنا يلي كان ساترنا” بريف دمشق، فوجدت نفسها “مجبرة على العمل لنقضّي بقية هالعيشة المرة أنا والأولاد”. وبعدما توضح أنها تسكن في بيت إيجار في محيط العاصمة، تشير إلى أن عملها في كل يوم يمتد من الساعة السادسة مساء وحتى 12 ليلا، وأنها تختار هذه الفترة كون “الناس بتكون رايقة شوي، على حين في فترة النهار بصير عجقة كتير وكلو بيكون معصّب، وما حدا فاضي لحدا، وما حدا برد على حدا”.
وتذكر المرأة أنها أرباحها في الأيام العادية، تصل “ما بين 5 – 7 آلاف” ليرة في اليوم “عم نستر حالنا فيهون”، في حين يؤكد خبراء اقتصاديين أن الأسرة المؤلفة من ثلاثة أشخاص تحتاج حاليا نحو مليون ليرة سورية في الشهر لتعيش في مستوى متوسط، والمؤلفة من خمسة أشخاص تحتاج نحو مليون ونصف المليون، بينما لا يتجاوز المرتب الشهري للموظف الحكومي 80 ألف ليرة، ووسط استمرار فقدان مداخيل العائلات الشهرية جزءاً كبيراً من قيمتها بسبب الانهيار القياسي لسعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي الذي يساوي نحو 3500 ليرة، بعدما كان قبل سنوات الحرب ما بين 45 – 50 ليرة.

ازمة خانقة
ورغم أن ظاهرة التسول موجودة في سوريا منذ القديم، فإنها ازدادت منذ اندلاع الحرب فيها قبل أكثر من 10 أعوام وما خلفته من أزمة معيشية خانقة يعاني منها أغلبية السوريين وغلاء فاحش وفقر مدقع وجوع ومآس ودمار ونزوح، وتكاثرت الظاهرة جداً مؤخراً وبنسبة أكبر حالياً مع تواصل تردي الأوضاع المعيشية للأغلبية العظمى من الأسر إلى مستويات تفوق قدرتهم على التحمّل (منظمات دولية وتقارير أعلنت أن نسبة من يعيشون تحت خط الفقر في سورية وصلت الى 94 في المئة)، إذ تعج أي سوق من أسواق دمشق وحدائقها وشوارعها بعشرات المتسولين (أطفال، ونساء، ورجال).
وبخلاف عزة النفس الموجودة لدى المرأة بائعة البسكويت، يقوم كثير من المتسولين بالإلحاح بشدة على الناس لكي يعطوهم مالا، ويبادر البعض منهم إلى البكاء من أجل الحصول عليه، بينما بات آخرون يدقون أبواب المنازل ويطلبون “شوية أكل على حب الله” أو “كم رغيف خبر مشان الله” لـ”سد جوعهم”.
ومع تزايد تفاقم مسألة الجوع في دمشق، شهد “صالون سوريا” أكثر من مرة، قيام متسولين في ساعات الصباح الأولى قبل أن تدب الحركة في الطرقات، بالبحث عن بقايا طعام في أكياس القمامة الموضوعة إلى جانب أبواب المنازل، في حين لا يجد بعضهم حرجا بالبحث في ساعات وضح النهار في حاويات القمامة المنتشرة على جوانب الطرق الرئيسية عن بقايا طعام.
وبات مألوفا مشهد افتراش كثير من المتسولين وبعضهم مع أطفالهم لأرصفة شوارع رئيسية في دمشق وأرصفة ساحاتها، ويسألون المارة بصوت عال وبعبارات تثير العواطف، إعطاءهم من «مال الله»، أو مما يوجد في أكياس يحملون (خضار، فاكهة، خبز، مواد غذائية).
والبعض لا يكتفي بافتراش الأرصفة للتسول، وإنما يتخذ منها أيضا مكانا للنوم كما هو الحال على رصيف ساحة تبعد عشرات الأمتار عن الشاخصة المرورية التي تقف عندها بائعة البسكويت، إذ يشاهد بشكل يومي في ساعات المساء والليل منذ فترة طويلة رجل طاعن في السن يرتدي ثيابا ممزقة ومتسخة، إما جالسا أو ممددا على رصيف الساحة وتحت قطعة من حرام قديم جدا، بينما أمامه عدد من أطباق الطعام بعضها مغلق وأخرى مفتوحة وفيها بقايا مأكولات، قد يكون بعض مرتادي محال المأكولات المحيطة بالساحة أو المارة تصدقوا بها عليه.
وعلى حين يبادر بعض المارة، كل حسب إمكانياته، إلى إعطاء متسولين ما تيسر من مال أو مما يحملونه، بعد التدقيق بهم وتولد شعور لديهم بأنهم لا يمتهنون التسول للإثراء وأنهم فعلا محتاجين، يحجم آخرون عن إعطائهم، في حين لا يكتفي مارة بالإحجام عن إعطائهم، بل يتلفظون بعبارات تحمل في طياتها “الشَّمَاتَة” بهم من قبيل “بتستاهلوا.. الله لا يقيمكون” و”بدكون ثورة وحرية.. هي الثورة وهي الحرية انبسطوا وكيفوا”.
ونشرت صحيفة “تشرين” الرسمية في بداية العام الجاري إحصائية من الدراسات الاجتماعية وتقدر عدد المتسولين في سوريا بشكل تقريبي بحوالي 250 ألف متسول في مختلف المحافظات 51،1 منهن إناث و48،9 ذكور، 64،4 منهم يمارسون التسول بشكل احترافي، ويشكل الأطفال 10في المئة أي حوالي25الف طفل، لكن خبراء يقدرون أن الأرقام أكثر من ذلك بكثير مع استمرار تردي الأوضاع المعيشية للأغلبية العظمى من الأسر.