سورية الدولة والهوية: خلود الزغير تبحث في أسئلة الهويات والانتماء الوطني

سورية الدولة والهوية: خلود الزغير تبحث في أسئلة الهويات والانتماء الوطني

«سورية الدولة والهوية: قراءة حول مفاهيم الأمّة والقومية والدولة الوطنية في الوعي السياسي السوري (1946-1963)»، عنوان كتاب جديد للكاتبة والباحثة الاجتماعية السورية الدكتورة خلود الزغير، صدر مؤخرًا عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في الدوحة، وهو عمل يتميّز عن غيره من المؤلفات التي تناولت الدولة والهوية السورية من خلال قراءة رصينة لثلاثة مفاهيم هي (الأمّة والقوميّة والدولة الوطنيّة)، بكونه يندرج في سياق البحوث والدراسات العلمية الموضوعية، من خلال بحث مؤلّفته في الطروحات والمفاهيم المركزية التي قام عليها النقاش، داخل خطاب الأحزاب السياسية السورية التي تصدرت المشهد السياسي بعد الاستقلال التام لسورية عام 1946 حتى وصول اللجنة العسكرية لحزب البعث إلى السلطة في العام 1963، سواء الأحزاب التي وُجِدت في السلطة أو التي كانت في المعارضة، انطلاقًا من أنّ أيّ قراءة في سؤال الدولة والهوية اليوم تحتاج إلى فهم الإشكاليات والظروف والسياقات التي تشكلت ضمنها الدولة السورية وهويتها في المراحل السابقة، خصوصًا أنّ السؤال حول وجود هوية سياسية – اجتماعية لسورية أو هوية وطنية سورية جامعة أمرٌ لا يزال مطروحًا.

تستهل الباحثة الاجتماعية مقدّمة كتابها، الذي جاء في (272 صفحة بالقطع الوسط)، بالقول: “إنّ تشكل هوية الدولة السورية منذ إعلان أوّل استقلال لها في المؤتمر السوري العام في 8 آذار/مارس 1920 إلى اليوم إحدى القضايا المركزية في السجال السياسي والاجتماعي والفكري؛ فبعد قيام الكيان السوري الحالي، برزت على الساحة السياسية هويات أيديولوجية متعددة ارتبطت من جهة في ظروف الصراع الدولي والإقليمي على مناطق النفوذ في المنطقة، ومن جهة ثانية كانت هذه الهويات امتدادًا لتيارات سياسية – فكرية عالمية شكلت آنذاك نماذج ملهمة للحراك السياسي في سوريا والعديد من دول العالم، كان الأنموذج القومي الاشتراكي أبرزها”. “الزغير” بيّنت في السياق، أنّ أجواء الحريات السياسية والفكرية وطبيعة النظام شبه الديمقراطي القائم منذ بداية الأربعينات وحتى أواخر الخمسينات سمحت بأن “يبلور كل تيار سياسي نظريته حول أهمية الأمّة ومكوَّناتها الأساسيّة، وبأنّ تدخل هذه التيارات في سجال سياسي وعقائدي فيما بينها حول المفاهيم المتعلقة بالهوية”، مع إشارتها أنّه “على الرغم من تنوّع هذه الطروحات والمنظورات الفكرية، التزمت معظم التيارات بتعريف الدولة بالجمهورية السورية. لاحقًا، وخلال فترة الوحدة مع مصر (22 شباط/فبراير 1958 – 28 أيلول/سبتمبر 1961)، أصبحت الجمهورية السورية جزءًا من الجمهورية العربية المتحدة، حيث تحوَّلت هوية العروبة إلى واقع عملي بعد أن كانت شعارًا ونظرية”. لافتة إلى أنّه “بعد إعلان حلّ الوحدة، لم تتخيلَّ حكومة فترتي الانفصال عن “الهوية العربية”، وحوَّل اسم الجمهورية السورية إلى الجمهورية العربية السورية، في محاولة لنفي تهمة الانفصالية عنها، وإثبات التمسك بالهوية “القومية العربية”..”.

“الزغير” لفتت في مقدّمتها إلى أنّ “الاطلاع على أدبيات النخبة السياسية السورية ووثائقها في المرحلة بين عامي 1946 و1963، يبرز الحضور القوي والمتكرر لمفهوم (الأمّة) ولمفهوم (الهوية)، من دون أن يعني ذلك الاشتراك أو الاتفاق على تعريفهما. بل إنّه وعلى العكس من ذلك، يشير إلى اختلاف جليّ في فهم وتعريف كل حزب أو تيار سياسي لهذه المصطلحات؛ حيث يبدو مفهوم (الأمّة) واحدًا من أبرز المفاهيم الني جسدت إشكالية وعي السوريين بهويتهم، ليس من فجر الاستقلال فحسب، بل منذ عصر النهضة حتى اليوم. وإذا كانت ظاهرة الأمّة قد شكلت، في العموم، قضية موضوعية ومنطلقًا للنقاش حول التحوَّلات التي عاشتها المجتمعات منذ الحرب العالمية الثانية، وحول العولمة والنظام الدولي وصراع الحضارات، فإنّها بقيت في سوريا مسألة مطروحة للنقاش داخل بعض التيارات حين يتم تناول علاقة الأمّة بالدولة، والهوية الوطنية، ونظام الحكم ومستقبل الصراع السياسي.

  • التباس المفاهيم مع نشوء الدولة المعاصرة..

تضمن الكتاب تسعة فصول، بحثت ضمن رؤية تحليلية هادئة وقراءة جد عقلانية، جملة من التساؤلات مثل: “هل سورية المعاصرة جزء من كل أكبر، أم دولة – أمّة، أم تجميع لهويات وأجزاء مختلفة؟”، و”هل ساهم عدم إنجاز الدولة الوطنية الحديثة القائمة على العقد الاجتماعي بشكل تام وفعلي والذي يؤسّس لدستور يتوافق عليه الجميع، إضافة إلى حالة الالتباس النظري حول مفاهيم الوطنية والقومية والدولة في الوعي السياسي السوري، بأن يبقى مفهوم الأمّة وهويتها مفهومًا إشكاليًا ومتبدلًا من تيار سياسي إلى آخر؟ وبالتالي، لأن تبقى مسألة الهوية والانتماء الوطني موضوعًا للانقسام والتناحر بين الأحزاب السياسية منذ الاستقلال وحتى اليوم”.

حمل أوّل فصل في الكتاب عنوان: “الهوية السياسية والإشكالية الجغرافية والاجتماعية”؛ وفيه بحثت المؤلّفة التناقض بين الجغرافيا والولاء السياسي، والمسألة الاجتماعية والمجتمع السياسي. كاشفة عن التحدّيات الداخلية التي رافقت نشوء الدولة السورية وأحزابها السياسية، وأبرزها؛ أوّلًا: الإشكالية الجغرافية المتمثلة في مسألة التناقض بين جغرافية الكيان السوري الناشئ في مطلع عشرينيات القرن الماضي والانتماء السياسي إليه.

ثانيًا: الإشكالية الاجتماعية المتعلقة ببنية المجتمع السوري من حيث طبقاته ونخبه السياسية، ودور المسألة الاجتماعية في تشكيل التوجهات السياسية لكل حزب.

أما في الفصل الثاني، الذي جاء تحت عنوان: “التحدّيات الخارجية للكيان الوطني السوري”، فتعالج “الزغير” التحدّيات الخارجية للكيان الوطني السوري والإطار الإقليمي والدولي الذي نشأ فيه، مفككة مفهوم الوطنية والانتماء الوطني الذي تشكل في ظل الموقف من الآخر الخارجي وبالتحدي معه.

فيما تقدّم المؤلّفة عرضًا تفصيليًا في الفصل الثالث، المعنون: “المؤسّسة السياسية والمؤسّسات المحلية التقليدية”، لبنية مؤسّسة الدولة، وإلى أيّ درجة شكّل المجتمع السياسي السوري ومؤسّساته دولة وطنية حديثة، وأثر الانتماءات فوق الوطنية أو تحت الوطنية في مؤسّسات سياسية (كالأحزاب والبرلمان مثلًا).

إلى ذلك درست الباحثة السورية في الفصل الرابع، الموسوم بـ “أثر الفكر القومي الغربي في التنظير لمفهوم الأمّة”، ما أحدثه الفكر القومي الغربي، وخصوصًا النظريتين الفرنسية والألمانية، من أثر في الأحزاب القومية التي بدأت تُنظّر لمفهومَي (الأمّة) و(القومية) اللذين طغيا على مفهوم (الوطنية). معتمدة في هذا الشأن حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب السوري القومي الاجتماعي؛ بغية الكشف عن الإرث القومي الغربي في خطابهما النظري، وعلاقته بواقع ظهور هذه الأحزاب.

“بين الوطنية السورية والقومية العربية”، هو عنوان الفصل الخامس من الكتاب، وفيه تناقش المؤلّفة الازدواجية أو التأرجح بين مفهومي الوطنية السورية والقومية العربية في خطاب الأحزاب السياسية السورية، وإلى أيّ درجة يعكس هذا التأرجح إشكالية عدم التوافق حول تعريف الكيان السوري كدولة – أمّة، أو كقطر ينتمي إلى أمّة أوسع، إضافةً إلى الدور الذي تؤديه الظروف المحيطة وشبكة المصالح في تبدل استخدام هذين المفهومين.

فيما ناقشت وحلّلت في الفصل السادس، الذي جاء تحت عنوان “الأمّة واللغة”، علاقة الأمّة باللغة؛ ذلك أنّ لغة الضاد أدت دورًا مركزيًا في تشكيل الهوية العربية في العصر الحديث، إذ أنّ التيارات القومية العربية بَنَت تصوّرها للأمّة على أساس اللغة، التي هي المحدّد الأساسي والأوّل لكيان الأمّة؛ بناءً على أنّ وحدة اللغة هي محدّد وحدة الكيان القومي. باحثة في هذا السياق، “التصوّر اللغوي – التاريخي” عند ساطع الحصري، و”التصوّر اللغوي – الميتافيزيقي” عند زكي الأرسوزي، و”التصوّر اللغوي – السياسي” عند حزب البعث. وهي قبل هذا كله أكدت أنّ نضالات السوريين فرضت وحدة سورية في حدوها الحالية، ودعمت الرابطة الوطنية السورية، ما ساعد في إرساء مجال سياسي وفّر الفرص لبزوغ الأحزاب والكتل السياسية بتنوّعاتها المختلفة.

  • التاريخ بوصفه مرجعيَّةً للأمّة وعامل وحدتها..

يتناول الكتاب في الفصل السابع، الذي ورد بعنوان “الأمّة والتاريخ”، تساؤلات أساسيّة مثل: “علاقة الأمّة بالتاريخ”، خصوصًا التاريخ الذي شكّل في خطاب الأحزاب السياسية السورية مقومًا أساسيًا من مقومات تكوين الأمّة من جهة، ومرجعيَّة فكرية وإرثًا تُبنى عليه الأمّة المعاصرة من جهة ثانية. دون أن تغفل في سياقٍ تحليلي، إلقاء نظرة على موقع التاريخ في خطاب الأحزاب السياسية بشأن الأمّة، ولا سيما على مستوى الوظيفة، وعلى مستوى الدور الذي أداه. وفي هذا الفصل تعالج المؤلّفة التاريخ بوصفه مرجعيَّةً للأمّة وإرثها، وعامل وحدة لها.

وتُخصّص الباحثة السورية الفصل الثامن، “الأمّة – الاقتصاد – الطبقة”، لتقارب علاقة الأمّة بالاقتصاد من منظور الأحزاب السياسية، خصوصًا أنّ حزبين فقط طرحا دور العامل الاقتصادي في تكوين الأمّة؛ هما الحزب الشيوعي، والحزب السوري القومي الاجتماعي. لتوضّح بالتحليل أنّ الجدل تصاعد بين اتّجاه يرى أنّ الأمّة العربية هي أمّة مُكوَّنة، وقد مثّل هذا الاتّجاه القوميون العرب واليساريون غير الدائرين في فلك السوفيات، واتّجاه يرى أنّ الأمّة ما زالت في طور التكوُّن وأنّها تبقى كذلك حتى تتحقق وحدتها الاقتصادية، ومثّل هذا الاتّجاه الماركسيون الشيوعيون العرب الدائرون في فلك السوفيات، في حين يرى اتّجاه مثّله السوريون القوميون الاجتماعيون أنّ الأمّة متكوَّنة وأنّها تمثّل وحدة تامة، لكنَّ بعثها يحتاج إلى ما سمّوه النهضة القومية الاجتماعية، وبناء المتحد القومي الاجتماعي.

أما في الفصل التاسع والأخير، وعنوانه: “الأمّة والدين”، فتحلّل “الزغير” علاقة الأمّة بالدين الإسلامي، وفي الاختلاف الفكري الواضح بين الأحزاب السياسية السورية حول مسألة وحدة الأمّة على أساس الدين، وحول علاقة الدين بالدولة والسياسة. فإذا كانت عقيدة العروبة قد استطاعت إيجاد نقاط تلاقٍ مع عقيدة الإسلام، فإنّ عقائد أخرى كالشيوعية والقومية السورية كانت أكثر جذرية في استبعادها العامل الديني، على نحو تكون فيه المؤسّسة الدينية في ما يتعلق بالمؤسّسة السياسية مؤسّسة محايدة، على الرغم من أنّ تلك العقائد قدّمت نفسها، أحيانًا، كـ “أديان” جديدة.

إنّ ما يحسب للباحثة السورية خلود الزغير في تجربتها البحثيّة هذه، هو عدم استسهالها للجانب البحثيّ والمعرفيّ في نتاجها، حيث لم تعتمد كغيرها ممن يعملون على جمع ما نشروه من مقالات وبحوث في سنوات خلت في كتاب، إنّما احترمت قدسيَّة العمل البحثي، ومنحت الدراسة ما تستحقه من جهد ووقت، فكانت النتيجة كتاب سيبقى أثرًا للباحثين السوريين والمهتمين بتاريخ سوريا المعاصر.

جديرٌ بالذكر أنّ خلود الزغير كاتبة وشاعرة سورية تقيم حاليًا في باريس، درست علم الاجتماع في جامعة دمشق 2002، ثم انتقلت إلى باريس في عام 2007، فحصلت على ماجستير من قسم اللغات، في جامعة السوربون الجديدة “باريس 3″، في عام 2009؛ ونالت في عام 2017 درجة الدكتوراه في علم الاجتماع من الجامعة نفسها في اختصاص علم اجتماع المعرفة. وكان أن عملت معيدة في جامعة دمشق خلال المدّة بين 2005 و2007، ونشرت مجموعة من المقالات والدراسات في مراكز الأبحاث والصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية تتعلق بالوضع السوري المعاصر والراهن، وتحديدًا مسألتي الخطاب السياسي والهوية، إضافة إلى مؤسّسة الجيش السوري، وثورة شعبها منذ آذار/مارس 2011 وحتى يومنا هذا. كما ترجمت العديد من الأبحاث والمقالات من اللغة الفرنسية إلى العربية.

ولديها ثلاث مجموعات شعرية طبعت على التوالي في دمشق وبيروت وباريس.

نسْرُ لحظةٍ عابرة

نسْرُ لحظةٍ عابرة

نهايات

 استيقظْ.

أَتَسْمَعُ صفيرَ القطارات في حلمكَ؟

استيقظْ

ثمة سفينةٌ في المرفأ

طائرةٌ في المطار

سيارةٌ أمام الباب.

استيقظْ.

حقيبتكَ قرب الفراش

حين تُمْسك بها يدكَ وترفعها

لن تمتلك الوقت

كي تتذكّر حياتك السابقة.

هكذا كانت الأصواتُ تتحدث في داخله

بلغاتها الكثيرة

في مدينةٍ يمرُّ فيها الآلافُ كلّ يوم

تُروى قصصُ الآلاف كل يوم

تصبح اللغة فيها بحراً

تندفع أمواج كلماته كل يوم

إلى نهاياتها في الزبد.

صوت الريح

ثمة شيءٌ في الحجر

يذكّرني بنفسي.

أحياناً يتحدّثُ معي

وحين أصغي

لا أسمع إلا صوتَ الريح.

حجر

حجرٌ رماه المدُّ فوق الرمال

وغسله الضوء بمائه.

لم يومئ لي

لم يفتح حديثاً معي.

كان غارقاً في صلابته

منشغلاً بهموم من نوع آخر.

تمنيتُ أن أريحه منها

أن أمنحه لحظة اعتراف

وأصبح كاهن لحظته

لكن الحجر لم يكترث

كنت أنا الذي شعر به

حميمياً، قريباً مني

كما لو أنني أعانقه وأصغي إليه

وهو يقول لي:

تمسّكْ

تمسك بما بين ذراعيكَ

طالما أنت تسير على هذه الشاطئ.

قبور الأبناء

نتدافعُ في نفقٍ.

الضوءُ كان هنا

أو هكذا ظننا

وحين لم نتبيّن طريقنا

شعرنا أن الظلام يخرجُ من أعيننا.

ويتغذّى بأنفاسنا.

أمامنا لم تبنْ منعطفاتٌ

كان الطريقُ مستقيماً كرمحٍ

أو كسبطانة بندقية

في نهايته

لا يلوح ضوء في الأفق

لا شيء ينتظر أو يغوي

وإذا كان هناك شيء

فهو هناك

لأنه هناك.

كنا نضع أيدينا في جيوبنا

كما لو أنا نتحسّس

ذكرى معدن

أودعنا فيه أرواحنا

وبقيت سبائكه في الخزائن.

وفي الأمكنة الخالية

حيث سبق أن تعالت أصواتُنا أو ضحكاتنا

كان الهواء مسكوناً بما صنعناه بأيدينا

ونحن نحفر قبور أبنائنا

الذين لم يولدوا بعد.


نسْر
 لحظة عابرة

-1-

حين يفردُ النَسْرُ جناحيه

يأوي إليهما الضوءُ

كأنهما وطنٌ.

-2-

لم أرَ النسور إلا حين

غادرتُ مَسْقط رأسي.

تمنيت لو أن عينيْ طفولتي

سافرتا في أفق أجنحتها.

-3-

أحياناً تضيقُ السماء

على جناحيْ النسر.

-4-

في سماوات صدْره

يحلّقُ قلبُ العاشق كنسرٍ.

-5-

الذين لا يفرحون لمن يمتلك جناحين

يعيشون في الأقفاص.

-6-

كنْ نسراً في فضاء حياتكَ

لا تتوقَّفْ عن التحليق

نحو الذروات التي في داخلك.

-7-

أحبُّ الذين يحلقون بأجنحة الكلمات

الألحان

الألوان

لأنهم يشحنون الفضاء

بضوء الأجنحة.

-8-

نَسْرَ لحظةٍ عابرة

أسمّي نفسي وأنا أحلّقُ إليكِ

في بدايات الحب.

-9-

في بدايات الحب

تكون السماوات بلا نهاية

وَعْداً بضوءٍ يُسْكر الجناحين.

شجرة النار

-1-

لا تفكّر الوردةُ لمن تمنح عطرها

لا تبيعُ ولا تشتري.

كذلك الأشجارُ والينابيع.

-2-

القلبُ المليء بالحب

لا يعيش في الصدر فقط

بل يخفقُ في الأشياء كلها.

-3-

لا يأتي الحب من الشرق أو الغرب

من الشمال أو الجنوب

من الأعلى أو الأسفل

يشرقُ من الأعماق

ويوزّع ضوءه على الجهات.

-4-

الشجرةُ التي صارت حطباً في الموقد

تولد أغصانُها وأوراقُها وتموتُ في ألسنة اللهب

التي تصنع شجرة النار.

أغصانُ شجرة النار لا تعرف أنها ستنطفئ

لا تعرفُ شيئاً عن الرماد

تعيش حياتها إلى النهاية فحسب.


لغة
 الأشياء

-1-

المصباحُ المطفأ

المتدلي من السقف

يضيء الظلمة.

-2-

الشمعة تذوبُ على طاولتي

تصنع أشكالاً.

ذوبانُها نحّات.

-3-

كلبٌ يعوي

يخرج صوت العواء من فمه

كما يخرج صوت الكلام

من فم خطيبٍ على المنبر.

-4-

اللوحة المعلقة على الجدار

بابٌ دخل منه الرسام إلى نفسه

اللوحة المعلقة على الجدار

باب غادرتُ منه نفسي.

بدايةُ طريق المنفى.

-5-

العناقيد المتدليةُ من الدالية سماءٌ سوداء

حين يأتيكَ جوهرُها في كأسٍ

يُوسِّع السماء الزرقاء.

-6-

حين أسوق السيارة

وأكون وراء عجلة القيادة

أشعر أنني حيوانٌ معدني.

-7-

ما الذي يجعل العينين تتوهّجان:

إعجابهما بالشيء،

أم رغبتهما بامتلاكه؟

-4-

هل رأيتَ جثة الفرح محنطة؟

أنا رأيتُ قوماً

صنعوا إلههم من الكآبة

وقدموا فرحهم قرباناً له.

-5-

رسمتُ اليومَ لوحةً بعينيَّ،

تأملت الضوء وهو يغمر جناحيْ طائر البجع،

أو راقبت طائر البجع يغمس جناحيه في محبرة الشمس

ويكتب قصيدة الرحيل.

-6-

غادرتُ مدينتي منذ تسع سنوات.

حين أنظر إلى الخلف أقول:

كانت حياتي تزهر أحياناً

وفي كثير من الأحيان كانت

كمثل الغبار الذي يتوضع على الأشياء.

-7-

أوراقُ نَعْيٍ فوق بعضها

المدينةُ جداريةٌ للموت.

-8-

حجرٌ على الشاطئ

أحياناً يستعير لمعانه من الماء والضوء

في أحيان أخرى يستعير لحافاً من الزبد.

-9-

شمعةٌ على الطاولة

لا تملك شيئاً تقدمه للنهار.


في
 سان فرانسيسكو

في سان فرانسيسكو

لم تعد القصيدة تتجوّل في الشوارع

لم تعد تجلس في المقاهي

أو تبتسم للمشردين

الذين ينامون على أرصفة لامبالاتها.

لم تعد تمضي لياليها في البارات

أو تسير فوق الجسور

وهي تطارد بعينيها الشعاع فوق البنايات.

لم تعد تنظر في عينيْ العالم

لم تعد تكترث بقراءتهما

لم يعد يهمها انتشال الكلمات

من الآبار

حيث تسقط الأشياء سهواً أو عمداً.

في سان فرانسيسكو

يمرّ الضوء كلّ يوم

كسائق قطار على خط ثابت

ينهي نوبته جيئة وذهاباً

والبشر يخرجون من الأبواب ويدخلون

موجةً بشرية لا تكفّ عن التجمع والتلاشي

في بحر العمل.

في شقةٍ ما

أو قبْوٍ ما

تدخّن القصيدة سيجارة ماريجوانا

أو تحقن وريدها

أو تُفْرغ زجاجةً أخرى

في محاولة يائسة لسبْر وحدتها

بين دفتيْ كتاب.

توابيت

رأيت التوابيتَ مصفوفةً

في الشارع فوق الإسفلت.

الأجسادُ التي في داخلها

تنتظرُ رحلتها الأخيرة في قطار الأنفاق.

من نوافذ الشاشات

من نوافذ الصفحات

من نوافذ الأحلام

تطلُّ التوابيت

وتعوم في ماء نهر الإنترنت.

الدروب الوحيدة المشغولة

هي دروب الجنازات

الطرق الوحيدة السالكة

هي الطرق إلى المقابر.

كان الموت هو النجار الوحيد في البلاد

يجلس في منشرته الكبيرة

واضعاً ساقاً فوق أخرى

يدخن سيجاراً من الجثث

وينفث الدخان كي يصنع سماءه.


اكتشفتُ
 صوتي

اكتشفتُ صوتي على شاطئٍ

ليسَ لطفولتي آثارُ أقدامٍ على رماله.

خطفَ عينيّ

ربّاهما من جديد

وأشعرني بأنني طفلٌ

يُصْغي إلى أنفاس الأشياء

ويقرأ أحلامها.

حينَ أرى بياض أمواجه يندفع

في الفضاء ويعلو

ثم تنهار صخورهُ الزبدية

وتعود إلى أسرّتها المائية

حين أرى البياض يفتح

باباً

بابا معلقاً

لا أستطيع أن أدخل أو أخرج منه

يشعرني أنني وحيدٌ

على طرقات رياحه.


ورقة
 صفراء

ورقةٌ صفراء

عروقُها حادّة وجافة

تتوزّع إلى اليمين وإلى اليسار.

في وسطها يسري خطٌّ

كجرحٍ في القلب.

تتقلّب وحيدةً في الريح

والخريف في أوجه.

شعرتُ بأني أنا هي

وذكّرتْ جسدي،

بخطوطه وشرايينه،

أنه هاربٌ من خريفه.

كانت قوة الريح الخفية

تحمل الورقة إلى فلواتها السوداء.

وكنت أسير في تلك اللحظة

كي أتبدد كلي بين ذراعيكِ

تقودني قوة الحب.

ورقةٌ صفراء.

وجسدٌ يتورّد وهو يفكّر بكِ

كأنه تاريخٌ من الورود المتفتحة.

جسد يرقُّ

يصيرُ لمسةً

يصير همسةً

يصير مطراً من القبل

أوراقَ رغبةٍ

في ريح الحبّ الخريفية.


العبور

لم يعد يُسْمَح للدم

بالإقامة مُدّةً أطول في الشرايين.

المدنُ عالقةٌ في رمال أحلامها المتحركة

في صحراء السياسة.

الأنهارُ التي تعبرُ الخريطة بريدٌ

يرسل عبْره الموت جثثه الكثيرة.

المحاربون يحفرون الأنفاق

في جسد المستقبل.

وغداً حين تُشْرق الشمس

ويلمع ضوءها فوق شواهد القبور

وفوق الطرق المزروعة بالألغام

لن نلمحَ إلا أنقاض الجسور

أو آثارَ خطوات مهاجرين

نجحوا في العبور.


امنح
 نفسكَ

امنحْ

امنح نفسكَ هذا الهواء

الذي ينقلُ العطر

الشعاعَ الذي يسافر

في عروق الأوراق

الوهْجَ الذي يصنعُ الشجرة.

امنحْ

امنح لخطواتكَ الطريق

الذي يقودكَ إلى دهشةٍ أخرى

بحراً يتقدّم كله

كي يفتحَ لك باب النهار.

تمشي على طرقاتك البحرية

ظاناً أنك موجة قادمة من ماضيك

غير أنك تتقدم بجبروت لحظتك

بكلّ ما أنتَ.

هل تسأل الموجةُ عن بداياتها

في سرير الزبد؟

امنحْ نفسك نافذة الأفق

وأصْغ لهدير المياه

كأنه موسيقا تعزفها لك

أراغن الزرقة.

امنحْ نفسكَ

ما تحب عيناك أن تراه

ما يخفقُ له قلبك

ما تتوثّب ذراعاك لعناقه

ولا تنظرْ وراء هذا

ولا تلتفت.


مثلك،
 أيها الجسد

لا اسمَ لكِ

لا اسم لك

ودوماً تولدين.

تتقدمين إلى الشاطئ

دون أن تحسبي المسافة

بين ولادتك وموتك.

لا تفكرين أن تكوني نبعاً

أو مصباً.

هكذا،

طفرةً
ارتجاجاً

في جسد الماء،

ولادة مفاجئة

تندفعين

كما لو أنك البحر والشاطئ

الجناح والصخرة،

السماء والأرض.

مأخوذاً بكِ أيتها الموجة

أعيش أحوالكِ في جسدي.

أقول: للعبور نكهةُ فجرٍ قادم

وهذا ما تقوله أيضاً

أزهار الربيع المسائية.

هذا ما يقوله شعاعٌ

يتفتح حولها متناثراً هنا وهناك

كأنه يريد أن يمنح نفسه في أزهار كثيرة

كأنه يقول:

أنا مثلكِ أيتها الموجة

مثلكَ أيها الجسد

لا أتوقّف عن العبور.

*تنشر هذه المادة بالتعاون مع جدلية.

على طرقي البحرية

على طرقي البحرية

فوق المحيط

١

سأرشّ حول جسدكِ طحيناً

كما فعلَ أنكيدو حول جسد جلجامش

كي أتوهّج في شمس أحلامكِ

كي تشعري بطعمي
في لقمة الخبز في فمك.
فأنا أعيشُ في النار
التي تُنضجُ الرغيفَ الذي تأكلين منه.

 

٢

ليس الحبّ قصةً أرويها

فأنا لا أعودُ إلى الذكريات

ولا أفتحُ صناديق في زوايا غرفتي

كي أبحث عن رسائل قديمة

بل أترك باب حياتي مفتوحاً

كي تدخلي إلى الغابة

التي أعيش فيها وتبحثي عني

وهنا، إذا ما عثرتِ عليّ

سنزرع شجرة أخرى باسم الحب.

 

٣

بحثنا عن أيام أكثر راحة

عمّ يختصر المسافات بيني وبينك.

سافرنا في أذهاننا قليلاً

إلى أمكنة عشنا فيها

حين كنتِ تصعدين الدرج

وكنت أراقب خطواتك

وأخالهما في أوقات كثيرة

جناحين يرفعانك

وكنت أنظر إليهما يحلقان بك

ويتغلغل فيهما الضوء في الأعالي.

 

٤

كان الحب أحياناً

يصنع الفضاء ويوسّعه

يفتح أبوابه كلها ويزيح الستائر.

وفي أحيان أخرى

كان يوزع غيومه

يرعد ويبرق وتسقط أمطاره

وحينها نكون متعانقين

في صاعقة جسدية

تسقط فوق شجرة الرغبة.

 

٥

حين جاء الموت

لم يكن هناك حياة إلا في وجهكِ.

وحين جاء الظلام

لم يكن هناك وهج إلا في عينيك.

لم نلمح طريقاً آنذاك

كان المحاربون يعبرون على الدراجات النارية

وكنا نلمح التوابيت فوق كتفيْ

المدينة وهي تحني رأسها

في طريقها إلى المقبرة.

 

٦

في فجر أحد الأيام أيقظتْنا انفجاراتٌ

صنعتْ سماء من الدخان

وأصواتٌ خدشتْ لحم السماء بأظافرها الفولاذية.

غادرنا حينها البيت

أغلقنا الباب وراءنا

محونا أشياءنا وراءنا

لم يكن يتوهج في أعيننا

إلا ضوء الرحيل.

 

٧

وفي طائرة في الفضاء

شعرنا أننا ضائعان

أننا لن نصل إلى أي مكان.

كان كل شيء خلفنا يختفي في الدخان

وأيامنا القادمة

ضائعة في صوت المحركات العملاقة

فوق المحيط.

  

المدينة التي عشتُ فيها

 السماءُ فيها سقفٌ لصالات العزاء

والضوء غبارٌ يتساقط، تنثرهُ الريح

على ملامح وجهها الممحوة.

نهرُها الذي يجفّ في جسدٍ متصحّر

حنجرةٌ من الرمل ترتّل الأناشيد لمطرٍ لا يهطلُ.
أما ليلها الذي يعشقهُ الشعراء فمبقّع
بأضواء تنطفىء الواحد بعد الآخر
ليس لأن الفجر قادم بل لأنها
لم تعد قادرة على التوهج.
الأشجار التي بقيت فيها
ضيّع الربيع طريقه إليها.
تعرفُ هذا كلماتٌ تخرج مذعورةً
من الأفواه في المقاهي.
يعرفُ هذا من يرى كلمات كاذبة
تخنقُ عناوين الصحف.
تعرف هذا أحلامٌ لا تتحقّق
وأعينٌ ترى من ثقوب في الحصار.
فوق حاراتها الملوّثة
حيث يتدفّقُ نَهْر الأسلاك
تبدو الشمسُ باهتةً ككرة قدم مغبرّة
شاطها أحدهم وبقيت عالقةً في الأعلى.
المدينةُ التي أمضيتُ فيها نصف حياتي
كانت دوما تفتحُ لي الباب
لا لكي أدخل إليها بل كي أغادرها.

 

ريح الخوف

١

شيءٌ ما يرجّ الكوكبَ

يرميه

في ريح الخوف.

 

٢

كان الكوكبُ دوماً

على حافّة الهاوية.

الغريب أنه لم يسقط.

 

٣

شوارعُ المدن خالية.

الموتُ ينتظرُ في الشوارع

في السيارات المركونة

على شواطئ البحار

على خشبة المسرح

في الأوراق الأولى للصحف

في البارات

والمدارس

في القبل والمصافحات

في عواء الكلاب الضجرة

وتصريحات السياسيين.

 

٤

سجادة الصلاة

تحلّ خيوطها

كي تصنع كمّامة.

الدعاء

لا يعثر على خشب

كي يصنع سلماً للصعود.

 

٥

أنشغلُ الآن

بترتيب المائدة

كي أجلس إليها

أنا والوحدة.

 

٦

الكأس الممتلئ أمامي

يشعر أنه فارغ.

يدي تشعر أنها

ليست يدي.

صرنا جسوراً

يعبر عليها الموت

وها أجسادنا تتدلى منتظرة

على أغصانها الذابلة.

 

٧

كما يعيشُ الموتُ في قبرٍ

يعيش في اللامبالاة.

في أيد لا تعرفُ معنى عناق

لا حاجة إليه.

 

٨

بما أنني خلف الجدران الآن

أحبّ أن أسأل نفسي:

ألم أكن خلفها من قبل؟

 

٩

العالم موحشٌ الآن

شوارعه مهجورة

والبشر يهربون من بعضهم.

واقعٌ أراد

أن يكون أكثر وضوحاً.

 

١٠

لو وُضع للجسد البشري تاريخ،

ماذا هناك غير الموت؟

 

١١

حتى في أوج شعوركَ بأنك نَفَسٌ عابر

حفيفٌ في أوراق أشجار اللحظات،

حتى لو كنت تعرف

أنك لا تستطيع التمسك

بأي شيء

ابْنِ، ابْن حديقة للفرح

وازرعْها بالورود.

 

١٢

لا أحب الدعاء

وإذا ما استمرت الحياة

حتى العكاز يمكن أن يكون

حفيداً، كما قال الهنود الحمر.

 

١٣

يسير البشر واضعين كمامات على وجوههم

نظراتهم قلقة

ثمة شيء ما يتربّص بهم في الخارج.

لكن في الأعين نفسها وهج

لا يمكن أن يطفئه أي شيء.

 

١٤

كان الشاطئ مهجوراً

خُيّل لي أن الأمواج والغيوم خائفة

وهي على حق إن كانت هكذا

تعرف أنه لا معنى لها

دون أعين تنظر إليها.

 

١٥

كان الشاطئ مهجوراً

والطيور قلقة.

كان صوت الريح مختنقاً

وهي تهب فوق دروب خالية.

 

هذا هو الجسد

 ١

رغم أنه يتمنى ذلك أحياناً،

لا يستطيع الجسدُ

أن يصبح حجراً.

 

٢

الجسد موجةٌ

وفي غالب الأحيان

يكون البحر في داخله.

 

٣

تتجمّع الغيوم في السماء

وتلعب الريح بأشكالها وتبدّدها.

هذا هو الجسد.

 

٤

حين ييدأ الطريق ولا ينتهي

حين تبحر السفينة وتضيع البوصلة

هذا هو الجسد.

 

٥

في منقار النورس المحلق فوق الماء

كائنٌ بحري يتدلى.

هذا هو الجسد.

 

٦

اليوم، في مزيجٍٍ

من الأصداف والرمال

رأيتُ آثار أجساد قديمة.

 

٧

في الأعشاب التي تطلع

من شقوقٍ في القبور وحولها

يشير الجسد إلى طرقه.

 

٨

يولد الجسد أكثر من مرة في الحب

وبعد ذلك إذا اختار مسكناً

يكون عادةً الريح.

  

حين عشقتُ أول مرة

١

حين عشقتُ أول مرة

كانت قدماي تتسلقان الجبال وتهبطان السفوح

كالهواء الذي تميل فيه الأعشاب.

 

٢

حين عشقتُ أول مرة

كنتُ أرى نفسي بعينيها

وكنتُ معجباً بنفسي.

 

٣

حين عشقتُ أول مرة

شعرتُ أن الانتظار

ثمرةٌ يتقطّر عصيرها بين شفتيَّ الظامئتين.

 

٤

حين عشقتُ أول مرة

لم أعرف قلبي ولم يعرفْني

كما لو أنه خفقَ في صدرٍ آخر.

 

٥

حين عانقتُ أول مرة

لم أر ما كنت أعانقه ولم أر نفسي

كنا جسدين ضائعين في بعضهما.

 

٦

حين قبّلتُ أول مرة

شعرتُ أنني ضائع ولا يمكن أن يخرجني

من المتاهة إلا قبلةٌ أخرى.

 

٧

حين قبّلْتُ أول مرة

عرفت أن للشفاه وروداً تتفتّح

وأن لها عطراً ينتشر.

 

٨

حين عانقتُ أول مرة

عثرتُ على نفسي بين ذراعيكِ

وحين خرجتُ من بينهما ضعتُ من جديد.

 

٩

حين يعشق المرء

يعشق دوماً لأول مرة

كما لو أن الحب ينجبه كل مرة.

 

الطائر الطنان 

١

حين يُحلّقُ الطائر الطنان

تُصْبح أجنحتهُ لامرئية.

هل يريد أن يتحوّل إلى هواء

أم لأنَّ الرحيق يُسْكره؟

 

٢

كما يعيشُ الطائر الطنان على رحيق الأزهار

أعيش على رحيق الكلمات

التي تهمسُ لي شيئاً.

 

٣

كان اللون الأخضر كثيفاً في ذلك اليوم

كانت الأشجار تنوء به

كأنها تتمنى عودة الضباب

كي يخفف من وطأته.

 

٤

العلاقةُ بين نسبة الرطوبة في الهواء

وسقوط الضوء على الطائر الطنان

هي ولادة قوس قزحٍ في ريشه .

 

٥

حين يسقط الضوء

على ريش الطائر الطنان

يهاجر من ذاته ويصبح آخر.

 

٦

ما الذي يجري لي؟

كلما رأيتُ جناحيْ الطائر الطنان

تمنيتُ لو أنهما على جسدي.

 

٧

يا مدينة ولادتي النائمة

فوق الشاطئ الصخري

لستُ طائراً طناناً

كي أحلّق نحو الأعلى والأسفل

كي أطيرَ جانبياً أو بالمقلوب

أو كي أحلّق مثله باتجاه الوراء

حين أحنّ إليكِ.

لا حاجة كي أفعل ذلك يا مدينتي

فأنت تعيشين في داخلي

والعلاقة بيني وبينك

تاريخٌ من الأجنحة

التي بلا فضاء.

  

على طرقي البحرية

الفجرُ ضبابيٌّ

على طرقي البحرية،

وصدْر المياه ليس رحْباً

كل شيء هاجعٌ

 وراء باب عزلته.

الريح تسرعُ كأنها تنوي

العودة من حيث جاءت

والضوء يبهت

 كأنه يفكر بالاحتجاب في مصدره.

شعرتُ بثقل وحْدتي

وبثقل الفراغ على جسدي.

ربما لن يغيبَ الضوء طويلاً

لكن هل سيكشفُ حين يأتي

غير ما حجبه الضباب؟

كانت المدينة تتقلب على سرير الأرق

تنتظر خبراً

يدلي حبله في الهاوية.

تُربة العالَم المجروفة

تُربة العالَم المجروفة

مُحتفظاً بحقِّي في وصفِ الإعصار

مُتنازلاً عن دنانير ما بعدَ المديح

أحلامي ابتزازُ الحياديِّ

ذلكَ المخروطيٌّ الذي أمزِّقُهُ بالمُباغَتات.

أصْلُكَ أنْ تكونَ لمساتُكَ بلا سوابق:

… قلبُكَ -ـ بلا مأوىً مذ سنوات ـ

يعملُ في إحصاءِ ما لا يُعدُّ

وعيناكَ تنسُبان ما تراهُ

إلى الصَّوت.

في التَّقديم والتَّأخير أحفرُ

ولا أعثرُ على الكنز الموعود

لكنَّني مُستمرٌّ كاللَّعنةِ

حتّى لو غرسْتُ إزميلاً في صدري أوَّلاً

ثمَّةَ سرٌّ يزحفُ كالأفعى تحتَ جلدِ الاستفسار

وينابيعُ حارقةٌ تقتاتُ عليها الحركةُ في عظامي.

أنا غريبٌ مهما بدَتِ ابتسامتي أليفة

والشَّوكُ كُلّ ما يظهَرُ من وردةِ روحي.

حُزني فكاهةٌ تتولَّدُ منها فراشاتُ ضحكٍ بالتِّكرارِ المُختلِفِ الأخّاذ

وبالدّفقةِ الكاملة لا خسارةَ لمُحاوَلاتِ الدُّموع أنْ تأخذ أشكال أشجار مُثمرة.

لا نفتقدُ الدَّهشةَ في الألم

نُعطي من قعرِ الوريدِ

لنأخذَ من شاهقِ النّورِ

شغفٌ شغفٌ

يُضيءُ المرويّات بالغنائيّات.

لستُ وحيداً في هذا المُنحنى

لي شركاءُ مغمورون

كأنَّني طريقٌ أعطى ظلامَهُ طواعيةً للغابة

أتقافزُ على قرون المخلوقات المُخيفة

ولا أعترفُ بالكوخ المصنوع من القصب

الرَّسائلُ أوهامٌ مُستمرّة عمّا تقولُهُ الفكرةُ

والمطرُ طردَ الحبرَ من قصيدتي.

مَنْ يرسمني الآنَ

من هواة القاعات المُغلَقة

خُدِعَ بجذوري

ولم يعرفْ أناملي في الهواء الحُرّ المطعون.

ألتحفُ ما يُمليهِ عليَّ البَحرُ

جميعُ المسافاتِ رثاءٌ مُتعدِّدُ الأوزان

غريبٌ أنْ تتعدَّدَ الاعترافاتُ إلى هذا الحدّ

وتبقى السَّبّابةُ مُشيرةً إلى الجهات بكُلِّ ثقة:

… رُبَّما الجهاتُ

زوائدُ عبقريّة للإخفاق.

الكراهيّةُ وردةٌ بلاستيكيّة قاسية

والمحبّةُ لم تكُن يوماً

وردةً طبيعيّة

إنَّها دائِماً

تُربةُ العالَم المجروفة.

 

الدراما السورية: صرخة رسخت الذعر

الدراما السورية: صرخة رسخت الذعر

صحيح أن الدراما السورية انطلقت وحققت انتشاراً ونجاحاً في السنوات الأخيرة، وخاض العديد من المخرجين السوريين مواضيع جريئة وتبدو للوهلة الأولى متجاوزة للخطوط الحمراء وأولها طبعاً الأجهزة الأمنية في سوريا. لكن ثمة رسالة لكل عمل فني وإبداعي. فأية رسالة أوصلتها تلك الأعمال الدرامية الجريئة والناجحة جداً للجمهور السوري والعربي. سأعطي مثالاً عن مسلسل تم إنتاجه في 2018 (أي بعد الثورة السورية)، وهو مسلسل (ترجمان الأشواق) بطولة ممثلين مبدعين غسان مسعود (الذي مثل في أفلام هوليودية وأصبح نجماً عالمياً) والممثل المبدع عباس النوري. قصة المسلسل  تحكي عن سجين سياسي (عباس النوري) هرب من سوريا إلى أميركا وبقي فيها عشرين عاماً، ويأتيه خبر أن ابنته الوحيدة ذات العشرين ربيعاً خُطفت، وهو لا يعرف ابنته لأنه حين هرب من سوريا إلى أميركا كانت طفلة صغيرة. ويبدأ صراعاً شرساً في نفسه حول كيفية العودة إلى سوريا (وهو السجين السياسي الهارب منها) وضرورة عودته للبحث عن ابنته المخطوفة. ويقرر أخيراً العودة إلى دمشق كي يبحث عن الخاطفين لابنته الوحيدة، وما أن يصل إلى دمشق حتى يتم إستدعاؤه إلى أحد الفروع الأمنية، ولا أحد من أسرته  (أمه العجوز وأخته وصهره) ولا أصدقاؤه (غسان مسعود الذي يعمل طبيباً جراحاً في المسلسل) وغيرهم من المعارف والأصدقاء، لا أحد يعرف أي فرع مخابراتي استدعى السجين السياسي السابق الذي تبين أنه شيوعي لأن مكتبته تضم كتباً عن لينين. وتبدأ حالة من الهيجان والهستيريا عند كل فرد من أسرة السجين السياسي وعند أصدقائه في الترجي والتذلل لشخصيات ذات مناصب عالية في الدولة ومعظمهم ضباط فقط ليعرفوا في أي فرع من فروع أمن الدولة احتجز إبنهم. حالة مُروعة من القلق الذي يصل حد الذعر تصيب أهل السجين السياسي وهم يبحثون عنه في فروع الأمن. ونجد السجين السياسي وهو مترجم مهم ومؤلف كتب جالساً بكل ذل أمام المحقق في أحد فروع المخابرات يسأله المحقق عن رأيه بما يجري في سوريا، فيلتزم الصمت، ويسأله إن كانت له علاقة بتنظيمات معادية للنظام السوري، ثم يطلب منه أن يكتب على ورقة كل تفاصيل حياته وبالتفصيل الدقيق، فيقول له السجين السياسي السابق: لكنكم تعرفون تفاصيل حياتي تماماً فلماذا أكتبها؟

أكثر من عشر حلقات في بداية المسلسل تصور تسلط الأجهزة الأمنية في حياة السوري والرهاب الذي يحسه تجاهها، لدرجة يصبح موضوع المسلسل ليس بحث الأب عن خاطفي ابنته بل الخوف لدرجة الشلل والذعر من سطوة الأجهزة الأمنية على حياة السوريين، والسيناريو المُتقن والتصوير الآسر لممارسات الأجهزة الأمنية، على مدى أكثر من عشر حلقات نرى أقرباء السجين السياسي وأصدقاءه يدورون مُروعين من مسؤول إلى مسؤول فقط ليعرفوا في أي فرع أمني هو! يحضرني الكثير من المسلسلات التي ناقشت سطوة الأجهزة الأمنية في سوريا مثل مسلسل (غزلان في غابة من الذئاب) للمخرجة المبدعة رشا شربتجي حيث حكت بالتفصيل وبمصداقية عالية عن ممارسات (يعرفها بالتفصيل كل أهالي اللاذقية تحديداً) عن أحد الشخصيات من رأس النظام الذي روع أهل اللاذقية بممارساته السادية المجنونة كأن يطلب من مجموعة رجال كهول وعجائز في مقهى أن ينبطحوا تحت الطاولات ثم يقوم بإطلاق النار في الهواء وهو يضحك ضحكاً هستيرياً، أو يختار أجمل فتيات اللاذقية ليصبحن عشيقاته ويقتحم بيوت أهلهن في منتصف الليل ليطلب لقاء الصبية التي يريدها عشيقة. وأدت ممارساته إلى هرب العديد من العائلات في اللاذقية خارج سوريا خوفاً على بناتها من الجنون والسلطة المطلقة لأحد أهم شخصيات النظام الذي لا يجرؤ أحد على محاسبته. أبدعت المخرجة رشا شربتجي في هذا المسلسل وشعر أهل اللاذقية بالنشوة كما لو أنهم ينتقمون بطريقة ما من السافل المجرم الذي أذلهم والذي اشترى شهادة الحقوق وفتح مكتب محاماة. الكثير من المسلسلات والحلقات التلفزيونية خاصة (بقعة ضوء) وتحديداً الحلقات التي كان يعدها ويكتبها المخرج الوطني الراقي ياسر العظمة الذي أبدع في عرض حلقات ساخرة وجريئة حول ممارسات الأجهزة الأمنية وسطوتها وصلاحياتها المطلقة في الهيمنة على حياة الناس. ولا أنسى في أحد الجلسات التي ضمت العديد من الشخصيات الأدبية والفنية وكان أحد أهم ضباط الأمن في سوريا في الجلسة (لأنه أخ أحد المثقفين)، أذكر أنه اعترف متباهياً أنه كان هو شخصياً من يعذب المعارض عارف دليلة. وكان في الجلسة أحد أهم المثقفين الذين أخرسهم هذا الاعتراف الوقح كأنه صفعة، خاصة أن معظم هؤلاء كان قد سُجن لسنوات طويلة بتهم عديدة كالانتماء إلى رابطة العمل الشيوعي أو غيرها.

السؤال الوحيد الأهم الذي يطرح نفسه: ما تأثير هذه الدراما التلفزيونية السورية الناجحة جداً جماهيرياً وذات الحرفية والفنية العالية والتي تبدو أنها تنتقد بجرأة عالية متجاوزة الخطوط الحمراء والأجهزة الأمنية وسطوتها وكيف يعيش الناس مُروعين من سطوة الأجهزة الأمنية! في الواقع هذه المسلسلات ورغم أنها ساعدت الناس كي تنفس عن آلامها وإحساسها بالظلم والقهر وكأنها كانت صرختها المكبوتة لسنوات طويلة، لكن في حقيقة الأمر فإن كل هذه المسلسلات رسخت في وعي الناس ولا وعيهم حقيقة السلطة المطلقة لأجهزة الأمن، وبأنه لن يحصل أي تغيير على أرض الواقع؛ وبأن الاستبداد يتكاثر؛ وبأن شخصية السادي المجرم (كبطل مسلسل المخرجة رشا شربتجي في مسلسل غابة من الذئاب) قد ناب عنه ما هو أوحش منه وأكثر إجراماً ووحشية، وكان من هرم النظام وفوق القوانين، وهو من خطط لخطف العديد من الشبان الأثرياء وطلب فديه بالملايين عنهم. ودفع أهالي المخطوفين الملايين بصمت وذل ولم يجرؤ أي منهم بتقديم شكوى ضد المجرم مطلق الصلاحيات. وأحد الشبان الأثرياء المخطوفين كان من معارفي وكان في الـ 37 من عمره، وحين حرره المجرم من الخطف بعد أن دفع أهله 60 مليون ليرة سورية للخاطف الخارج عن القانون، زرته لأقول له الحمد لله على سلامتك. وطول ساعة قضيتها عنده في البيت لم ينطق بكلمة واحدة هو وزوجته وكل سؤال كنت أسأله له أو لزوجته كان جوابهما الوحيد: “يكثر خير الله”! أي ذل وذعر يعيشه الإنسان السوري الذي لا يجرؤ أن يقول كلمة واحدة حتى بعد أن دفع الملايين لتحريره من عصابة الخطف التي يقودها شخص لا يجرؤ أي قاضي على محاسبته. وهذا المواطن المسحوق الذي يعرف سلفاً أن لا جدوى من التقدم بشكوى بحق الخاطفين، بل كل ما يمكنه قوله: “يكثر خير الله”.

للأسف هذه الأعمال الدرامية السورية خاصة تلك التي انتقدت بفنية عالية ومصداقية عالية ممارسات وتسلط الأجهزة الأمنية في سوريا على حياة الناس، لم يكن لها أي تأثير على أرض الواقع، فتسلط الأجهزة الأمنية ما زال كما هو، بل أزعم بأن هذه الأعمال الدرامية التي سمحت بشيء من التنفيس وفشة الخلق للمواطن السوري من ممارسات الأجهزة الأمنية فإنها في الواقع رسخت في لاوعيه المزيد من الخوف والذعر من فروع المخابرات مُطلقة الصلاحيات. ولأن لا شيء يتغير على أرض الواقع. بالتأكيد لا أنكر أن الكثير من التنظيمات الإرهابية والسلفية مارسات ممارسات وحشية بحق الشعب السوري وخاصة الناشطين منه وخطفت وقتلت وتوحشت، وأن جبهة النصرة وغيرها من التنظيمات الإرهابية أوغلت في أعمال الإجرام بحق الشعب السوري وبدعم من دول إقليمية عديدة. لكن ما أردت إلقاء الضوء عليه هو تلك الأعمال الدرامية السورية التي حققت نجاحاً لافتاً وشعبية كبيرة لدى الإنسان السوري المُروع من سطوة الأجهزة الأمنية. فهذه الأعمال تظل كمزهرية للزينة فقط، وسط خراب كبير في سوريا هدم الحجر وكبرياء البشر وإحساسهم بكرامتهم وعزة نفسهم.

وبما أن شهر رمضان الفضيل حل أماناً وفرحاً في نفوس الكثيرين، وبما أن هناك ازدحام كبير في عرض المسلسلات الخاصة برمضان (أي التي تُعرض عرضاً أولياً في رمضان)؛ فقد سمح لي فقر الحياة في سورية والفضول في معرفة الجديد والقديم الذي تعرضه هذه المسلسلات المُخصصة للشهر الفضيل. فقد رُوعت حقاً من التدني الفكري والفني لمعظم هذه المسلسلات وأحب أن أذكر بضع نقاط أساسية فيما يخص الدراما الرمضانية:

أولاً: هناك (وكل سنة في شهر رمضان) ما يُسمى مسلسلات أو دراما النجوم كما لو أن هناك قاعدة أن يكون لكل نجم مسلسل خاص به ويقوم ببطولته (كما لو أنهم يُفصلون بدله للممثل) فمثلاً كل سنة وعلى مدار سنوات من دراما رمضان يجب أن يكون هناك مسلسل بطولة الممثلة يسرى ومسلسل آخر بطولة عادل إمام. ومسلسل أو أكثر بطولة عابد فهد ( لذي كرر عدة أدوار كضابط أمني متوحش حتى حفظ الدور ظهراً عن قلب)، وكذلك الممثل جمال سليمان الذي يجب أن يكون له بطولة مطلقة في مسلسلات رمضان. كذلك في الدراما اللبنانية ثمة ترسيخ لنجوم معينين مثل كارين رزق الله وشوقي أبي شقرا. لا أقلل من القيمة الفنية لهؤلاء المبدعين النجوم لكن صدقاً الناس أصابها الملل منهم، خاصة أن الأدوار تُفصل على شخصيتهم أي يتم إبتكار أحداث وكتابة سيناريو حسب رغبة النجم. وغالباً ما يختارون أن يكون دورهم مثالياً وأخلاقياً كما لو أنهم واعظون ومبشرون للخير والفضيلة. أما مواضيع المسلسلات بشكل عام فهي بحالة قطيعة تامة مع واقع الناس وظروف حياتهم. الكثير من المسلسلات تكون القصة فيها الخيانة الزوجية (مثل مسلسل بردانه أنا اللبناني وأولاد آدم لمكسيم خليل، ومسلسل ليالينا 80 المصري وغيره)، وكأن موضوع الخيانة الزوجية هو أزمة الناس في العالم العربي (الذين – كما أعتقد نسوا الجنس وجنسهم) وأصبحوا لاهثين وراء رغيف الخبز ومهددين بالموت جوعاً. ومن الضروري الإشارة إلى عدة مسلسلات سعودية كُتب عنها كثيراً وحضرت بعض حلقاتها وأنا مذهولة وهي تروج علناً للتطبيع مع إسرائيل. وللأسف لم تتعرض تلك المسلسلات للنقد الجاد بل ثمة تواطؤ على التغاضي عنها. معظم مواضيع هذه المسلسلات هزيلة وغير مقنعة ومُفتعلة وتعتمد على الإطالة وتكرار المشاهد لغاية أن يكمل المسلسل 30 حلقة. لا يوجد مسلس عالج موضوع البطالة في العالم العربي وهجرة الشباب اليائس من إيجاد وظيفة في وطنه ولا ظاهرة انتحار الشباب يأساً (كما حصل في تونس وفي لبنان مثلاً)، ولم يتجرأ أي مسلسل أن يشير بشجاعة وصراحة إلى فساد الطبقة الحاكمة، بل دوماً هناك فاسد كبير وناهب للمال العام وعادة يكون تاجر مخدرات ويتمكن غالباً من شراء براءته برشوة القضاء؛ أما هذا الفاسد فلا أحد يعلم من يدعمه وواضح أن كل الطبقة السياسية تدعمه وفي كل العالم العربي (كلون يعني كلون)، لكن لا أحد يجرؤ على المس بشخص النائب أو الوزير (في كل بلدان العالم العربي) وفضح الـ(كلون يعني كلون). مواضيع رمضان هذا العام تُثير الخجل لضعفها الفني والفكري وانفصالها عن الواقع.

ثانياً: من الضروري أن نشير إلى شكل النجمات أو الممثلات أو تجاوزاً الحسناوات، المبالغة في عمليات التجميل وخاصة نفخ الشفاه والخدود ووشم الحواجب بطريقة معينة حيث يبدو الحاجب كخط عريض بعرض الإصبع معيب، كذلك المبالغة في حقن البوتوكس الذي يشل العضلات فيفقد الوجه قدرته التعبيرية. صدقاً لم أعرف مثلاً الممثلة الجميلة (رواد عليو التي لعبت دور عفوفة في ضيعة ضايعة وكانت جميلة جداً وجمالها طبيعي) بعد أن غيرت كل ملامح وجهها من نفخ شفتين وخدود ووشم حاجبيها. صدقاً لم أعرفها، صارت كما يسمونهم في فرنسا (دمية كولاجين) وغيرها من الممثلات اللاتي أصبحن صورة نمطية واحدة لمفهوم الإثارة والجمال ولا أعرف من يحدده! منظر نيكول سابا الجميلة أساساً أصبح مُنفراً بعد حقن شفتيها، كذلك ملكة جمال لبنان سابقاً نادين نجيم أستغرب لماذا حقنت شفتيها وغيرهن كثيرات. كما أن المبالغة في إظهار المفاتن بالثياب الضيقة جداً والفساتين القصيرة والشورت وغيره غريب عن بيئة مجتمعاتنا المحافظة. واضح أن غاية المنتج والمخرج جذب أكبر عدد من المشاهدة عن طريق إغواء وإغراء المشاهد بالممثلات الحسناوات. أستغرب هذا الاستهتار والخيانة للفن الراقي والمقنع للمشاهد فميريل ستريب الحاصلة على أربع أوسكارات لم تقم بحقن نقطة بوتوكس في وجهها وفي مقابلة معها قالت: “أنا أعبر بملامح وجهي، كل خط في وجهي يعبر”. كذلك صرح جورج كلوني الممثل العالمي أنه ممنوع على الممثل تغيير ملامح وجهه لأنها أداته في إيصال الانفعالات والأحاسيس للمشاهد. بينما نجد نجمات مثل نبيلة عبيد وناديا الجندي وبوسي ويسرى وغيرهن بوجوه من كولاجين، ملامح جامدة ولا يوجد خط واحد في وجوههن المنفوخة وقد فقدن القدرة على التعبير. للأسف سقطت معظم الممثلات الشابات في العالم العربي بفخ التجميل، ما يعكس ضغط المجتمع على النساء وإحساسهن بعدم الثقة بجمالهن لدرجة تشعر فيها أجمل نساء المجتمع على شاشات تلفازنا بالضغط لاجراء عمليات تجميل قد لا تمنحهن الثقة التي حرمهن منها المجتمع.

ثالثاً: وأخيراً يؤسفني وأستغرب لماذا تغيب معظم البرامج الهامة الثقافية والاجتماعية الهامة والراقية والتي تعني حقاً بوجع المواطن في شهر رمضان الحالي! هل ثمة تعارض بين حشد التسلية في شهر رمضان والثقافة الأصيلة الجادة!

الانتظار وحرائق جدتي

الانتظار وحرائق جدتي

آلاف المشاهد تزدحم في ذاكرتي لأصدقاء وأبناء غادروا على عجلٍ دون أن يلتفتوا خلفهم وكأنّ رحلة هروبهم لم تكن إلا لعبة غميضة قصيرة الأمد يلعبونها في زوايا المكان لكنها طالت وامتدت بعيداً إلى أماكن الشتات في كافة أصقاع الأرض. سأروي يوماً قصص الشوق المعلّق على محاجر الأمهات في انتظار أبناءٍ لن يعودوا، أبناءٍ دفنتهم الحرب وغابوا في شقوق الأرض وآخرون غيبهم سراب الطريق الطويل في غربةٍ لا نهاية لها. “لن أتأخر في غيبتي” هكذا أخبروا أحبتهم ظناُ منهم أنّ العودة قريبة، كانوا في لحظتها على ثقةٍ بأنّه رغم كل هذا الرعب والدمار الذي خلفته سنوات الحرب السورية الطويلة لابدّ وأن يحظوا بلحظة وداعٍ أخيرة حرموا منها جميعاً، فكل الحروب تنتهي عاجلاً أم آجلاً. أما اليوم فلم يبق لهم سوى الانتظار، وحده الشتات كان بانتظارهم وحدهم.

 كنتُ واحداً ممن غادروا هذه البلاد وعدتُ إليها بعد أن كاد يخنقني الحنين. أقف اليوم عند عتبة بيت جدي مستعيداً ذاكرة طفولة ضبابية كالحلم، وكما في تلك الأيام، أجلس عند موقد النار وألفّ أصابعي بخيوط الصوف السميكة، تلك التي كانت تستخدمها جدتي لتصنع منها فتيلاً لضوء قنديلها، وأتذكرها اليوم كما لو أنّ ما حدث لم ينته بعد. أسترجع صوتها وهي تنادي على عمي كي لا يسافر بعيداً، لتبقى بعدها تردّد بمرارة “لم يعد مجيد يا بني، يبدو أن الشموع التي أضأتها له لم تنفع، آه لو يعود سأشعل له أصابعي إن عاد.”

 ألفّ أصابعي الآن وأنا أستعيد مشهد جدتي وهي تحكي لي حكايات الغابات والأنبياء بينما كان مغزل الصوف يدورُ في يدها، أنا الطفل الذي ظنّ وقتها أنها تغزل الخيطان وتخبئها لتلفها ذات يوم على أصابعها وتوقدها احتفاءً بعودة ابنها، لذلك كنت أكرهُ صوف الخراف كثيراً وأبكي كلما رأيت شيئاً يشبهها. لم أرد شيئاً يذكرني بخيوط الصوف حتى لحية جدي البيضاء والطويلة كانت تشعرني بالفزع والخوف، وكم كنت أخاف النار أيضاً، النار التي لا تعني لي سوى احتراق أصابع جدتي، وكي أحميها خطرت ببالي فكرةٌ صغيرة وهي ألّا أدعها تُشعل النار لوحدها أبداً، ومن حينها لا أذكر إن مرّ يومٌ دون أن أكون حارس النار في بيتها، حارساً يحمل أعواد الثقاب بجيبه الصغيرة ويفتح دفتر ذاكرته ليشهد على نارٍ لن تنطفئ بعدها.

في صباحات تلك الأيام البعيدة كنتُ أستيقظ على صوت باب الغرفة الخشبي وهي تشرعه لندى الصباح ورائحة الحبق المزروع في زوايا المكان، ليبدأ يومي بإشعال التنور في الغرفة الصغيرة في قبو البيت، فجدتي كانت تحرص على أن تُعدّ خبزها بنفسها مع فجر كل صباحٍ. كنتُ أرقبها وهي تعارك وعاء العجين ملثمة بشالها الأبيض كما لو أنها كانت فارساً يخوض معركةً عنيفةً، بينما كنتُ أجلس بالقرب منها لأدفع ببقايا القش وأوراق البلوط تحت نار الموقد كي لا تخمد. لا يمكن أن أنسى مشهد الضوء المتسلل من الشباك الصغير في أعلى الغرفة الحجرية وهو يمتزج بدخان الموقد ورائحة الخبز مشكلاً فضاءً ممتداً لخيال طفل أدهشته ألاعيب الضوء والدخان، وكالجنية في الحكايا كنت أخالها تحاكي أحداً ما أو ترقص معه وهي تلوّح بكلتا يديها بأرغفة الخبز وكأنهما جناحا حمامة، ضاربة أكفها تارة على خشبة أمامها وتارة أخرى على صاج الخبز بجانبها، كم كنت سعيداً وأنا أسترق النظر محدّقاً بأصابعها الصغيرة لأتأكد أنها بخير.

 كنتُ أحرصُ على إبقاء النار متقدة ًفي بيتها كل يوم خوفاً من أن تُشعل أصابعها في غفلةٍ مني، فأدورُ حول نار الغسيل ونار الطبخ ونار الشتاء كفراشةٍ تحتفي باللهيب لأشعلها بدلاً عنها. من خوفي على أصابعها أخذت على عاتقي حتى إشعال البخور في ليالي الصيف الحارة لطرد الحشرات من غرفتها، “لن أدعها تمس النار” كنت أهمس في داخلي وأردد “أنا حارس النار …أنا حارس النار”.

لا أتذكر إن مرّ يومٌ في طفولتي دون نارٍ، لكني فزعت ذات يوم عندما انتبهت أن خيوط الصوف تملأ البيت، خيوط طرزتها على شبابيك غرفتها وعلى أطراف السرير، شالات خبأتها في رفوف خزانتها، معطف جدي، إطار الصورة المعلقة لعمي مجيد، بساط الغرفة المصبوغ بالأحمر، وسادة نومها، وحتى مقابض الأبواب ومعطفي الدافئ، وحدها أصابعها كانت عارية من خيوط الصوف، لم أنتبه في غفلة دهشتي أنها ربطت جديلتها أيضاً بعقد صوفيّ مطرز يتدلى على أكتافها وعنقها ويمتد حتى أسفل ظهرها.

في آخر أيامها وقبل أن تتيبس عظام مفاصلها رأيتها تمسك صندوقاً صغيراً وتنزل به القبو عبر الدرج، وما إن شممت رائحة الدخان تنبعث من غرفة التنور حتى هُرعت صوبها لأجدها جالسةً بجانب الموقد وقد فتحت الصندوق وبدأت بإحراق كتبٍ ودفاتر كانت كل ما بقي لها من رائحة ولدها الغائب. وقفتُ متجمداً عند الباب فاللحظة التي كنت أخافها دائما قد أتت، كان الصمت رهيباً في الغرفة والدخان الكثيف المنبعث من الموقد قد حوّل المكان لمسرحٍ كبيرٍ مفتوح على كل المشاهد والأسئلة، وحدهما عيناي كانتا مسمّرتين على يديها في انتظارٍ وخوفٍ أوقف الهواء في حنجرتي، لم أدر كم من الوقت مرّ حينها وكل ما أذكره بعد ذلك أنها وبعد أن خمدت النار ضمتني إلى صدرها وأطلقت أصوات حنجرتها المكبوتة منذ زمن لنحيبٍ طويل.

جدتي التي أضرمت النار في طفولتي ذات يوم، قالت لي وهي على فراش الموت هامسة في أذني: “عندما أموت قُصّ ضفيرتي الملفوفة بعقد الصوف وأشعلها عندما يعود مجيد.”