خطبة البراءة

خطبة البراءة

الحمدُ لحربٍ وهَبَتْكم أعمارَ الرُّضَّعِ، وقلَّدتكم أوسمةً من عيون الغرقى.

والسلامُ على سِلْمٍ مُرِّغْنا فيه بين الشوك وأذناب الأشبال، وانْعَجَنّا بين الإسفلت ودواليب الحاشية.

والصلاةُ على كلِّ سقفٍ تَرَفَّقَ بساكنِيْهِ فسَما نحو حصونكم ليسوّرها بالحِمم، وعلى كلِّ طيفٍ غافَلَ الحواجزَ لينثر في شبابيك ملاجئنا غربةَ الشجر في العاصفة وأُلْفَةَ النَّايِ للرحيل.

ونعوذ بما ومَن سلَّطكم علينا مِن أن نُضْمِرَ غيرَ يأسِ الينابيعِ التي رُدِمتْ، أو أن نُظْهِرَ غيرَ ما تَأْمله الجذوع العتيقة حين تُواجه الجرّافاتِ، أو أن نعتنق غيرَ الندم على الولادة، أو نخوضَ مغامَرةً غيرَ التفرُّسِ في عتمة القبر، أو ننْضمَّ لقافلةٍ غيرِ الخليطِ الذاهل المعرّى ساعةَ الحشر.

ونُشْهدكم أننا صائنون ما وجدنا عليه آباءنا: منّا اللَّحْمُ، ومنكم الكرابيج. لنا الجِلدُ الرَّقيع كالتَّنَكِ الذي يجول به المجاذيب بين الأزقّة، ولكم العظامُ المجوَّفاتُ أبواقُ نصرٍ وقواريرُ مترَعة.

وأننا مُوْثَقون بأسماء صُلْبةٍ كالعقائد: نُجِلُّها في الليل، ونذلُّها في النهار. ونوْرِثها للآتينَ: خفيفةً على اللِّسان، ثقيلةً في الميزان، منقَّحةً بصفات الأنعام تَحَبُّباً وذكرى، ومُطَرّاةً برذاذ الشتائم، ومطرَّزةً بالحفيف المنوَّع لأوهام الفِرَقِ الناجية.

إذا خَفيتْ عليكم حالُنا، فلِبَهاتةِ المَشهَدِ لا لعلّةٍ في نظراتكم الثاقبة. وإذا أحطتم بها ولم تُبْدوا ولو هزّةً من الأكتاف، فلأنكم حَمّالو مَصائرَ ورافعو ألوية.

وقد ضاقت أعينُنا يا واسعي الحيلة، تَقَوَّسْنا يا فؤوس الجليد! 

امَّحى أكثرُنا يا راسمي الخرائط، وانكمشْنا حتى لَنُنَقَّل بالملاقط يا مُعْجزاتِ الجراحة!

مَن سَلِمَ جسدُه، طُعنتْ روحه. ومن لم يفقد عزيزاً، سُلِبَ العِزَّ.  ما نجا بيتٌ إلّا جُوِّفَ مِن أُنْسِهِ وتراثه، ما غادرَ خائفٌ محرقةً إلّا ليَسْكُنَ بين فَكَّيْن.  الآمِنُ شريدٌ، والساعي طريدٌ، والمفقودُ مَطْوِيٌّ في ثنايا الغصّة مُوْكَلٌ إلى مخالب الصُّدَف.

 خرائبُ تتساندُ، وآبارٌ تتنادى. جسورٌ صارت أسواراً، وحدائقُ استحالت عظامُ مَن دُفِنوا فيها ناياتٍ بين شفاهِ العتمِ وأكُفِّ الخريف. لا بشائرَ للصبح غيرُ ما تُلْهي به الأشجانُ عن الحشرجات، ولا سلوى عن هَوانِ الفَردِ إلّا ذهولُ المجموع.

أمّا بَعد.

فهذا يومٌ تتبرّأ فيه الأجساد من شهواتها، وتتشمَّسُ النفوس مُنَدّاةً بضباب المنامات.

لنكتشفَ بعد أوّلِ رشقةِ ماءٍ (سواءٌ أكان ساخناً طَهوراً في حمّامٍ آمِن، أو بارداً معكَّراً من ساقيةِ مخيَّم) أنكم خالطتم الغرائزَ وترسَّبتم في الرغبات.

 فليس للقُبلات الحميمة أن تزيح الأحجارَ التي سَدَدتم بها حناجرَنا،

 وليس للأحضان السخيّة أن تذيب صقيع المَهاناتِ التي رُشِقنا بها من العُلى ونحن نتناتف الأرغفةَ أو نتلمّس الهويّات.

وليس لرعشات النشوة إلا أن تستكمل الرقصاتِ الصاخبة التي أدَّيناها في سِيْركِ التحقيق(  مؤرجَحِينَ في الحالتين على الحِبال القلِقة ذاتِها: في مَهَبِّ لذّةٍ تُداني الموتَ، وموتٍ يوشك أن يصير لذّةً).

ولكي نوقن(  سواءٌ صَحَوْنا ممتنّينَ للضوء، أو نهضنا لاعِنِينَ الضجيجَ) أنّ الأحلام ألعابٌ يستدرجنا بها الغُولُ إلى مغارته؛ في مَساراتٍ مُعلَّمةٍ بالأحاجي والحُفَر، وفضاءٍ سديميّ مزخرَف بالغوايات والبشائر. فلا يَبلغ أيُّ كابوسٍ خاتمتَه القاضية، ولا تستجمع أيّةُ رؤيا مقوِّماتِ نبوءتِها. إمعاناً في التشويق وإذكاءً للشَّجَن، لتَظَلَّ اللهفة إلى الرقاد مَبْعَثَ نشاطِ الطُلقاء ومفتاحَ طواعيّةِ الأسرى.

وأنتم حول مضمارِ لهاثِنا بين الواقع والغيب: أملٌ يشجّع الذاهلين على تخطّي الحواجز أو تحطيمها، ويأسٌ يُقْنِع العازمين على الانتحار بتبديل خططهم أو تأجيلها.

وقد أكملنا لكم في هذا اليوم ذبولَنا، وأتممنا بكم أُفُولَنا، ورضينا لكم الحطامَ عروشاً. ولسنا ندري أنَلقاكم بَعده مثلما يتلاقى الطافُونَ على سقْطِ متاعِ السفينة الغارقة، أم نغيب جميعاً إذا أُسدلتْ علينا ستائرُ كِرْشِ الحوت.

نسألكم- كاشِفِيْنَ منكشفين في عَراءٍ لا يُجابُ فيه راجٍ ولا يُعابُ ناصحٌ- أن تَعكفوا على قراءةِ اللَّهَبِ المتحجّر في أحداقنا، لعلَّ هذه الحبال ترتخي.

وأن تُتقنوا الإنصاتَ لدمدمات قبضاتِنا، فلسنا نأْمن إذا واظبتْ هذه الأمواج على الهدير والتلاطُم إلامَ ستَؤوْل القواقعُ التي احتجبتم بها عَنّا.

وأن تَهَبوا أنفسَكم فسحاتٍ للفرجة، ولو بالتفاتاتٍ خاطفة كالَّتي يواكب بها صاحبُ المَسلخ اضطرابَ المارّةِ حين تختلج الأضاحي.

لا أرانا الزمانُ فيكم إلّا ما نَحْذَر!

ولا دارت الأفلاك إلا لتكذِّبَ المنجِّمينَ المتخرّجين من معاهدكم!

ولا سَكنتْ دواليبُ الحظّ إلا لتُبَدِّدَ الوهمَ بأنكم الرَّقم الأصعب في اللّوح المحفوظ!

جدي والراديو والخامس من حزيران/يونيو

جدي والراديو والخامس من حزيران/يونيو

تحلقنا حول الراديو بتركيز كامل، قطعه ضحك جدي أحمد سعيد “أبو حسن” الصاخب، الذي استمر بالقهقهة  حتى طفرت دمعة فرح من عينه، وهو يستمع للبيانات العسكرية من صوت العرب من القاهرة ومن إذاعة دمشق، في الخامس من حزيران/ يونيو.

كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها دمعة فرح، والمرة الأولى التي أرى فيها عين جدي تدمع. علا ضجيجنا فصرخ جدي بنا أن نصمت، ليستمتع بإنجازات صواريخ “القاهر” و”الناصر” و”الظافر”، التي سيدك بها جمال عبد الناصر قلب تل أبيب، وإنجازات السوريين الأبطال الذين سيهاجمون إسرائيل من الشمال. اعتقد جدي أن الملك حسين دخل الحرب مرغماً، وكان يتقبل أية نكتة تمس الملك الراحل. وكما الملايين استبشر جدي خيراً بالخطابات وكان يقول وهو يسمعها “كل العرب اليوم دخلوا المعركة بقيادة البطل عبد الناصر”.، الملايين أيضاً طربوا بخطابات عبد الناصر، وتابعوا تعليقات المذيع المصري أحمد السعيد مبتسمين و الاطمئنان يسكنهم بأن تحرير فلسطين وعودة أهلها إليها لا تتعدى أن تكون مسألة أيام أو أسابيع. وتباهى جدي أحياناً بأن اسمه قريب للغاية من اسم المذيع المصري الذي ألهب حماس العرب.

في اليوم التالي، ولأول مرة في حياته لازم جدي البيت ليبقى قرب الراديو، فقد اعتاد ألا يتغيّب عن عمله حتى بسبب المرض (علماً أنه لم يكن يعتبر بعض الأمراض مثل الأنفلونزا أو التهاب الكولون مرضاً أساساً).

قرب الراديو الخشبي الكبير جلس جدي يستمع للبيانات العسكرية التي لم تنقطع، فتارة تعلن أن القوات المسلحة المصرية والسورية والأردنية ألحقت خسائر فادحة في أرواح ومعدات جيش العدو، وأخرى تعلن أن القوات العربية أضحت تتوغل في قلب إسرائيل.

وبين زخم البيانات أطل المطربون الكبار والصغار من المذياع المتربع فوق الطاولة، يهللون لانتصارات جيوشنا البطلة ،مؤكدين أن صوت المعركة هو الأعلى. حفظنا -نحن الأطفال- حينئذ عن ظهر قلب بعض الأغاني، حتى أن كلمات ولحن بعضها مازال يتردد في رأسي حتى الآن كأغنية: “ميراج طيارك هرب … مهزوم من نسر العرب … والميغ حلّق واعتلى .. في الجو يتحدى القدر”، كنت أتخيل عندها أن طائرة الميغ  تشبه عنترة بن شداد، الذي حوله خيالي الطفولي إلى بطل سماوي وأن الميراج الاسرائيلي يفر من أمامه طالباً النجاة، ففي السماء كما على الأرض هم جبناء يفرون.

***

في المساء الخامس من مساءات الحرب، توهجت باحة السماء الغربية أمام بيوت قريتنا الصغيرة ” كفرية”؛ والتي تقع في الشمال الشرقي لمدينة اللاذقية، وتبعد نحو 500 كم عن الحدود مع إسرائيل. لم نكن نعرف ماذا يحدث، أسرع أبي إلى بندقية عمي وقرر أن يبدأ الحرب مع الأعداء القادمين من الغرب، تمسكت بقدميه وطلبت منه أن يعطي البندقية لعمي أو لأي أحد ليبقى معنا، سخر مني الجميع وقتها واتهموني بالجبن، فطلبت أن يعطوني البندقية، لتتحول اتهاماتهم لضحكات أبكتني.

بدت الأنوار التي أضاءت السماء وكأنها انطلقت من تل لا يبعد أكثر من ألفي متر، اقترح جارنا أبو صديق أن تتجه النساء والأطفال إلى الكهف المتاخم للنهر القريب، كما هجر أحد الجيران بيته وقصد مع أسرته كهفاً من الكهوف الجبلية القريبة. وفي ذلك العام كان نصر، ابن مختار قريتنا، يخدم في سلاح البحرية، وبدأ أبوه يندب ابنه والبلاد معاً مستغرباً وصول الاسرائيليين إلى مشارف قريتنا، أما أبو صلاح -رحمه الله- فقال إن أشلاء ابنه أصبحت في السماء.  فيما شرح لنا يونس عباس أن هذه الأضواء ليست إلا قنابل مضيئة تطلقها قواتنا لتكشف طائرات العدو لمدفعياتنا، وهذا ما أكده المذياع ليطمئننا الناطق العسكري بعد ذلك بأن الطائرات الإسرائيلية الجبانة أغارت على مدينة اللاذقية، إلا أن دفاعاتنا الأرضية تصدت لها وأجبرتها على الفرار، وهذا يعني أن الإسرائيليين ليسوا على مشارف قريتنا، كذلك أكدت دار الإذاعة الإسرائيلية أن طائراتها قصفت خزانات الوقود في مدينة اللاذقية وعادت إلى قواعدها سالمة.

لم يصدق جدي في الأيام الأولى حرفاً واحداً مما تقوله إذاعة لندن، كما رفض تصديق بيانات الهزيمة المجمّلة التي بثتها إذاعة صوت العرب من القاهرة، ومعها إذاعة دمشق، إلا أنه لم يتمكّن من إنكارها أخيراً، وعندما صدق، شاهدت دموع حزنه للمرة الأولى في حياتي، ولم يعلق على أخبار الهزيمة إلا بكلمة واحدة: “انكسرنا!”، صمتنا جميعاً ونحن نعاين موت الآمال الكبيرة في جنازة مهيبة، لم يكسر جدي المذياع كما فعل آخرون، بيد أنه لم يعد مولعاً به.

وبعد فقدان جدي لولعه بالمذياع البني، صار بإمكاني -أنا ابن الثامنة- أن أحركه وأستمع إلى ما أشاء، وفي تلك الأيام سمعت كلمة “مؤامرة” لأول مرة، فسألت عنها الشيخ بدر وعرّفها لي بأنها: “فعل شيطاني قطع الطريق على انتصارنا”، وعندما سأله خالي أبو عدنان عن سبب غياب الدعم الرحماني أجابه: “يمهل ولا يهمل”.

***

قرأت لاحقاً في مراهقتي، كالعديد من أبناء جيلي، الكثير عن حرب التحرير الشعبية، وعن الانتصار الفيتنامي على أمريكا نفسها، والذي بدا كنموذج يحتذى به ومثالاً على قدرة الشعوب، كذلك قرأت هوامش نزار قباني على دفتر النكسة، و(بيان 5 حزيران 1967) لأدونيس، وتمنيت أن أعرف ما هي الفقرة التي حذفها الرقيب من النص الذي كتبه حسين مروة في مجلة “الآداب” اللبنانية حول الهزيمة تحت عنوان: (طريقنا إلى تغيير الانسان العربي) .

استعرت من الأصدقاء مسرحية سعدالله ونوس (حفلة سمر من أجل 5 حزيران)، وكتاب صادق العظم (النقد الذاتي بعد الهزيمة)، وتابعت مع الآخرين مجريات الحديث عن النصر الذي سيصنعه الفدائيون، والكثير من الآراء والمقالات في الصحافة العربية، وسمعت الحكايات والإشاعات التي بثتها المخابرات وأصحاب الخيال  ويبدو فيها عبد الناصر مهزوماً على يد أصدقائه الذين طعنوه في الظهر.

وفي مراهقتي أيضاً، سمعت لأول مرة كلمة انتحار عندما قتل عبد الحكيم عامر نفسه، وعايشت الاختراع الإعلامي الفظيع: “فشلت إسرائيل في تحقيق هدفها، وهو إسقاط النظام العربي التقدمي” وعرفت لاحقاً أن لدينا خيالاً هائلاً، يحول الهزائم إلى انتصارات بجرة قلم، أو بفقرة إذاعية.

***

في سجن صيدنايا في الخامس من حزيران (لعله عام 1988أو 1989 إذ تختلط علي التواريخ أحياناً) انعقدت ندوة نقاش عابرة حول الهزيمة، دون أن يخطط لها أحد، ولا تزال بالنسبة لي من بين أهم الندوات التي تمكنت من الاطلاع على مجرياتها، حيث التقى فيها بعض المعتقلين الشيوعيين مع معتقلين من الإخوان المسلمين أثناء التنفس في الساحة بين الجناحين -المعروفين باسم جيم يسار وجيم يمين- في الطابق الثاني. قال أحد الشيوعيين “في مثل هذا اليوم بدأت الحرب التي انتهت بهزيمة جيشنا وجيش مصر وجيش الأردن والجيوش العربية الحليفة، الجيوش في بلداننا تعمل لحماية النظام لا لحماية حدود الوطن”. فرد عليه أخ مسلم: “نظامنا لا يخشى الله لا في أوطاننا ولا في أعراضنا ولا في أنفسنا”، و أذكر من مطلع الحوار:

  • تحرير فلسطين ليس شأناً إلهياً يا شيخنا!
  • كله بإرادته! ولكنكم تنكرون ذلك!
  • حاشا لله أن يريد بنا شراً ياشيخ .

 ضحك الأخ المسلم وقال ضاحكاً “حسناً أنك تؤمن بالله، وترى أنه لا يريد لنا إلا الخير، صدقني يا أخي لو أن حكام العرب يخشون الله لانتصروا!”

  • كان عثمان بن عفان يخشى الله، ولكنه قتل!
  • أستغفر الله! وهل يجوز أن تقارن عثمان رضي الله عنه بحكام اليوم!
  • ولم لا يجوز؟
  • هذا ثالث الخلفاء الراشدين يا رجل! بقي أن تقول أن النبي صلى الله عليه وسلم هزم في أحد كما هزم عبد الناصر.

امتد الحوار لساعات، وتناول ما أنجزته أوروبا في ميدان المواطنة والعقلانية والحداثة، وأعيد طرح سؤال شكيب أرسلان: “لماذا تخلف العرب وتقدم غيرهم”، كما أعيد طرح مفهوم الهوية وتعريف السلف الصالح العربي والعالمي، المسلم وغير المسلم. وتخلل الحوار امتداح أديسون، وعمرو بن عبد العزيز، والغفاري وجان جاك روسو، وغيلان الدمشقي، ونيلسون مانديلا.

تطرق معتقل شيوعي للخلفاء الراشدين واغتيال ثلاثة منهم وقيام حرب بين فريقين من المسلمين بل بين زوج النبي وابن عمه، شارك فيها المبشرون بالجنة وأقرب صحابة رسول الله اليه، فرد عليه إخواني بالإشارة إلى القمع الذي يكابده الناس في ظل الأنظمة الشيوعية التي تضطهد أبناءها وأبناء غيرها، وتم ذكر اقتحام المجر وقتل بحارة كرونشتاد على أيدي رفاقهم.

و بدى واضحاً في الندوة الارتجالية أن الطرفين متناقضين، وقد أكد كل من المتناقشين الأمر بمنتهى الهدوء، فعلق أحد الشيوعيين “يقول أتباع حافظ الأسد أننا وأنتم في خندق واحد، والحق هو أننا في زنزانة واحدة أو سجن واحد!”، فرد عليه الإسلامي “وضعونا في هذا الخندق البغيض، وجمعونا على نحو قسري”. فعلق أحد الحضور:”كما ترى، إنهم يجمعون ما لا يُجمع”، وانتهت الندوة بسؤال تبادله الطرفان:”لو استلمتم السلطة هل سيكون الجيش للدفاع عن البلاد في وجه الغزو الخارجي أولاً أو للدفاع عن سلطتكم أولاً؟”.

ولم أنس للآن المداخلة التي قدمها أحد المعتقلين بصوت خافت لم يغيره رغم مطالبة الجميع له مراراً برفعه وقال فيها: “وجودنا، وأمثالنا في السجون، ركن مهم لصناعة  الهزائم! بدأت صناعة الخامس من حزيران بإلغاء الأحزاب وحل البرلمان، نحتاج إلى قبة برلمان نتصارع تحتها صراعاً سلمياً، كهذا الذي نعيشه الآن، صراعاً ينوب عن الاغتيالات والاعتقالات والمجازر وتدمير الأحياء” وفي ذلك الوقت كانت المجازر التي ارتكبت قليلة إذا قارناها بما حدث بعد 2011، منها: مجزرة مدرسة المدفعية، ومجزرة حماه، ومجزرة الأزبكية، ومجزرة حي الشارقة في حلب، كما تحدث الرجل ذو الصوت المنخفض عن ضرورة تحديث معارفنا وعقولنا، وعن أهمية فصل الدين وغيره من العقائد عن الدولة، نحن سجناء هنا، ومصادرون ومهددون خارج السجون، إن أعملنا عقولنا بما لا يتماشى مع حكمة القائد، وبهذا “سيبقى الخامس من حزيران مقيماً، ما لم تتخلص عقولنا وأبداننا من كل هذه المصادرات والسجون”، وبنهاية مداخلته ذكر عنوان مسرحية قرأتها يوماً أن “السجناء لا يحاربون”.

وللآن، لا تزال هزيمة الخامس من حزيران تطرح السؤال القديم نفسه: لماذا وكيف تم ويتم تغييب طاقات الشعوب التي تستوطن البلدان العربية عن الفعل؟ وكيف بتنا نملك أمثلة أشد قباحة وإيلاماً عن القتل والقمع المباشر والعاري الذي يصنع المزيد من الهزائم؟.

قبيسيات في السويداء: “الست بتلة” وأتباعها

قبيسيات في السويداء: “الست بتلة” وأتباعها

“الست بتلة” هو اللقب الذي اختارته “سلطانة عامر” لنفسها منذ عشرات السنين لتشتهر به السيدة التي تحظى باحترام وتقدير واسع في أوساط المتدينين، وتشير بعض الشائعات المحلية إلى أن للست نفوذاً كبيراً لدرجة أنها باتت الآمرة الناهية في مجتمع السويداء.

ومُحرّك هذه الإشاعات الأساسي هو قلة المعلومات الموثّقة حول سلطانة، إضافة للغموض والسرية التي يتسّم بها المجتمع الديني عموماً لدى الدروز، إضافة إلى غرابة وندرة وصول امرأة لهذه المكانة الدينية المرموقة.

يروي أحد الشيوخ المقربين من الست والمقيم في مدينة السويداء، أن قصة “الست بتلة” بدأت في ثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت طالبة جامعية في قسم الفلسفة، إلا أنها تركت دراستها وحياتها المدنية وتوجهت نحو الدين. وحفظت سلطانة “كتب الحكمة” كاملة، وهي الكتب المقدسة عند الدروز وعددها ستّة، وهي الحالة التي تعد قليلة عموماً وخاصة لدى النساء، وقامت بتغيير اسمها إلى “بتلة” كنوع من الزهد معتبرة اسم “سلطانة” لا يناسبها، ونتيجة لذلك ولكونها من أسرة عامر المعروفة والتي تتمع بمكانة كبيرة في السويداء، حظيت “بتلة “بدعم واهتمام شيوخ الدين المعروفين وقتها، وهم من أطلقوا عليها لقب “الست”، وعمدت لتحويل منزلها في أحد أحياء المدينة لمدرسة دينية تعلم أصول الدين وطقوسه للنساء، بحسب الشيخ.

وازداد خلال سنوات الحرب الماضية انتشار الظواهر الدينية في السويداء بشكلٍ ملحوظ، لأسباب عديدة منها تشكيل الميليشيات المسلحة والتي أخذت غالباً الطابع الديني سواء الموالية منها أو المعارضة، كما شكل الدين رابطاً قوياً للحفاظ على وحدة المجتمع بعد أن غدت المؤسسة الدينية المرجعية الوحيدة في ظل غياب أية حركة مدنية أو سياسية.

وأثارت الست إشكاليات عديدة في المجتمع المحلي في السويداء أبرزها يتعلق بانتشار تأثيرها الواسع والتعصّب والتشدّد في التعاليم والطقوس الدينية التي تدعو إليها، وهو أمرٌ مستهجن وغريب عن مدينة تتسم بمدنيتها وعدم تطرّفها، وقد أدت هذه التعاليم إلى خلق مشكلاتٍ كبيرة بين أفراد الأسرة الواحدة أو بين بعض العائلات، حتى أن فئة كبيرة من الأهالي أصبحت تسميها بـ “خرّابة البيوت”؛ إذ ظهرت العديد من حالات الطلاق بين المريدات والأزواج غير المتدنين أو ممن يرفضون التشدد في الدين، بالإضافة لرفض التعليم للفتيات والنتائج الخطيرة من جرّاء منعهن من إكمال دراستهن الجامعية ورفض الاختلاط في المدارس، وفي بعض الأحيان يتم إخراجهن من المدارس بسن مبكرة والاكتفاء بتعليمهن أصول الدين.

لا تنشر “بتلة” تعاليم خاصة بها ولا بدعاً هي اخترعتها، فكل ما تقوم به هو تطبيق التعاليم الدينية في المذهب الدرزي بحذافيرها، وفق قاعدة التصوف في الدين والشروط المعاشة اليوم، رغم أنها قد تجتهد ببعض المسائل بالقياس أو الإفتاء حسب ما تراه مناسباً، ولعل المغالاة الشديدة والتطرف الذي أثار نقمة وانتقاد البعض في مجتمع السويداء مرده إلى مريديها أنفسهم، حيث تصبح المغالاة هنا طريقة لإبراز الولاء والتقرّب من الست أكثر، بالإضافة إلى تحوله لنوع من التعويض النفسي والاجتماعي عن حالة الفشل والإحباط العامة التي خلفتها الحرب.

ولا تكتفي مدرسة “الست بتلة” بتعليم أصول الدين وتلقينه لمريداتها فقط، بل تفرض عليهنّ مجموعة من السلوكيات والطقوس الأخرى المتعلقة بكل جوانب الحياة تقريباً، من مبدأ أنّ الدين هو محور الحياة، لذا كان على المنتسبات أن يصدقن النية في التقرب لله، وأن يلتزمن بتطبيق التعاليم الدينية، والتي لا تختلف في أغلب جوانبها عن أي عقيدة أو مذهب ديني مختلف، وإن كانت أقرب إلى الطريقة الصوفية، والأساس فيها تطبيق مبدأ الحلال والحرام في كل شيء. وعند هذه القاعدة تحديداً يبدأ الاختلاف في تفسير الأشياء، فتعريف الحلال والحرام في العقيدة الدرزية ينطلق من قاعدة البحث عن أفضل الخيارات والطرق، أي الأكثر حلالاً من غيرها، وكنتيجة طبيعية لتطور المجتمع وتغيّر عاداته وثقافته، انحسر تطبيق التعاليم الدينية ليقتصر على الضرورات فقط، بما يحفظ النزاهة والكرامة والأخلاق، أو كشكل فقط وكنوع من إثبات المكانة الاجتماعية.

وبهذا ركزت الحركات الدينية المتشددة على محاولة العودة إلى تطبيق الجزئيات الصغيرة وأحكام الدين في كل جوانب الحياة، كرد فعل على ظاهرة انحسار الدين في المجتمع. ولذا يُلاحظ أن المتشددين ومنهم أتباع “بتلة” يرفضون العمل ضمن وظائف الدولة، كما يرفضون أي تعامل معها، معتبرين أموالها محرمة لاعتمادها على الضريبة والفساد، وبلغ الأمر بهم للاكتفاء بالضرورات القصوى المقدمة منها كالكهرباء مثلاً، وإن أمكن الاستغناء عنها يعتبر أفضل. كذلك الأمر بالنسبة لمياه الشرب، فهم لا يشربون مياهاً من الشبكة العامة وإنما من مياه الأمطار المُجًمعة أو من آبار خاصة موثوقة المصدر؛ وحتى لباسهن يحاولن حياكته بأنفسهن، وإن تعذّر الأمر، يشترون قماشاً من محلات خاصة أيضاً؛ و بالنسبة للمحروقات، يعتمدون على الحطب بشكل أساسي في الطبخ والتدفئة، ويمنع عنهم كافة أشكال التكنولوجيا الحديثة من تلفاز وموبايل وانترنت وغيرها لاعتبارها مفسدة بالمطلق ولا نفع منها. نتج عن هذا، تشكيل المتدينين بما فيهم “الست بتلة” لنظامهم الاقتصادي الخاص، الأشبه بالأخوية المتكاملة والمعتمد بالدرجة الأولى على الزراعة وتربية الحيوانات والأعمال اليدوية والمنزلية، إضافة لبعض المحلات التجارية التي تعود ملكيتها لرجال دين، حيث يفضلون شراء حاجاتهم الأساسية منها.

وبما يخص نفوذها الداخلي، فقد حظيت “بتلة” باهتمام وتقدير كبيرين في الأوساط الدينية المحلية، وعُوملت من قبل أتباعها بشيء من التقديس والتبجيل، إذ تعتبر سلطتها الدينية مطلقة بحكم منزلتها وتأثيرها في وسطها، فالدين في المذهب الدرزي يمر عبر وسطاء حصريين لهم الحق عندما يصلون إلى مرتبة معينة من التقوى بإدخال أو إخراج الأشخاص من الدين حسب أعمالهم ومواقفهم، ويعتبر البعد أو الحُرم الديني من أهم أدوات العقاب والثواب في المذهب، ويعتبر المُبعد من الدين كافراً حتى يعود إليه دينه من جديد، فكثيراً ما تتردد عبارة (بتبعدك الست) كنوع من الدلالة على سلطتها المطلقة.

ولا يُفرض “التديّن” في العقيدة الدرزية على الأفراد أبداً، فعلى العكس توضع شروط قاسية لمن يراد الانتساب إلى مجتمع المتدينين، وسعى العديد لإيجاد طرق لتوسيع دائرة الدين وزيادة الملتزمين به، ومن هنا لعبت حركة “الست بتلة” الأثر الأكبر بنشره، من خلال ضمان وصوله للنساء وبالتالي انتقاله لأسرهن.

لو أن التعاليم الدينية التي تنتهجها “الست بتلة ” بقيت ضمن إطار الخيار الفردي أو كحالة من التصوف والروحانية، لكانت أشبه بثورة على نمط الحياة اللاإنساني الموجود اليوم؛ كما أن تبني أي جهة مدنية لتعاليمها ورفضها العلني لبعض مؤسسات الدولة، كاد أن يؤدي بها للقمع الفوري من قبل السلطة، ولكن تغطية المسألة بالصبغة الدينية فقط سمح لها بأن تمارس نشاطها وبغطاء ودعم من الأجهزة الأمنية، ما جعل البعض يظن بأن “حركة الست” ليست إلا حركة أمنية بالمطلق، ويعتقد البعض أنها استنساج لتجربة “قبيسيات دمشق”.

لكن للحقيقة وجهين متناقضين، فمن ناحية، إنّ أي تيار ديني هو صديق السلطة بالضرورة ويمكن للسلطة أن تستثمر فيه في أي وقتٍ ضمن تحالفات معلنة أو سرية لتثبيت وجودها كما حصل مراراً في المشهد السوري؛ ولكن من ناحيةٍ أخرى، فإنّ هذا الاستثمار في الحركات الدينية قد لا يتحقق في مجتمع الدروز وضمن عقيدتهم، بل قد يرتدّ عكساً على السلطة إذا ما اعتبرت حركة ما بأنها تُشكل خطراً يُهدد الدروز كمجتمع أو كطائفة.

يُدرك المتدينون معادلة محاباة السلطة التي تساوي النفوذ والتمدد، ويستثمرونها سراً، والأخطر في الموضوع هو اعتقادهم بأنهم يستغلون السلطة لزيادة نفوذهم، وبالتالي توسيع مشروعهم الديني، والذي سيحقق للطائفة مزيداً من التماسك والقوة برأيهم، إضافة لعودة دور الدين في صياغة وقيادة المجتمع وحفظ وجوده.

من ناحيتها ترحب السلطة بأية حركة من هذا النوع، فتمدّد وانتشار الدين هو حتماً على حساب الحركات المدنية والفكرية في المجتمع، وهي الغاية الأهم لبقاء معادلة السلطة والدين كوجهين لعملة واحدة.

ومن هنا نجد أن حركة “الست بتلة “لم تعد وحيدة في مجتمع السويداء، فهناك اليوم أسماء جديدة ظهرت على الساحة “كالست شامية” و”الست سميّة” وغيرها، هذا عدا عن المعلمات في حلقات تدريس صغيرة في بعض القرى أو ضمن جلسات خاصة، وإن كان أغلبهم قد خرج من مدرسة “بتلة” إلا أن التنافس بينهن موجود وإن كان غير معلن.

في وداع الطيب تيزيني

في وداع الطيب تيزيني

بضع عشرات من المشيعين اجتمعوا في الثامن عشر من أيار في مقبرة حمص، يعرف الجميع بعضهم البعض فهم من القلة الذي بقوا في المدينة إضافة لبعض أفراد العائلة ممن لم يهاجروا بعد، بحثت عن وجوهٍ اعتقدت أنها لن تفوّت وداع شخصٍ بقامة الطيب تيزيني، إلا أنني لم أجدها، إذ غاب مثلاً حضور أي ممثل عن وزارة التعليم العالي واتحاد الكتاب العرب.

في المقبرة، اعتقدت لبرهةٍ أّن عدد المشاركين في وداع تيزيني أكبر من العدد الفعلي الذي لم يتجاوز الخمسين، إذ وصلت العديد من السيارات والمشيعين الذين تفرقّوا بعد دخولهم للمقبرة لحضور جنازاتٍ أخرى، كذلك غابت عن الجنازة أكاليل الورد التي يحملها المُشيعون عادةً أثناء وداع أحبتهم وأصدقائهم إلى مثواهم الأخير، فلم يحضر إلا إكليلٌ صغيرٌ أرسل باسم غرفة صناعة حمص.

ربما يعود غياب الورد عن المشهد  للضائقة الاقتصادية أو ربما لأسبابٍ أخرى؟

يعود تاريخ معرفتي المباشرة بالطيب إلى فترةٍ متأخرةٍ نسبياً، بعد خروجي من المعتقل، وتحديداً عام ٢٠٠٣ عندما استضاف الصديق عبد الحفيظ الحافظ في بيته لقاءً جمع بين الطيب ومجموعة من أبناء المنطقة الوسطى. في تلك الجلسة، تحدّث تيزيني بجرأة عن الحرس القديم، وكان صاحب النصيب الأكبر من الهجوم والنقد هو عبد الحليم خدام، الذي كان نائب رئيس الجمهورية حتى العام ٢٠٠٥ قبل انشقاقه عن النظام السوري، و كان تيزيني خلال محاضراته في مختلف المناطق السورية يعيد تأكيد أطروحته هذه منتقداً احتكار السلطة لكل شيء حتى الحقيقة.

يومها لم أكن معجباً بالهجوم على ثورٍ يتهيأ الراعي لطرده من الحظيرة، وفي لقاءٍ خاصٍ في بيته سألته ما معنى الهجوم على خدام بذلك الوقت؟ وعن معنى  مقولته الشهيرة التي قالها على مدرج جامعة دمشق (شباط ٢٠٠١) واصفاً بها المثقفين ومنتديات المجتمع المدني بأنهم “عملاء للسفارات الأجنبية” بما فيها من تبرير لقمع المنتديات، فأجابني “قلت لخدام ذلك منذ عامين وأثناء لقاء معه وليس الآن، لأنه لا معنى أن تتحدث عن الدواء الناجع لشخص بعد موته أو وصول مرضه لنقطة يتعذر شفاؤه فيها.”

قد يختلف كثيرون منا حول شخصية الطيب ونتاجه الفكري، ألا أن هناك شبه إجماع حول صدقية طرحه وانسجامه مع قناعاته، ورغم الآراء المختلفة حول مقاربته التوفيقية، إلا أنها تتوافق على حرصه على التوافق والذي يجده البعض منا أقرب إلى الطوباوية.

كان الطيب مثلاً ينظر إلى رجل الأمن وكأنه الدولة، لا كمجرد عنصرٍ في جهازٍ يفترض أنه تابع لمؤسسات الدولة، بحيث لا يمكن التفريق بينهما، ومن هنا كان الاختلاف بينه وبين مجموعة عملنا في العام ٢٠٠٦. ففي ذلك العام كان التأجيج الطائفي على قدمٍ وساق في الإعلام العربي، وارتأينا أن نشكل تجمعاً أو مجموعة تحاول تدارك مثل هذه التحديات في سوريا مستقبلاً. اقترح الطيب علينا أن نبلغ أجهزة الأمن سلفاً عن اجتماعنا المقرّر كي نكون في مأمن من أية إجراءات قمعية بحقنا، فرفض بعضنا ذلك رفضاً قاطعاً، وعندما اقترحتُ إمكانية الترخيص من وزارة الشؤون الاجتماعية، ابتسم وقال “ستعود الى هناك، إلى الأمن، لتحصيل الموافقة، هم الدولة أولاً وأخيراً”، فـأجبته بأنه محق ولكن ليس علينا إعطاء الشرعية لمغتصبها، فردّ عليّ، “معك حق، ولكن تابع هذه الاجتماعات إذا استطعت.” وفعلاً لم نتمكن من الاجتماع مجدداً سوى مرةٍ واحدةٍ فقط قبل أن يتوقف كل شيء لمدة خمس سنوات حتى الانفجار الكبير عام ٢٠١١.

في هذا العام، تركت مشاركة  الطيب في مظاهرة أمام وزارة الداخلية في ساحة المرجة بدمشق، رغم اقترابه من الثمانين من العمر، أثراً طيباً لدى شريحة مهمة من الناس ممن نظروا إلى الحراك الشعبي في تلك الفترة على نحوٍ مشابه لرؤية تيزيني المُنظر للمستقبل بارتكازه على الماضي والداعي بقوة للخروج من قوقعة الوضع الراهن لا للعودة إليها.

واستطاع الطيب من خلال مشاركته في مؤتمر اللقاء الوطني الذي عقد في منتجع “صحارى” في تموز/يوليو من العام نفسه برئاسة نائب رئيس الجمهورية فاروق الشرع أن يسجل موقفاً تاريخياً ويرفع من شأن اللقاء بدعوته علناً لتفكيك “الدولة الأمنية” وإطلاق سراح المعتقلين ووقف إطلاق النار. وكما جرت العادة شكل المؤتمر بحد ذاته ومشاركة تيزيني ومعارضين آخرين فيه نقطة خلافٍ أدت للمزيد من الانقسامٍ بين السوريين، فمنهم من اعتبر أنّ تيزيني قد قدم خدمةً كبيرة للنظام بحضوره، ومنهم من رأى أنه قد قدّم للحراك شيئاً مهماً ومطالب مهمة تسلط الضوء على جوهر الأزمة، والمتمثل في طبيعة السلطة الحاكمة ومنظومتها، لكن هذه المرة أمام أوسع جمهور ممكن، حيث غطى الإعلام السوري الرسمي وقائع المؤتمر آنذاك، في حين كانت لقاءاته السابقة تقتصر على بضعة عشراتٍ من السوريين.

وقد أدى قرار التيزيني المشاركة في هذه المؤتمر في حقيقة الأمر إلى نبذه من قبل السلطة ومواليها من جهة، والمعارضة المتمرسة في مواقعها والرافضة لأي حل سياسي تفاوضي في ذلك الحين من جهة ثانية، وبقي مع الطيب من يعرفه ويعرف صدق نواياه وحرصه على الدم السوري.

ويلاحظ المتتبع للقاءات الإعلامية والكلمات التي ألقاها الطيب تيزيني خلال السنوات الثماني الماضية أنه قد حافظ على نفس المقترحات الإصلاحية التي كان يدعو إليها، والتي كان يعتبرها الكثير منا مقاربةَ توفيقية، و عرف عنه أنه حتى في أحلك اللحظات، بقي يعرض أفكاره بهدوء، بينما كنا نحن نغلي من الغيظ والحنق في اللحظة التي كنا نستمع فيها إلى تراشق الرصاص. في أحد الأيام قال لي “هم يعملون وفق ما يعرفونه، ألا وهو التراشق بالرصاص، ونحن علينا ألا نتجاوز التراشق بالكلمات، وحتى الكلمات يجب أن تمر عبر الفلاتر حتى لا نبتعد عن بعضنا كثيراً، الدم الذي يُسفك هو أكبر الخنادق لمنع اللقاء بين الناس، عندما نسترخص الدم نسترخص الإنسان، وعندما يكون الإنسان رخيصاً يصبح البلد رخيصاً، وحتى نحن نفقد قيمتنا بين شعبنا”. وأتذكر في شباط/فبراير من العام ٢٠١٢ وأثناء حصار بابا عمرو والقصف العنيف الذي استمر لمدة أربعة أسابيع على الحي، أنّ تيزيني قد تحدث مع محطة البي بي سي وكان متوتراً ومنفعلاً يغصّ بدمعه وهو يتذكر الدم المسفوك وكم سيبعد هذا الدم بين السوريين.

أما اللقاء الأخير الذي جمعنا حول الشأن العام فكان في صيف ٢٠١٢ في بيته بمشروع دمر، حيث تواجد ممثل لبعثة الأمم المتحدة التي كانت في سوريا يومها برفقة عبد العزيز الخير، الذي اختطف في أيلول ٢٠١٢، كما تواجد هناك بعض السوريين من المعارضة والموالاة، وقد دعيت وقتها بسبب مطالبتي بتأمين وقف إطلاق النار لتأمين خروج المدنيين من حمص القديمة إلى حي الوعر، بعد ذلك تتالت اللقاءات في مدينة حمص والتي غلب عليها الطابع الشخصي دون أن يفارقنا الحديث عن المأساة السورية اليومية حتى تدهور وضعه الصحي في العام ٢٠١٨.

أخيراً أقول تحية لذلك الرجل الذي حلم وسعى بكل إمكانياته لتحقيق أفضل ما لسوريا لتجد مكاناً لها في المستقبل وليس في الماضي تحية لروح الطيب وكل الطيبين.

الطيب مات، وعبد الكريم مات، وخليل لا يزال معتقلاً

الطيب مات، وعبد الكريم مات، وخليل لا يزال معتقلاً

ناداني خليل معتوق من داخل مقهى الهافانا، كان برفقة آخرين. خلال الدقائق القليلة التي أمضيتها معهم بدا خليل وكأنه يحتفي باحتمالات جديدة تلوح في الأفق السوري بعد طول يباس. سألني خليل عن توقعاتي، وفهمت منه أننا بدأنا بعبور الجسر نحو دولة القانون والمواطنة. كان خليل يرغب أن يشاركني بهجة تحتل روحه وكيانه: “مانك حاسس إنو الهوا صار مختلف”. غادرت المقهى، لم تكن شوارع الشام كعادتها! غاب الزحام البشري الذي يميز أرصفة الصالحية. بضعة أشخاص ونسمات باردة، نحن في أوائل نيسان 2011 . أتاح لي العدد القليل من المشاة على الأرصفة رؤية  الطيب تيزيني على بعد أمتار أمام ساحة المحافظة، اتجهت إليه وصافحته لأول مرة وهنأته بالخروج من المعتقل بالسلامة، وعبرت عن تعاطفي وأسفي لما حدث له يوم جرجروه على إسفلت الطريق. شكرني بلطف، وبدا وكأنه يحاول أن يتذكر من أكون، انضم إلينا عبد الكريم أبا زيد وكأنه عاصفة صغيرة نبعت من الرصيف، كان عبد الكريم غاضباً وبدأ يحدثنا عن حقيقة ما يجري في درعا، فتح عبد الكريم حقيبة صغيرة سوداء يحملها في يده، وأعطانا بياناً يشرح فيه ما ترتكبه السلطة في درعا من جرائم بحق المتظاهرين، قال عبد الكريم أبا زيد: أريد جريدة تنشر هذا البيان، ألا يصدر رفاقك في الرابطة جريدة؟ سألني الطيب إن كنت من الرابطة، قال عبد الكريم: ظننتكم تعرفون بعضكم، صديقنا جمال أمضى أكثر من نصف عمره في السجون، صححت ضاحكاً: بل الثلث. حدق الطيب في وجهي، صافحني من جديد ، وعانقني وقال: “تشرفت بمعرفتك” ثم بدأ يتحدث بثقة عن ضرورة تفكيك الدولة الأمنية، وتجاوز الاستبداد، وتفكيك الألغام الطائفية. سألني الطيب ما رأيك؟ قلت له إنني لا أختلف معه من حيث الجوهر. بماذا نختلف من حيث الشكل؟ سألني الطيب، قاطعه وقاطعني عبد الكريم وقال: “خلينا نأجل الخلاف على الشكل هالسا [حالياً]… ما عندكن جريدة؟” مازحت عبد الكريم: “لماذا لا تنشره في النور، جريدتكم؟” قال لي:”هظولا [هؤلاء] لا للسيف ولا للضيف..” مازحته من جديد: وقلت بلهجة حورانية:”هظولا متحالفين مع غدرات الزمان” ابتسم الطيب، ولكن عبد الكريم قال بمنتهى الجدية: “والله العظيم صحيح! والله متحالفين مع غدرات الزمان”.

بدا لي الأمر وقتها وكأني في حلم، حديثٌ وتبادل بياناتٍ في مركز مدينة دمشق! خليل يتحدث بصوت عال في المقهى، وعبد الكريم يبدو لوحده مظاهرة. أما كان ينبغي أن أثق وقتها بأن آفاقاً جديدة تلوح في أفق البلاد. دخلت إلى كافتريا المركز الثقافي الروسي في شارع 29 أيار، وقرأت البيان. يحمّل البيان بلغة صريحة وواضحة النظام المسؤولية عن الجرائم التي بدأها فرع المخابرات العسكرية وتلاه فرع الأمن السياسي. ثم يشير إلى جرائم قتل ارتكبها النظام في درعا ويصفها بأنها (ضد الوطن وضد الشعب السوري)، إذا لم تخني الذاكرة، ويفند تلك الجرائم ويذكر أسماء المتظاهرين والمشيعين الذين قضوا برصاص النظام، ويرى أنّ سلامة المجتمع السوري تقتضي التخلص من النظام. عبد الكريم أبا زيد، الصحفي الذي يعمل في صحافة النظام وعضو الحزب الشيوعي (جناح يوسف فيصل) المتحالف مع النظام، يكتب بياناً باسمه ويوزعه في قلب العاصمة، قلت لصديقي إياد شاهين في مساء ذلك اليوم: “بدأت أرى العلامات الصغرى والكبرى لقيام الساعة في سورية!”

في اليوم التالي صادفت الطيب تيزيني أيضاً، قرب فندق الشام، كان برفقة شاب أنيق بعمر أولاده، لوحت بيدي فاستوقفني: “ما رأيك ببيان عبد الكريم؟” أجبت: “مكتوب بماء القلب”. ربت على كتفي بحنان الآباء وقال لي: “إنه يثير الشجن، وعلينا أن نعرف ما الذي ينبغي علينا فعله، أنه بيان قوي ويحدد الملامح العامة لما يجب فعله وعلينا أن نناقش الكيفيات”.

كنت من بين الذين اعتبروا اللقاء التشاوري الذي أقامه النظام (مؤتمر صحارى) مجرد محاولة من السلطة لالتقاط الأنفاس وتدجين تباشير الحراك في سورية. لم أثق بأن الممثلة التي دعت إلى إعادة الاعتبار للدروس العسكرية في المدارس، والشيخ الذي ينتقد بكياسة معهودة سلوك النظام، والشيوعي الذي يؤمن بعمق بدكتاتورية البروليتاريا ويعيد نشر الكتب التي تلمع صورة ستالين، ونائب رئيس الجمهورية المغيب قد اتفقوا فعلاً على تكوين دولة مدنية عصرية وديمقراطية. ولكني توقفت عند ما قاله الطيب تيزيني: “لا بديل عن تفكيك الدولة الأمنية المهيمنة في سورية، لا بد من دولة القانون، لا بد من البدء بإطلاق سراح جميع سجناء سورية”.

أورثنا مسار الأحداث الدامية التي شهدتها البلاد أشياء عديدة من بينها دمعة عزيزة وجليلة ذرفها الطيب بالنيابة عن الكثيرين منا على أطلال بلاد تمضي نحو قاع بعد قاع من قيعان الحضيض، وعبارة عاقلة قاسية تطفو على بحر من المرارة والإحباط قالها الرجل: ” كل ما كتبته في حياتي بحاجة إلى إعادة نظر”. وأرى أن هذه العبارة الأخيرة تصلح لأن تكون وصية لنعيد النظر في كل ما قرأناه وكتبناه.    

لماذا لم يذكر التاريخ الفنانات العظيمات؟

لماذا لم يذكر التاريخ الفنانات العظيمات؟

مرت قرون من كراهية النساء حجبت ذكر أي فضل لهن في بناء التاريخ الإنساني، حيث اقتصر دور المرأة وفقاً للسرديات التاريخية المهيمنة على مساندة الرجل والوقوف إلى جانبه. هذا التغييب لدورها هو انعكاس لرؤية المجتمع الذي أنكر عليها جهودها وفضلها في جوانب الحياة الشتى. فأضحت المرأة نفسها ترضى بما يقسمه لها مجتمعها دون التفكير بالمطالبة بحقها والاعتراف بفضلها في المساهمة في أي عمل كان. باتت المرأة التي تطالب بذكر اسمها والاعتراف بعملها نشازاً.

ما حل بالنساء السوريات مؤخراً جعلني أراجع ليس فقط تاريخ هذه الممارسة فحسب، إنما دفعني لدراسة سلوك النساء فيما حولي بما في ذلك سلوكي الذاتي. كفتاة وفنانة سورية تأثرتُ بما فرضه السلوك العام في مجتمعي، فأجحفتُ بحق نفسي مراراً دون أي إدراكٍ مني أن من حقي أن أطالب بالاعتراف بجهودي وإنجازاتي. أذكر أنني لم أهتم عندما كنت أعمل جاهدة لإنجاز لوحاتٍ من الفن التشكيلي بالتوقيع عليها؛ فلم أكن أعي حينها أهمية التوقيع على أعمالي وأن أعتز بما أنجزت. كنتُ أعمل لمجرد متعة العمل ذاته، حتى أثناء الدراسة ضمن مجموعات من الطلاب لم أكن أمانع بالعمل أكثر من زميلي الشاب رغم تقاسمنا نفس علامة المشروع النهائية. لكن تجربة اللجوء في الولايات المتحدة الأمريكية التي مررت بها والعيش في مجتمع مختلف جعلني أقارن بين سلوك المرأة وتعامل المجتمع معها في كلا المجتمعين الأمريكي والسوري.

أصبحتُ أدرك أن ما اعتدت عليه هو إجحاف بحقي، وبدون أن أطالب بالاعتراف بحقي في عملي لن أستطيع التقدم والعيش في مجتمع جديد، لقد ذقتُ مرارة تجربة اللجوء، لكنها علمتني كيف أنصف نفسي التي غُبنت لعقود. لاحظتُ أن المجتمعات الغربية قد بدأت بتغيير ما درجت عليه سابقاً للخروج من عصور اعتادت على تنحية دور المرأة. حيث تم تبني نظام اقتصادي عالمي جديد فرض طريقة جديدة في التعاملات من خلال ابتكار مفهوم يسمى “the credit” أي مفهوم الائتمان حيث يسعى أفراد هذا المجتمع لتجميع نقاط تدل على إنجازاتهم أو التزامهم بالقوانين ويعطي مؤشراً على مدى أمانتهم لكي يثبتوا من خلال هذا الرصيد من النقاط التي جمعوها في أي مجال كان اقتصادياً أو دراسياً أو في مجال العمل أنهم أهل للثقة أو أصحاب فضل في بناء مشروع ما وذوي خبرة في مجال آخر. هذا المبدأ الجديد في التعامل غيّر من سلوك المرأة في هذه البلاد فبدون أن يملأ الشخص رصيده بنقاط تدل على أهليته وقدراته لا يستطيع أن يعيش في هذا المجتمع. لذا فالمرأة في هذه المجتمعات المتطورة تسعى بشكل طبيعي للمطالبة والاعتراف بفضلها في المساهمة في أي عمل كان، لكن رغم هذا التطور مازالت المرأة وفقاً لبحوث شتى لا تحسب لنفسها الفضل كما يحسبه الرجل، فما زالت المهمة الأصعب لها هي الحصول على الفضل في العمل الذي تقوم به، خاصة عندما تعمل لخدمة الأسرة أو في مجموعات.

في دراسة أجرتها ميشيل هاينز عن مفهوم الائتمان\credit (الفضل في إنجاز العمل) قالت “لقد أعطت النساء الفضل لزملائهن من الرجال أكثر مما أعطين لأنفسهن، فقد أبخسن حقهن من الائتمان\credit (الفضل في إنجاز العمل) فإذا لم يكن دورهن في تحقيق نتائج الأداء أو المهمة التي قام بها الفريق واضحاً بشكل لا يمكن دحضه لا تطالب النساء بأي فضل في العمل”. وفقاً لهذه الدراسة فإن هذه الظاهرة تكون أقل عندما كانت النساء تعملن مع نساء أخريات. وعند مقارنة هذه النتيجة مع مجتمعاتنا العربية نجد أن أمام المرأة العربية طريق أطول لتصل فقط لما وصلت إليه مثيلتها في العالم الغربي. رغم أن المرأة الغربية لم تحقق بعد العدالة الكاملة في المطالبة بحقها، ووفقاً لدراسات متعددة ما زالت متأثرة بشكل أو بآخر بالموروث الذي يحد من شأنها ويشوه نظرة المجتمع إليها ونظرتها لذاتها ويمنعها من المطالبة العادلة بالفضل فيما تساهم به.

لم تتعرف المجتمعات العربية بشكل عام بعد على مفهوم الائتمان\credit (الفضل في إنجاز العمل)، والمرأة بشكل خاص لم تعتد المطالبة بحقها في الفضل في إنجاز الأعمال التي تقوم بها. عمقت المأساة السورية هذا الاجحاف الذي يطال المرأة وزادت من أعبائها، وفي المقابل زاد الظلم الذي يقع على المرأة حيث بات جهدها الجبار خفي لا يعترف به أحد. فنتيجة الظروف الصعبة باتت المرأة في كثير من الأحيان هي المعيل الوحيد للأسرة، لكن كل هذه الجهود التي تقوم بها المرأة تبدو غير مرئية في عين المجتمع حيث لا تطالب المرأة بالاعتراف بأي فضلٍ لها فيما تبذله من جهدٍ، خاصةً ما تبذله في سبيل إنقاذ عائلتها.

لاحظتُ من خلال معايشتي لمجتمع اللجوء أن المرأة أكثر مرونة من الرجل في التأقلم مع الظروف الجديدة؛ فهي قد تفعل المستحيل وتقوم بأي عمل مهما كان صعباً ومردوده قليل بعكس العديد من الرجال الذين لا يرضون بأي عمل مهما كانت ظروف العائلة مريرة. لقد سمعتُ مراراً وتكراراً من كثير من الرجال عبارة (أنا لا أعمل إلا في اختصاصي)، لكني قلما سمعتُ هذا من النساء اللواتي يعملن بصمت لتأمين لقمة العيش لأطفالهن. إن الاجحاف الحقيقي بحق المرأة هو نكران كل ما تفعله وعدم الاعتراف بفضلها في إنقاذ عائلتها، فهي سر الاستمرار في الحياة واليد الخفية التي ما زالت ترسم لوحة الحياة في زمن الموت، علّها تدرك مثلي يوماً ما أن من حقها أن تُدرج توقيعها على تلك اللوحة وهي مرفوعة الرأس.

* يعاد نشر هذا المقال في صالون سوريا ضمن تعاون مع شبكة الصحفيات السوريات