حين اشتقتُ إليك

حين اشتقتُ إليك

حين اشتقتُ إليك

حين اشتقتُ إليكِ كتبتُ قصيدةً على الجدار

هدمتْها القذيفةُ

.وسالَ الدمُ من حروفها

حين اشتقتُ إليكِ بحثتُ عن أطفالٍ غير جياعٍ

.فلم أجدْ

حين اشتقتُ إليكِ صعدتُ إلى الجبال

ونظرتُ إلى المدن

.فلم أجدْها

حين اشتقتُ إليكِ أشعلتُ شمعةً

وفضحتُ تشرّدي الأخير.

حين اشتقتُ إليكِ لمستُ جثّةَ مقاتلٍ جانبي

.وشعرتُ به يبتسم

حين اشتقتُ إليكِ نسيتُ قصيدةيطير الحمام.. يحطّ الحمام

وتذكرتُ قصيدةفي البالِ أغنيةٌ يا أختُ عن بلدي

فأحسَسْتُ بحَلْقي طعمَ العِتاب.

حين اشتقتُ إليكِ نزلتْ طيورٌ خضراءُ في حَنجرتي

.وماتتْ من قلّةِ الماءِ والخبزِ في هذا الحصار

.حين اشتقتُ إليكِ كانت الرصاصةٌ قد غيّرت اسمي

حين اشتقتُ إليكِ تنفّستُ هواءً نقيّاً

.وكأنني لستُ في ثلاجة الموتى

حين اشتقتُ إليكِ سمعتُ الملائكة يحصونَ أهل الجنّة

.ويكذّبون نشرة الأخبار

.حين اشتقتُ إليكِ كان الشعراءُ يلصقونالنعواتعلى أعمدة الكهرباء

حين اشتقتُ إليكِ دخلتُ مغارةً

.ونمتُ بهدوء طفلٍ لم يعرفْ أنه على هذه الأرض

…إلخ

.ليست خيانةً أنْ أشتاقَ إليكِ في هذه اللحظات الأخيرة

* * *

كان هذا الشتاء غزير التوابيت

كان هذا الشتاء غزير التوابيت

كان هذا الشتاء غزير التوابيت

فتاةُ القرى

وهي تلمحُ بين التلال القطار البعيد

وأعوامَها وهي تعبرُ مثل ثلاثٍ وعشرين غيمةْ

تحدّثُ جارتها عن ذهابِ الجنود إلى الحرب تحت المطرْ

تقول لقد كان هذا الشتاء غزيرَ التوابيت

والأرضُ تزهرُ في كل يومٍ مئاتِ الضحايا

ولي عاشقٌ غاب من سنتين

ولكنه يتلفّظُ باسمي إذا ما اعتراهُ الرصاص

..فينجو

هو ابنُ ثلاثٍ وعشرين نجمةْ

يهاتفُني من قرى الآخرين

ويلمح بين التلال القطار البعيد..

فتاةُ القرى لا تقول لجارتها

إنّ عاشقها لا يهاتفُها منذ عام..

وجارتُها لا تقولُ لها إنها لمحتْ

نجمةً سقطتْ

.منذ عامٍ وراء التلال

* * *

لم يعد أحدٌ منذ عام وأكثر

لم يعُدْ أحدٌ منذ عامٍ وأكثرَ

:قيلَ لنا

“مرّ هذا الشتاءُ على أهلِنا قاسياً

والذي سوف يأتي به الصيف أقسى”

خرجنا سريعاً من الباب

بابِ المدينة

كانت خيوطُ الدماءِ تسيلُ على الجانبين

هبطْنا بأثقلِ أحزانِنا فوق أرضِ الهزائم

ثم انتظرنا

انتظرنا طويلاً وراء التلال

ومرّ الشتاءُ

ومرتْ بنا العرباتُ محمّلةً بالجنود

ذئابٌ رماديةٌ

ونساءٌ يضعنَ قلائدَ مسبوكةً من رصاصٍ

رأينا على صفحةِ النهرِ أجسادَنا وهي تطفو

وراياتِنا تتمزّقُ قبل المغيب

وقيل لنا لن نعود كما لم يعدْ أحدٌ منذ عامٍ وأكثرَ

لكننا كلما اهتـزّ من تحتِ أرجُلِنا الجسرُ

مدّ إلينا الشتاءُ حبالَ الحنينِ

وعُدنا إلى ضفّةِ الحزن..

هذا خرابٌ عظيم

تجاعيدُ أحلامِنا باتتِ الآن أكثرَ عمقاً

وصارتْ ضفائرُ أشجارِ هذا الطريقِ رماديةٌ

لم يعُدْ أحدٌ

لم تلوّح لنا من وراءِ الجدارِ يدٌ

لم يصلْ طائرٌ

والخيولُ الثلاثون تلك التي انطلقتْ بالرجالِ الثلاثينَ

لم ينجُ منها صهيلٌ على الجرفِ

لكنّ ضوءً خفيفاً فقطْ

شعَّ في عتمةِ الليل..

قيل لنا إنّ نجماً هوى

قيل نبعٌ تفجّرَ

قيل حريقٌ خَبَا

..قيل سيفٌ أطاحَ برأس الملكْ

لم يكنْ غيرَ نصلٍ فقطْ

..شعَّ في عتمةِ الليل

.ثم سقطْ

 * * *

نماذج من الشعر السوري الجديد

نماذج من الشعر السوري الجديد

ملف أعده لصالون سوريا: أسامة إسبر

رغم أن الحرب هدمت سوريا عمرانياً وفكّكتْها اجتماعياً لا يزال الشعر يمثل فضاء مشتركاً للسوريين، وهو يكتسب أهمية كبيرة، كونه فناً غير قابل للتوظيف، ويمثل اللغة في أرقى وأعلى أشكالها التعبيرية، كما أنه يلوِّن اللغة ويُغنيها بألوان الشعراء المختلفين، وبرؤيتهم وبنائهم للعلاقة بين اللغة وعوالم الواقع وأشيائها. والشعر، يضيءُ عتمات، ويقود أضواء فيها، تظلُّ تبحث عن الخفي، والذي يظل هارباً، ولهذا لا تُستنفد اللغة الشعرية، بل تظلُّ مقترنة بالمستقبل، لأنها غوصٌ فيه، واستكشافٌ له، ورحلة في تقلبات الذات.

وفي هذا الملفّ الذي يمثّل جانباً مميزاً، وليس شاملاً، من الشعر السوري الجديد، يتفرد الشعراء المشاركون، كلٌّ بلغته الخاصة ورؤيته المختلفة، في بناء قصيدة تعيش غير مستقرة، لا وطن لها، فلا المنفى بكل مغرياته يخلق الطمأنينية، ولا الأوطان. وهكذا، يعيش الشاعر في وطن بديل، هو وطن الفن، العالم الشعري الذي يبنيه ويوسعه، والذي هو نافذة للآخر كي ينظر إلى الأشياء بطريقة جديدة، كي يرى نفسه ومحيطه خارج نطاق السائد والمألوف، هذا هو عالم الشعر، وتلك هي مغرياته، وهنا تكمن فرادته، في أنه دوماً يولد مع كل قصيدة جديدة، ويتشكل في كل تجربة شعرية، وبالتالي فإن كل شاعر كوكب يدور في فلك الشعر، أحياناً تكون الإضاءة خفيفة وفي أحيان أخرى يشتدّ السطوع. وفي هذه المختارات التي ينشرها صالون سوريا، ثمة رسالة عميقة، وهي أن ما يوحّد السوريين، يكمن في الإبداع، وفي أفق العلاقات الجديدة التي يبنيها الأدب والفن بين الذات والآخر، بين الروح المبدعة والروح المتلقية، في هذا التفاعل يولد الأمل، ويتوهّج ضوء الحضور.

في الأيام القادمة سننشر المواد تباعاَ ونقوم بتفعيل روابطها:

١: كان هذا الشتاء غزير التوابيت
تمام التلاوي

٢: حين اشتقتُ إليك
حكمة شافي الأسعد

٣: ولو كان ورداً أقلّ
سُرى علّوش

٤: الغريب
عبد الكريم بدرخان

٥: تقطيع المشاهد بالاختناق
عمر الشيخ

٦: في البدء كانت السكين
صلاح إبراهيم الحسن

٧: لا يحزنني الموت
لينة عطفة

٨: قصائد
محمد شعبان

٩: فيلُولوجيا الأزهار
أمارجي

١٠: النساءُ الأوروبيّات
مناهل السَّهْوي

١١: رائحة البرتقال
ميس الريم قرفول

آخر الرجال في حلب خارج المسؤولية الأخلاقية

آخر الرجال في حلب خارج المسؤولية الأخلاقية

يفصلنا يوم واحد عن المحفل السينمائي الكبير الذي تقيمه إدارة «أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة»، والذي سيتم فيه توزيع جوائز الأوسكار بنسختها الـ90 على الأفلام الفائزة. كانت الأكاديمية قد أعلنت قبل نحو شهر عن وصول الفيلم الوثائقي «آخر الرجال في حلب Last Men In Aleppo» القائمةَ النهائية التي تضمّنت أفضل خمسة أفلام وثائقية مرشحة للحصول على الجائزة لعام 2018 الجاري، وهو من إخراج فراس فياض، وحسن قطّان (سوريّا الجنسية)، إضافة إلى ستيڨ جوهانسن (دنماركي).

الفيلم الذي ماكان له أن يُرشح للجائزة فيما لو كان سورياً إذ سيؤخذ حينها في حسابات قائمة الأفلام الأجنبية، أثار الكثير من البلبلة أخذاً وردّا، ففي حين اعتبرته وسائل إعلامية تلفزيونية وأخرى إلكترونية مدعاةً للتعالي والفخر بوصفه “أول فيلم سوري يصل إلى الأوسكار”، انقسمت أصوات أخرى من جانبها (مؤيدة للنظام، ومعارضة له) حول ما يتعلّق بالتوجه الفكري لأحد مخرجيه، حيث تناقلت على نطاق واسع جداً صورةً لمنشورٍ على فيس بوك ينعو فيه (حسن قطان) صديقاً له في تنظيم جبهة النصرة.

وكان قطان قد نشر على صفحته في فيسبوك قائلاً: «ما تزال بسماته الجميلة التي تنير وجهه معلقة في ذاكرتي المرهقة، لم يكن كأي مجاهد آخر، عشق القتال والموت تحت راية إسلامية فنالها، كان أكثر الذين عرفتهم صفاء وبشاشة وورعاً وتقوى، أسدٌ من جبهة النصرة قد رحل اليوم عنا إلى جنان الخلد، أتمنى من الله تعالى أن يتقبله.» مُرفقاً (المنشور) بصورة للجهادي وهو يشير بيده إلى الراية السوداء ببقعتها البيضاء الشهيرة.

قد يبدو اتهام البعض لقطّان بانتهاجه فكراً إرهابياً هكذا بعبارة صريحة أمراً مبالغاً فيه، لكن أن يكون أحد مخرجي فيلمٍ مرشح لنيل جائزة شهيرة قد توجّه إلى عضو “تنظيم إرهابي” بالنعوة، والإشادة، وإبداء التعاطف هو أمر مشين، ومعيب، ومخجل، ناهيك عن أنه يحط من قيمة العمل ونزاهته، ويقلل من مصداقيته كذلك، خصوصاً وأنه فيلم وثائقي، أي أن ذلك يطعن حرفياً في صلب النقل الموضوعي للحقيقة. وضع قطّان، بصفته أحد مخرجي العمل، المادة الوثائقية المرشحة للأوسكار في موقفٍ حرجٍ لا يمكن تجاوزه في عمليّتي الإنتاج وما بعدها، لا بل يسيء لشعارات الحرية والكرامة والمواطنة التي انتهجتها الثورة السورية ضد نظام الحكم الديكتاتوري في البلاد مطلع العام 2011، والتي باتت الآن (الشعارات) شكلاً طوباويّاً لايعدو التنطّع لها أن يكون محاولةً لدفن الرؤوس في الرمال لا أكثر، ناهيك عن أن تلك البلبلة التي أثارها قطّان من خلال منشوره تعد بمثابة منحة للنظام السوري بأدواته الإعلامية، إلى جانب البروباغندا الروسية في توجيه الاتهامات لا للجهاديين فقط، وإنما لمفهوم المعارضة السورية ككل.

الجميع يعلم أن عمليات اختطاف الأجانب وطلب الفدية المالية لقاء إطلاق سراحهم أو تسليم جثثهم في بعض الأحيان حالت دون استساغة الصحفيين الأجانب لفكرة الدخول إلى البلاد ونقل ما يجري فيها مؤخراً، الأمر الذي ترك الباب مفتوحاً أمام المخرجين السوريين الشباب، لكن ليس ثمة طريقة لفعل ذلك دون التواصل مع آخرين في الداخل قادرين على الإحاطة بما يجري تحت حماية من فصائل عسكرية على (اختلاف توجهاتها)، وهذا أيضاً يطعن في موضوعية نقل المادة خارج سوريا. ناهيك عن أنك لو كنتَ مخرجاً سورياً مثلاً ما كان من المناسب أبداً لأخلاقيات مهنتك أن تتواصل مع إعلاميين ذوي ولاء للقاعدة في ليبيا بُغية صناعة فيلم وثائقي عما يجري هناك، مامن سبب يبيح لك ذلك إلا الانتهازية اللعينة.

في المقابل ينأى من يحترم أخلاقيات مهنته بنفسه بعيداً عن هذه المساحة المليئة بالشبهات، كيف لمن يحترم أخلاقيات مهنته أن يشتغل على مادة لا يعلم أصلها ولا فصلها حتى وإن كانت حقيقية، إذ لا شيء يمنعها من أن تكون قد اجتزأت من الحقيقة ما يعجبها، والاجتزاء من الحقائق هو نكرانها عينُه.

لم تكن السينما يوماً ما لعبة، إنها مسؤولية كبرى، شأنها شأن الكلمة، بإمكانها أن تدعو، أو تدفع، أو تهدد، أو تعطي، أو تمنع. إن كل الأحداث تُصنع، تَبدأ أو تنتهي، ولا يبقى منها سوى ما هو مرهون باللغة، مكتوبةً كانت أم بصرية.

على أية حال، كثيرةٌ تلك الأصوات التي تدعو دائماً إلى الفصل بين الفن وشخصية الفنان، ليس من السهل الاستجابة لتلك الدعوة بالتأكيد إذا ما أخذنا ضرورة اتساق الفكرة مع صاحبها بعين الاعتبار، وهنا تتبادر مجموعة من الأسئلة: كيف للمرء أن يقف ضد الإصدارات المرئية التي ينتجها تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» لأنها تحتوي على مشاهد العنف، وأن يغض الطرف عن كونها أصلاً من صناعة داعش؟ وكيف للمرء أيضاً أن يؤيد مثلاً أداةً إعلامية تابعة لنظام حكم ديكتاتوري دون أن يترك ذلك مساحة كبرى للشك في مصداقية وجوهرية ما يُراد من مادّتها الإعلامية؟ وكيف يرتضي الفنان أصلاً أن يعمل وفق منهجيّة الغاية التي تبرِّر وسائلها؟

أن يتحرّى الفنان الصدق، ويُسائل نفسه على الدوام، ويبتعد عن منتجة الواقع المعقد واختزاله على نحو قد يضعه بموقع من يسعى لتحقيق مجد شخصي دون مسؤولية اجتماعية، هي عناصر أساسية من عناصر الأخلاقيات المهنية خاصة في ظل الحرب. ختاماً، إن كان ثمة من سيقول الحقيقة المُنصفة التي لا مآخذ عليها إزاء ما جرى ويجري في سوريا، فهم المدنيون الذين دفعوا ويدفعون الثمن الأكبر لهذه الحرب العبثية. ‎

وطن.. بالعين المجردة: معبد عين دارة ضحية أخرى للحرب السورية

وطن.. بالعين المجردة: معبد عين دارة ضحية أخرى للحرب السورية

ضمن ثقافة الحرب وعرفها، لم تكن سياسات إخضاع المناطق وغزوها، وجرائم التطهير العرقي يوماً بالكافية. الحرب لا ترض بما هو أقل من تدمير الهوية التاريخية، شرعنة الأفعال الشنيعة وهدم المجتمعات على رؤوس أبنائها مختزلةً كل ذاك بعاملٍ واحدٍ يقوم على اجتثاث الجذر الأساسي للشعوب وفصلها عن النسيج الأصلي الذي قامت ونبتت فيه.

فالتاريخ الآن عبارة عن كتالوغ مرصوف بتصنيفات تُبنى تبعاً لاندلاع الحروب وسطوتها. قاموسٌ ضخمٌ تتوسع صفحاته باستمرار، يمكن لنا أن نزخرفه وأن نخفف من بشاعته بتنويط الأحرف داخله بموسيقا الطائرات والمجنزرات التي فتكت بأعداد من الضحايا كافية لأن توجد بشرية تبني كوكباً جديداً، هذا القاموس علينا فتحه بين الآونة والأخرى كي نقطع دابر طريقها إلينا.

الحالة السورية لوحدها وخلال السنوات السبع الأخيرة فقط يمكنها أن تُخرج مؤلفاً ضخماً، يحوي أحداثاً يمكن معايرتها وقياس زمن حدوثها بالنانو متر، فليس هناك زمنٌ فاصل بين الحدث والآخر.

بالنسبة لهذا البحث ليس من وظيفته تحليل الأسباب التي جعلت منا شعوباً تصنع أحداثها المفجعة على مدار الساعة. إلا أنني أومن وبشكل مطلق بأن الشعوب لا تتحمل عبء كل ما يجري. “تضييع الهوية التاريخية وتشتيتها جنباً إلى جنب مع تغييب المنهجية العلمية في التعامل مع الحياة والقضايا المصيرية قاد البشر نحو العودة والاستناد إلى الميثولوجيا،”(1) كعامل أساسي يستطيع أن يجيب عن أسئلتها تجاه كل هذه الاستباحة والتهميش الحاصل بحقها. وهذا بدوره سيقودنا إلى نتائج كارثية على كافة المستويات، والتي من شأنها أن تفتك بمقدرات البلد وبتاريخه وارثه الحضاري. اليوم نحن لسنا على تخوم المجزرة، نحن الآن في جوفها، القتل والتدمير هما رواد المرحلة وسياسات التخوين والطعن بالآخر كل ما لدينا. غير آبهين بكل هذه الخسائر والجرائم الحاصلة بحقنا وبحق هويتنا البشرية  بكافة تصنيفاتها. لم تنجُ الرقعة الأثرية من فصول الدمار وأعمال السرقة والنهب  أيضاً، فبات لها أرشيفها الخاص الذي تطول قائمة التدنيس والتخريب المرتكب بحقها. ويبدو بأننا على موعد مع توسيع لهذه الرقعة حتى تغدو ممسدة المساحة لا يشخص منها حجر واحد.

لم يكن تدمير معبد عين دارة أول خساراتنا وللأسف لن تكون الأخيرة. فبحسب التقرير(2) الذي صدر عن (ASOR) حُدد تاريخ استهداف المعبد بتاريخ 22  كانون الثاني/ يناير (الصورة رقم(1. إلا إن الصور والفيديوهات التي شاهدناها وظهرت للعلن انتشرت بعد هذا التاريخ وبشكل أدق بعد التقرير الذي أعدّته وسيلة الاعلام الكردية (ANHA) التي نقلت الحدث من قلب الموقع المدمر في يوم 27  كانون الثاني/ يناير بعد تعرّض المعبد لغارة من قبل الطيران التركي في خضم عملية أطلق عليها “غصن الزيتون” التي بدأت في تاريخ  20 كانون الثاني/ يناير.

الصورة رقم 1: صور جوية للموقع قبل وبعد الاستهداف حيث يحدد المربع الأحمر المنطقة التي تعرضت للضرر (مصدر الصور:  ASOR)

تُذكرنا هذه العملية والترويج لها بالحملات العسكرية في العصور التاريخية القديمة، حيث العمل الدؤوب لإضفاء صفة الشرعية على الحملة التي سيقوم الملك بشنها على الممالك أو المدن الأخرى. فقد لبى (90) ألف مسجدٍ طلب الدعاء لأردوغان في حملته الاخيرة في عفرين وكأننا نرى كهنة معبد إله الحرب (ننجرسو) تبارك المقتلة القادمة وتقدسها. الأهم من ذلك خاصية تأليه الملك التي لا زالت متفشية وجذورها الأولى لازالت متفرّعة وبتوسع كبير. فالتاريخ يجلب لنا الكثير من التفاصيل التي نراها اليوم وكأنها شريط يُعاد ولكن بأدوات جديدة وبنسبٍ تتناسب طرداً مع تطور وسائل القمع والقتل، وعكسياً مع الإرادة الحرة للشعوب.

بالعودة إلى عين دارة فهو موقعٌ جديد يضاف إلى قائمة المواقع التي شهدت الأيام الأخيرة مجزرة بحق الحجارة والقدسية التي وسمت المكان. أحاول في هذا المقال توثيق آثار المعبد ووصف أهميتها التي لن يتسنى للأجيال القادمة للأسف رؤية بعض أجزائه الفريدة التي دُمرت إثر الحملة العسكرية التركية على عفرين والحرب السورية التي أتت على عددٍ كبير من آثار هذه البلاد المنكوبة. كما سأحاول تسليط الضوء على الأجزاء التي تعرّضت للتدمير إثر الضربة الجوية مع التأكيد على عدم كفاية هذا التحليل دون المعاينة المباشرة من قبل آثاريين لتقييم الضرر وتوثيقه ودراسة إمكانيات الصيانة والترميم. وأختتم المقال بالتحدث قليلاً عن زيارة قصيرة للمعبد، لكنها مكثفة في الذاكرة.

موقع عين دارة

يقع في وادي عفرين، الوادي الذي ينحدر في مجراه العلوي من الشمال إلى الجنوب قادماً من دوليشا (عينتاب) ليجتاز موقع تل عين دارة ثم ينحرف نحو الغرب نحو بحيرة أنطاكية. يعتبر هذا الوادي ممراً هاماً يصل سهل أنطاكية بمنطقة عينتاب وبمنطقة حرّان عبر الفرات في البرجيك. وعلى مقربة من عين دارة تقع ممرات متعددة تتجه نحو الغرب وتؤدي إلى ممر بيلان، منفذ سوريا من جهة وإلى الإصلاحية وسنجرلي على سفوح الأمانوس من جهة أخرى، وتعتبر ذات أهمية استراتيجية كبرى حيث كانت تسمح للقادمين من أنطاكية الوصول إلى تل رفعت Arpad)) قديماً وإلى حلب دون المرور من الطريق الجنوبية التي كانت أكثر تعرضأ للهجمات. لذلك فقد جهز هذا الممر بما يحتاج إليه من منشآت دفاعية فنجد أنّ موقع الباسوطة القريب مثلاً كانت محمياً بقلعة محصنة ترجع إلى القرون الوسطى. من المرجح بأن تل عين دارة المرتفع كان محاطاً بسورٍ يرجع إلى العهود البيزنطية أو ربما الهلنستية، وأنّ سوراً كبيراً آخر كان يحميه في العهود القديمة التي سبقت ذينك العهدين(3).  و يقع هذا التل على بعد (40)كم شمال-غرب حلب و(7)كم جنوب مدينة عفرين.(1) على الضفة الشرقية لنهر عفرين، أحد روافد نهر العاصي، نبعُ عفرين الذي أعطى اسمه للمكان ويبعد عنه مسافة (800) م شرقاً. تتميز هذه المنطقة الهضبيّة بوفرة مياهها وبأراضيها الخصبة التي شكلت المقومات الأساسية للبنة الاستيطان البشرية الأولى. يحتل موقع عين دارة موقعاً استراتيجياً هاماً حيث يبعد عن موقع عزازا (A-za-za) الأثري (عزاز حديثاً) مسافة (25) كم شمال شرق، وعلى مسافة (30)كم شرقاً من موقع أرفاد (Arpad)(تل رفعت حديثاً)، عاصمة مملكة “بيت أغوشي” الآرامية (4).

لم يكن الموقع معروفاً حتى اكتشاف تمثال ” الأسد البازلتي الكبير”  في العام 1955، حيث تم العثور عليه مرتمياً على جانبه المنقوش في الجزء الغربي من التل  (الصورة رقم 2). أسطحه تخلو من الكتابات على خلاف الأسد الذي تم اكتشافه في موقع تل أحمر (تل بارسيب قديماً). الذي كُشف لاحقاً عن تل عين دارة الأثري والذي عُدّ من التلال الكبيرة في المنطقة (5).

الصورة رقم 2 : الوضعية التي وجد عليها الأسد

(مصدر الصورة: الحوليات الاثرية السورية، علي أبو عساف).

تبلغ أبعاد التل (125) م باتجاه (شمال- جنوب) و(60) م باتجاه (شرق- غرب) وهو يقع بالقرب من النهر. بينما حددت مساحة المنطقة المنخفضة بـ (270) و(170) م وهي متاخمة للقلعة من جهتي الشمال والشرق. حُدد تاريخ استيطان المنطقة المنخفضة بدءاً من عصر البرونز المتأخر حتى عصر الحديد (II) ( 1200-740)ق.م, أما بالنسبة للتل فلقد حددت سوياته بسبع سويات أثرية بدءاً من عصر البرونز المتأخر حتى الفترة السلوقية (6).

بدأت أعمال التنقيب في الموقع بإدارة المديرية العامة للآثار والمتاحف في دمشق خلال الأعوام (1964-1962-1956) بإشراف فيصل الصيرفي والباحث الفرنسي موريس دونان (Maurice Dunand) (الصورة رقم 3). وبعد فترة انقطاعٍ طويلة عادت التنقيبات خلال الأعوام ( 1981- 1980-1978-1976) تحت اشراف علي أبو عساف، في حين جرى مسح المنطقة المنخفضة بين عامي 1984-1982)) من قبل فريقٍ امريكي بإشراف اليزابيث ستون وبول زيمانسكي.

تمثلت أهم الاكتشافات التي قدمها الموقع باكتشاف المعبد الذي ظهر للعلن خلال سلسة التنقيبات التي قام بها علي أبو عساف خلال الأعوام ( 1985-1980).

المعبد

يشغل المعبد الربع الشمالي من التل ممتداً باتجاه جنوب شرق – شمال غرب. دلّت الدراسات الأثرية بأن المعبد قد بني على ثلاث مراحل استمرت على مدار (550) سنة  (الصورة رقم 3 ).

 

الصورة 3: مخطط معبد عين دارة مع مراحل بنائه الثلاث

(مصدر الصورة: Mirko Novak2010 ).

في المرحلة الأولى تم تشيد المعبد فوق المصطبة الأكثر قدماً، وشهدت المرحلة الثانية إنشاء مصطبة المعبد الحديثة ومجسم المعبد. أما الرواق  (Gallery)الذي وجد خلال أعمال التوسعة الخاصة بالمصطبة فقد أُضيف خلال المرحلة المعمارية الثالثة والأخيرة. وتشير الدلائل بأن المعبد بُني في بادئ الأمر مفتوحاً على الخارج، وهذا الطراز من العمارة يشترك بهذه الخاصية مع عمارة  المعابد الإغريقية المعروفة بالبِريبتِروس((Peripteros  ذات الأعمدة، لكن في المرحلة الأخيرة تم احاطة المعبد وجرى تسيجه بسورٍ خارجي.

ينتمي مخطط المعبد إلى نماذج المعابد المعروفة بـ (( Ante-temple وهي معابد ذات قاعة أمامية سابقة للمصلى، وتُعرف أيضاً بالمعبد البيت.  تنتشر أمثلة مشابهة لهذا النموذج في مواقع المشرق الشمالية و بلاد الرافدين الشمالية أيضاً  كتل خويرة وتل حلاوة، وإيبلا (تل مرديخ) من عصر برونز وسيط ، و إيمار، وإيكلتا (ممباقة) من عصر البرونز الحديث، وكركميش من عصر الحديد. استمر هذا الطراز المعماري كأسلوب مميز في العمارة “اللوفية ـ الآرامية” خلال عصر الحديد.  يختلف نموذج معابد (Ante-temple) بشكل كبير عن نماذج المعابد الآشورية والبابلية من جهة، وعن نماذج المعابد الحثية من جهة ثانية، فهذه المعابد تتميز ببناء داخلي معقد ذو باحة مركزية وعدة غرف إضافية بجانب المصلى.

بني المعبد فوق مصطبة ذات ارتفاع (1.80) م غطيت واجهاتها بلوحات بازلتية حفرت بزخارف لأبي الهول والسباع الرابضة. يبدو بأن هذه المصطبة كانت في الأصل جزء من ساحة مقدسة واسعة تمتد باتجاه الجنوب والجنوب الشرقي. رُصفت هذه الباحة بشكل متناوب بألواح البازلت والحجر الكلسي، وُجد فيها حوض حجري محفوظ بشكل جيد على بعد (14)م جنوباً من زاوية المعبد الشرقية، يُعتقد بأنه قد استُخدم للتقدمات الخاصة بالسوائل. يتم الدخول إلى مصطبة المعبد عبر مدرج حجري عرضه (11)م مؤلف من أربع إلى خمس درجات من الحجر البازلتي المزنرة بالضفائر. تُظهر الصور الحديثة للموقع والملتقطة بين 27 و 29 من شهر كانون الثاني 2018 بعد استهدافه بغارة جوية تركية،  بأنّ الدرجات لاتزال قائمة في مكانها ويبدو بأنها تحتفظ بملامحها الأساسية التي وجدت عليها مع بعض التخريب والانكسارات التي لا يمكن تحديدها بشكلٍ دقيق دون معاينة مباشرة من قبل أخصائيين. بينما بيّن تحليل الصور الفضائية للموقع تعرّض الجزء الجنوبي والجنوبي الشرقي من الواجهة للدمار، ونتج عن الاستهداف تهشم وتحطم التماثيل التي كانت تشكل واجهة المعبد في الجهات الخارجية المذكورة.

بالنسبة لمدخل المعبد فيتألف من كوة واسعة في الجهة الجنوبية الشرقية ذات دعامتين، يدل وجود قاعدتين دائرتين بازلتيتين على احتمالية وجود أعمدة خشبية بين الكوة والسقف مغطيةً بذلك الكوة. ومن هذه الكوة ننتقل إلى أجزاء المعبد الداخلية حيث القاعة السابقة لقدس الأقداس (غرفة ماقبل المصلى أو Antecella) مستطيلة الشكل وبعمق ((6.55 م. ننتقل منها إلى القاعة الرئيسة قاعة قدس الأقداس “المصلى”  ( (Cella مربعة الشكل بأبعاد ( (16.70 x16.80 م (الصورة رقم 4).

الصورة رقم 4: مشهد للمعبد من الجهة الجنوبية

(مصدر الصورة: Mirko Novak2010 ).

لقاعتان مرصوفتان بألواحٍ من الحجر الكلسي. يُشير التقرير الذي نشره مؤخراً مرقاب التراث الثقافي الصادر عن المدرسة الأمريكية للبحوث الشرقية  (ASOR)إلى تعرض كل من القاعة الأمامية والقاعة الرئيسة للدمار (الصورة رقم 5).

الصورة رقم 5: المعبد محدد بمربع أحمر يحدد المساحة التي تأثرت جراء الاستهداف

 (مصدر الصورة تقرير ASOR 2018).

أما العتبات فقد شكلت من كتلٍ من الحجر الكلسي، اثنتان منها غطت مدخل قاعة ما قبل قدس الأقداس، وعتبة واحدة غطت مدخل القاعة الرئيسة. حملت الأولى طبعات قدمين كبيرتين متوازيتين وأبعادها ((97×35 سم، في حين غطت الثانية طبعة لقدم اليسار وبنفس القياس تقريباً، العتبة الثالثة حملت طبعة للقدم اليمنى. تعتبر طبعات الأقدام من التصاوير الفنية النادرة في منطقة الشرق الأدنى القديم. بالنسبة لهذه الطبعات في الوقت الحالي تشير المعلومات والمعاينة النظرية للصور الملتقطة للموقع إلى تعرّض هذه الأرضيات للتخريب بشكلٍ شبه كامل، يبقى ذلك غير مؤكد قبل إجراء عمليات التقييم المباشرة من قبل الاختصاصين (الصورة رقم 6).

الصورة رقم 6: درجات المعبد قبل وبعد الاستهداف بغارة جوية تركية.

(مصدر الصورة: Hawar News; January 27, 2018 وتقرير ASOR 2018).

 

طبعات الأقدام

شغلت طبعات الأقدام (7) المحفورة في معبد عين دارة الباحثين كونها من التصاوير الفنية النادرة في منطقة الشرق الأدنى القديم والأمثلة عليها نادرة جداً (الصورة رقم 7). إلا أنه تم العثور على ما يأتي على ذكرها ويعود تاريخ أقدم هذه الشواهد إلى عصر البرونز حيث تم العثور في موقع تل براك الأثري* على أختام اسطوانية يعود تاريخها إلى (3300-3050) ق.م. تصور هذه الأختام “زوجاً من الأقدام العارية تلتف عليهما أفعى”. قدمت الباحثة إديث بورادا (Edith Porada) تفسيراً بأنّ دلالة التصوير تهدف إلى التنويه والتحذير من ترك القدمين من دون حذاء. في حين رجح بعض الباحثين على أنّ سلوك انتعال القدم أو خلوها من الحذاء مرتبط بالمكانة الاقتصادية والاجتماعية، ووفقاً لهذا التفسير فإن الحذاء يرمز للفروقات الطبقية وقد عثر على ما يشبه ذلك في النصوص المقدسة. وفي روايةٍ أخرى عندما واجه موسى العليقة المشتعلة ناداه صوتٌ عند محاولته الاقتراب منها “لا تدنُ إلى هنا، اخلع نعليك من رجليك، فإن المكان الذي أنت قائم فيه هو أرض مقدسة” (سفر الخروج: 5:3) ويستمر الرب ويعيد طلبه. فُسر هذا الطلب من قبل رجال الدين بأن الأرض ملكٌ للرب، مكرسةٌ له، حيث أنّ ارتداء النعل على أرض معينة يعني في التقاليد العبرية الامتلاك. الضيف عندما يدخل يخلع من قدميه كرمز إلى أنه ضيف سلام.  وعلى ما يبدو فإن هذه الروايات مستقاة من نصوص مدينة نوزي (يورغان تيه الواقعة جنوب شرق مدينة كركوك)  حيث جاءت بعض النصوص على ذكر ظاهرة الانتعال أو عدمه وربطها بخاصية الاستحواذ والامتلاك أو التنازل.

وإذا ما وسعنا دائرة البحث خارج نطاق منطقة الشرق الأدنى القديم باتجاه ثقافات أخرى، فسنجد بأنّ معبد عين دارة لم يكن المكان الوحيد الذي احتوى هذا النوع من التصاوير. فلقد جسدت طبعات أقدام بوذا في الأحجار تاريخاً طويلاً في حياة الهند ومنطقة جنوب شرق أسيا، وظهرت بأشكال ودرجات متفاوتة في التعقيد. أكثر الأدلة قدماً تلك التي تعود إلى ( القرن الأول ق.م) القادمة من “” Tirat والمحفوظة في متحف ” Swat “. حيث تمثل طبعات نحتت بطريقة قريبة من الطبعات الواقعية التي قُدست بتقديم ممارسات السجود إليها. وفوق قمة آدم في (Samanala) في سيرلانكا طبعة قدم نادرة وهامة وذلك لدلالتها الرمزية والمشتركة ما بين أربع ديانات. فالهندوسية قدستها باعتبارها طبعة قدم شيفا (shiva) آلهة الخلق، في حين نسبها البوذيين إلى بوذا. أما مسيحيو سيرلانكا فنسبوها يجدون بها طبعة قدم  القديس توما (St. Thomas) المبشر الذي أدخل المسيحية إلى سيرلانكا، بينما ينسب المسلمون طبعة القدم إلى آدم أثناء وقوفه على قمة الجبل بزمن قدره ألف سنة (كتكفير عن الذنوب).

الصورة رقم 7: العتبات الحجرية في مدخل المعبد وتظهر عليها طبعات أقدام محفورة.

 (مصدر الصورة: مايكل دانتي، حزيران 2010)

المنحوتات:

كان عدد منحوتات الواجهة ست منحوتات  وهي عبارة عن زوج من أشكال أبي الهول على جانبي الدرج أحدهما ملتفت نحو اليمين والآخر نحو اليسار وخلف كل واحد زوج من السباع متقابلان يلتفان كذلك يمنة ويسرى (الصورة رقم (8-9. لأبي الهول رأس فتاة وجسد أسد ذي جناحين، الشعر طويل ومرفوع نحو الخلف تبدو منه عقيصتان على جانبي العنق، المفاصل بيضوية ليس لها الشكل الحقيقي (الصورة رقم 10). تبرز هنا خاصية الايجاز الشديد في تفصيل العناصر التشريحية. يختلف أبي الهول عن الأسد في كون الأول مجنح بينما الأسد غير مجنح، ومُثل الأسد وهو يزأر. كوّنت هذه المجسمات لوحات الواجهتين الجانبيتين والواجهة الخلفية والمصطبة ومدخل الرواق وعددها (72) منحوتة. يكمن الاختلاف بأنّ منحوتات الواجهة صُورت بحجم أكبر وزيادة بأعداد المخالب لأسبابٍ ربما تتعلق بتكثيف الاحساس بالرهبة والخشوع قبل الدخول إلى المعبد (8).

الصورة رقم 8: تمثل الأسود الرابضة في واجهة المعبد وواجهة المصلى.

(مصدر الصورة: علي أبو عساف- 1990).

الصورة رقم 9: تمثل الأسود الرابضة وأبو الهول في واجهة المعبد

(مصدر الصورة: موقع Archaeology in Syria ).

الصورة رقم 10: نحت لأبي الهول.

 (مصدر الصورة: علي أبو عساف- 1990).

حددت منحوتات الرواق فقط في كل من جانبيه ب( (30منحوتة لم يبق منها غير كسرٍ جاثمة فوق قواعدها أو متناثرة فوق الرواق، ويبدو أن هذا التشابه يقصد به عدم اظهار الاختلاف بشكل جلي. زين محراب المنصة بمجموعة من القطع البازلتية سماكتها أكبر من سماكة الألواح الأخرى عددها سبعة، احتوت خمس منها على عنصرٍ نقشي مشترك ُيصور إله الجبل بلحيةٍ طويلة ويرتدي تاجاً ذي قرون، في حين تنوّع مرافقيه بين مخلوقات مركبة وتجسيد الثور  (الصورة رقم 11).

الصورة رقم 11: منحوتات تصور إله الجبل ومرافقيه

( مصدر الصور: علي أبو عساف، 1990)

تمثلت درّة المنحوتات بلوحةٍ من البازلت مشوهة في بعض أجزائها، عُثر عليها في الحافة الجنوبية الغربية للجدار الواقع بين القاعة الرئيسة والقاعة الأمامية السابقة لها. يجسد النحت صورة لامرأة (تمثل عشتار) ملتفتة باتجاه اليمين، ترتدي معطفاً طويلاً ذي حزام وفتحة في جزئه  السفلي. الساق اليمنى جرى تغطيتها بينما اليسرى صُورت دون غطاء إلى جانب تجسيد العضو الأنثوي الذي صور فوق الغطاء. رأسها وكتفيها (الكتف الأيمن) غير محفوظين بشكل جيد. تبرز السهام من كتفها الأيسر، الجعبة خلف ظهرها وهي تمسك سلاحاً بيدها اليمنى في حين تمسك باليسرى عصىً ظاهرها مزوق بصفوف من الدوائر والخطوط المنكسرة وداخلها مقسم إلى حقول (الصورة رقم 12). ومن المنحوتات الهامة ايضاً منحوتة تجسد رأس امرأة ترتدي تاجاً يطغى على الوجه له قرنان وعروة خماسية يزينه شريط من الورود (الصورة رقم 14).

الصورة رقم 12: منحوتة عشتار

مصدر الصورة: دراسة ميركو نوفاك نقلاً عن اورتمان، (1993)

الصورة رقم 13: نحت لرأس امرأة

( مصدر الصور: علي أبو عساف، 1990)

تُظهر الصور الواردة  من الموقع بعد استهدافه أنّ قاعدة مسلة عشتار الموجودة في صدر المعبد (في الجهة الشمالية منه) قد نجت من التدمير. لكنّ السطح الخارجي للمسلة متضرر بفعل العوامل الجوية عبر الزمن.

 المواضيع الأخرى المنقوشة

بالإضافة إلى النقوش السابقة تضمنت المنحوتات النافرة تمثيلاتٍ متنوعة كضفائر زخرفية، الشجرة المقدسة، الانسان الجالس على كرسي وهو يمثل بلا ريب إلهاً يستعد لاستقبال القرابين والهبات، عملاقاً وهو يروض ثوراً إلى جانب الكثير من المواضيع. ويبدو بأنّ المعبد كان يجمع في مواضيعه النحتية والتشكيلية بين أمرين: أولهما يكمن في تكريس صفة الالوهية ورمزيتها المشتركة بين أغلب مناطق الشرق الأدنى القديم من تصوير الأسود التي رأيناها مسبقاً في ملاحم بلاد الرافدين والأناضول إلى جانب وادي النيل، وبين استنباط العديد من المواضيع الزخرفية من البيئة المحلية التي وجدت ورسخت من الطابع القدسي للمنطقة. من الأمثلة على هذه المواضيع: الإله الموجود في أنصاب عين دارة حيث جُسد كإله الشمس الذي يظهر من وراء الجبل أو على الأرجح بأنه إله الجبال. ويؤيد ذلك ما نجده في أختام بلاد الرافدين حيث نرى قرص الشمس يظهر خلف الجبال بعد أن يفتح له تابعوه باب الليل على مصراعيه الكبيرين. ويوجد ما يشبه هؤلاء الجن الذين يساعدون إله الشمس في اللوحتين المكتشفتين في تل حلف مثلاً، حيث مُثل عليهما جنيان ملتحيان بجسد ثور ويحملان قرص الشمس المجنح كما في اللوح الجميل المحفوظ في متحف حلب. أما الجنيين المجنحين هنا فلهما شكل انسان وغير ثابتين بل يتحركان ويركضان ليرافقا الشمس في حركتها. سواء تم الأخذ بتحديد الإله بأنه إله الجبال (تيشوب) الذي يقوم هو وتابعوه بمساعدة إله الشمس وهو غير ظاهر فإنه يمكننا ربط فكرة التابعين في أنصاب عين دارة وفي نصبي تل حلف جميعها بفكرة دينية .

كما تميزت هذه المنحوتات أيضاً بتشاركها مع منحوتات بوغازكوي (حاتوشا) عاصمة الإمبراطورية الحثية الواقعة في شمالي وسط الأناضول التي لا تبعد عنها كثيراً، وتمثالها من حيث أسلوب دمجها كعنصر معماري وفني بالإضافة إلى طريقة النحت بشكل نافر وهذا ما أدى إلى سهولة تفتتها وانفصال أجزائها عبر الزمن. ويُعبتر هذ الأسلوب النحتي والمعماري من الأساليب الشائعة ومن المميزات الأساسية للفن الحثي إلى جانب استدارة المخالب الذي سمح بالتأريخ رغم عدم العثور على أية كتابات في مواقع عين دارة. فقد جرى تقريب تأريخ هذه المجموعات بالمقارنة مع مكتشفات المواقع المجاورة في تل طعنات، سنجرلي،  كركميش، والباب الكبير في ملاطية. ولا بد من الإشارة بأنّ اكتشاف معبد إله الطقس حدد في قلعة حلب على يد البعثة السورية -الألمانية المشتركة بين عامي (1996 -2004) قد لعب دوراً كبيراً في تحديد الفترة التي تم خلالها تشييد المعبد نظراً للتشابه الكبير من حيث المواضيع وأساليب النحت، إضافة إلى التشابه الكبير بين قاعة قدس الأقداس في عين دارة ومعبد حدد في قلعة حلب.

نهايةً لا بد من التذكير بأنّ خاصية وجود حرم كبير يقوم على مصطبة تحيط به وتتجاوز أطرافه كان نمطاً معمارياً شائعاً في معابد بلاد الرافدين وشمالي سوريا في فترة الألف الرابع والثالث قبل الميلاد، وفي هذا الخصوص يمكننا العودة لدراسات عالم الآثار العراقي نائل حنون ((9. كان لهذه المصطبة في معبد عين دارة وظيفتان الأولى معمارية والثانية مبنية لتحمي الحرم وتزوده بالحراسة اللازمة عن طريق الأسود والسباع.

أخيراً أود أن أشير بأنّ أعمال التنقيب في موقع جنديرس القريب من معبد عين دارة التي كان لها الفضل بتعريفي على المعبد. كان ذاك في صيف العام 2008 خلال رحلة التنقيب بإدارة الدكتور عمار عبد الرحمن.

زيارة معبد عين دارة

مجرد زيارةٍ قصيرة للمكان كانت كفيلةَ باستباحة التفكير والسيطرة عليه من قبل تلك المجسمات والتماثيل الشاخصة التي  كانت تتشبث به وتحمي ما تبقى منه. للوهلة الأولى شعرت أن وظيفة هذه المنحوتات مازالت تعطي نتائجها حتى ولو بعد ثلاثة آلاف عام.

لأول مرة أجد في نفسي رغبةّ عميقة للصلاة، فلهالة الأنصاب الضخمة وروعة المنحوتات ما يوحي بالقداسة، وذلك  على الرغم من تلاشي العديد من تفاصيلها وزخارفها التي غاب أغلبها، إلى جانب أن بعض المنحوتات كانت مهشمة الرؤوس والأطراف السفلية.

 بالنسبة لنا خسارة اليوم لم تكن وليدة اللحظة وإن كانت أفدحها. فعند الدخول والمرور في حرم المعبد والتمعن بالوضع الذي آل إليه آنذاك جرّاء الإهمال أدركتُ حجم الانكسار والفاجعة التي حلت بمنحوتاتٍ لا تقل شأناً عن أهالي هذه البلاد. أما كانت هذه الآثار الفريدة لتستحق أن تُحفظ وتقوم في متاحف تُقدر قيمتها؟ للأسف باتت ذاكرة هذه البلاد عرضة للاستباحة والتدمير والتجارة من كل حدبٍ وصوب. إلا أنّ هذه البلاد لا تنسى ولا تُمحى ملامحها قطعاً فمازالت تحتضن في سوياتها ما يشهد ويفوق كل هذه الأدوات البشعة والوحشية التي تسعى لاجتثاثها وسلخها عن نسيجها الأصلي.

الهوامش:

1اندرسن، بندكت. الجماعات المتخيلة ( تأملات في أصل القومية وانتشارها)- ترجمة ثائر ديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014.

2توثيق الأضرار تم بالاعتماد على الدراسات الحديثة التي قام بها  المعهد الأمريكي للدراسات الشرقية (ASOR) : UPDATE: Ain Dara

والتقرير الذي أعدته وكالة أنباء هوار: طائرات الاحتلال التركي دمر تل عين دارة الأثري

والتقرير الذي أعدته شبكة كوردستان 24:

 WATCH: Turkish shelling destroys iconic Iron Age temple in Syrian Kurdistan

3الصيرفي، فيصل؛ كيريشيان، آغوب؛ ودونان، موريس: الحوليات الأثرية السورية (حفريات أثرية في عين دارة) العدد الخامس عشر 1965.

Novak, Mirko. The Temple of Ain Dara in the Context of Imperial   –4

And Neo-Hittite Architecture and Art. “Temple Building and Temple cult.” Proceedings of a Conference on the Occasion of the 50th Anniversary of the Institute of Biblical Archaeology at the University of Tübingen (28 – 30 May 2010), Band 41, (41-50).

5الصيرفي، فيصل: الحوليات الأثرية السورية (الموسم الأول في عين دارة) العدد العاشر 1960.

6Oxford Encyclopedia of ancient Near East, (Ain Dara)  Oxford university 1997-7  Volume 1, (38-37)

7 لمعرفة أكبر عن الموضوع يمكن الرجوع للمقالة:  The Riddle of  Ishtar’s Shoes: The Religious Significance of the  Footprints  at ‘Ain Dara from Comparative Perspective ” THOMAS, Paul brain”.

8أبو عساف،علي: فنون الممالك القديمة، دار شمأل، 1993.صـ 185-181-180

9حنون، نائل: مهد الحضارة ” خصائص عمارة المعابد في عصر اوروك الأخير وجمدة نصر” المديرية العامة للآثار والمتاحف- العدد (9-8) صـ 26

في الشعر السوري: الإيروس والثاناتوس والأقنعة الجنسية

في الشعر السوري: الإيروس والثاناتوس والأقنعة الجنسية

عندما نكتب عن الشعر السوري الجديد (وليس الحديث، فللجِدّة معيار وقتي، بينما للحداثة معايير فنية)، لا يمكننا أن نغفل أنه خطابٌ مرتبط بالموروث الثقافي العربي-الإسلامي ارتباطًا زمنيًّا (diachronic)، ومرتبط بالظروف السياسية والاجتماعية والثقافية لمرحلة الثورة/الحرب السورية ارتباطًا تزامنيًّا (synchronic). ومن الارتباط الأول تنشأ ثنائيات: التقليد والتجديد، التراث والحداثة، وجدالات غير مُنتِجة حول الأشكال الشعرية. ومن الارتباط الثاني تنشأ ثنائيات: الحرية والاستبداد، الحبّ والحرب، وجدالات غير مُنتِجة حول “دور المثقف”. سأبتعد عن كل ذلك، إذ لسنا بحاجة إلى المزيد من النقاشات المحكومة بمنطق الثنائيّات الإقصائي.

لا أعتقد أن الحديث عن الشعر السوري الحالي؛ مثيرٌ للاهتمام، سواءً لدى القارئ العادي أو المختصّ. إذ بات الـمُنتَج الشعري مطروحًا في السوق الأدبية مجانًا، وبكثرةٍ غير مسبوقة، مُتخلّيًا عن أيّ كرامةٍ عُرفَتْ عن الشعراء، وعن أي قداسةٍ وَسَـمَـتِ الشعر في العصور السابقة. لا بُدّ إنّ كثرة الـمُـنتَج الشعري دليلٌ على أزمة الشعر، لا على صِحّته. ولا بدّ أنّ كلّ تغييراتٍ كميّة سوف تؤدي حتمًا إلى تغييراتٍ نوعيّة، وتعود التغييرات النوعيّة بدورِها لتُحدِث تغييراتٍ في الكمّ من جديد. وبدلًا من محاكمة هذا الكمّ، من الأجدى فهمُه وفهمُ أسبابه، وفهمُ إنسان القرن الحادي والعشرين الذي لا يملك من الحقوق والحريات أكثر مما امتلك أسلافه، وذلك لأن النظام السياسي- الاقتصادي- الاجتماعي العالمي؛ قد غيَّـر أساليب الاستغلال والاستعباد، لكنه لم يغيّـر ماهيّتها. إنسانُ اليوم عاجزٌ عن الفعل، عاجز عن إحداث تغييرٍ حقيقي في أيّ مجالٍ وعلى أيّ مستوى، لكنه قادر على الكلام، ومسموحٌ لهُ أن يتكلّم نسبيًّا، لكي يُفرّغ الـحَصْر النفسي أولًا، ولأن الأقوال -مهما كثُرتْ- لن تُحدِثَ أثـرًا كالأفعال -مهما قلَّتْ-. تقول مايا آنجلو في هذا الشأن: “جناحاهُ مقصوصان/ قدماهُ موثقتان/ فليسَ لهُ سوى… أنْ يفتحَ حنجرته ويغـنّـي”.[1]

واستكمالًا  للحديث عن كثرة الـمُنتَج الشعري، أشيرُ إلى أنني سأتحدثُ عن الشعر السوري الجديد بعد قراءة ثلاثين مجموعة شعرية صادرة في السنوات الخمس الأخيرة، مع يقيني بأن عدد المجموعات الصادرة خلال هذه المدة يفوقُ ذلك بثلاثة أضعاف أو أكثر.

لكن، من أي زاوية سأقارب الشعر السوري الجديد؟

اليوم، في زمن الـ “ما بَعْدَات” (بعد الحداثة، بعد الكولونيالية، بعد النظرية الثقافية)، لم تعد موضوعات مثل: دور الشعر، المثقف العضوي، الأدب الملتزم، الأدب الثوري، أدب السجون، الحب والحرب، التراث والحداثة… مُغريةً للقارئ أو الدارس، ما هو مثيرٌ(sexy) حقًّا، هو الجنس (sex) نفسُه.[2]

الإيروس والثاناتوس

سأحاول مقاربة النصوص التي بين يديّ عبر ثنائية الإيروس (eros) والثاناتوس (thanatos)، فالأول هو الحب وغريزة الحياة، والثاني هو الكراهية وغريزة الموت. ولا يخفى على القارئ أن المصطلحين قادمان من النظرية الفرويدية، وكتاب “ما فوق مبدأ اللذة.” يرى فرويد أنّ كل إنسان يحمل في داخله غريزة الحياة وحفظ النسل والبقاء، وتُعزَّز هذه الغريزة بالحب والرغبة الجنسيّة (إيروس). وكذلك فإنّ كلّ إنسانٍ يحمل في داخله غريزة الموت والنزعة التدميرية، والرغبة بفناء المادة العضوية وتلاشيها (ثاناتوس) [3]. وهذه الثنائية ليست إقصائية فيما أرى، بل هي بنّاءة وتركيبية.[4]

صحيح أن دافع الحياة وحفظ النوع، وبشكله التصعيدي: الحب، موجود عند كل إنسان، لكنه يزداد إلحاحًا في زمن الحروب والكوارث. وما يعنينا هو كيف تناوله الشاعر السوري اليوم؛ هل استمرّ بالغناء عنه من بعيد؟ أم استبعده جانبًا، مُعطيًا اهتمامه الأكبر لاحتياجاتٍ أُخرى؟ أم تناوله كقضيّة مركزية ومهمة للبقاء؟

الإيروس:

ينطلق نصُّ  حسن ابراهيم الحسن من الأرض، من التراب الذي ما إنْ تتوطّد علاقة الإنسان السليمة معه، حتى يبدأ بالارتقاء درجةً إثر درجة حتى بلوغه قمة النقاء الروحي. ويكون حب الإنسان للإنسان، وعشق الرجل للمرأة، الدافع الأول للحياة، والسلَّم الأمثل للارتقاء من الماديات إلى الروحانيات:

“ليديكِ رائحةُ التراب (…)

مُسّينيْ لأنسى ذكرياتِ الحرب، (…)

ليديكِ رائحةُ البلادِ

وقهوةُ البدو،

احضُنينيْ…

كلُّ ما في الأرضِ بعدكِ باردٌ، (…)

ليديكِ رائحةُ البيادرِ

نملةٌ جوعيْ وقمحُكِ صاخبٌ جدًّا، (…)

مرةً قولي أحبّكَ علَّ ماءِ الروحِ يصفُو”. [5]

ومثلما يصيرُ الهوى ذليلًا “كلما ذلَّ للرجالِ جبينُ” حسب وصف القبّاني [6]، فإن الهوى وحدَه مَنْ يُعيد للرجل كرامتَه المهدورة في زمن الحرب. ويكون الترابطُ بين الهوى والكرامة عضويًّا، يسقطان معًا ويرتقيانِ معًا، إذ لا يمكن للنصر (أو الهزيمة) أنْ يقتصر على جناحٍ منهما دون الآخر. وفي هذا السياق يصفُ محمد طه العثمان كيف شاختْ نوارسه، وفقدت القدرة على التحليق. وكيف أنّ “نابَـهُ” بما يحمله من دلالات القوة (نَصْل السيف/ رأس الرمح) ودلالات الذكورة (القَرْن/الشارب المعقوف/ القضيب) مجروح! مجروح بزهر النهد، النهد الغائب، المرجَـوِّ قدومه ليشفي الجرح:

“مُرّيْ على جسدي

ولا تستدرجيْ حُـمّـى القصائد في غيابـيْ

مُـرّيْ

فكلُّ نوارسي شاختْ

وأوجَعَ زهرُ نهدكِ جرحَ نابـيْ”. [7]

أما الإيروس عند أنور عمران فليسَ دافعًا للحياة ومنقذًا من الموت فحسب، بل هو ما يجعل الإنسان إنسانًا، ومنه تستقي الأخلاقُ وبهِ تتهذّب، وإليه تُعزى منجزاتُ الحضارة في جانبها القِيَمي والـمُـثُـلي:

“لنفترضْ أنني لم أقدّم الماءَ للأعمى في محطة القطارات هذا الصباح،

ولم أساعد الطفلةَ الكسولةَ في تمارين الحساب…

لنفترضْ أنني لم أضَعِ الآسَ على صورة أصدقائي،

ولم أُشعلِ النارَ في خاطرِ جاري الذي يغمرُهُ الثلج،

أو أنني لم أكُنْ عكّازًا للمُسِـنّـةِ التي سألتْني عن موقع الصيدلية،

لنفترضْ أنني لم أتصرّفْ كما تصرّفتُ اليومَ

ما الذي كنتُ سأفعلُه بحبّكِ إذن؟!” [8]

وكأن الشاعر هنا، يستعيد حكاية أنكيدو بلغةٍ وفهمٍ حديثين.

الثاناتوس:

قلنا -نقلًا  عن فرويد- إنّ كل إنسان يحمل في داخله الإيروس (الحب وغريزة الحياة) إلى جانب الثاناتوس (النزعة التدميرية وغريزة الموت)، كما أنّ كل إيروس في الظاهر قد يخفي ثاناتوسًا في الباطن، والعكس بالعكس. ما يعنينا هنا؛ هل أوصلت الحربُ الإنسانَ السوري إلى حدّ الاستسلام واليأس من الحياة؟ هل أيقظتْ في داخله النزعة التدميرية الغافية، ورغبةَ المادة بالتلاشي؟ ما شكْلُ هذا الـمَوَات الجمعي وكيف تناوله الشعراء؟

في مجموعة رشا عمران “بانوراما الموت والوحشة” يتمدّد الموتُ على معظم الصفحات ويحاصر القارئ من كل الجهات، وهو ليس الموتَ بمعناه البيولوجي فحسب، إذ هو يشمل الأحياءَ والأموات، بل إنّ الأحياءَ أكثرُ موتًا من الموتى. فالشاعرة/الراوية تُعيد في آخر الليل “أعضاءَها المبعثرة إلى أمكنتها” لكي تستيقظ في الصباح “جثةً مكتملة”. وتقدّم في نصٍّ آخر صورةً سوريالية لموت الكائن الحيّ أثناء حياته، إذ مزّقتْه الحربُ وباعدتْ أشلاءه عن بعضها، لكنها أبقتْ على بصيص ضوءٍ في رأسه، يُوهمه أنه على قيد الحياة. وكأنها تقدّم صورةً معكوسةً للموت السريري، فالدماغ هنا هو “الحيّ”، بينما سائر الأعضاء الأخرى ممزّقة ومبعثرة:

“كنتُ أراقبُ أعضائي موزّعةً على البلاط…

تلك اليدُ أعرفُها جيدًا، وأعرفُ أصابع القدم اليسرى المبعثرة، وأعرف الشامةَ السوداء في أعلى الظهر، الشامة التي كنتُ أبرزها دائمًا كلما نسيتُ اسمي…

أعرفُ بقعةَ الدمِ أسفل الجدار، وأعرف السرّة الملقاة تحت السرير كمنديلٍ عتيق…

وحدَه الرأسُ بكلّ تفاصيله، الرأسُ المعلّق أمام الشاشةِ السوداءِ كمسمارٍ في فراغ الحائط

كان غريباً عني”. [9]

أما عند هنادي زرقة، فيصبح دافع الموت (ثاناتوس) شهوةً مُتملّكة، تحلُّ محلَّ الشهوة الجنسية أو هي نفسها لكنْ بصورة جديدة. وهنا أتدخّل وأشير إلى أن النزعة التدميرية كثيرًا ما تنصبُّ على الآخر، وفي هذه الحالة تُوصف بالسادية عندما ترافقها المتعة. في هذا المقطع تصف الشاعرة حالةَ صراعٍ بين شهوتين مُتعارضتين في الجذر والأهداف؛ شهوة نساء وشهوة رجال:

“يذهبُ الرجالُ إلى الحرب

وتفرَغُ الأسرّةُ من الشهوة

تاركينَ نساءً لا يكفُفْنَ عن الصُراخ

وضَرْبِ الأولاد،

يذهبُ الرجالُ إلى الحرب

الحربُ شهوةٌ أيضًا!” [10]

وفي السياق ذاته، وكتعبيرٍ عن حالة الموت العضوي والنفسي والاجتماعي، آخذُ نصًّا يُغني عن عديدٍ من النصوص، فهو يصوّر الحرب في أثرها الإنساني والواقعي المعيش، بعيدًا عن شعارات أمرائها وأحقاد تـجّارها، إنها الحرب في “بشريّـتها” إنْ صحَّ التعبير. يتميز النصُّ بأنه لا يصف الحرب وآثارها من بعيد، فيغصبُ أو يثور أو يرثي أو يندب، بل يصف حالة الموات/اليباب من الداخل، من صميمها ومن أدقِّ خلاياها. وهو نصّ/خطاب مُقتنعٌ بكونه جزءًا من الموت الجماعي، وراضٍ بكونه سائرًا في سيرورة التلاشي، إنه نصُّ الثاناتوس في أعلى صوره. تبدأ مناهل السَّـهْوي بوصف حالة الـمَوَات/اليباب من انقطاع العلاقات بين الجنسين:

“الثورةُ لا تمنحُنا رجالًا

لا الوطن،

ولا حتى المغصُ المقيتُ قبل العادة الشهرية”

في المستوى الثاني، تعمّقُ الشاعرة الحفرَ في الجرح الشخصي-العام، وتلمسُ اختلالَ ميزان الحياة بفعلِ تكاثُر كفّةٍ وتناقص الأُخرى، وتشير إلى رحلة سيزيفية بين الرمل والماء:

“نحنُ النساء نطرحُ الدم

كما تفعلُ الحروب 

ونتكاثر في المعارك،

نخرجُ من كلّ مكانٍ

كصغار السلاحف

تفقسُ في الرمل البارد

وتجري بفطرةٍ إلى الماء”

تزيد الشاعرة من تعميق معاناة المكان/الأرض/ الجسد، عندما تشير إلى أنّ الحياة مستمرة، لكن في مكانٍ/ أرض/ جسد آخر، فتصبح المقارنة الضمنيّة موجعةً بين الأرض/ الأم/ الحبيبة التي فقدتْ أبناءها وأحبّتها، والقارة العجوز التي كسبتْهم وهي لا تحبُّهم أو تستحقُّهم:

“يختفي رجالُنا 

عشاقُنا

وأبناؤنا

فمُ الحرب أكبرُ من شفتي بحرٍ

يدلقُهما على قارتين،

ما أكبرَ فمَ البحر حين شاهدناه من فوق!

يختفي الرجالُ الواحد تلو الآخر 

في الشفاه المفتوحة 

في القبلات الحارة،

يختفي الرجال 

كما لو أنّ البحرَ امرأةٌ تمتصُّ الرجالَ كلَّهم 

بجوعٍ مُعـمِّـر”

وفي النهاية، تؤكّد الشاعرة على موت “الإيروس”، وانعدام الرغبة بالحياة بكُلّيتها وتفاصيلها، ودخول الجميع في حالةٍ من “الثاناتوس”، في حالةٍ من السعي الجمعي إلى الفناء، يأخذ شكلَ الانتحار الجماعي أو الاستشهاد العبثيّ دون تحقيق الغاية المنشودة منه:

“نحن النساء في الحروب

لا نقصدُ اكتشافَ أطعمةٍ بديلة 

ولا تدفئةٍ بديلة 

ولا حركاتٍ شِعرية جديدة،

نحن فقط نجري نحو رائحة الزبد 

ونغرق…” [11]

والزبد بطبيعته كينونةٌ في طور التلاشي، ولهُ دلالاتُ الولادة والذكورة، فأفروديت وُلِدتْ من زبد البحر، وقد جاء هذا الزبد من خصيتي أورانوس (أسطورة إغريقية). لكنّ الزبدَ هنا لا يأتي بأيّ ولادةٍ جديدة، إنه محضُ سرابٍ ذكوريّ موهوم، يقودُ الساعي وراءَه نحو هلاكٍ وشيك.

الأقنعة الجنسيّة

ليس المقصود بالقناع هنا؛ التقنية الدرامية التي يستخدمها الشاعرُ للتخفيف من الغنائية والمباشرة، كأنْ يستعير شخصيةً تاريخية (نيرون، أيوب، المتنبي…) فيرتدي وجهَها ويأخذ ملامحها وصوتها، ليمرّرَ من خلالها -ومعها- مقولتَه وصوته. وهو ما يقابله الـ (mask) بالمصطلَح النقدي. المقصود بالقناع هنا هو الـ (persona) أي الوجه الذي يتقدّم به الإنسانُ إلى المجتمع، فنحن في حياتنا اليومية قد نجد ضرورةً لأنْ نغلّف الذات الحقيقية بغلاف خادع، ونلبسها قناعًا لتبدو في مظهرٍ لائقٍ ومقبولٍ من الجماعة. ولا يخفى على القارئ أن المصطلح قادم من نظرية ك.غ. يونغ.[12]

إذًا، يتألف القناعُ من وجهٍ ظاهر ومعنىً مخفي. أما من حيث إضافة القناع إلى الجنس، فلا بدّ من الإشارة إلى أن المنظومة السياسية-الدينية لم تستطع على مرّ العصور إلحاقَ الهزيمة بالموروث الوثني، بل أزاحتْه إلى الهوامش فقط، حيث بقيَ هناك، في الجانب المعتم والمحرّم، يزدهر ويتطوّر ويُلقي بظلاله على المركز المسيطر [13]. نحن في النهار كائنات اجتماعية، لكننا ننزلق في الليل إلى عالم الأحلام، حيث تتولى الفطرة مقاليد الأمور، فترمي التابوهات الاجتماعية جانبًا، وتعطي للغريزة والأنانية مقاليد الحكم. يقول شاعرنا العربي: “نهاري نهارُ الناسِ حتى إذا دَنَـا / ليَ الليلُ هـزَتْـنـيْ إليكِ المضاجعُ.”[14]

تتألف الأقنعة الجنسية من سلسلةٍ غير محدودة من الإشارات والرموز، تمتدُّ من الإنسان الاجتماعي إلى الإنسان البدائي. وتتشعّب هذه السلسلة في مجالات الأدب والموسيقى والمسرح وغيرها. لكنْ لماذا يلجأ الشاعر السوري اليوم إلى القناع؟ وما حدود حرية القول التي يتمتع بها؟ وهل للحرب دورٌ في إذكاء الحنين إلى العصور البائدة؟

الإلهة الأنثى:

استكمالًا  لما قلتُ عن استمرار الثقافة الوثنية في الهوامش، رغمَ إقصائها عن المركز السياسي-الديني لعدة قرون، نأخذ الإلهة-الأنثى موضوعًا للدرس. لقد استطاع الإسلامُ تحريمَ عبادة الأوثان، وهي تعودُ في غالبها إلى آلهةٍ مؤنثة، وأخرجها من مجال الممارسة الدينية والاجتماعية. لكنها ما لبثتْ أنْ عاودت الظهورَ في الأدب، فتحوّلتْ “ليليت” (أو اللات) إلى “ليلى”، وعادت ابتهالاتُ الشعراء تصبو إليها. ولا أحسبُ توظيفَ الأسطورة في الشعر الحديث غيرَ تَـمَظْهُرٍ (representation) جديدٍ للثقافة الوثنية.

يقدّم أحمد م. أحمد نصًّا إيروتيكيًّا طويلًا  بعنوان “بالقولِ تحبلُ الأنثى”، وفيه لا تظهر الإلهة-الأنثى بصورةٍ مفارقة للواقع، ولا تسكن في السماء أو تتجلّى في شمسٍ أو قمر. بل هي إلهةٌ أرضية وتجلّياتُها طبيعية وملموسة: “سآوي إلى البقايا: شِـقّ الرمّانة، رائحة السرو والطيّون في عـشِّـها/الورد-الملاذ”. ويكون التواصل بين العاشق الـمُبتهِل والمعشوقة الإلهة بالحواسّ البشرية الخمس، لا بلغة العشاق العُذريين أو الصوفيين:

“انظُريني ما أقرَبَـنـيْ إليكِ: أشـمُّكِ كغزالتي،

وأدورُ حولك، ويضوعُ عطرُكِ في الخصب العميم.

سأسمعُ بعد حينٍ شهيقك، وأضيعُ في حياة

الرغبة القصيّة عند سقفِ الموت اللذيذ…” [15]

وهنا لا يكون للقناع الجنسي دورُ إخفاء الجنس وتقديمه بصورة مقبولة اجتماعيًّا، فهو واضح وصريح. بل دور إخفاء طقوس الجنس الوثنية، وتقديمها بصورة مقبولة اجتماعيًّا، بصورة حبّ لا ديانة، مع أن الوثنية تشي بنفسها في عباراتٍ مثل “أدور حولك” و “الخصب العميم”، ويزلُّ لسانُها في مكانٍ آخرَ من النص: “الله الذي جبلْـتُه من مائك، وبَرقِ حلمتيك.” وليس كلُّ ذلك سوى هروبٍ فرديّ من الزمن الحالي نحو زمن الفطرة والبداءة، وإنكارٍ ضمنـيّ للمنظومة السياسية-الدينية-الاجتماعية القائمة.

وفي السياق ذاته، نجد شعراء آخرين قد وضعوا الحبّ قناعًا، يخفي الرغبةَ بالعودة إلى الوثنية وطقوسها. نقرأ عند واحدٍ منهم: “يا امرأةً… طالَ ركُوعي بين يديك” [16]، وعند آخر: “ألعقُ فخذيكِ طوال الليلِ كأنهما الماء” [17]، بينما يقول ثالث: “وكأنها المعنى الحقيقيُّ الأخير/ لما تجسَّدَ من زوالِ أُلوهةِ الأُنثى” [18]. لا يا صديقي! ألوهة الأنثى لم تزل، وها هو نصُّك يقول ذلك.

الإله الذكر:

أعتقد أنه لم توجدْ ثقافة أبويّة بالمطلق، ولا أموميّة بالمطلق. وكذلك يتعذّر وصفُ ثقافةٍ ما بالغربية الصافية أو الشرقية الصافية، وما ثقافتُنا إلا نتاجٌ من إسهاماتِ البشرية جمعاء. وفي الوقت الذي كانت فيه الثقافة العربية متمركزة حول المرأة (قبل الإسلام)، كانت الثقافة اليونانية متمركزة حول الرجل. فنُصبَتْ له التماثيل الضخمة، وتسلّلتْ رموزُهُ الجنسية في مختلف مظاهر الحضارة والسلطة، ليست الأعمدة الشاهقة والأبراج سوى بعضٍ منها. كل ذلك قبل اكتشاف حضارات الشرق القديم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ودخولها في الأدب العربي منتصف القرن العشرين.

من صفات الإله-الذكر/البعل المعتادة؛ أنه يسكن في السماء مقابلَ الأرض-الأنثى، وأنه يتجلّى على شكل مطر. هذا الارتباطُ بين الرجل والماء نطالعه في عديدٍ من النصوص حتى اليوم، إذ يحضر الماءُ حيث يحضر الرجل، كقول سارة حبيب: “الكتابةُ عنكَ تحت المطر/ بَـلَـلٌ مُضاعَف”، وفي مكانٍ آخر: “كلّما رفعتَ يدكَ من بعيد/ تحسَّسْتُ مائي” [19]. ويكون للماء وظيفةُ إخصابِ الأرض المؤنثة، لتعشبَ وتزهر من جديد، تقول بسمة شيخو: “مَنْ غيري/ تُنبِتُ العشبَ تحت أقدامك”، وفي النص ذاته: “مَنْ غيري/ لجسدها عناقيدُ/ تنتظرُ نظراتكَ لتعتّقها. وتفاحٌ مُـحـرّمٌ/ ينتظرُ أنْ تقبّـلَ وجنته” [20]. ونلحظ هنا أنّ استعادة الفردوس المفقود، وامتلاءَ الجسد الأنثوي/الأرض بالعناقيد والتفاح، لا يكونان إلّا  عند حضور الرجل/الماء، وقيامه بدوره “الزراعي”.

حتى في قصيدة المدينة، تظهر الرموز الوثنية تحت أقنعةٍ جنسية. فنطالع عند هنادي زرقة: “أكادُ أصطدمُ بالأشجار وأعمدةِ الإنارة/ وألعنُ سوءَ تنظيمِ هذه المدينة طيلة الوقت.” فهنا لا يشير الاصطدامُ بالأشجار والأعمدة إلى فوضى في الذهن فحسب، بل إلى فوضى في اللاوعي كذلك، إذ ليست الأشجار والأعمدة سوى رموز ذكورية لبستْ قناعًا مقبولًا  اجتماعيًّا، وهذا ما تشي به تتمةُ النص: “لديّ رغبةٌ بالوقوع في الحبّ/ لكنّ المدينةَ سوداءُ/ ورجالُها واجمونَ/ مثلَ صوتٍ جافّ” [21]. ولا نأتي بجديد إذ نقول إنّ الجفاف هو العقم ولا شيء غيره.

وكما أرى، ليست هذه الأقنعة سوى هروبٍ من زمن الحرب والموت والعقم، وتحليقٍ عكسَ الساعة إلى زمن الفطرة البدائية والحرية الحقيقية. وهي تُخفي (وتكشِفُ) موقفًا نفسيًّا يرفضُ المنظومة السياسية- الدينية- الاجتماعية القائمة، و “يكفُر” بها.

الهوامش:

  1. آنجلو، مايا: امرأة استثنائية. تر: عبد الكريم بدرخان، دار الأدهم، القاهرة 2015. ص 85.
  2. استعرتُ الجملة الأخيرة من تيري إيغلتون، من كتابه “ما بعد النظرية”.
  3. Freud, Sigmund: “Beyond the Pleasure Principle”. Bartleby. New York, 2010. P. 54-64.
  4. ليست ثنائية إقصائية في نظري، لأنّ فرويد اعتمد “مبدأ وحدة الأضداد وصراعها” كقانون ناظم لمبدأ اللذة، وهذا المبدأ قادم من الجدل الهيغيلي (أطروحة×نقيض=تركيب) مرورًا بالمادية الديالكتيكية، ما يعني أنها ثنائية بنّاءة وتركيبية. وهكذا يقوم مبدأ اللذة على بُنيان تتوحّدُ فيه الأضداد ضمن منظومةٍ متكاملة، يحكمها قانون عامّ للذة والألم. وهنا لا يكون الألمُ استثناءً من مبدأ اللذة، بل هو عنصرٌ مكمّل له. حيث أنّ كلّ سعي وراء اللذة يتضمّن تجنُّب الألم، وكلُّ هروبٍ من الألم يتضمّن رغبةً بتحقيق اللذة.
  5. الحسن، حسن إبراهيم: غامض مثل الحياة وواضح كالموت. جائزة دبي الثقافية للإبداع-الدورة الثامنة، دبي 2015. ص 33.
  6. من قصيدة “ترصيع بالذهب على سيف دمشقي”.
  7. العثمان، محمد طه: جاءت تربّي الضوء. دار فضاءات، عمّان 2016. ص 11.
  8. عمران، أنور: أسند ظهري إلى الرياح. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2017. ص 55.
  9. عمران، رشا: بانوراما الموت والوحشة. دار نون، رأس الخيمة 2014. ص 5.
  10. زرقة، هنادي: الحياة هادئة في الفيترين. دار النهضة العربية، بيروت 2016. ص 35.
  11. السهوي، مناهل: جوع النساء المعمّر. جريدة الديار، عدد 1/شباط/2017. ص 26.
  12. فتحي، إبراهيم: معجم المصطلحات الأدبية. المؤسسة العربية للناشرين المتحدين، صفاقس 1986. ص 279.
  13. للتوسع في الموضوع، أُحيل القارئ إلى ميشيل فوكو “إرادة المعرفة” أو نيتشه “مولد التراجيديا”، أو إلى أيّ دراسةٍ اعتمدتْ واحدًا من هذين المنهجين.
  14. يُنسَب إلى قيس بن الملوح.
  15. أحمد، أحمد م: أحرق سفنه إلا نعشًا. دار أرواد، طرطوس 2015. ص 124-127.
  16. عباس، د. موسى رحوم: فبَصَرُك اليوم حديد. دار فضاءات، عمّان 2014. ص 30.
  17. حمودة، إياد: بوسعي أن أرى الطائر كاملًا. دار أرواد، طرطوس 2015. ص 82.
  18. عثمان، أحمد شكري: كمآذن ألِـفَـتْ مراثي الريح. جائزة الشارقة للإبداع العربي، الشارقة 2017. ص 82.
  19. حبيب، سارة: النجاة حدث مملّ للغاية. دار أرواد، طرطوس 2017. ص 34-35.
  20. شيخو، بسمة: شهقة ضوء. مركز التفكير الحرّ، جدّة 2015. ص 86-87.
  21. زرقة، هنادي: نفسه. ص 41.