بواسطة هيفاء بيطار | يونيو 6, 2024 | Culture, Reviews, العربية, بالعربية, مقالات
لا أخفي ارتباكي وأنا أكتب عن ديوان (تحت شجرة بوذا) للشاعرة فرات إسبر التي تخطت بشجاعة وصدق كل الخطوط الحمراء في الكتابة التي يضعها عالمنا العربي لدرجة أنني توقفت مراراً مبهورة بجرأتها وسعيدة أنها قفزت فوق الرقابة. ديوان أشبه بجدارية عن الوطن والغربة والحنين والحب واليأس والأحلام، شعر يزخر بمشاعر غنية بالحياة والماء والزهور والأشجار والدماء، ووجدت نفسي أمام تحد في كتابة مقال يُعبر عن روح الكتاب. لذا وجدت الأنسب أن أختار جملاً معينة من قصائد مدهشة الإبداع تختزن روح الشاعرة المبدعة. في مقطع بعنوان موت تُعبر الشاعرة عن نفسها: بقدر ما أحيا أموت وبقدر ما أموت أحيا –تزهر حياتي مثل ربيع– وأجمع أوراقها مثل خريف. ولم أعرف لماذا تذكرت عبارة سيمون دو بوفار (نحن لا نولد نساء بل نُصنع نساء) لأن فرات إسبر في ديوانها (تحت شجرة بوذا( كتبت عن المرأة كإنسانة وليست كأنثى. ورغم إعجابي الكبير بالشاعر نزار قباني وهو شاعر المرأة والحرية، فإن أغلب أشعاره كانت عن افتتانه بالأنثى المثيرة والساحرة، لكنه برأيي لم يغص كثيراً في روح المرأة كإنسانة، بل ظهرت نرجسيته الذكورية في جمل كثيرة (وما بين حب وحب أحبك أنت). لا أقارن على الإطلاق بين شعر نزار قباني [وهو أيقونه في الشعر والإبداع وبين شعر فرات إسبر]، لكن أصابني ذهول وأنا أقرأ عبارة ( حيضهن تخضر الأرض) هي عبارة ثورية وفيها تحد كبير لكل المفاهيم الدينية خاصة والاجتماعية التي تعتبر المرأة في فترة الحيض مدنسة لا يجوز أن تصوم ولا تدخل الكنيسة أو الجامع وبشجاعة امرأة تتفجر الحرية في أعماقها وتقدس المرأة كواهبة للحياة والحب. المرأة التي كانت في زمن مضى آلهة [آلهة الخصب والحب والإنتقام.. ]، تأتي عبارة (وبحيضهن تخضر الأرض) كإعلان ثورة لمفهوم الحيض الذي يُغني الأرض بالدم وعندها تنبت الأشجار والنباتات.
تكتب فرات عن الله بحرية متصوف لا يحتاج لوسيط بينه وبين إلهه في مقطع بعنوان (انهض يا قلبي الينبوع): سكرتُ سكرتُ، اليوم بالدمع –
قلتُ لربي: آه يا ربي، هذا النبع قيدني بالدمع.
طفتُ في الأرض سكرى من شدة الوجد
- وقلت لكل زهرة عند مفرق النبع –
- ها قلبي – ها قلبي –
- أطوف به بين الدرب والدرب
- – بين الوهد والوجد .
تبحث فرات في كل شعرها عن مُسكن للحنين إلى وطن تعشقه، عارفة سلفاً أن لا دواء للحنين أتأمل ما كتبت: من يؤنس وحشة الضوء بعد هذا الكسوف؟ في سماء كلها سفر إلى جنه أو عدم نتقاسم الذكريات كأنها رغيف خبز نصف لي ونصف لذاكرتي التي تنقر ذاكرتي وتُشجعني على النسيان . هذه الذاكرة طوفان والزمن رسام بديع.
لكنها تعرف أن النسيان مستحيل وأن وجع الحنين لا دواء له تعبر عن وجع الحنين:
- لي مدينة اسمها الأسى – ولي قلب اسمه الشوق !
لا يفصل المحيط فرات إسبر عن مدينتها الساحلية الجميلة جبلة، تعبر روحها المشتاقة إلى حد الوجد المحيط لتقف في موقف باصات جبلة، وتجلس قرب بحرها وتتأمل الزهور على نوافذها، وتحس بوجع الحنين والكارثة التي حلت بسوريا. لم تجعلها الغربة تنسى أبداً مدينتها جبلة ولا تنسى اللاذقية ودمشق وتتذكر أدق التفاصيل وباعة الكتب المستعملة في دمشق، فرات تحس أن للأمكنة أرواحاً وروحها مسكونه بعشق وطن يستحيل أن يخف.
- أنام على حلمي بدون وسادة مسكونة بالوحدة حتى الموت.
وتعترف بهزيمتها حين تقول: أنا الغريبة التي أجيد اللغات والكتابة ولكنني لا أجيد قتل الحنين.
في مقطع بعنوان (رجفة): الشجرة ترتجف أمام الباب – أنظر إليها ، تنظر إلي – غصن أخضر منها، غصن يابس مني – اتحدنا في دورة الحياة – وكسرتنا الرياح.
لا أخفي إعجابي بالإبداع والفكر الحر حين تكتب: أحب الضعف كي يحبني الله
- أحب القوة كي لا أحب الله. أهذا اختبار القوة أم اختبار الضعف يا الله؟
تكتب عن الحب:
- اليأس خلق سماء بيننا أعطى معنى لي بأن لا أعود إلى المُتشابهات / أنت من طين وأنا من ماء. كلما جُبلنا إزددنا إبتعاداً
- – أيها الحب، أغنية أنت في أذني التي لا تسمع، وفي عيني التي لا ترى، فاذهب إلى مصيرك حيث الصوفي والعاشق الواهمون بوجودك، ويصورونك بالبديع من الجمل.
- ولا ثمار في القبل.
وجع الوطن ينخر في قلب فرات، موجع ومؤثر ما كتبته عن سوريا وعن جبلة وعن دمشق كم مؤلم أن تكتب: بلادي يُوقظها الدم من نعاسها، يضع خنجراً في صدرها ويدعوها للصلاة.
وتكتب: شقيقان نحن يا هابيل، شقيقان يا غراب، الأرض سدوم كلها والإنسان جرح يقطع بطنها.
وتضيف: أسمع صوت نساء الحارة الغريبات، الوحيدات، الحزينات. ومن رماد إلى رماد أنطفئ شوقاً ثم أموت.
كنتُ أتمنى لو أعيد كتابة الديوان كله (تحت شجرة بوذا)، فمن الصعب تقطيع الإبداع، لكني حاولت أن أنقل روح مبدعة حرة لا تعترف بالخطوط الحمر ولا بالسقف المنخفض للإبداع، لأن الإبداع الحقيقي لا سقف له وقد يصل إلى السماء ويتجاوزها. أخيراً أختم بعبارة كتبتها فرات: ليموت الوحش لتقتله الشاعرات.
قرأت الكثير من الشعر لشاعرات ومنهن مبدعات لكن كانت أغلب المواضيع التي تناولنها بشعرهن عن ظلم المرأة وآلام الحب، وظلم القوانين والرغبة بالتحرر والحرية، لكن ظل الخوف كوشاح يُغلف تلك القصائد. لم تكتب شاعرة عبارة ثورية كما كتبت فرات (بحيضهن تخضر الأرض)، ولم أقرأ لشاعرة حواراً لها مع الله بحرية دون أي اعتبار لجنات الخلد ولنار جهنم. فرات تتكلم مع رب العالمين الذي خلقها حرة أي تفكر بحرية، وتسأل وتعترض. أحد الفلاسفة يقول (الإنسان سؤال) .
أخيراً حين أنهيت قراءة ديوان (تحت شجرة بوذا) لفرات إسبر وجدتني أفكر في فيرجينيا وولف ولا أعرف لم فكرت بها بعمق وهي العظيمة التي أعتبر نفسي تلميذتها، فثمة رابط خفي بين كتابة فرات إسبر الحرة وبين كتب فيرجينيا وولف خاصة كتاب (غرفة تخص المرء وحده)، وهو كتاب نقدي للعديد من أهم روايات بداية القرن التاسع عشر. روايات لكاتبات عظيمات اضطرهن ظلم المجتمع أن يكتبن بطريقة تحميهن من الأذى والمحاكمة وربما القتل، كل الكاتبات اللاتي كتبت عنهن فيرجينيا وولف لجأن إلى أن تكون بطلة الرواية (مجنونة) لأن المجنون لا يُحاسب على أقواله وأفعاله، وكان صوت المجنون هو صوت الكاتبات.
فرات إسبر لا تحتاج أن يكون بطل شعرها مجنوناً فهي تملك روحاً حرة وجرأة، وربما من حظها أنها بعيدة عن العالم العربي الذي يتراجع في مجال الحرية ويدين ويُكفر.
نحن نحتاج في هذا الزمن إلى شاعرات تحديداً يقطعن الصلة مع ماض متخلف مع جرائم الشرف والعذرية، وربط شرف المرأة بالرجل الذي يُقرر حياتها. نحتاج إلى ثورة فكرية أولاً ثم تلحقها الثورة الأدبية والفنية. وأحب أن أختم بعبارة عظيمة للشاعرة الإيرانية (فروغ فرخ زاد) التي كتبت (أثمت إثماً مُشبعاً باللذة)، كان ثمن هذه العبارة أن طلقها زوجها وطردها والدها من البيت.
بواسطة وداد سلوم | مايو 26, 2024 | Culture, Reviews, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
الحق الإنساني في حياة سعيدة وسطوة الواقع الذي يسلبه، هو ما تثير عزة طويل أسئلة حوله في روايتها الأولى (النوفيلا) التي صدرت حديثاً بعنوان “لا شيء أسود بالكامل” عن دار هاشيت أنطون نوفل. جاء العنوان كدعوة لتلمس امكانية الذهاب نحو الطرف الأول واقتناص الحلم وزعزعة السواد الطاغي، فنحن أسرى الوجود ولا شيء يمنح بسهولة. ولعل دعوة التفاؤل تلك من باب الرغبة بنكران الواقع المر والتشبث بالأمل دون تجاهل أن هذا النكران ليس إلا “قاعدة حتمية للألم الطويل الأمد” حسب رأي الراوية. وهكذا من التفاؤل إلى الغوص في جذور الألم والنبش في أسبابها، تأخذنا عزة في عملها كأننا نغوص في داخلنا وذواتنا.
تبدأ الرواية بحوار في جلسات علاج نفسي لإحدى النساء، ثم تتابع على شكل لوحات تختلط فيها الشخصيات والأحداث وتتناوب الذكريات مع الواقع دون ترتيب زمني في خليط آلام الحاضر والماضي الممتد دون شفاء، بدءاً من الأزمة اللبنانية عام 1958إلى تتالي الحروب الخارجية والأهلية وما أفرزته على صعيد المجتمع والأفراد والعلاقات وما تركته في الذاكرة الفردية التي لن تستوعبه. فسنرى كيف يتوارث الألم وتكرسه الأمهات في وعي أطفالهن الذين يرضعونه مع الحليب ويمتصون ذاكرة الحرب والأسى من هلع العيون. فالحروب لا تنتهي بتوقف الرصاص بل تحكم ذاكرة البشر وتترك ذات الإنسان مهشمة ومرضوضة ومرتبكة تجاه الحياة والآخر. ولعل هذا ما يفسر جلسات العلاج النفسي المذكورة في بداية الرواية. تقول إحدى الشخصيات: “كانت الفيلا المهجورة تشبهنا صلبة من الخارج وخربة من الداخل نحتمي فيها من زوابعنا”.
ولا يسلم من ذلك حتى الأجنة، حيث يرثون في الجزء الأخير من الحمل جزءاً من أحاسيس الأمهات إذ يشعرون بها لأن وعي الجنين وذاكرته تكون قد تشكلت كما تخبرنا الراوية ولهذا فإن أطفال فلسطين هم الأكثر تأثراً إذ يكبرون بالألم والكوابيس.
تجمع عزة طويل في روايتها غير التقليدية منذ البداية بين مجتمعين مترابطين عبر التاريخ بقدر خصامهما الحالي في لبنان وسوريا حيث تتشابك العلاقات الاجتماعية بغض النظر عن العلاقات الرسمية لنرى مثلا أن لبنانية ولدت وعاشت في لبنان (وطى المصيطبة) طوال حياتها كلبنانية والدها سوري ثم تتزوج من سوري وتذهب معه خطيفة، في إشارة إلى تشابك الأنساب والحياة وحيث تغص الآن لبنان باللاجئين السوريين كما كانت تغص سوريا باللاجئين اللبنانيين أثناء حروبهم، لتوازي بين الحرب اللبنانية والسورية عبر تذكر المجازر غير المبررة في كلا البلدين والتي ذهب ضحيتها الأبرياء في الحالتين مع تعددها واختلاف المرتكبين وتشابه النتائج.
ورغم ذلك فالبشر يعيشون ويحبون وينجبون الأطفال ويحتلمون في الأبنية المهدمة والملاجئ وتحت القصف وكأنهم يشهرون البقاء في وجه الحرب والرغبة – الحياة مقابل الموت، فهل هي بذور التفاؤل أم غريزة مقاومة الفناء عبر آلية النكوص البدائي نحو الحياة (التناسل)؟ تقول الكاتبة عن تلك الحالة إنها “أكثر صور العنف إدهاشاً ” .
لكن في هذه المجتمعات والتي لم تترك لها حروبها الأهلية فرصة التعافي أو التطور، تأتي الحياة لا كخلاص أو كما نحلم بل ناقصة وبعلاقات مشوهة يمارس فيها القوي سلطته على الضعيف ويفرغ ما اختزنه من عنف الحرب على الأضعف فتنتهي بالقهر والنهايات المأزومة.
وهو ما تضيئه الكاتبة بطرح قضايا جندرية معيشة فالمرأة التي تعاني رغم أنها كانت رفيقة النضال أو تعرضت للأذية كالرجل في الحرب والمجازر وربما تحدت واقعها والأهل للارتباط به كالذهاب خطيفة دون مشورتهم، إلا أنه يمارس عليها سلطته الذكورية الموروثة، من الضرب والخيانة والاهمال حتى أنها قد تتحمل الهجر والذل للبقاء بجانب أولادها بعد الطلاق.
تقول أم شادي عن زوجها المتوفي: “حتى القهوة كان يشربني إياها مفحمة”.
ولم يكن المنفى أفضل إذ وضع المرأة في ظروف صعبة حتى أصبحت العودة الى لبنان وسط الحرب أرحم.
أتت الرواية على شكل لوحات أو مشاهد سينمائية وبؤر أحداث تبدو منفصلة أو ذكريات مسترسلة كأنها حديث أرواح، إلا أن الكاتبة عمدت إلى تقديمها بلغة مفعمة بالأحاسيس والنبش الجواني لما يحتدم داخل الشخصيات التي تبدو كلها في حالة اختزان معاناة طويلة تنتظر فرصة للبوح واسترجاع حياتها من خلال ذروة ما تبدأ في كل مشهد، لتتابع بسرد كثيف مشدود متناوب بين الراوية وشخوصها بلغة غنية ومؤثرة. وحيث تنجو الشخصيات من فكرة البطولة لتكون كلها ذات قلق مضطرم ومعاناة مستمرة تعيش أزمتها الداخلية التي تصل إلى القارئ في السرد الموشى بإضاءات رمزية عديدة (برودة الجسد، أو عدم القدرة على الانتصاب، أو العصافير، الحمامة، الجدار)، أو عبر موازاة الأحداث والإشارات المتناقضة (كالموت مقابل الحميمية أو ثالوث الموت مقابل ثالوث الحياة والموسيقا مقابل الدمار)،
فيرى القارئ الواقع بأعين الشخصيات ويعيش انكسارهم ومشاعرهم ويتلمس العالم الروحي لهم عبر رسم الصورة وبناء اللقطة، فيستغرق فيها لزمن أطول مما فعله السرد.
البطل الحقيقي في الرواية هو الفقد، الفقد بالموت وقبل الموت وبعده، بالحرب أو المرض أو الحوادث، وعجز الإنسان أمام الموت البارد ذي الحضور الرهيب، ورغم أن الإنسان هو من يستدرجه في أحيان كثيرة بما يرتكبه من حروب ومجازر، إلا أنه ميزان علاقتنا بالآخر، إذ يختلف إحساسنا بحجمه، حسب علاقتنا بالشخص. الموت أزمة الأحياء فقد تغدو الحياة بعد تجربة الفقد مجرد أيام للذكريات وكأنها تمجيد للموت. وأمام سطوة النهاية وعدم القدرة على نسيان الأحبة يحاول البشر إيجاد أشكال للتواصل مع العالم الآخر بمعنى إبقاء صلة ما بمن نحب كزيارة القبور وزراعة الورد أو بناء المنزل بالقرب منها لردم تلك الهوة بين الأحياء والأموات، أو المصالحة مع هذا المخيف الجاثم فوق خط النهاية. ولكن كل هذا ليس سوى محاولات قد تحقق العزاء الصادق للفرد.ولهذا لم تكتف الروائية بتقديم الواقع وأثره في شخصياتها والمكان ولم تكتف بنبش التاريخ وحوادثه المفصلية، بل عادت أيضاً إلى بنية الذاكرة الجمعية الدينية والثقافية التي وضعت كثيراً من المفاهيم والعادات التي مازلنا نمارسها كمفهوم الموت وعادة لبس الأسود في الحزن، مثيرة قضايا معاصرة ووجودية في علاقة الإنسان بالحتمية والطبيعة فتتنقل بين الواقع العام والتاريخي والاجتماعي بمهارة تنقل الضوء، لكن رمزية عودة تموز في الربيع التي تعني نهوضه من عالم الأموات أتت في الرواية بشكل معاكس.
في الخاتمة تابعت عزة طويل أسلوب روايتها الخارج عن المألوف، في ترك حياة الشخصيات معلقة على شفا الحديث الذي قد يسترسل إلى ما لا نهاية دون أن تضع أي نهاية لها، لكنها آثرت التدخل بلسان الراوي العليم الذي كان يشارك في السرد لتخبرنا أن الرواية ليست من صنع خيالها بل جزء من حياة أو رحلة مع الحياة والموت ولهذا تقول لا أهمية للنهايات. لكنها تعترف أنها بعد كل هذا قد بدأت تفهم من أين يأتي هذا الألم.
رواية عزة طويل رواية شيقة وغنية ورغم أنها قصيرة لكنها ذات أبعاد ممتدة في ذاتنا نحن أبناء الأوطان المبتلاة بالحروب وكل هذا الألم.
بواسطة دعد ديب | مايو 4, 2024 | Culture, Reviews, العربية, بالعربية, مقالات
في أسلوب جديد ومختلف عما عهدناه يأتينا طارق إمام بدهشة متصاعدة في عمله الأخير “أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها” الصادر عن دار الشروق 2023، منذ العتبات النصية التي بدأها بإهداء العمل لوالده “أنت فوق التراب وأنا تحته” في سرد يحفل بالثنائيات الضدية الفوق والتحت؛ الولادة والموت؛ الطفولة والشيخوخة، في تبادلية الأدوار وتواترها في نسبية الحياة والموت، الموت الذي يراه كاستيقاظ مستمر في قلب واقعية المفاهيم في مفهوم الموت المقلوب “عندما مات استيقظ ولم ينم”.
فالغرائبية التي يكسر بها نمطية الأشياء والواقع تقودنا إلى المعنى المضمر في بواطن السرد، فالمعنى أشبه بمؤامرة خاصة يحيكها إمام لاستجلاء معنى غير واضح يتطلب جهدًا من القارئ في التحليل والتنقيب عن مراميه.
ضمت المجموعة الأولى التي حملت العنوان “لأننا “نولد عجائز” حوالي تسعاً وعشرين أقصوصة تتوالى فيها المفارقة والدهشة ففي قصة “الحياة” يستغرب من ملاقاته لنفس الجار الذي يلتقيه عندما يقطن أي منزل جديد بتاريخ وأسرة وعلاقات مختلفة لكنه يكون هو نفسه في أحبولة التشابه والاختلاف، وربما هم الناس العاديون يتكررون أو أن نظرتنا عنهم واحدة أو هم متشابهون بالأصل.
وفي قصة “كلانا ضيف الآخر” نرى المشهد المقلوب في انتقال كرة يلعب بها أطفال الحي لتكون مجسم كرة أرضية على طاولته ذاتها، الكرة التي تلف الكون وسط الجثث في رمزية لما يحفل به العالم من الموت.
يقوم طارق إمام بخلط المفاهيم ما بين الموت والحياة؛ بين العمى والإبصار؛ بين اليقظة والنوم، ويشتط في فانتازيا الأحلام في “نائم يحلم بنائم”، عندما يحلم برجل يحلم في حلمه متسائلاً عن حلم ذاك الذي في الحلم.
يستفيد الكاتب من اشتغالات فن القصة القصيرة في الإيجاز والتكثيف لدرجة لا تتجاوز أحيانًا كل قصة الصفحة أو نصف الصفحة ولكنها تحتشد بمعان وأفكار ولعب على المفاهيم بطريقة غير معهودة.
ففي قصة “وجهك كالقمر” رغم بديهية التعبير العادي المتداول في أكثر من بيئة فإنه يرجعه الى معناه الجغرافي الحقيقي بكون القمر جرماً سماوياً حجرياً ليشير الى جفاف الحب وإلى امتهان المرأة أيضاً عندما يمرر رجل الفضاء بحذائه على وجه القمر وليخالف التعبير الدارج بأن التشبه به تشبه بالجمال، في توظيف عبارة عادية لأكثر من فهم وتفسير بقصة لا تتجاوز خمسة أسطر، ليعود مع القمر بحكاية أخرى عندما يصر صاعد للفضاء أن يذهب إليه بدرًا وبما إن القمر متغير فما أن يقترب منه حتى يصبح هلالًا يتعلق فيه كأرجوحة، وعندما يصبح في المحاق يسقط عنه إلى اللانهاية، في رمزية بديعة لرؤية الزمن المتحول في حياتنا، وقد نفسر أو نرى تأويلاً مخالفًا لما يقصده الكاتب أو يفكر به وهذه ميزة إضافية ذات صفة تشاركية مع القارئ فكل ما اتسعت مساحة التأويل أضافت غنى وثراء للعمل.
في الحوار بينه وبين الفيلم الذي اعتبر أن السارد وجه إهانة له لخروجه من منتصف العرض، بطرح العلاقة بين الفيلم والمشاهد كصديقين أو زميلين يتعاتبان ليستمر صاحب “ماكيت القاهرة” في قلب المفاهيم واستفزاز عقل القارئ بالعبارات الغرائبية على غرار كاميرا تتدلى من حزام رقبة وبين رقبة تتدلى من حزام كاميرا، فهو لا يبتعد عن الموت في الصورة وأداة التقاطها، وكذلك الناس الذي تراهم مقلوبين. هل يجب أن نمشي على رأسنا كي نستطيع التعامل معهم في إيماءة لعالم كل شيء فيه مقلوب، ويرد هذا في مكان آخر عندما انقلب البشر ليمشوا على السماء وتكون الارض أفقًا لهم ويتضرعوا الى الله في الأرض السابعة، في تهكم ضمني يطرق فيه أبواب ما بعد الحداثة في تهشيم الثوابت وكسر المقدسات ومساءلتها إذ يشرع في قصة” الدليل” بالسؤال المباشر هل الله موجود؟ وإذا لم يوجد لن توجد ذنوب ومقابر ليؤكد أنه وجد عندما وطئت رجل بشرية اليابسة، وكذلك بين الطريق وقاطع الطريق وكيف يتحول أحدهما إلى الآخر في أنسنة الأشياء مرة وتشيئ الكائنات مرة أخرى.
في المجموعة الثانية “هايكو المدينة” نعرف من هذا العنوان أن طارق إمام يهجس بالمدينة كما في رواية “ماكيت القاهرة” وهو يغامر بتداخل أجناسي بين مفاهيم تتبع القصيدة النثرية الخاطفة والقصة الومضة في نوع من الفن التجريبي لتمازج الأجناس بحس مغامرة عالي الجرأة عبر إحدى وخمسين أقصوصة تراوحت كل منها بين سطر وثلاثة أسطر تقريبًا.
لعبة التصغير والتكبير والشبيه والأصل لا تغادر منظومة المعاني التي يدور بها وحولها صاحب “الحوائط اللانهائية” بقدرة هائلة على تكثيف المعنى باقتصاد كبير بالمفردات عندما يصور موت المدينة بالشريط المائل على حائط العالم أو المدينة التي لم تترك مقابر لساكنيها؛ مقابر لمن لم يموتوا بعد؛ إذ لا يتمتع أبناؤها برفاهية القبر.
نلاحظ أيضاً التناص مع أحد المقاطع لأدونيس إذ يقول إمام:
” مات مالك دار العزاء
قدم المعزون الواجب واقفين
المقاعد ذهبت خلف النعش”
بينما يقول أدونيس:
“أيها الميت فوق الخشبة
يا صديقي
رسمت وجهك أزهار الطريق
ومشت خلف خطاك العتبة.”
كذلك في المجموعة الثالثة “لأننا نموت أطفالا” دائمًا يخالف توقعات القارئ الذي يحاول أن يتابع ويفهم لأن القصص التجريبية تبتعد عن التركيبة المنطقية فالقصة القصيرة تروي نفسها بنفسها من خلال دمج مجموعة من الحوارات الداخلية لشخصيات متعددة تتداخل فيما بينها ودائمًا يعود إليه هاجس المصغرات كالحصان الحي في حجم الإصبع حصان يوضع على باطن الكف لصغره ويعيش سائر نشاطاته الحيوية من الصهيل إلى البراز في نسبية الكائنات لبعضها وتناوب صفاتها، وفي “التلويحة” يذهب جزء منا مع من غادروا وكأن الوداع لا يكتمل إلا عندما يقتلع المغادر جزءًا من كينونة الآخر.
وأيضًا يلعب على تجريد المعاني من ارتباطاتها في “الاسم ” اسم بلا مسمى، إذ يتحدث الاسم عن نفسه ككينونة بلا هوية، لم يجد لبوسًا يلبسه ليكتمل وجوده بأن يعّرف بالآخر لذا بقي نكرة، وأيضًا انعدام الأمل في أفق ما يجسده بالقزامة التي ترافق المولودين وكأنهم منذورون للموت لذا لا يكبرون وفي “حصة التشريح” كان البؤس للجثامين فقدانهم لنعمة لموت وتوريطهم بالحياة.
شيفرات عدة تلوح في كل قصة مختزلة بمفردات ذات شحنة دلالية على غرار اليد المفتوحة كرجاء المضمومة كقبضة، فهذا التسول وهذه الحاجة ينذران بأنها ستتحول إلى قبضة أي إلى عنف، إيحاء بمقدمات ستفضي إلى نتائج.
أما جبروت الرجل ضمن الملصق فهو يحيي ويميت ويحول كل شيء لسلعة لكنه بكل سطوته لعبة لطفل يفتش عما في داخله، وإذ تحدث باشلار عن المكان باعتباره كينونة الوجود والبيت رمز الحميمية أو وعاء الكينونة فإن إمام يدفع للفهم المعاكس في المدن التي تقذف أبناءها خارجها، في حالة افتقاد الأمان والحلم وتجسيد حالة الغربة والوحشة التي يعيشها إنسان المنطقة في قصة “المدينة” لتتفرع الفانتازيا لديه في “نهر الدموع” حيث تتحول الدموع نهرًا يجلس الزوار على ضفافه في كوميديا الحزن الغارق بالدمع.
ثمة مسألة أعترض عليها وهي توشيح بعض النصوص باللهجة العامية المصرية لأنها وإن بدت واقعية وقريبة من تلقي القارئ لكنها قد تصعب على الناطقين بلهجات أخرى.
أعتقد أن كل قصة من قصصه رغم قصرها وتناولها لمشهد أو لقطة من عمر أصحابها كما اصطلح في العنوان تحتاج لوقفة خاصة لتناول احتمالات التأويل والفهم فيها الأمر الذي يقودنا للسؤال وماذا بعد؟ وماذا يريد من كل هذا التحليق في فضاء المغامرة؟ نعم هي مغامرة اجتراح آفاق غير مطروقة في احتمال تقبل الآخرين لها أم رفضهم، وجرأة كبيرة في فتح بوابات مجهولة لكن الأكيد أن طارق إمام وصل ببراعة لإبهار القارئ بغرائبية ما يقرأ ويتخيل.
بواسطة وداد سلوم | أبريل 29, 2024 | Culture, Reviews, العربية, بالعربية, مقالات
كانت المرأة حاضرة دوما في الأدب والفن عبر التاريخ ولا شك أن ما عانته من معاملة الجنس الأدنى الملوث بدمه والمرتبط بالخطيئة الأولى والطرد من الجنة وارتباط الإغواء بجسدها والمتع الدنيوية المرفوضة دينياً، سيترك صداه في الإنتاج الأدبي والفني سواء العالمي أو العربي، الذي تفاوت في تناوله لقضية المرأة بين التسليع والاستهلاك وبين نقد الصورة التي قيدتها عبر التاريخ منذ فقدت مكانتها الاجتماعية كأم عظمى لها قدسيتها وتدور حولها الحياة.
“نعاس”
رافقت الاستكانة والاستلاب حياة المرأة لتغدو كائناً يقوم بالواجبات المنوطة به دون نقاش مستهلكة طاقتها، حتى تفقد ذاتها وأحلامها وشغفها بالحياة ، كما في الرواية القصيرة “نعاس” للكاتب الياباني هاروكي موراكامي فالبطلة تشعر أنها تعيش حياة ليست حياتها وفي لحظة من تراكم الضغوط و الإرهاق تعي ما فقدته وما تفقده بشكل يومي ومستمر وترفضه. يعبر موراكامي عن لحظة الوعي هذه بحلم تراه البطلة، حيث يقوم عجوز بإلقاء الماء عليها، فتستيقظ وكأن حياتها الحالية المستسلمة إنما هي حالة إغماء يجب أن تصحو منها، تستيقظ ولا تعود قادرة على النوم بمعنى أنها لن تعود للحياة السابقة أبداً، فهي تستيقظ ليس من النوم فقط بل من حالة الاستهلاك والاستلاب اليومي وفقدانها ذاتها أمام عبء الواجبات الزوجية والأسروية، وحيث نرى كيف يتحول الانسان ( رجلاً أو امرأة) أمام الضغط الاقتصادي إلى روبوت لكن الحياة تمضي في هذه الأثناء دون عودة . تستيقظ البطلة ولا تعود قادرة على النوم لتستعيد حياتها التي تحب فتعود مثلا للقراءة التي انقطعت عنها بعد الزواج وتتناول الشوكولا المحرمة بالبيت لأنها تسوس الأسنان فزوجها طبيب أسنان ثم تبدأ بالخروج في نزهات ليلية بالسيارة دون أن تخبر أحداً وكأنها تسرق حريتها ومتعتها وهذه النزهات التي يقود موراكامي بطلته إليها ليست سوى التعبير عن علاقتها بالخارج الذي يتمسك بسلبها النور فهو يريدها في الظل دوماً وفي الخوف أيضاً. إنه الخارج المجتمع الذي نرى أنه لن يترك البطلة تكسر حدوده وتتجاوزه بسهولة، إذ تتعرض في إحدى النزهات لمحاولة السطو على سيارتها من شبان يتجولون ليلا بحثاً عن فريسة وتنتهي الرواية بمشهد مفتوح في إشارة لاستمرار هذا السعي من قبلها ( البطلة) واستمرار قتله من قبل المجتمع .
“ميثاق النساء” و”أقفاص فارغة”
أما حنين الصايغ الروائية اللبنانية في روايتها الأولى “ميثاق النساء” الصادرة عام 2023 فقد تناولت الاضطهاد والظلم الاجتماعي الذي تعيشه المرأة الريفية في بيئة دينية ملتزمة بحكم سلوك الأقليات في بلد عانى من حروب أهلية على أساس طائفي لفترة طويلة، وحيث تتواشج الأحكام الاجتماعية مع التعاليم الدينية والعادات الريفية السائدة مكبلة النساء بالحرمان من أبسط الحقوق كالتعليم. لكن بطلتها، تدرك أن المواجهة والعلم طريقها للتحرر من ربقة الواقع ولتحقيق أحلامها واتساع أفقها ومنح نفسها فرصة الإبداع والتطور الذي تريده أن يفتح آفاقاً ليس لها فقط بل لابنتها أيضاً.
وهذا ما تلتقي به مع الشاعرة الدكتورة فاطمة قنديل في روايتها الأولى “أقفاص فارغة” الحائزة على جائزة نجيب محفوظ عام 2022 أي أهمية التعليم الذي يصبح وسيلة لتحقيق الذات والاستقلالية وطريق لتحقيق الحلم بهما.
فأقفاص فارغة وهي سيرة ذاتية للكاتبة التي قامت بنبش ذاكرتها دون احتراس أو خجل ودون أن تهاب الآخر أو معاييره الاجتماعية تحدثنا عن معاناتها منذ الطفولة بما يرخيه عالم الكبار على عالمها ويؤثر في خياراتها فهي الفتاة التي حرمت من غرفة خاصة بها لأن الأولوية كانت للذكور بالاستقلال وكيف تعرضت للتحرش، وكيف أمضت زمناً طويلا في مسامحة الآخرين وغفران أخطائهم بحقها مما سمح لهم باستغلالها تحت تأثير العاطفة والعرف الاجتماعي وحتى على الصعيد الشخصي، أذعنت للحب فقبلت أن تكون زوجة ثانية، لتتلقى الصدمة مرة تلو الأخرى لكنها نهضت من جديد فأتمت تعليمها ونالت الدكتوراه في النقد الأدبي وأسست لحضور أدبي عالمي كشاعرة نالت الجوائز رغم محاولة أخوتها التصغير من نجاحاتها و إنجازاتها.
في رواية قنديل نرى المجتمع الذكوري المتناقض بين سعيه للتطور وبين أحكامه التي تحرمه من قوة بشرية وإنسانية (النساء) جديرة بالاعتراف بمساهمتها وحضورها، معرية عفن العلاقات الاجتماعية القائمة على ازدواجية المعايير وانهيارها أمام المصلحة والنفعية التي تسربت إلى أكثر العلاقات حميمية تحت الضغط الاقتصادي وانهيار الطبقة الوسطى في مصر. ونرى تناقض الذكر وتمزقه النفسي بين النكران وممارسة سلطته على أخته وخضوعه لزوجته فالمعايير مزدوجة بل متناقضة وتخضع لسلطة القوي مما يفقدها أخلاقيتها الحقيقية. لنلمس كيف تعيد الأسرة دوماً إنتاج الظلم على العنصر الضعيف وهو المراة.
ولعل التغيير يأتي من الأفراد، فحين تقرر تغيير المكان دون ترك عنوانها تقطع علاقتها بالماضي وترمي أقفاص الذاكرة لتتحرر من ذاتها القديمة وبذاتها المدركة والواعية لقيمتها وحقيقتها وتصبح ما تريد.
خيط البندول لنجاة عبد الصمد
ليس من السهل أبداً أن ترمي معايير المجتمع دفعة واحدة وتتخلص من أحكامه التي يحاسب بها المرأة، كحكم العانس أو العاقر، نعم إنه الخارج الذي لن تستطيع المرأة تجاوزه بسهولة خاصة حين يطعنها بأنوثتها أو أمومتها. كما في رواية خيط البندول للكاتبة السورية نجاة عبد الصمد الصادرة عام 2023 فالبطلة تريد طفلاً لا تمنحه لها الطبيعة لتقع تحت سطوة الحرمان من أعز ما تملك (الأمومة) فتبدأ رحلتها في محاولات طفل الأنبوب المتكررة دون جدوى، وتتعطل حياتها المهنية ومشاريعها وأحلامها وينعكس الفشل مرة تلو أخرى على علاقتها بزوجها وبذاتها وبالآخرين، لم تكن الرغبة بالحمل ذاتية وحسب، بل هي اجتماعية أيضاً فالمرأة تخشى احتمال رفض المحيط لها إذ تفقد وظيفة أساسية ( الأمومة) وقد تكرس ذلك في اللاوعي الجمعي.
وللمفارقة إنها الأمومة نفسها التي تصبح جريمة ومأساة عند فتاة مراهقة تتعرض للاغتصاب فتنجب طفلا غير شرعي. ورغم أنها لأبوين متفهمين وواعيين إلا أنها تخاف وتخفي الأمر عنهما إذ إن الحدث أكبر من استيعابه من قبلها، لا شك أن تجربة الاغتصاب تجربة مريرة على المرأة وخاصة على فتاة صغيرة مراهقة. تقوم الكاتبة بوصف هذه التجربة التي إن لم تدمر حياة الفتاة فستترك أثرها واضحاً على حياتها. من آلام الولادة إلى تلك المشاعر الجامحة والمتناقضة التي تعيشها الأم الطفلة بين الرفض والتمني بين الشفقة والقسوة. في لحظة منفلتة من كل الحسابات حين يحتقن ثدياها بالحليب وتلح الرغبة بإرضاع الطفل الذي لا ذنب له إذ تغدو مشاعر الأم ناراً تكوي جوفها وأحشاءها، وفي هذه الإضاءة تجعلنا عبد الصمد ندرك ضغط غريزة الأمومة على المرأة الذي يجعلها تتحمل كل أنواع القهر في حياتها مقابل أن لا تخسر أبناءها في مجتمعات لا يقف القانون فيها إلى جانبها أبداً.
لا تتوقف الكاتبة عند تجربة الحرمان من الأمومة وضغطها على المرأة بل تأخذنا إلى ما يمارسه المجتمع عليها بأكثر من شكل فالأم التي خسرت زوجها ستتزوج من أخيه رغم أنها ترفضه نفسياً وروحياً حفاظاً على شرف العائلة وأولادها وتحت ضغط العرف الاجتماعي.
في خيط البندول تمزج نجاة بين دورها كروائية ومهنتها كطبيبة. فتخبرنا عن أهمية التوعية والثقافة الجنسية للجيل الشاب لتوجيه طاقاته ومنحه الوعي اللازم للجسد واحتياجاته وخاصة الفتيات من اجل ثقافة صحية وتفكيك خيوط الأزمات النفسية التي ترافق النساء إذ يحملن اغترابهن عن جسدهن مدى الحياة في المجتمعات الشرقية، بينما شاهدت هي حين درست الطب في روسيا كيف أن الفتيات اللواتي يخضعن لدورة الإسعافات الأولية مثلاً، يتم تدريبهن على الفحص النسائي كأي فحص طبي آخر.
وتتابع بتطعيم سردها بمعلومات من تاريخ الطب لنرى اضطهاد المرأة قديماً ففي القرن الثامن عشر في أوربا، كانت المرأة ممنوعة من إكمال تعليمها أو مزاولة بعض المهن كالطب ما اضطر الطبيبة البريطانية مارغريت آن بكلي لانتحال شخصية خالها المتوفي في مقتبل العمر لتستطيع إكمال تعليمها ثم ممارسة الطب باسم الطبيب جايمس باري إذ تنكرت بلباس رجل لمدة اثنين وخمسين عاماً. عملت خلالها في الجيش البريطاني في الهند وفي جنوب افريقيا وأجرت أولى العمليات القيصرية وتابعت ترقيتها في أوربا وكندا باسم الخال جايمس حتى أصبحت كبير الجراحين والمفتش العام للمستشفيات العسكرية، إلى أن توفيت فاكتشف أمرها على يد الخادمة وكانت الفضيحة، إذ اتهمت بانتحال اسم ورتبة ضابط بريطاني رغم كل ما قدمته وفعلته عبر تاريخها المهني والإنساني.
ربما لا يستطيع الأدب تغيير الواقع لكنه يستطيع المساهمة في بناء الوعي والتنوير بتقديم النموذج الإيجابي وتسليط الضوء عليه وكشف القضايا المسكوت عنها وتعرية الظلم والقهر اللذين تتعرض لهما النساء. في مجتمعات ما زالت بحاجة لتمكين الإنسان وانتمائه الوطني والمدني والقانوني وخصوصاً المرأة عبر الحث على التغيير الجذري في البنى الاجتماعية الراعية لكل هذا.
بواسطة هيفاء بيطار | أبريل 21, 2024 | Culture, Reviews, العربية, بالعربية, مقالات
لم أستطع أن أخفي دهشتي حين قرأت المجموعة الشعرية “مثل الماء لا يُمكن كسرها” للشاعرة السورية فرات إسبر، فالنص مدهش وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها، ويعبر عن صوت المرأة الحرة الشجاعة والمبدعة، صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة. أعتقد أن هذه المجموعة الشعرية المتميزة لم تأخذ حقها من الدراسة والنقد، ففيها تقدم الشاعرة نموذجاً لشعر المرأة يتخطى الخطوط الحمراء ويتحداها ويناقضها في مفهومها الإجتماعي والديني. هناك مقطع توقفت عنده طويلاً: على قدمي ركع الرجال، أعطنا عشبة جلجامش، عندنا نساء شبقات، من الندى يرغبن بالكثير، وبحيضهن تخضر الأرض .هذه العبارة (بحيضهن تخضر الأرض) هي ثورة على القيم والأفكار والمعتقدات الاجتماعية والدينية التي تعد المرأة في فترة الحيض مدنسة وكأن قيمتها الإنسانية هبطت. لكن فرات تربط الحيض بالحياة، تخضر الأرض كأن الحيض نسغ يمتزج بدم المرأة، كنسغ الشجر الذي يُعطي الحياة للأغصان .
في مقطع آخر: “قالوا لنا أنت له وهو لك
وخُتمنا بخاتم أحكامهم
شهود زور وقعوا على ورقة
ختموها بخاتم الحاكم بأمر الله
زينوا لنا الفرح والموت والحب.”
-رابعة العدوية امرأة كانت تنام تحت عباءة الرغبة وتصرخ في جلد الرجل شهوة وفي جسد المرأة شهوات. كنت النهر وأنا ضفتاه والعابرون هم الحصى في جسدي. كنت تشبه الليل وأنا أشبه الموسيقى. كنتً تُشبه الموت وأنا أشبه الحياة لذلك لم أخلق لك ولم تُخلق لي “.
في مقطع بعنوان عانس: “دخل عليها الشجر والنهر والورد والندى، قالوا لها: جئنا لننام في سريرك لنعلن الولاء لك. غنت لها الأٌقمار، الطيور هاجرت إليها، الجبال ركعت عند قدميها – هتفوا لها: بريء رحمك لم يمسسه الرجال.”
وفي مقطع بعنوان أمومة تقول: “عندما نهضت الأمومة بكل جبروتها وصرخت: أولادي خرجوا من رحمي، شربوا من دمي. إنني أراهم يتخبطون، لا أنا منهم ولا هم مني. امرأة من بعدها قالت : قديماً كان الإنسان وقبله كان الإله–وقبلهما كانت المرأة ولأن الجميع خرج من رحمها لذلك يرجمونها بالحجارة.”
الأمومة كما تُعبر عنها الشاعرة فرات إسبر قوة ونعمة، والرحم الذي يخلق الحياة يثير النقمة لدى رجال يريدون المرأة خاضعة ويتحكمون بها، لكن المرأة هي الأصل وهي تخلق الحياة، وقد بين العلم أن الكون كله يُشبه الرحم.
في داخل المرأة عدة نساء، كأن روح المرأة أرواح داخل جسدها: “وأنا حارسة الكلمات على إيقاعها أرسمك قاتلاً مُحارباً شهيداً وبكل ألوانها. أرسمك خائناً وعاشقاً ومرتداً ولكنك في بيت شهوتي تكون واحداً وأنا امرأة عبرت وأخرى تأتي وثالثة تولد ورابعة في مخاض وخامسة في وأد وسادسة في قفص وسابعة في تابوت وثامنة في عقد زور وتاسعة مُقيدة وأنا التي عبرت – اسمعني اسمعني بلغة الطير ولغة الحجر ولغة الماء ولغة الريح أنا عابرة الأكوان مع الوجع.”
سيدة التعب
استوقفتني عبارة (سيدة التعب) وكأن التعب من مزايا وصفات المرأة خاصة في عالمنا العربي، فالمرأة هي العطاء بلا حدود وهي من تنجب الأطفال وتربيهم وهي تعتني بالزوج وبالأهل حين يمرضون أو يصلون إلى أرذل العمر، لكن، ومن خلال تجربتي الحياتية أيضاً، لا يحق للمرأة أن تتعب، وإذا تعبت تُلام وتُتهم بالتقصير وأحياناً بالجنون. في مقطع رائع بعنوان “مثل الماء لا يمكن أن تُكسر” تقول: “صديقتي التي ماتت، لا تشبه النساء، يداها قاسيتان وبشرتها جافة، تُشبه الغبار، إنها غبارية اللون، لا تحب العطور، ذات يوم حلمت أنها تسبح في بحيرة الورد ولكنها استيقظت فجأة لترى نفسها في كومة من غبار.” وفي نهاية المقطع تقول: “ذات يوم جربت عطر النساء، صديقتي التي لا تشبهني لا تُحب العطور، هي سيدة التعب، صديقتي التي تشبهني كانت أنا، ومن يومها قررت أن أغيب معها في الغبار.” نلاحظ تكراراً كثيراً لكلمة غبار ولامرأة من غبار، فالغبار لا قيمة له وقلة من تلاحظه، وهو بلا لون مميز أو رائحة. ولقد أبدعت فرات إسبر في وصف المرأة بأنها امرأة من غبار لأنه لا أحد يحس بها وبوجع روحها وبتعبها وبأحلامها وتوقها للحرية، لتكون ذاتها، إنها دوماً المُلحقة بالآخر، كينونتها في خدمة الآخر وفي العطاء بلا حدود دون تذمر أو تعب، هي في الحقيقة كأنها كائن خفي لا أحد يراه على حقيقته، لا أحد يحس أنها متساوية تماماً مع الرجل وأن لها طموحاً وأحلاماً وشغفاً، عليها أن تكتفي فقط بعبارة (الجنة تحت أقدام الأمهات) في هذه الحالة وحدها تكون لها قيمة وتُقدس، لكن الجنة ليست تحت أقدام المبدعات اللاتي يتعرضن للاعتداء ويُتهمن بالأنانية وسوء السمعة والاسترجال، وكم من نساء يعجزن عن التعبير عن مشاعرهن وأحلامهن، كم من نساء يكدن ينهرن من التعب لكن المجتمع الذكوري زرع في نفوسهن منذ أن كن طفلات أن غاية المرأة هي الخدمة، خدمة الأسرة وأنه ممنوع عليها أن تتعب لذا تشعر أنها تعيش وهي تُخفي ذاتها الحقيقية داخل روحها، تلك الذات تُصبح صديقة المرأة تناجيها وتُفضفض لها عن تعبها. مؤثرة وعميقة تلك العبارة (صديقتي التي تشبهني كانت أنا ومن يومها قررت أن أغيب معها في الغبار).
ويبقى الحنين إلى الوطن موجعاً كالحرق، ففي مقطع بعنوان بيتنا تكتب فرات ابنة مدينة جبلة: “آه يا بيتنا غادرك الأحبة واحداً واحداً والآخر غاب ولم تزل هناك أم تعد العشاء وقلبها لى الباب –وأب يقول تأخر المطر والأحبة لم يقرعوا الباب وما زلنا سنين انتظار. يا بيتنا ألا يزال الدرب نفسه والحارة القديمة، سوق جبلة العتيق، قلعة الرومان، نادي المعلمين، ومدرستي الثانوية؟ لملم الدمعَ يا هدب، صار بحيرة، والمراكب ما أوصلتني إلى الشط البعيد، في غفلة تُهت بحلمي وأيقظني قرع باب، أيقنت زائراً قد طل في غربتي يسأل عني، ما كان ذاك غير صوت ريح وأنين مطر.”
تُعبر فرات إسبر عن الخوف بكلمات قليلة تبدو بسيطة لكنها عميقة وتُلامس شغاف الخوف، في مقطع بعنوان “البيت الذي اسمه الخوف” تكتب: “أنا وأنت هنا بين هذه الجدران وبيت كبير لا يُمكن أن أصف أسراره ! على بابه يقف الخوف. هل ترى هذا الشباك العالي ذا الأقفاص؟ – والرجل الحارس يراقبنا.–أتراه. كيف يحدق؟ من داخل هذه الجدران أكتب إليك أنا وأنت ولا أحد سوانا. أنا وأنت كانوا ثلاثة، كانوا أربعة وكنا كثيرات أنا ونفسي، أنا ونفسي أكثر من اثنتين ولكن في قفص واحد.
انظر. ..انظر
هذه الشجرة تشبهني تماماً وهي تموت“.
في مقطع آخر: “تسألني اليوم لماذا أنت حزينة؟ كانت الرصاصات تخترقني والقناص الذي وراء الباب وكل الذين سقطوا أمامي كانوا أنا. أنا اليوم أسألك من أنت؟ أنت لا تدري وأنا لا أدري ولكن لا بد من سؤال.”
تكتب فرات إسبرعن الحب بطريقة صوفية شاعرية، لا تستعمل كلمات تعبر عن الشهوة والرغبات، يبدو وصفها للحب أشبه بمن يصف رحيق وردة أو نسمة عليلة كأن الحب حالة وجدانية أو كأن الحب كوشاح من نور يُغلفنا. في مقطع بعنوان “كل الأضواء مطفـأة إلا ضوء قلبي إليك” : وردة الحب كم بتله لديك، كم ساق؟ أمنا الأرض مغمورة في الحب وباقي الكواكب من غيرتها تنام! شك نساء وغيرة وهذا السفر الطويل لن يلحق بالأيام. بتلات الزهر سكرى. – هل تذهب معي الليلة إلى تلك المملكة التي يسمونها الحب، التي يسمونها الموت، وأنا بها من السحر مس جنون.”
في مقطع آخر تقول: “احملني على ظهرك يا ضوء قلبي، أنا بيت الأمنيات التي لا ! يستجاب لها. أنا العجوز التي لم تلحق الحلم وما زلت تسألني: أتريدين الصعود إلي أم أنا أهبط إليك؟”
ومن مجموعة أوراق من دفتر الورد اخترت الورقة الأولى:
“إلى وجه أمي الذي ضاع مني، إلى حبها الذي لم أستطع اللحاق به، إلى قدميها عاريتين أول الظهيرة ويديها المتعبتين قبلتي، أنا المرأة التي كنت مثلها.”
الورقة الثالثة: “الوردة التي ذبلت لم تكن في حديقة كانت في وجع النسغ، في حزن التراب.– لم تقف عند باب ولم تسأل النجم عن مدار.”
ومن مقطع تأملات امرأة : “كل الذين أحبهم ماتوا، وكل الذين لا أحبهم ماتوا، وها أنا في غابة الموت أهيم. الكراهية طائر أسود اللون يختلس النظر إلى قلبي يريد أن يقنص بذور الحب منه. – الحب طائر بلا أجنجة وحده يحلق عالياً في السموات، وحده يعرف أسرار اللغة وفك أزرارها. جسد تتقاسمه العشائر، قلب مصلوب في جدران الجسد. نحن في الماضي، نحن في الحاضر، نحن في وجع المستقبل. من خلف نظارتي أراقب الكون، أرى بشراً من كل ألوان الطيف، من خلف نظارتي أراقب ذاتي، أرى ما لا يراه أحد، رغبة في الحب ورغبة في الزوال. –أعرف أنني لم أفرح، أعرف أن الفرح لن يأتي، وسأغلق الأيام على حزنها.”
فرات إسبر شاعرة متميزة، هي تحكي عن المرأة الكونية الخلاقة القوية، والعاشقة المخذولة، لكنها حرة وتكسر القيود وتتحدى الأطر التي يسجنونها فيها. حين قرأت ديوانها “مثل الماء لا يُمكن كسرها” كنت أقرأ العالم كله من خلال رؤية امرأة تتقن الغوص في معاني الحياة والحب والموت والرغبة، هي ترسم بالكلمات عالمنا والوطن والأم والحبيب والأبناء والغربة، والأرض التي تخون أحياناً كالبرق. وأحب أن أختم بعبارة كتبتها فرات: “العمر زنزانة نعزف فيها أناشيد البقاء.”
بواسطة وداد سلوم | أبريل 1, 2024 | Culture, Reviews, العربية, بالعربية, مقالات
ترمينا الحياة في زواريبها وسراديبها دون شفقة فتارة إعصار بطيء وتارة عاصف، تارة يحطمنا وتارة يجعلنا نحلق في العذوبة، ومن هنا تستلهم الروائية السورية شادية الأتاسي عنوان روايتها الأخيرة (إعصار عذب) الصادرة في 2023 عن الدار العربية للعلوم مقاربة واقع السوريين الذين أتتهم الحياة كعاصفة حملتهم من واقع إلى واقع وقلبت كيانهم وأماكنهم وهوياتهم. ترصد الرواية حياة أسرة سورية تقطن في العاصمة دمشق، حيث تقوم الأم وحدها بتربية أطفالها الأربعة بعد أن توفي الأب بعد خروجه من السجن الذي قضى فيه فترة طويلة، وتنتقل الأم من الهموم العادية إلى الهموم المصيرية التي حملتها الأيام وثم الحرب للأسرة.
الراوي هو الابنة الصغرى البطلة سليمى التي تنطق بلسان الكاتبة وقد ورثت حب القراءة من والدها بينما ورث نبيل الأخ الأكبر عنفوان الأب وتحديه. غادر نبيل البلاد بعد تجربة اعتقال إلى سويسرا أما الأخوات فكان لكل واحدة منهن تجربتها الخاصة. انفردت سليمى بالمعاناة ودفعت من جسدها ونفسها الثمن الغالي فبعد أن تزوجت الشاب الذي احبته اكتشفت أنها تدخل بيتاً للأشباح تسيطر فيه الجدة التي ربت الشاب وتعيش عقدة الامتلاك تجاهه فتفرض جو الكآبة والقسوة وتبعد بين الزوجين، ورغم تحمّل سليمى إلا أنها تختار الطلاق بعد أن فقدت جنينها إثر شجار مع الجدة. احتوتها العائلة وساعدتها لتبدأ من جديد وتعود للدراسة التي تركتها نزولاً عند رغبة الزوج لتتفرغ له، ولتعمل في التدريس بعد ذلك وحين نشبت الحرب في البلاد كانت تكتب في المواقع والصحف ما أثار الجهات الأمنية فاختارت السفر مرغمة هروباً من التضييق عليها.
كيف يعيش اللاجئون في المجتمع الجديد
تبتعد الأتاسي عن سنوات الحرب الطويلة ويومياتها لكنها تلمح إلى معاناة السوري اليومية والممتدة سواء في فقدان الأمان أو فقدان مستلزمات العيش البسيطة والبديهية كالكهرباء وتلك الكآبة المخيمة كالعتمة في أنحاء المدينة لتتابع رصدها أوضاع السوريين في الغربة بعد وصولها إلى سويسرا حيث لم يشكل السوريون جالية لقلتهم إلا أن أتاسي ميزت عدة نماذج من السوريين: منهم من استطاع الاندماج في المجتمع الجديد واحترام قوانينه وعلاقاته وأسلوب الحياة مستثمراً الإمكانيات المقدمة له لبدء مشروعه الخاص، ومنهم من أعلن عدم تكيفه مع المجتمع الجديد ورفض أسلوب العيش فيه ونعته بالفاسق والكافر وحاول أن يعيش أفكاره التي حملها معه وعاداته دون النظر إلى مواءمتها للمحيط الجديد إذ يسيطر عليه الخوف من التأثر فينكفئ دون الاختلاط. فهناك الشاب الذي يتخلى عن دراسته وتفوقه وحياته ويعود إلى الرقة السورية للجهاد مع الجماعات المتشددة وأمه التي تريد من سليمى عدم الاختلاط خشية التأثر وتدعوها لمتابعة الجلسات التي يديرها شيخ الجامع القريب، و هناك نموذج جيل ولد وعاش في المجتمع الأوربي ورفاهيته لكنه يحمل هم الوطن ويسعى لاعتباره قضيته كابنة نبيل التي ولدت وعاشت في سويسرا إلا أنها تشعر بالانتماء لوطن والدها وتذهب إلى مخيم الريحانية في تركيا لمساعدة اللاجئين.
لم يغب عن الكاتبة أيضاً إظهار ردود فعل السكان الأصليين في حذرهم من الغرباء الذين قدموا إلى وطنهم والريبة والشك في سلوكهم تجاه المهاجرين وخاصة بعد أن سبقتهم سمعة الإرهاب وتقارن بين واقعين؛ الشرق والغرب حيث تتلاشى الحدود وتصبح مجرد خطوط وليست قضبان سجن كما في الواقع العربي.
المعاناة في الداخل ومخيمات اللاجئين قضايا معلقة
استطاعت الروائية أن تقترب من أنماط حياة السوريين في الغربة وطريقة تعاملهم مع ظروف الحياة الجديدة كما ترصد من خلال أبطالها قضايا معلقة ما زالت فيها معاناة السوريين مستمرة فعن طريق علاقة سليمى بالشاب الكردي الذي التقت به في مطار بيروت تتعرف على القضية الكردية على لسان أهلها الصريح وما آلت إليه بعد سنوات من الحرب المشتعلة في البلاد وتناحر الأطراف الكردية وغياب نسق واحد لرؤية الحل على الأرض وهو ما يدفع ثمنه الأبرياء: فكريم الكردي يتعرض لإطلاق نار مقصود خلال زيارته للقامشلي ويكاد يموت. كما تصف الكاتبة الحياة في مخيم الريحانية وما يتعرض له السوريون في المخيم من إذلال وسرقة وفقدان الغذاء والدواء والشقاء تحت المطر وانجراف الخيام والبرد واغتصاب الطفولة في ظروف غير إنسانية تصل حدود بيع الفتيات الصغيرات نتيجة الظروف السيئة للحياة في المخيم بأسعار بخسة تحت ذرائع ومسميات كثيرة كالزواج والسترة.
تتابع سليمى حياتها واضطراب علاقتها العاطفية مع كريم الكردي السوري كما تبدأ مشروعها الكتابي الذي كانت تحلم به دوما وتعده استكمالا لمشروع والدها الذي بدأه ودفع ثمنه من عمره في الاعتقال.
الاندماج لا يعني النسيان
تبدأ الرواية بوصف مكان سكن سليمى والتي تسرد الرواية متقمصة صوت الكاتبة الراوي العليم وبضمير المتكلم الذي يجعل سيرة حياة سليمى تبدو كسيرة ذاتية للراوية ويمنح السرد حميمية تأخذ القارئ وتشده لتروي عبر حكاية سليمى حكايات شخصيات كثيرة لا تتوقف عند أخوتها في العائلة وحيث يأخذها الحنين كل حين عبر المقارنات الكثيرة فهي إذ تصف مدينة لوزان ووحشة الغربة تتذكر حميمية توضّع بيوت حي المهاجرين. وحين تبدأ الرواية بمقولة تولستوي إن كل امرئ يحاول تغيير العالم لكنه لا يريد تغيير نفسه نجد أنها لطالما حاولت أن تبدأ من جديد بعد كل كبوة والمضي قدما وراء مشروعها حتى استطاعت أن تستقل به عن مشروع والدها وتحدد طريقها نحو القادم من الأيام باختيار العودة إلى كريم المصاب والعيش معه في باريس.
تشوه المبادئ والحياة السياسية
تعرج الكاتبة على الجانب السياسي ليس فقط عن طريق تسليط الضوء على الانشقاقات في الجانب الكردي، بل نرى ذلك التخبط الذي كان ومازال السوريون يقعون به فوالدها أسس حزباً ثم انشق عنه لاختلافه معه بالخروج عن مبادئ التأسيس، وأخوها انتمى لليمين ثم غير بوصلته إلى اليسار بينما نجد أن الانطواء تحت جناح أحد الفريقين الموالاة والمعارضة قد قسم السوريين بشدة حتى على صعيد العلاقات العائلية: مثال علاقتها بعائلة أختها وصهرها الذي كان يمسك العصا من المنتصف ليضمن مكانه مهما اختلف الظرف السياسي وهو الذي أرادها ان تغادر البلاد حتى لا تحرجه بموقفها، أو العلاقات العاطفية: فقد انسحبت من محاولة إنعاش حب قديم لاختلافهما في الموقف السياسي.
تصف الكاتبة جو البلاد الكئيب والحزين وغرق الناس في تأمين سبل العيش والحياة وتفرق الكثير منهم في بلاد واسعة ليجرهم الحنين من أعناقهم كلما ابتعدوا. تنحاز الأتاسي بصورة أكبر إلى الإنسان وألمه ومعاناته مشبهة رجل الأمن الذي طردها من البلد بديكتاتور وأنها في تلك اللحظة كانت البلاد كلها، التي تعيش قلقها وخوفها وحزنها ويلتبس كل هذا بروحها، وكيف غيرت الظروف حياة الناس ونكوصهم إلى طريقة التفكير الغيبية لفقدان الأمان والحلم والمشروع والإحساس بالواقع المتزعزع والمضطرب، وكشف شذرات عميقة من النفس البشرية وتناقضاتها.
نلاحظ كيف تتفتح الذات الإنسانية حين تتوفر لها ظروف النماء الصحية وتعثر على ظرف مناسب فحين التقت بكريم في مطار بيروت وبدأت معه حديثاً وحيث لم تعد تشعر برقابة تنتهك خصوصيتها وقدرتها على التعبير كانت كأنما تفتح أقفال روحها المكبلة بالماضي أي تجربتها الشخصية القاتمة وتجربة بلدها التي مازالت تعيش أزمتها وحربها كما تظهر في ذهنها وتطرح أسئلتها الوجودية ومشاغلها الفكرية والفلسفية بعد استقرارها في المجتمع الجديد.
يتميز سرد أتاسي صاحبة رواية تانغو الغرام بسلاسة وحميمية وتنحو لغتها إلى الشاعرية ويعيش القارئ معها في مكان وزمان الحدث حيث تماثلنا الشخصيات في المعاناة لكنها تنحو إلى التفاؤل وتحفيز الإنسان على العطاء وفتح الأبواب أمام الحياة والحب.