بحثاً عن الكرة الصوف- ثلاثة أيام من متاهة المنفى

بحثاً عن الكرة الصوف- ثلاثة أيام من متاهة المنفى

روزا ياسين حسن روائية وكاتبة سورية. درست الهندسة المعمارية، وتفرغت للكتابة. ألفت العديد من الروايات وكذلك الكثير من المقالات الثقافية والأدبية في العديد من الدوريات العربية والأجنبية. وهي ناشطة نسوية، وعملت كثيراً على قضايا النساء. أصبحت منذ العام 2015 عضوًا في نادي القلم الدولي PEN وتقيم منذ نهاية عام 2012 في ألمانيا.

عنوان الكتاب: بحثاً عن كرة الصوف ثلاثة أيام من متاهة المنفى.

الكاتبة: روزا ياسين حسن

الجنس الأدبي: رواية

الناشر: رياض الريس للكتب والنشر.

سنة النشر: 2022.

جدلية (ج): كيف ولدت فكرة الرواية؟ ما هي منابعها وروافدها، ومراحل تطوّرها؟

روزا ياسين حسن (ر.ي. ح): إنها أول رواية لي تدور حول عوالم المنفى. احتجت سنيناً طويلة كي أستطيع الكتابة عن المنفى، كمن علق في مستنقع، لم أستطع استيعاب غرقي القسري فيه، لا استيعاب الصدمة الأولى التي استطالت كثيراً، كما لم أستطيع الخروج منه ولا التنفس فيه! الفكرة معجونة بتجارب شائكة خضتها، كما خاضها آلاف اللاجئين/ اللاجئات في منافيهم اليوم والبارحة وغداً. منبعها الأساسي هو البرزخ الذي نعلق فيه كأرواح معاقبة، التروما العميقة في دواخلنا كلنا، وفي كل شخصية من الشخصيات العديدة المختلفة، وأحياناً المتناقضة، التي تحفل بها الرواية، والتمظهرات المختلفة كذلك للتروما. تطوّر الرواية يتلخّص في صراعنا الشخصي والعام مع تشعبات متاهة المنفى، كمن يبحث عن كرة الصوف/ خلاصه الفردي التي ستخرجه من المتاهة. وكلما مرّ الوقت راحت المصائر المختلفة للشخصيات تتعقّد وتتشعّب وتتفارق.

 (ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسة؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه نص الرواية؟

(ر.ي. ح): عوالم المنفيين/ المنفيات، العوالم الجديدة التي ألفوا أنفسهم فجأة في خضمّها، خيالاتهم، أحلامهم، الشروخ العميقة التي يقعون فيها، مآزق الحياة الجديدة، تحدّيات العيش، والبحث عن الذات في مكان يخلخل الهوية والانتماء الذي حملوه معهم، كمن يبحث عن ذاته وسط أكوام قش متراكمة، وكمن يحاول إعادة تعريف بديهياته، التي كانت حتى لحظة اندلاع المنفى بديهيات. أو كمن يحاول إعادة تعريف ذاته كما تعريف الآخر. هي رواية حافلة بالأسئلة.   

(ج): كتابُك الأخير رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًا بذاته تأثير فيما تريدين قوله، وما هي طبيعة هذا التأثير؟

(ر.ي. ح): أنا روائية، والرواية هي العالم السحري الذي بنيته وسكنت فيه من زمان. ولولا ذاك العالم/ التخييل لما أمكنني إكمال العيش في هذا العالم/ الواقع. الرواية هي التاريخ السري الذي يمكننا نحن “المهزومون” كتابته، تاريخنا الحقيقي، فالتاريخ الرسمي لن يكتبه إلا المنتصر/ المستبد. وأعتقد أن الحكاية هي التي تجعل التاريخ الذي نريده موجوداً، تخلقه ببساطة، مما يعني أن الحكاية مع الزمن هي التي ستكوّن التاريخ الذي سيقرأه القادمون فيما بعد إلى هذه الحياة، لذلك فنحن عبر الرواية نشارك في كتابة تاريخنا. والتأثير الذي تتحدّث عنه لن يكون بالتأكيد تأثيراً آنياً مباشراً، وإنما حفر بطيء صعب ولكن عميق في وجدان البشر.    

(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟

(ر.ي. ح): الرواية عالم موازٍ تبنيه وتعيش فيه بلحمك ودمك، لذلك فهو تجربة عيش حقيقية. في هذه الرواية كنت “مريضة” تكتب عن “مرضى”، باختصار. شخصية من شخصيات الرواية عالقة في تلك المتاهة وتكتب عنها. يعني أن أكتب عوالم التروما وصراعات المنفيين مع أنفسهم والحياة الجديدة أمر ليس بالسهل إذا كنت بنفسي واحدة منهم. كضحية تعيد عيش تجربتها وألمها مرة تلو أخرى.

(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟

(ر.ي.ح): هذه هي روايتي السابعة، أول رواية كانت في العام 2004 “أبنوس”، مروراً بروايتي التوثيقية “نيغاتيف”، ثم “حراس الهواء”، “بروفا”، “الذين مسّهم السحر”، و”بين حبال الماء”، والآن رواية “بحثاً عن كرة الصوف”، بالإضافة إلى أكثر من كتاب مشترك.

(ج): هل هناك نصوص كان لها تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟

(ر.ي. ح): بالتأكيد. حتى تتمكّن من فهم نفسك وفهم الشخصيات الأخرى من المنفيين/ المنفيات، وتمظهرات التروما المختلفة لدى كل منهم، يجب أن تفهم المعنى العميق للتروما، بالمعنى السيكولوجي والثقافي والاجتماعي، وأين تكمن في دواخلنا وكيف تظهر فجأة مدمّرة كل شيء حولها. تماماً كما يجب عليك أن تطّلع قدر الإمكان على التجارب الإبداعية الأخرى التي كتبها غيرك من المبدعين/ المبدعات حول تجارب المنافي. على كل حال أظن ان الرواية صديق فضّاح، يفضح ثقافة الكاتب/ الكاتبة وعوالمه المعرفية وبنيته الثقافية وقدرته على التحليل والفهم والإحاطة بالحدث، والأهم ديمقراطيته. بمعنى أن “الكتابة الديمقراطية”، إن صحّ التعبير، تمكّن الآراء المختلفة والتفاصيل الشخصية للشخصيات المتباينة من طرح نفسها بدون أحكام قيمة. 

(ج): ما الذي يجب أن تحققه الرواية بحيث يمكن القول إنها رواية إبداعية وتشكل إضافة في جنسها الكتابي؟

(ر.ي.ح): لا توجد وصفة سحرية ومنجزة تجعلنا نقول، إذا تمّ تحقيقها، إن هذه الرواية إبداعية. الإبداع مفهوم شائك وخبيث ومخاتل، والرواية هي من أكثر الأجناس الأدبية تملّصاً من التعريف أو التصنيف. ربما لذلك استطاعت أن تطوّر نفسها على طول الوقت، وتتجاوز أية قوالب جاهزة ومعدّة لها.

بالنسبة لي باختصار، الرواية التي تجعلني، بأية طريقة من الطرق، بعد قراءتها مختلفة عمّا كنت قبلها، سواء بالمعنى الثقافي المعرفي أو الإحساسي أو الجمالي، أو التي تهبني لحظات من المتعة، هي الرواية الإبداعية برأيي.

(ج): ما هو مشروعك القادم؟

(ر.ي. ح): أفكر بالتأكيد في مشروع جديد، خصوصاً وأن نشر رواية يجعلك تقتنع بأنها لم تعد تنتمي إليك، كأنك غادرت وطنك مجدداً، وأن عليك التفكير في شيء جديد تنتمي إليه. أي أن تبدأ بخلق ذلك العالم الموازي الذي حدّثتك عنه، والذي بدونه لا يمكن إكمال العيش.

مقطع من رواية “بحثاً عن كرة الصوف- ثلاثة أيام من متاهة المنفى”

غذّ “سرمد” السير مبتعداً فقد تأخّر عن موعده أكثر من نصف ساعة. سمع حديثاً بالعربية من قبل جماعة من الرجال مرّ بقربهم، لكنه لم يلتفت إليهم، فهو أمر مألوف في هذه البقعة من مدينة هامبورغ التي تمتلئ بالمهاجرين ومنهم الكثير من العرب. ثم أن حديثاً بالعربية لجمع من الرجال يرمقونه بقرف واستهجان يجعل السائل الحامض ذاته ينزل معدته حارقاً ما يمر في طريقه. لم يعد يتخيّل أن يقيم أية علاقة عاطفية مع أي رجل سيخاطبه بالعربية. كلمات الحب الحميمة بالعربية صارت بالنسبة له أقرب إلى شتائم، لا يقولها إلا زبائنه المقرفون ومتحرّشو الطرقات.

  • بشع كتير أن تتحوّل لغتك الأم إلى لغة تمارس عنفاً معك، تحتقرك وتذلّك!

قال “سرمد” ذات يوم لـ”مصطفى” في إحدى نوبات بكائه القاسية.

لكن الأخير كان قد اشترط سلفاً على “سرمد” أن يأتيه اليوم بملابس عادية، تناسب شاباً طبيعياً في مثل عمره، لا تلك الملابس التي تجعله يبدو أقرب إلى عاهرة غنجة ذاهبة لاصطياد الرجال. ببساطة بنطال جينز وبلوزة عادية مع الجاكيت. دون أي أثر لمساحيق التجميل على وجهه، ولا حتى لبعض الماسكارا السوداء على الرموش والتي تظهر واضحة جلية وصادمة حين تنعكس على زرقة عيون “سرمد”. لم يتعب نفسه ويذكر شيئاً عن كريم الشعر، الذي يضمّخ “سرمد” به شعره كي يصفّفه إلى الخلف ويبقى لمّاعاً حيوياً، فهو متأكد بأن صديقه لن يتحرّك خطوة من دونه.

وهو يغذّ السير، تذكّر “سرمد” لوهلة الكابوس الذي استيقظ عليه اليوم، هجمت عليه المشاهد كوحش جائع! كان في منطقة شبيهة للغاية بهذه المنطقة، وعيون الرجال في الكابوس، الذين كانوا يراقبونه وهو يُغتصب وسط الشارع، شبيهة للغاية بعيون هؤلاء الرجال، محتقرة هازئة ومليئة بالتشفّي. هو يصيح من الألم وهم يقهقهون.

نفض رأسه بقوة كي يطيّر الذكرى، لكن غصّة قلبه لم تغادره، وشعر برغبة عارمة في البكاء. حين سيرى “مصطفى” سيحكي له عن كوابيسه، وسيقول له إنه لم يعد يميّز بين كوابيسه وواقعه، لم يعد يعرف إن كان ما حدث معه الليلة الفائتة مثلاً هي حقيقة أم كابوس! وسيسأله “مصطفى”: ما الذي حدث؟! لكنه لن يخبره بشيء.  

في العمل لا يعرف أحد حقيقة “مصطفى” البتة، هم يعرفون فحسب بأنه شاب في الثلاثين من عمره، درس علوم الكيمياء في سوريا، وولد في إحدى ضواحي المدن السورية، تلك البلاد المنكوبة التي كانت تتصّدر نشرات الأخبار الألمانية كمثال عن المدن العريقة الأثرية التي تحطّمها يد الغوغاء. الغوغاء في نشرات الأخبار الألمانية غالباً لا شكل لهم ولا لون، هناك داعش والإسلام المتطرّف على الأرض، وهناك من يضرب من السماء على المدن ولكنه مجهول، لا اسم له في الغالب، إلا حينما يكون الأمر أوضح من أن يتمّ إغفاله، فيخرج اسم النظام السوري أو حليفه الروسي ضعيفاَ حيّياً كمسؤول عن إلقاء البراميل المتفجرة والغارات المتلاحقة على مناطق المتمردين.

  • Oh Syrien, arme, schade, es ist wirklich eine Katastrophe.

آه سوريا، مساكين، يا للخسارة، إنها حقاُ كارثة!

يتأوّه زميله الألماني في العمل كل صباح ويهزّ برأسه أسياناً، حتى أن “مصطفى” كان يشعر في بعض الأحيان بأن عليه مواساة ذلك الألماني على مصاب سوريا وليس العكس!

لكنه فجأة يقف نافضاً تلك الفكرة اللئيمة الساخرة من رأسه:

هل نكون قد تحوّلنا إلى تماسيح؟! صخور؟! أم أن الكوارث حين تتوالى لا يعود لمساحة التعاطف والحزن مكان، التعاطف حتى مع أنفسنا وأحبابنا! لا يعود هناك وقت لنبكي أو نندب، المكان والوقت كله مسخّر لنبقى على قيد الحياة، لنكمل السير في تفاصيل متشعبة للغاية في هذه الحياة التي ينبغي أن تستمر.

على الرغم من أن “مصطفى” كان ينتظر كل يوم خبراً مشؤوماً، خبراً صاعقاً يتوقّعه، وراحت روحه بكليتها تتقبّل قدومه، حتى أنه من الممكن أن يستمر في حياته هذه لو سمع بأن كامل عائلته رحلت في قصف ما قد يحدث في أية لحظة!

ألهذه الدرجة يمكن أن يعتاد المرء الكوارث والفقدان!

كان على “سرمد” أن يأتي لرؤية “مصطفى” اليوم، فالأخير أخبره قبل عدة أيام بأن صاحب البيت الألماني الذي يسكن فيه وافق أن يؤجّر “سرمد” غرفة في البيت مقابل أجار زهيد، وفي البداية دون أي أجار حتى تتحسّن أوضاعه الاقتصادية المتأزّمة، وذلك دعماً منه للشباب المثلي الشرقي، “ذاك الذي يخوض حرباً حقيقية ضد عاداته وتقاليده ومجتمعاته وذاكرته التي تضطهد المختلف وخصوصاً المثليين”، حسب تعبيره. يقولها هكذا وهو يضمّ قبضته ويدفعها في وجه الفراغ أمامه، كأنه يكيل ضربة قاضية لتلك التقاليد والعادات والمجتمعات والذاكرة! حتى أن “مصطفى” تمنى فعلاً لو أنها تتحوّل إلى كتلة مادية، لكان مزّقها نتفاً بأظافره وأسنانه ويديه ورجليه! 

تنحدر أصول صاحب البيت من قرية صغيرة قريبة من العاصمة “برلين”، لكنه يسكن في مدينة “هامبورغ” منذ مدة طويلة، وعلى الرغم من أن “برلين” تعتبر من أكثر المدن الصديقة للمثليين في العالم، إلا أنه اختار كمثليّ مدينة “هامبورغ”، المدينة البحرية المنفتحة، للعيش فيها، مدينة تقبل المختلف وتعتبر نسبة المثليين فيها من أعلى النسب في المدن الألمانية.

صاحب البيت يسكن مع شريكه، الذي يصغره بعشر سنوات، منذ أعوام طويلة. رغم أنهما لم يتزوجا إلا قبل مدة قليلة. وهو حريص أن يظلّ النادي الذي أسسه باسم: نادي قوس قزح Rainbow Club، فاعلاً ونشيطاً ومستقطباً للكثير من الشبان المثليين، خصوصاً الشرقيين منهم. يتفاخر أمام أصدقائه بأن هناك أكثر من سبعين شاباً سورياً من أعضاء النادي، لا يتأخرون عن حضور اجتماعاته وأنشطته وحفلاته، وكذا الخروج في مظاهراته المناهضة للعنصرية والهوموفوبيا. وهو إذا وافق على سكن “سرمد” في البيت فلأنه لا يمكن أن يقبل شخصاً في بيته لا يحترم ويفهم ماذا يعني أن يكون الرجل مثلياً، ويعيش مع زوجه الحبيب.

  • رغم أن المثليين في بلداننا يا ستيف لا يعيشون في سلام تام داخل مجتمعاتهم الصغيرة، إلا أن القوانين في النهاية تحميهم. أما أنتم فلا قوانين ولا دعم اجتماعي يقف إلى جانبكم.. مساكين. علينا أن نكون سوية فليس لنا إلا دعم بعضنا..

ثم غمز صاحب البيت “ستيف” وقهقه بألم وهو يجهّز سلطة خضراء لطعام العشاء.

“ستيف” هو اسم “مصطفى” الذي يعرفه كل الناس به في وطنه الجديد “ألمانيا”، إلا ابن بلده “سرمد”.

يبدو صاحب البيت الألماني وهو يكلّم “مصطفى” كأنه يهجّي كلماته في درس لغة، فيما يتكلّم مع زوجه بسرعة لا يكاد “مصطفى” يلتقط من حديثهما شيئاً!

“مصطفى” يشعر حقاً بأن هذا وطنه، هذا ما يكرّره دوماً أمام “سرمد”. على الرغم من أنه يعيش شخصيتين متناقضتين تماماً:

في النهار يعمل كأي رجل ملتحٍ و(شديد) في مستودع الأدوية، ولا يمكنه أن يسمح لأي تفصيل صغير يشي بحقيقته أن يظهر أمام زملاء العمل، حتى لو كانت ثياب صديقه الآتي ليزوره في العمل.

أما في الليل فيتحول إلى “ستيف”، يرتدي ثياب النساء وحليهنّ ومكياجهنّ ويذهب للسهرة في بارات المثليين والعابرين الجنسيين. يحرص على اختيار الثياب الأنثوية الملونة المليئة بالدانتيلا والشبك والتزيينات، التي تجعله يبدو بالفعل امرأة بكامل أنوثتها، ولولا تلك اللحية المشذّبة الناعمة لما شكّ أحد بأنه امرأة حقيقية، خصوصاً حين لا يخرج ليلاً إلا بستيانات محشوة بإسفنجات سميكة تظهره بثديين عارمين، تضفيان على مظهره أنوثة إضافية شهيّة.

“الأمر بيشبه وقت كنّا في سوريا قبل الحرب”.

 يقول لي “ستيف”، “كان ينبغي أن نكون بشخصيتين: شخصية المواطن البعثي المؤمن بالقائد وحزبه، واللي ما ممكن يعمل أي شيء فيه معارضة، وفي البيت وبين الأوساط المغلقة الموثوقة نشتم الرئيس وحزب البعث والقيادة الحكيمة والقدر الذي جعلنا في مثل هكذا بلد يحكمه مجموعة من الطغاة العرصات.. أرأيت؟! مو بس هيك، بل أكثر من شخصية اجتماعية متناقضة لذات الشخص أيضاً، أمام العائلة شيء، وفي المجتمع المحيط شيء آخر، وفي غرفتك أمام كومبيوترك والتشاتينغ شيء ثالث لا يشبه ما سبق. التناقض، الشخصيات المتناقضة المختبئة فيك، أمر معتاد في مجتمعاتنا. بل تربينا عليها.. صحيح؟! استتروا، داروا، خبّئوا.. وهكذا، أنا معتاد على الأمر، بل أستمتع به! يعني.. أممم.. أقصد أن أكون بشخصيتين متناقضتين أو أكثر، لا يمكن لأحداهما أن تشي بالأخرى أو تؤثر عليها أو تتأثر بها! عالمان متوازيان تماماً!”.

يمدّ “مصطفى” كفيه إلى الأمام بشكل متواز وهو يعيد الفكرة ذاتها مجدداً أمام صاحب البيت وهما يلتهمان عشاءهما.

*تنشر هذه المادة بالتعاون مع موقع جدلية.

قومي يا مريم لرباب هلال: قصصنا القصيرة عن الحرب الطويلة

قومي يا مريم لرباب هلال: قصصنا القصيرة عن الحرب الطويلة

ما إن تبدأ بالجمل الأولى من الكتاب حتى تكتشف أنك تورطت بنص لن يكون بمقدورك الإفلات منه ومن سطوته بسهولة، حيث تمسكنا رباب هلال من خلال نصها بخيط حريري خفي نشعر به يلتف حولنا كلما قرأنا قصة في مجموعتها الجديدة “قومي يا مريم” (الصادرة عن دار التكوين سنة ٢٠٢١)، وكأنها بفعلتها هذه لا توحد نصها المنسوج بإتقان وحسب، بل تجبرنا على الإحساس أننا شركاؤها في كل انفعالاتها وأوجاعها، وبأننا نصنع معها استرجاعاً لذاكرة طويلة هي ذاكرتنا نحن أبناء هذا المكان الملعون بالحرب والغصات.

مجموعة القصص القصيرة تلك لم تكن قصيرة في الواقع، فصفحات الكتاب التي تزيد قليلا عن المئة ما هي إلا زمن يمتد من أول حنجرة صرخت بهتاف الحرية قبل عشر سنوات إلى أن يصل لمساحات الوجع المفتوح والذي لم ينته بعد، وما زال حتى اللحظة جاثماً كجبل من جليد فوق صدورنا، هو زمن الحرب الطويل، والذي لا تريدنا رباب أن نعتاد وجوده ونتأقلم معه كأمر واقع لا مفر منه. ورغم ذلك فمعظم قصص المجموعة ليست حكراً على زمن الحرب فقط، ولا على مكان محدد تصوره لنا الكاتبة، فأحداث القصص كانت موجودة قبل الحرب كجزء من يوميات العشوائيات التي تحيط بدمشق، لكن الحرب جعلت من تلك القصص أكثر فجاجة وقبحاً، وعرتها أمام الجميع لتتحول مع مرور الوقت وتصبح إحدى تفاصيل الحرب الكثيرة، من هنا جاء إصرار الكاتبة على تصوير المشاهد بهذه الواقعية المباشرة، وترك أغلب النهايات في القصص مفتوحة على الأسئلة التي علقت في أذهاننا وجعلتنا نشرد في قوة المشهد، فلا زلت أشهق كلما تذكرت مشهد الطفل سعد وهو يسقط من شرفة بيته، دون أن تخبرنا رباب ماذا حل به وبجدته لاحقاً، وكذلك الأمر عندما تهاوى السلم الخشبي لحظة وصول بطلة القصة وأخيها إلى بيتهم المهدم في حرستا، وغيرها الكثير من المشاهد التي أسرتنا لدرجة شعرت وكأنني أشارك أبطال القصص تلك اللحظات دون أن أفكر ماذا يمكن أن يفعلوا بعدها، لقد فاجأتنا رباب وأدهشتنا تماماً كما فعلت الحرب، وتركتنا مشدوهين أمام الأسئلة العالقة.

يوميات الحرب يعرفها الجميع حق المعرفة، وخصوصاً أنها لا تزال حاضرة حتى اللحظة، وإن بدا النص قد أفاض في سرد تفاصيل ويوميات الحرب، إلا أنها ليست حشواً زائداً لا فائدة منه، بل هو إسهاب في توثيق اللحظة الراهنة لمستقبل قد تضيع منه التفاصيل والحكايات، فكتابة القصة القصيرة ليست بالأمر السهل خصوصاً إذا أخذت على عاتقها توثيق هذا الكم الهائل من الألم، لكن رباب هلال تجيد صنعتها حقاً، فكتبت نصوصها بمشرط جراح وبحرفية عالية وبتقنية جميلة. وإن كانت الجمل الطويلة والسرد المباشر وتصاعد الأحداث التدريجي في القصص يضفي طابعاً كلاسيكياً على النص، إلا أننا أمام حكايات متقنة وممتعة تشبه حكايات الجدات في الليالي الطويلة، فرباب تهدهدنا على وقع سردها السلس وتكتب ذاكرة مكان وأشخاص بتفاصيل دقيقة وكأنها عدسة كاميرا حقاً، مع فارق صغير فحكاياتها لا تنتهي سعيدة كحكايات الجدات ولا تقدم لنا أجوبة ننتظرها، كل ما تفعله أنها تفتح أبواب الأسئلة على مصراعيها علها تجد جواباً ما يرضيها ويرضينا، هي تعرف كيف تبكينا بحرقة في نص جميل وكيف تمسح دموعنا كجدة حنون.

كثيراً ما نقع في فخ مطالبة القصة القصيرة بما لا تستطيع أن تحمله، فنطالبها بسرد يشبه الرواية، وبتكثيف وترميز يشبه الشعر، وبحدود واضحة لبدايات ونهايات محددة كأنها مقالة. إلا أننا نتمنى أن يقترب أي نص أدبي أكثر ما يمكن من السينما، ولا نبالغ إذا ما قلنا إن قصص رباب كانت قريبة جداً من مشاهد السينما، فلقد تسلل البرد إلى أطرافنا مع وفا، وصرخنا “يلعن” بأعلى صوتنا مع الآنسة نجاة، وامتلأ صدرنا بالضيق كلما تذكرنا الفجر وأصابع ندى، وشممنا رائحة الأمكنة تماماً كأننا داخلها، تلصصنا مع فضول أم فارس وهي تراقب الحارة من شرفتها، حتى أني لم أعد أستطيع أن أرى فرن الغاز في مطبخ بيتي دون أن أتذكر قصة الضيوف.

ما يميز رباب في قصصها أنها لم تترك شيئا للصدفة أبداً، فحتى أدق التفاصيل الصغيرة في حكاياتها كانت منسوجة بإتقان واضح وبهدف صريح، فبالرغم من أن قصص مجموعتها تتمتع باستقلالية كاملة، تمكّن القارئ من أن يختار القصة التي يريد بشكل عشوائي، إلا أنها رُبطت معاً في سابقة جديدة تُحسب لها في القصة القصيرة، وهذا ما بدا واضحاً جداً من استخدام أبطال القصص في أكثر من مكان وأكثر من حدث، كما أن محاور العمل ككل يجمعها حيز مكاني واحد هو الحارة، أو الحي الشعبي ضمن مدينة تعيش تائهة وسط الحرب والخراب، ولعل هذه التقنية بالتحديد ما أعطى المجموعة ميزة متفردة وأضفى عليها ألقاً جديداً.

أجمل وأهم ما يميز قصص رباب أنها ابتعدت عن تقديم الأمثولات الجاهزة والأحكام المطلقة، وما يعلق بالذاكرة متحدياً الزمن وطريقة السرد هي يومياتنا المكتوبة بطريقة مختلفة، ففي الحرب تتبلد حواسنا لكي نستطيع التحمل والبقاء، ونعتاد شيئاً فشيئاً الواقع المؤقت ليتحول إلى دائم، وما كان حدثاً طارئاً في الأمس يتحول مع مرور زمن الحرب إلى تفصيل في يوم عادي. ما فعلته رباب هلال بنا أنها أعادت صقل حواسنا من جديد، ونبشت قيح جراحنا، لكي لا ننسى بأن الحرب مرت من هنا، ولكي لا نعتاد المؤقت والمشوه ونتحول إلى مسوخ بلا إحساس، هي دعوة للعودة إلى إنسانيتنا الضائعة بعد هذه الحرب الملعونة.

عرسٌ سوريٌّ: كتابٌ وفيلمٌ لِلاوْرا تانْغِرْلِيني

عرسٌ سوريٌّ: كتابٌ وفيلمٌ لِلاوْرا تانْغِرْلِيني

ليس مجرَّدَ عرسٍ؛ إنَّه سِفرُ رؤيا إنسانيَّةٍ مليئةٍ بالعديد من القصص الصَّغيرة والرَّهيبة التي جمعَتْها لاوْرا تانْغِرْليني بكثيرٍ من الحبِّ والحنان.

هو قصَّة شهر عسلٍ خيريٍّ قامتْ به لاوْرا مع زوجها، المؤلِّف الموسيقيِّ والمغنِّي الرُّومانيِّ ماركو رو، للاستماع إلى أصوات وشهادات اللَّاجئين السُّوريِّين في مخيَّمات لبنان وتركيا.

هو قصَّةُ حُبِّ المؤلِّفة الجارف نحو زوجها من جهةٍ، ونحو سوريا وشعبها من جهةٍ أخرى؛ حُبٍّ مزدوجٍ ترويه لنا بكثيرٍ من النَّشوةِ والعذوبة، وأحياناً بسخريةٍ خفيفةٍ، ولكن في الوقت نفسه، وبطبيعة الحال بسبب الحرب الدَّائرة هناك منذ سنة 2011، بصرامةٍ وإصرارٍ يبغيان رفعَ الحجاب للقارئ عن العواقب الفائقة القسوة التي نجمَتْ عن خراب أرضٍ كانت ذات يومٍ أشبه بفردوسٍ مفقود، عواقبٍ يتظاهر العالَم، الذي هو متواطئٌ في بعض الأحيان ولامُبالٍ في أحيانٍ كثيرةٍ، بعدم رؤيتها.

هذا الرِّبورتاج الذي أعدَّته لاوْرا عن المأساة السُّوريَّة (وهو يوميَّاتُ رحلةٍ، وقبل كلِّ شيءٍ، أضمومةٌ من أقوال وشهادات لاجئين التقَتْ بهم) إنَّما يمثِّل “نافذةً متفرِّدةً وهامَّةً، مفتوحةً على عالَمٍ لطالما عتَّمَتْ عليه وسائل إعلامنا هنا” على حدِّ قول الصَّحفيَّة آنَّا كافِسْتري في معرض حديثها عن هذا العمل.

وكانت لاوْرا، في الأسابيع التي سبقت الزِّفاف، قد حلَّتْ في لبنان لتوثيق حالةِ بلدٍ يرزح تحت مدٍّ مديدٍ من موجاتِ اليائسين السُّوريِّين والفلسطينيِّين الهاربين من الحروب والعنف والدَّمار، فإذا بالعروس المستقبليَّة تتحوَّل إلى شاهدٍ على الظُّروف القاسية والوحشيَّة التي يعيشها اللَّاجئون داخل مخيَّماتٍ أقيمَتْ في بلدٍ يبدو، بموارده المحدودة وبناه التَّحتيَّة غير الكافية، أكثر ترحيباً بالأثرياء والأصحَّاء منه بأولئك البؤساء.

يضمُّ الكتاب الصَّادر بالإيطاليَّة عن منشورات إينفينيتو، والذي يقع في 189 صفحة، توطئةً بقلم جان أنطونيو إسْتِلَّا ومقدِّمةً بقلم كورَّادينو مينْيُو.

وقد قام بإنجاز التَّسجيل الصَّوتيِّ للفيلم الذي حملَ العنوانَ نفسَه “عرسٌ سوريٌّ”، وتضمَّنَ أربع أغانٍ غير منشورةٍ سابقاً، كلٌّ من لاوْرا تانْغِرْليني وزوجها ماركو رو الذي وضعَ بدورِهِ موسيقى جميع أغاني الفيلم وكتب كلماتها (باستثناء اثنتين منها شاركتْه في كتابة كلماتهما زوجته الصَّحفيَّة).

وبالنَّتيجة، فإنَّ ما ينبثق عن هذا العمل المتوقِّدِ عاطفةً وحماساً، بالإضافة إلى حبِّ الكاتبة للشَّعب السُّوريِّ وحزنها على مصيره المضطرب وغير العادل، هو سيناريو دراميٌّ يستصرخُ الضَّمائر الصَّامتة للشُّعوب الأوروبِّيَّة وبقيَّة شعوب العالَم، داعياً إيَّاها إلى الاستيقاظ والعمل لوقف، أو على الأقلِّ لتخفيف هذه المأساة الإنسانيَّة الكبرى.

“بكلماتها الصَّريحة والقاطعة”، يقولُ الصَّحفيُّ كارلو كراكُّو، “تجعلنا لاوْرا جزءاً من تلك الأحداث المشحونة بالعواطف والمشاعر الإنسانيَّة، العامَّة والخاصَّة، صفحةً تِلْوَ صفحة. وهي بذلك إنَّما تسلِّط الضَّوء، مِن أعماق صورةٍ مظلمةٍ ومأساويَّةٍ، على بذور الأمل الثَّمينة المرصودةِ لبناء جسرٍ، مجازيٍّ وملموسٍ في آنٍ واحدٍ، نحو مستقبلٍ أكثر إشراقاً من هذا الحاضر العديم الرَّحمة والقاتم.”

ويواصل: “السُّوريُّون، من لبنان وتركيا، ومن البلدان الأوروبِّيَّة التي وصلوا إليها بشقِّ الأنفس، يحلمون بالعودة إلى ديارهم، إلى سوريا جديدة يعمُّها السَّلام والهدوء والتي لم تعد موجودةً وهي اليوم تكافح من أجل استعادة حقيقتها أو العودة إلى حقيقتها.”

تشرحُ الكاتبةُ أنَّ هذا المشروع، وهو المرحلة الأخير من مسار التَّوعية الذي كانت تقومُ به لسنواتٍ حول مسألة اللَّاجئين السُّوريِّين، في البداية وحدها ككاتبةٍ وصحفيَّةٍ، ثمَّ صحبةَ زوجها كمغنٍّ ومؤلِّفٍ موسيقيٍّ، إنَّما يريدُ أن يعطي وجهاً وصوتاً للكثير من المهمَّشين الذين قابلَتْهم في رحلتيهما إلى تركيا ولبنان بُعَيدَ زفافهما، ذلك الزِّفاف الخيريِّ الذي أرادتْ من خلاله أن تقدِّمَ مساعدةً ملموسةً وسُوَيعاتٍ من التَّرفيه للعديد من اللَّاجئين السُّوريِّين، ومعظمهم من الأيتام.

فعلى وجه الخصوص، تقول، “لقد قدَّمنا قبلَ زفافنا مساعدةً ماليَّةً عن بُعدٍ لمؤمن وهو لاجئٌ سوريٌّ صغيرٌ يتيمُ الأب يعيش الآن في لبنان مع أمِّه واثنين من أخوته الخمسة، ويعاني مشاكل سلوكيَّة بسبب فقدان الأب وصدمة الحرب.

وتهدف تلك المساعدة إلى السَّماح له، ولأخوته أيضاً، بالدِّراسة. وقد التقينا به عندما سافرنا إلى لبنان لقضاء يومٍ معه”.

لاوْرا التي ما إن انتهَتْ شعائرُ زفافها في إيطاليا حتَّى ركبَتْ الطَّائرة مع زوجها، واستثمرَتْ معظمَ هدايا الزِّفاف التي حصلا عليها في شراء القرطاسية ولعب الأطفال وزجاجتَين من المشروبات الباردة مع كعكةٍ كبيرةٍ وخمسٍ وسبعين سترةً شتويَّةً من أنطاكية وحملاها شخصيَّاً إلى الرَّيحانيَّة للأطفال السُّوريِّين نزلاءِ دار الأيتام هناك، تضيفُ قائلةً: “الآن لا نريد التَّوقُّف عند هذا الحدِّ، بل نريد أن نفعل المزيد. نريد من ناحيةٍ أخرى أن نخصِّص عائدات حقوق النَّشر الخاصَّة بهذا المنتَج الأدبيِّ والسَّمعيِّ والبصريِّ لصالحِ مشاريع أخرى تدعم السُّوريِّين.”

من الكتاب:

… ماذا كنت تودُّ أن ترى لو كانت لك عينان ثاقبتان؟ “بودِّي لو أرى حارتي مرَّةً أخرى… فبعد أربع سنواتٍ لم أعد أتذكَّرها جيِّداً… وبودِّي لو أرى ما بقي من بيتنا” كانت عيناه تتلألآن ببريق الذِّكرى، وكذلك كانت عيناي منذ بضع دقائق وأنا أستمع إليه…

… كانت الموسيقى الانتصاريَّة قد بدأتْ بالفِعل، منطلقةً من الصَّناديق المكنونةِ بين زُحلوقةٍ وأرجوحة. الأطفالُ في ملابسهم الاحتفاليَّة يرفعون البالونات الملوَّنة وينتظرون مرور العريسَين. ها قد بدأ عرسُنا السُّوريُّ، بين السُّوريِّين، ولأجل السُّوريِّين…

“… سوريا كلُّها قد تغيَّرَت. منازلُ لا يُحصَى عديدُها قد تهدَّمَت. حتَّى أنَّ أنفاسَ النَّاس هناك قد تغيَّرَتْ، فرائحة الدَّم تبلِّلُ الهواءَ في كلِّ مكان. كلُّ شيءٍ كان جميلاً، كلُّ زاويةٍ، كلُّ شارعٍ، كلُّ زقاق… ما كنتُ لأرحلَ عنها لو أنَّني استطعتُ إلى ذلك سبيلاً…”

“… اتركونا وشأننا. هذا هو ما تحتاج إليه سوريا. إنَّنا أناسٌ طيِّبون، نحبُّ العالَم كلَّه، ولكنَّ العالَم لا يحبُّنا…”

… بعد لحظةٍ من ذلك دخلَتْ إحدى اليتيمات لتعطيني وشاحاً صوفيَّاً يضرب لونه إلى الحُمرة، واحداً من تلك الأوشحة التي كنَّ قد صنعنَها بأيديهنَّ خلال بعض الأنشطة التَّرفيهيَّة. مرَّةً أخرى، تتحرَّك مشاعري بقوَّةٍ لا قِبَلَ لي بها. إنَّها أجمل هديَّةٍ تلقَّيتُها في عرسيَ السُّوريِّ هذا…

“… أتخيَّلُ أنَّني في سوريا، ولكنَّني لا أرى أحداً هناك؛ وحيداً أسيرُ في الشَّوارع الخالية، ذلك أنَّ الجميع قد ماتوا”. مرَّةً أخرى أشعرُ بلكمةٍ عنيفةٍ على معدتي…

* * *

عن لاوْرا تانْغِرْليني: صحفيَّة بدأت مسيرتها المهنيَّة عام 1998. حاصلة على شهادة في علوم الاتِّصال من جامعة لاسابْيِينتزا في روما. وتدير منذ عام 2008 قسمَ الأخبار في قناة راي الإخباريَّة. باحثة في اللُّغة والثَّقافة العربيَّة، تناولَتْ في عملها مراراً وتكراراً الوضعَ في الشَّرق الأوسط، ولا سيَّما المأساة السُّوريَّة التي كتبت عنها ثلاثة كتبٍ هي: “سوريا الهاربة” 2013، وحصلت عنه على جائزة فيودْجي ستوريا، المرتبة الأولى؛ و”لبنان في هاوية الأزمة السُّوريَّة” 2014، وحصلت عنه في عام 2015 على جائزة تشِرُّوليو عن فئة الدِّراسات النَّقديَّة؛ و”عرسٌ سوريٌّ” 2017. كما حصدَت العديد من الجوائز لعملها الصَّحفيِّ والتزامها الأخلاقيِّ تجاه الشَّعب السُّوريِّ.

آخر الرجال في حلب خارج المسؤولية الأخلاقية

آخر الرجال في حلب خارج المسؤولية الأخلاقية

يفصلنا يوم واحد عن المحفل السينمائي الكبير الذي تقيمه إدارة «أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة»، والذي سيتم فيه توزيع جوائز الأوسكار بنسختها الـ90 على الأفلام الفائزة. كانت الأكاديمية قد أعلنت قبل نحو شهر عن وصول الفيلم الوثائقي «آخر الرجال في حلب Last Men In Aleppo» القائمةَ النهائية التي تضمّنت أفضل خمسة أفلام وثائقية مرشحة للحصول على الجائزة لعام 2018 الجاري، وهو من إخراج فراس فياض، وحسن قطّان (سوريّا الجنسية)، إضافة إلى ستيڨ جوهانسن (دنماركي).

الفيلم الذي ماكان له أن يُرشح للجائزة فيما لو كان سورياً إذ سيؤخذ حينها في حسابات قائمة الأفلام الأجنبية، أثار الكثير من البلبلة أخذاً وردّا، ففي حين اعتبرته وسائل إعلامية تلفزيونية وأخرى إلكترونية مدعاةً للتعالي والفخر بوصفه “أول فيلم سوري يصل إلى الأوسكار”، انقسمت أصوات أخرى من جانبها (مؤيدة للنظام، ومعارضة له) حول ما يتعلّق بالتوجه الفكري لأحد مخرجيه، حيث تناقلت على نطاق واسع جداً صورةً لمنشورٍ على فيس بوك ينعو فيه (حسن قطان) صديقاً له في تنظيم جبهة النصرة.

وكان قطان قد نشر على صفحته في فيسبوك قائلاً: «ما تزال بسماته الجميلة التي تنير وجهه معلقة في ذاكرتي المرهقة، لم يكن كأي مجاهد آخر، عشق القتال والموت تحت راية إسلامية فنالها، كان أكثر الذين عرفتهم صفاء وبشاشة وورعاً وتقوى، أسدٌ من جبهة النصرة قد رحل اليوم عنا إلى جنان الخلد، أتمنى من الله تعالى أن يتقبله.» مُرفقاً (المنشور) بصورة للجهادي وهو يشير بيده إلى الراية السوداء ببقعتها البيضاء الشهيرة.

قد يبدو اتهام البعض لقطّان بانتهاجه فكراً إرهابياً هكذا بعبارة صريحة أمراً مبالغاً فيه، لكن أن يكون أحد مخرجي فيلمٍ مرشح لنيل جائزة شهيرة قد توجّه إلى عضو “تنظيم إرهابي” بالنعوة، والإشادة، وإبداء التعاطف هو أمر مشين، ومعيب، ومخجل، ناهيك عن أنه يحط من قيمة العمل ونزاهته، ويقلل من مصداقيته كذلك، خصوصاً وأنه فيلم وثائقي، أي أن ذلك يطعن حرفياً في صلب النقل الموضوعي للحقيقة. وضع قطّان، بصفته أحد مخرجي العمل، المادة الوثائقية المرشحة للأوسكار في موقفٍ حرجٍ لا يمكن تجاوزه في عمليّتي الإنتاج وما بعدها، لا بل يسيء لشعارات الحرية والكرامة والمواطنة التي انتهجتها الثورة السورية ضد نظام الحكم الديكتاتوري في البلاد مطلع العام 2011، والتي باتت الآن (الشعارات) شكلاً طوباويّاً لايعدو التنطّع لها أن يكون محاولةً لدفن الرؤوس في الرمال لا أكثر، ناهيك عن أن تلك البلبلة التي أثارها قطّان من خلال منشوره تعد بمثابة منحة للنظام السوري بأدواته الإعلامية، إلى جانب البروباغندا الروسية في توجيه الاتهامات لا للجهاديين فقط، وإنما لمفهوم المعارضة السورية ككل.

الجميع يعلم أن عمليات اختطاف الأجانب وطلب الفدية المالية لقاء إطلاق سراحهم أو تسليم جثثهم في بعض الأحيان حالت دون استساغة الصحفيين الأجانب لفكرة الدخول إلى البلاد ونقل ما يجري فيها مؤخراً، الأمر الذي ترك الباب مفتوحاً أمام المخرجين السوريين الشباب، لكن ليس ثمة طريقة لفعل ذلك دون التواصل مع آخرين في الداخل قادرين على الإحاطة بما يجري تحت حماية من فصائل عسكرية على (اختلاف توجهاتها)، وهذا أيضاً يطعن في موضوعية نقل المادة خارج سوريا. ناهيك عن أنك لو كنتَ مخرجاً سورياً مثلاً ما كان من المناسب أبداً لأخلاقيات مهنتك أن تتواصل مع إعلاميين ذوي ولاء للقاعدة في ليبيا بُغية صناعة فيلم وثائقي عما يجري هناك، مامن سبب يبيح لك ذلك إلا الانتهازية اللعينة.

في المقابل ينأى من يحترم أخلاقيات مهنته بنفسه بعيداً عن هذه المساحة المليئة بالشبهات، كيف لمن يحترم أخلاقيات مهنته أن يشتغل على مادة لا يعلم أصلها ولا فصلها حتى وإن كانت حقيقية، إذ لا شيء يمنعها من أن تكون قد اجتزأت من الحقيقة ما يعجبها، والاجتزاء من الحقائق هو نكرانها عينُه.

لم تكن السينما يوماً ما لعبة، إنها مسؤولية كبرى، شأنها شأن الكلمة، بإمكانها أن تدعو، أو تدفع، أو تهدد، أو تعطي، أو تمنع. إن كل الأحداث تُصنع، تَبدأ أو تنتهي، ولا يبقى منها سوى ما هو مرهون باللغة، مكتوبةً كانت أم بصرية.

على أية حال، كثيرةٌ تلك الأصوات التي تدعو دائماً إلى الفصل بين الفن وشخصية الفنان، ليس من السهل الاستجابة لتلك الدعوة بالتأكيد إذا ما أخذنا ضرورة اتساق الفكرة مع صاحبها بعين الاعتبار، وهنا تتبادر مجموعة من الأسئلة: كيف للمرء أن يقف ضد الإصدارات المرئية التي ينتجها تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» لأنها تحتوي على مشاهد العنف، وأن يغض الطرف عن كونها أصلاً من صناعة داعش؟ وكيف للمرء أيضاً أن يؤيد مثلاً أداةً إعلامية تابعة لنظام حكم ديكتاتوري دون أن يترك ذلك مساحة كبرى للشك في مصداقية وجوهرية ما يُراد من مادّتها الإعلامية؟ وكيف يرتضي الفنان أصلاً أن يعمل وفق منهجيّة الغاية التي تبرِّر وسائلها؟

أن يتحرّى الفنان الصدق، ويُسائل نفسه على الدوام، ويبتعد عن منتجة الواقع المعقد واختزاله على نحو قد يضعه بموقع من يسعى لتحقيق مجد شخصي دون مسؤولية اجتماعية، هي عناصر أساسية من عناصر الأخلاقيات المهنية خاصة في ظل الحرب. ختاماً، إن كان ثمة من سيقول الحقيقة المُنصفة التي لا مآخذ عليها إزاء ما جرى ويجري في سوريا، فهم المدنيون الذين دفعوا ويدفعون الثمن الأكبر لهذه الحرب العبثية. ‎

صورة الشاعر ما بعد الحداثي

صورة الشاعر ما بعد الحداثي

حوار مع الشاعر والمترجم السوري عبد الكريم بدرخان

١لماذا اخترت أن تترجم بوكوفسكي بالذات، ما الذي جذبك إلى عالمه؟

انتبهتُ إلى بوكوفسكي قبل سنواتٍ عديدة، إذ لفتَني أنه مختلفٌ عما قرأته من الشعر العربي والأجنبي، ومختلف عن مُجايليه من الشعراء الأمريكيين أيضاً. إن مُغرياتِ عالم بوكوفسكي متعدّدة ومتنوعة، منها البساطة والمباشرة، الطرافة والبذاءة، العبثيّة والسُخرية، وهنالك الاحتفاءُ بالخمر الذي يبرزُ كثيمةٍ أساسيّة في أدب بوكوفسكي، وهي ثيمةٌ شائعة الشعر العربي والفارسي، لكنها نادرةٌ في الشعر الغربي والأمريكي بالخصوص. ثم قرّرتُ جمعَ ترجماتي المتفرّقة له، والإضافةَ إليها، والتقديمَ لها، بغية إصدار كتاب مختاراتٍ شعريةٍ جيّدٍ من حيث الحجم والاختيار وجُودة الترجمة، بعدما عانتْ قصائد بوكوفسكي من استِسْهال المترجمين والهواة على مواقع التواصل الاجتماعي وخارجها.

٢ما الإضاءة الشعرية الجديدة التي يمكن أن يكتشفها القراء العرب لديه؟

يمكن للقرّاء العرب اكتشافُ العديد من الأفكار والآراء ووجهات النظر الجديدة عند بوكوفسكي، والعربُ يحبّون بوكوفسكي عموماً. أوّلُ ما نلحظه عند بوكوفسكي هو أنه يُدمّر أسطورة أمريكاويقدّم لنا الوجه -لا القبيح، بلالحقيقي لها. ثم نراه يحطّم الصورة النمطية للشاعر، الصورة المكرّسة في الثقافة المركزية والمتوارَثة في المؤسَّسة والأكاديميّة، ويقدّم بدلًا  عنها صورةَ الشاعر بعد الحداثي، شاعر الهوامش الـمُهمَّش والشَّغُوف بالـمُهمَّشين. وكما قال عنه ليونارد كوهين: “إنه يُـنـزِلُ كلَّ شيءٍ إلى الأرض، حتى الملائكة.” شِعريًّا؛ يلفتُ بوكوفسكي الانتباهَ إلى إنّ الشِعر ليس محدّدًا في موضوعاتٍ معينة، ولا يمكن حصْرُهُ في أساليب تعبيرية محددّة، فالسيّد بوكوفسكي يذهب إلى أبعد المواضيع وأغربها، ويتناولُها بأكثر الأفكار والأساليب غرابةً. إنّ أهمّ درسٍ تعلّمتُهُ من بوكوفسكي؛ هو أنّ على القصيدة أنْ تحتشد بكلّ ما لا يتوقّعه القارئ.

٣ما أوجه الاختلاف بينه وبين الشعراء العرب من جيله على صعيد الرؤية الشعرية؟

جيل بوكوفسكي من العرب هم جيل السبعينات. بالتأكيد الاختلاف كبير من حيث المرجعيّة الفكرية، واللغة الشعرية، وفهم طبيعة الشعر ودوره، وكذلك رؤية الشاعر لنفسه وبلده والخارج… وإنّ هذه الاختلافات كما أرىتعودُ وتُـرَدُّ إلى أسبابٍ تاريخية ومادية، لا إلى أسباب ثقافية أو لغوية.

الشاعر العربي الذي أجد تشابهًا بينه وبين بوكوفسكي؛ هو محمد الماغوط. فكلاهما حطَّما صورة الشاعر الفارس الذكوريّ المغرور، وقدَّما نفسَيهما بصورةِ الشاعر البائس والفاشل. وكلاهما ناقشا موضوعاتٍ كُبرى بشيءٍ من السُخرية واللامبالاة، إذ تطغى على نصوصهما حالةٌ من اليأس الذاتي والعام، وفقدانِ الأمل من إحداث أيّ تغييرٍ في أي مجال. إن الوحدة والرعب اللذين عاشهما الماغوط في دمشق وبيروت، يشبهان الوحدة والرعب اللذين عاشهما بوكوفسكي في لوس آنجلس.

٤ما الدور الذي تلعبه الترجمة حالياً في إغناء الشعرية؟

للترجمة إلى العربية دورٌ رياديّ في تطوير الشعر العربي ودفعه من مكانٍ إلى آخر، وهذا معروف منذ أوائل القرن العشرين، فما نشأتْ تيّاراتُ الرومانسيّة والواقعيّة والواقعيّة الجديدة وما سُـمّي الحداثةإلا بعدَ الـتأثُّر بالنصوص الأجنبية المترجمة. واليوم ثمة من الشعراء العرب مَنْ يُقلّد بوكوفسكي، فيستعيرُ صوتَ العابث اللامبالي ويكتبُ عن بيئته بصورةٍ مباشرة. وثمة شاعراتٌ يُـقلّدن بلاث وسكستون وغيرهما، فيكتُبن ما يُشبه الاعترافاتمع جُنوحٍ مُبالَغ فيهِ نحو العزلة واليأس والانتحار. لطالما كان الشِعرُ المترجَمُ بوصلةَ الشاعر العربي على مدار قرنٍ كامل. دعْ عنكَ مقولاتٍ مثل الشِعر لا يُترجَمأو ترجمة الشعر خيانة، وأحيانًا تغدو الترجمةُ كلُّها خيانة“! فهذا الكلام لا قيمةَ له. إنّ تأثيرَ الشِعر المترجم في الثقافة العربية لظاهرةٌ تستحقُّ التأمّل، حيث أن معظمَ المثقفين العرب فهِمُوا الحداثة وكتَبُوا عنها تأييدًا أو نقدًا، مُنطَلِقين من فهمِهم وتصُوُّرهم الشِعري لها. إنّ كلمة حداثةعند العرب تأخذُ الأذهانَ باتجاه الشِعر قبل أيّ شيء آخر!

٥ما الذي شعرت أنك خسرته في الترجمة، وما الذي ربحته؟

الترجمة تُعلِّم الدقّة، وهذا الأمرُ حسَنٌ في مجال الكتابة البحثية، لكنه مُقيِّدٌ في مجال الكتابة الإبداعية. خسرتُ حريّة وفوضوية التعامل مع الكلمات، خسرتُ متعة القراءة باللغة الأجنبية دون أنْ يعمل ذهني لا شعوريًّافي ترجمة ما يقرأ، حتى أثناء مشاهدة الأفلام أجدُ نفسي أترجم ما أسمع بدلًا  من الاستمتاع به فحسب. في المقابل، كسبتُ معارفَ عديدة في اللغة والأدب والثقافة العامة، وحتى اللغة الأم فإنها تتطوّر وتُغنى أثناء الترجمة إليها.

٦بماذا يتميز بوكوفسكي عن أقرانه من الشعراء الآخرين في سياق الشعر الأميركي؟

يتميّز بأنه لا يشبههم، ولم يقبل التصنيفَ ضمن تيارٍ من تياراتهم، فلا هو تقليدي ولا حداثوي، لا اشتراكي ولا مناهض للاشتراكية، لم يكنْ من المؤمنين ولا الوثنيين، ولم يُعرَف عنه الاصطفاف إلى جانب الملوَّنين أو الوقوف ضدّهمأما من حيث الاتجاه الأدبي، فإن الحركة الأدبية التي أسَّسَها بوكوفسكي، والتي ينتمي إليها وتنتمي إليه بوصفه عرّابها، فهي الواقعية القذرة، وقد باتَ من المعروف أنها اتجاهٌ أدبي يهتمُّ بالحياة العادية والبائسة للطبقة الفقيرة، ويركّز على نماذج من العمّال والمشرّدين والسكّيرين والعاهرات (عاملات الجنس)، ويتميّز بتصوير الواقع المعيش بكلّ تفاصيله القاسية والصادمة والقذرة. إذًا، فإنّ بوكوفسكي مؤسّسٌ لتيّار أدبي! وهذا ما لا يستطيعُهُ إلّا  بضعةُ شعراء معدودين خلال قرنٍ كامل!

٧كيف تنظر الآن إلى واقع الترجمة الشعرية إلى اللغة العربية؟ لماذا برأيك تتفوق الرواية على الشعر؟

في الواقع لا يمكن الحديث عن حركةِ ترجمةٍ شعريةٍ إلى العربية، إذ توجد مساهمات فردية متفرّقة وسطَ حالةٍ من الفوضى العامة، وقد باتتْ هذه المساهماتُ تجدُ مكانًا لها في الصحافة (ورقية وإلكترونيّة) أكثر مما تجدُ مكانًا في دور النشر. كل ذلك، وغيره، يجعلُنا لا نعتقد بوجود حركة ترجمة شعرية إلى العربية. السبب فيما أرى هو غياب المؤسسة الثقافية العربية، وفي حال وجودها فإنها تعمل دون خططٍ أو رؤىً مستقبليّة. أما دور النشر الخاصة فلها اعتباراتها الخاصة، مثل تحقيق نِسَبٍ جيّدة من المبيعات، وهذا ما لا يحقّقه الشِعرُ عادةً. لكن لماذا تحقق الرواية مبيعات أكثر من الشعر؟ أعتقد لأنّ لغة الرواية تصلُ إلى شريحةٍ واسعة من القرّاء، هي أوسع بكثيرٍ مِنَ التي تصل إليها لغةُ الشعر. كما تصلُ مقولةُ الرواية سواءً كانت تاريخيّة أو سياسيّة أو اجتماعيةإلى شريحةٍ أوسعَ بالعموم من الشريحة التي تصلُها مقولةُ القصيدة. الشعرُ مُتطلِّب، ويحتاجُ إلى قارئٍ مُهتمّ به، لأنّ آليّات القراءة في الشعر تتطلّب إلمامًا خاصًّا بها. وهنالك أيضًاأسبابٌ تتعلّق بطبيعة الحياة اليوم، وبكثرة الـمُغرَيات التكنولوجيّة التي تُبعد الناسَ عن القراءات الـمُعمَّقة والـمُتأنّية، وعن القراءة مرّةً تلو الأخرى، في سبيل التلذّذ بالنصّ وإعادة خلْقِ أبعاده ودلالاته لدى المتلقّي، وهذا ما يتطلّبه النصّ الشعر في نماذجه الرفيعة.

أجري هذا الحوار بمناسبة صدور الترجمة العربية لمختارات من شعر تشارلز بوكوفسكي بعنوان وحيداً في حضرة الجميعوالتي ترجمها الشاعر السوري عبد الكريم بدرخان وصدرت مؤخراً عن عن دار فضاءات في عمان، الأردن.

Essential Readings: The Syrian Uprising (by Raymond Hinnebusch)

Essential Readings: The Syrian Uprising (by Raymond Hinnebusch)

“[The Essential Readings series is sponsored by the Middle East Studies Pedagogy Initiative (MESPI) team at the Arab Studies Institute. MESPI invites scholars to contribute to our Essential Readings Modules by submitting or suggesting an “Essential Readings” topic pertinent to the Middle East. Articles such as this will appear permanently on both www.MESPI.org and www.Jadaliyya.com.]

The Syrian uprising precipitated an explosion in publications on what had hitherto been an understudied country. The conflict has, however, produced a more limited number of high quality works that present a wealth of empirical findings, take theoretically innovative approaches, or both.

Several volumes provide general context for the uprising:

Flynt Leverett, Inheriting Syria (Brookings Institution, 2005) and David Lesch, The New Lion of Damascus: Bashar al-Asad and Modern Syria (Yale University Press, 2005) provide sympathetic but insightful glimpses of the dilemmas facing Bashar al-Asad during his early years in power.

Radwan Ziadeh, Power and Policy in Syria: Intelligence Services, Foreign Relations and Democracy in the Modern Middle East (I.B Tauris, 2011) provides a broad background: it examines Hafiz Assad’s power consolidation around personal loyalty to the president and based on pillars of civil bureaucracy, the security organs and the Baath party; also it looks at the succession of Bashar al-Asad and repression of the Damascus spring; isolation brought on by Bashar’s foreign policy in Lebanon and Iraq; and the role of the Muslim Brotherhood as a moderate Islamic opposition.

Raymond Hinnebusch and Tina Zintl, Syria from Reform to Revolt, Vol. 1: Political Economy and International Relations (Syracuse University Press, 2015) brings together senior and younger scholars doing cutting edge research in Syria in the first decade of Bashar al-Asad’s rule. It explores the ways in which Asad’s domestic and foreign policy strategies during his first decade in power safeguarded his rule and adapted Syria to the age of globalization. The volume’s contributors examine multiple aspects of Asad’s rule in the 2000s, from power consolidation within the party and control of the opposition to economic reform, co-opting new private charities, and coping with Iraqi refugees. The Syrian regime temporarily succeeded in reproducing its power and legitimacy, in reconstructing its social base, and in managing regional and international challenges. At the same time, contributors detail the shortcomings, inconsistencies, and risks these policies entailed, illustrating why Syria’s tenuous stability came to an abrupt end during the Arab uprisings of 2011. In a companion volume, Christa Salamandra and Leif Stenberg, Syria from Reform to Revolt, Vol. 2: Culture, Society and Religion focuses on key arenas of Syrian social life, including television drama, political fiction, Islamic foundations, and Christian choirs and charities, demonstrating the ways in which Syrians worked with and through the state in attempts to reform, undermine, or sidestep the regime. 

Three studies provide the political economy context of the uprising:

Bassam Haddad, Business Networks in Syria; the Political Economy of Authoritarian Resilience (Stanford University Press, 2012). This political economy analysis of the impact of Bashar al-Asad’s reforms in the late 2000’s shows how regime favoritism toward investors was paralleled by a decline in the living standards of the state-employed middle class and the regime’s former plebeian constituency—arguably an element in the 2011 Uprising. But the regime’s move toward a more formal state-business alliance deterred business from joining the opposition. Thus, state-business networks both contributed to and detracted from authoritarian resilience.

Linda Matar, Political Economy of Investment in Syria (Palgrave, 2016) takes the determinants of investment and the agency of class, as an analytical lens to understand Syria’s failure to promote employment-generating investment prior to the uprising. Matar argues that neoliberal reforms under Bashar al-Asad failed to build productive capacity and instead enriched a few through short-term speculative and mercantile ventures. The proponents of the free market justified policies which exacerbated unequal income distribution, thus contributing to the social explosion in 2011.

Jamil Baroutt, The Past Decade in Syria: the Dialectics of Stagnation and Reform (Arab Centre for Research and Policy Studies, 2011) is a political economy analysis by a Syrian scholar that examines the formation of a bureaucratic capitalist class and authoritarian liberalization to understand economic stagnation and the regime’s inadequate strategies for overcoming it. The gap between economic growth and population growth, resulting in growing youth unemployment, concentrated in neglected rural provinces, provided the tinder for the uprising. 

The following studies expose the religious, social and cultural context of the uprising:

Thomas Pierret, Religion and State in Syria: The Sunni Ulama from Coup to Revolution (Cambridge University Press, ) focuses on Syria’s ulama and their changing relationship to power. His main argument is that the ulama were more readily co-opted than were Islamist movements when the regime gave them concessions reinforcing their religious authority, notably in conflicts with secularists, or expanded their freedom for non-political dawa. This enabled the regime to divide and rule these two wings of the Islamist movement; he also shows how the erosion of this game helped prepare the way for some ulama to back the opposition after the uprising.

Pierret’s volume is usefully read together with Line Khatib, Islamist Revivalism in Syria: The Rise and Fall of Secularism in Ba’thist Syria (Routledge, 2011), which shows how the regime played off secularists and Islamists. Indeed, it viewed the secular opposition as a potentially greater threat than the Islamists, hence fostered and co-opted the latter against the former. In doing so, it inadvertently spread the ideology that would be used to mobilize the Islamist movements that came to dominate the opposition to the regime.

Raphael Lefevre, Ashes of Hama: the Muslim Brotherhood in Syria (Hurst, 2013). While much of the book recounts the 1978-92 uprising from the point of view of the Muslim Brothers, to whom Lefevre had exceptional access, it is quite relevant to the current Syrian Uprising. The earlier insurgency generated a jihadi tradition whose remnants went to Afghanistan, morphed into transnational jihadis, played a role in the founding of al–Qa’ida and returned to fight in Syria after 2011. As part of a 1990s deal with Islamists, the regime had allowed a substantial Islamization of society, at the expense of secularism that grew the potential base of Islamist opposition activated as the post 2011 Uprising became militarized. The current Uprising has been shaped by memories of Hama: the desire for revenge motivates some of the insurgents while the memories of the Ikhwan assassinations of Alawis and of its sectarian discourse forged the solidarity of the regime in the face of the current uprising. However, by contrast to Egypt and Tunisia, where the organized Ikhwan filled the gap after the quick fall of presidents, the protracted struggle in Syria has generated sectarian hostility to the advantage of radical jihadis.

Charles Lister The Syrian Jihad: Evolution of an Insurgency (Hurst, 2015) takes up the story, which looks at the jihadists who came to dominate the uprising, including al-Qaida avatars, Jabhat al-Nusra and Islamic State.

Michael Kerr and Craig Larkin (eds.), The Alawis of Syria: War, Faith and Politics in the Levant (Hurst, 2015) examines the role of the key pro-regime minority community in Syria.  This edited collection examines Syria’s Alawi community, a key constituency of the Asad regimes. Several chapters examine the historical emergence of the community (Aslam Farouk Ali), their experiences under the Ottomans (Stephan Winter) and the French mandate and early independence (Max Weiss) Two look at the complex relation of regime and sect: their prominent role in the Ba’th party and army (Raymond. Hinnebusch) and their demographic spread to the cities, especially Damascus under Ba’th rule (Fabrice Balanche). Leon Goldsmith examines their implication in the regime; Aron Lund the Shabiha phenomenon and Reinoud Leenders the regime’s strategy of repressions

The roots and trajectory of the uprising are more specifically addressed in these studies:

Carsten Wieland, Syria: A Decade of Lost Chances: Repression and Revolution from Damascus Spring to Arab Spring (Cune Press, 2012).

This book provides a valuable and detailed examination of Bashar al-Asad’s rule, particularly of what Wieland considered the opportunities missed by the president to carry out political reforms that might have headed off revolution. The traditional opposition was loyal and moderate and its political incorporation could have enabled a gradual and peaceful transition to a more democratic and legitimate regime. In Wieland’s view, Asad could have won a free election in 2011 had he embraced the demands of the opposition, portrayed himself as the solution rather than the problem, and led the transition to democracy. Most Syrians would have welcomed this. Instead Asad played the sectarian and security cards, destroying his status as a secular popular leader while the violent response to protestors only further propelled the uprising. Wieland believes the security solution was decided by a special committee that concluded that the Tunisian and Egyptian regimes had fallen because they had used insufficient repression. The author benefited from extended discussions with the secular “traditional opposition,” notably Michel Kilo.

David W. Lesch, Syria: the Fall of the House of Assad (Yale University Press, 2012).

How, David Lesch muses, did Bashar al-Asad, a man who had appeared to him as “a relatively ordinary person,” quite different from the princelings in other authoritarian regimes, become drenched in blood? The book ably summarizes the structural factors against and for an uprising in Syria: on the one side there was the Asad’s nationalist stature and relatively good image as a youthful reformer, the substantial stake in preventing Islamic fundamentalism by minorities the secular middle class and the bourgeoisie—who could account for half the population in Lesch’s calculation; and the fragmentation of opposition. On the other hand, the rapid growth of unemployed educated youth that the economy could not absorb; the shaving of social safety nets and growing inequality. Given this relative balance, Asad’s approach to the protests could have made a big difference. Lesch explains his resort to repression by their belief in foreign conspiracies and that any concession seen to be made from weakness only encourages enemies. Once the killing reached a certain point, there was no way back. The regime hunkered down, counting on creating a favourable stalemate to survive.

Samer Abboud, Syria (Polity Press, 2016).

This volume focuses on the uprising years, particularly examining the anti-regime side.  Abboud charts the emergence of protest movements, the external opposition, the “civilianization” of violence, the militarization of the uprising and the war economy. A main thrust of his analysis is how the fragmentation of the opposition prevented it from coordinating around a common political and diplomatic strategy and obstructed the emergence of military formations able to defeat the regime. The emergence of Islamists, themselves ideologically divided, further fragmented the opposition despite periodic efforts to bring the multitude of jihadists groups together in “fronts.” Formations large enough to hold and expand territory could not be sustained and fighting groups, rather, were satisfied with profiting from local fiefdoms; as they became warlords they lost their popularity. Abboud’s analysis goes far toward explaining the failure of the Uprising.

Illuminating the conflict from the point of view of its victims, ordinary people, is Wendy Pearlman, We Crossed that Bridge and it TrembledVoices from Syria (Harper-Collins, 2017), while Yassin al-Haj Salah, The Impossible Revolution: Making Sense of the Syrian Tragedy (Hurst, 2017) examines what went wrong from the point of view of a prominent anti-regime activist

The international context of the uprising is most ably charted in:

Christopher Phillips, The Battle for Syria: International Rivalry in the New Middle East (Yale University Press, 2016).

While Phillips acknowledges the domestic roots of Syria’s conflict, his main argument is that without external interference the fragmented opposition had little chance of prevailing. Importantly, this interference was driven by miscalculations, most importantly the delusion of anti-Asad forces that his regime was fragile and would soon fall, and, if not, that US intervention would tip the balance against him. Miscalculations by the regional opposition to Asad led them to follow inflexible policies in Syria. Turkey, Qatar and Saudi Arabia were convinced that US intervention was coming and they conveyed their confidence to the exiled opposition, thereby discouraging any compromise with the regime. As for the West, its main mistake was to make uncompromised-able demands on the Asad regime, convinced it was on the way out, even while it had no intention of intervening militarily. On the other side, however, Iran and later Russia were determined to prevent regime collapse. The resulting “balanced intervention” by anti- and pro-Asad powers tipped Syria into protracted civil war.

Philips’ analysis could be usefully read in tandem with Nikolaos Van Dam, Destroying a Nation: The Civil War in Syria (I.B Taurus 2017), by a diplomat-scholar with decades of experience of studying Syria. He similarly examines the mistakes of the West in its expectation that the regime would easily be swept away.

John McHugo, From the Great War to the Civil War (Saqi Books, 2014) provides a wider historical sweep regarding the deleterious impact of foreign powers on Syria, seeing its very founding as a modern state under French tutelage as sewing the seeds of the uprising.

For a broad overview of the uprising:

Raymond Hinnebusch and Omar Imady, The Syrian Uprising: Domestic Origins and Early Trajectory (Routledge, 2018).

This major edited collection provides a uniquely comprehensive examination of the uprising. The book consists of nineteen chapters, each addressing an aspect of the Uprising. The chapter cases are located within a framework that poses a series of key questions or issues raised in the scholarship and debates on the Syrian uprising. Chapters 2-8 focus on the structural vulnerabilities and strengths of the regime that help explain the origins of the uprising (causes, grievances, and opportunity structure); how such mass protests became possible but also why they did not initiate a democratic transition; why the protests were militarized and sectarianism instrumentalized, resulting in civil war; and how the regime survived and how it was able to keep support of key constituencies, including the military, business, and the minorities. It takes the view that the structure goes far to explain the roots and early trajectory of the uprising, with chapters looking at regime formation (A Saoul) and practices (S. Valter), e.g., how “Sultanism” precluded democratic transition (Soren Schmidt), the military-business complex that backed it (Salam Said); the political economy context (F Lawson); regime divide and rule strategies e.g. Islamism vs secularists (L Khatib); Sufis vs Islamists (O Imady) and the role of the Alawis (L. Goldsmith). Agency also mattered and subsequent chapters examines Asad’s decisions (D. Lesch), the emergence of civil society as a base of opposition (T al-Om), the role of notions of dignity (J. Harkin) and the social media (B Brownlee) in mobilization; the role of the Muslim Brotherhood (N. Ramirez Diaz); the sectarianization of the conflict (E Bartolomeni; O. Rifai); the emergence of salafist jihadists (I Eido), and the roles of the Druze (M. Kastrinou), the Left (F Arslanian) and the Kurds (D. Cifci). Subsequent volumes in this series will examine the external role in the uprising, and its later evolution.

In addition to these works, students of contemporary Syria may wish to consult the only scholarly journal devoted entirely to Syria, Syria Studies; the valuable reports of the International Crisis Group; and in-depth news and analysis websites such as Syria Deeply; and the Carnegie Middle East Centre.”

[This article is published jointly in partnership with Jadaliyya.]