تدريباتنا

آراء من حمص: “أيام العداء والخلاف ولّت تلقائياً دون جهود”

by | Feb 29, 2024

حين اندلعت الحرب السورية بمفهومها العسكري المباشر كانت حمص تتجهز لتأخذ دورها كمدينة سيطول حضورها على مسرح الأحداث السياسية والأمنية والعسكرية تاركةً خلفها ما حصل في بانياس ومناطق أخرى كذكريات ليست غير ذات شأنٍ ولكنها جانبية إلى حدٍّ ما قياساً بمدينة كانت تحتضن تنوعاً مناطقياً وطائفياً متشعباً ومتعايشاً للغاية، ولكن في لحظة، بالضبط في لحظةٍ واحدة، انقلبت المدينة على بعضها مناطقياً ودينياً.

يوم اشتعل الفتيل

يتذكر كثر من أهالي حمص مفترقاً مهدّ لاشتعال المدينة بأكملها، كان ذلك المفترق يوم السابع عشر من نيسان 2011، أي بعد قرابة شهر بالضبط من اندلاع المظاهرات في درعا ومناطق أخرى. في ذلك اليوم هاجمت الأحياء بعضها، حرفياً ذلك ما حصل، أحياء بأسرها هاجمت أحياء أخرى لدواعٍ لا زالت حتى اليوم غير واضحةٍ وما من أحد قادرٍ على تفسيرها.

هجمات استخدمت فيها العصي والخناجر والسلاح الأبيض والفؤوس وبعض الأسلحة النارية من نوع “بومب أكشن” وبنادق الصيد. يومها سقط ضحايا في المدينة، تزامناً مع اعتصام حمص الكبير وحصار أحياء أخرى من أحياء مجاورةٍ لها، كان ذلك في الفترة التي تعرف بتولي فصائل الشرطة من كتائب “حفظ النظام” مسؤولية ضبط الأمور، قبل أن تتعسكر المدينة وتصبح بأكملها متخذةً شكل ساتر ترابي كبير يفصل بين خصمين.

المدينة المفصل في الحرب

لم تكن حمص عادية في أيّ لحظةٍ في تقرير مصير سوريا بأكملها كمدينة وسطى تقطع دمشق عن الساحل وحلب، فقد تم وصف حيّ بابا عمرو لوحده بعاصمة الثورة السورية. وفي تلك الفترة ذُكرت المدينة بالتصريحات الدولية المتواترة والمتخوفة من سيطرة الحكومة على حمص. فمثلاً تم ذكر أسماء أحياء المدينة بتصريحات هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية في حينه، وبالتحديد لا ينسى أهل حمص تصريحاتها عن “شارع الستين” المحوري في المدينة والذي كان يمثل خط تماس بين السكان المنقلبين على بعضهم.

لا يمكن تجميل سنوات الصراع

تاريخياً تعايشت تلك الفئات المتباينة في المدينة بمحبة وألفة وسلام دون أي حوادث أمنية تذكر، فتبادلوا المصالح والزيجات والعلاقات الاجتماعية والأسرية، لكن فجأة تغيّر كل شيء. لا يمكن تجميل ما حصل مهما حاول التاريخ ذلك، فالقتل عمّ المدينة، القتل الذي نفذه ساكنوها بحق بعضهم قبل وجود أي عمليات منظمة. والحديث هنا لا يخص مرحلة ما بعد اتضاح الجبهات، بل يتعلق بعائلات وأحياء حاصرت أخرى وكأنّ حرباً بينها عمرها مئات السنين لا زالت مشتعلة. ومجدداً لا زال الأمر لا يحمل أيّ مبررٍ وهذا ما سيتضح من خلال تبيان حال المدينة اليوم، وهو حال مشابه ومطابق لحال كل المدن السورية الأخرى، كدمشق وحلب واللاذقية وبانياس وغيرهم، إلا أنّ البقاء ضمن نموذج حمص يخدم الفكرة أكثر لشمولية واتساع ما حصل فيها.

ما حصل لا يكرره التاريخ كثيراً

كيف يبدو وضع حمص اليوم شباط/فبراير 2024؟

بدايةً لنعد قليلاً للوراءإلى تاريخ 2014 وهو عام خروج مسلحي حمص القديمة من المدينة بالكامل، بعيد سيطرة الحكومة على الأحياء كلها في حمص تباعاً باستثناء حي الوعر الذي لم يكن يشكل عبئاً رغم تأخر استرداده حتى آذار/مارس عام 2017، لكونه يقع أساساً في مكان غير متصل مباشرةً بالمدينة ولا يؤثر على طرق العبور الرئيسية فيها.

فعلياً منذ 2014 لم يبقَ داخل المدينة أجواء توتر تذكر، إذ انحصرت جبهات القتال في الوعر والريف الشمالي وبدأت التنظيمات المتطرفة تظهر وتتمدد باتجاه الريف الشرقي لحمص وبالتحديد في تدمر والمدن الشرقية والبادية، كل ذلك أتاح الوقت والفرصة الملائمة أمام المدنيين لاتخاذ قرارات تتعلق بمسؤولية بقائهم داخل المدينة.

من قرر المغادرة فقد غادرها مع دفعات التسويات، أما من قرر البقاء فقد أثبت بسرعة لا يمكن تصورها أنّه قادر أن يندمج بلمح البصر من جديد في مجتمع متكامل عماده ذات الناس الذين ينتمون لخلفيات طائفية ومذهبية متعددة، كان يبدو الأمر في حينه لمشاهد بعيد نوعاً من المجاملة أو الخوف أو حتى النفاق، فكيف لمتحاربي الأمس أن يتعانقوا بعد مئات آلاف المهجرين وآلاف المختطفين ومثلهم من الضحايا والجرحى؟، ولكنّ المدينة احتضنت بعضها بصورة لا يمكن أن يكررها التاريخ كثيراً.

أحياء على الحياد ولكنّها ليست بمنأى

يقول الحاج أبو ناصر والذي يعيش في حي كرم الشامي الحمصي خلال حديثه معي إنّ لحيّه خصوصية كبرى بسبب موقعه الهام قبالة جامعة المدينة وإطلالته على أحياء وطرق مهمة. ويوضح أن حيّه لم يشهد عمليات عسكرية، بيدَ أنّه شهد مظاهرات استمرت فترةً من الزمن ولكن يعيدة عن حواجز الجيش ومؤسسات الدولة.

يقول: “لم يكن كل أهل الحي رافضين للمظاهرات ولا كلهم قبلوا بها، كان هناك تخوف من اقتحام حيّنا وأن يلقى مصير أحياء أخرى، فاندثرت المظاهرات تباعاً ولم تعد هناك رغبة لدى شباننا حينها بالأمر، وربما هذا ما أبقانا أقرب للوساطة بين طرف وآخر إذ كان حيّنا معبراً آمناً للجميع دون تهديدات أمنية”.

وفي ذات الوقت يبدي الرجل أسفه أنّ المدينة تحولت لكانتونات منعتهم من الخروج من حيّهم في مرحلة معينة، وساءه انقطاعه عن رفاق له في أحياء أخرى، إما بسبب اندلاع اشتباكات لديهم، أو بسبب خلافات ايدولوجية منعت الزيارات يوم انقسمت المدينة على نفسها، مؤكداً أنّهم لم ينقطعوا عن التواصل هاتفياً، قبل أن تعود حمص كما كانت قبل الحرب تماماً.

لم يعد الخارج مفقوداً والعائد مولوداً

المهندس تامر حمدان الذي ينتمي لحي الزهراء في حمص، وقد فقد اثنين من إخوته خلال اندلاع جولات الخطف التي هيمنت على المدينة، يشرح كيف حوصر حيّهم لأكثر من عام من قبل تسعة أحياء تحيط بهم، ويقول عن تجربته: “كان الخارج مفقوداً والعائد إن عاد مولوداً، كان أقسى عامٍ يمكن أن تعيشه مجموعة من الناس مع سيل قنص وشلال قذائف لا يتوقف، معظم شهداء حيي استشهدوا داخله وهم نساء وأطفال، عدا عن الـذين كانوا على جبهات القتال، لم يكن أحد يريد أن يحصل هذا في المدينة التي تربى شعبها أنّهم إخوة”.

ويضيف: “ما حصل حصل، والغريب أنّه وكأنّه ما مرّ علينا، تلك الأحياء التي كانت تحاصرنا نقضي اليوم كل أوقاتنا فيها ومع أهلها الطيبين، وأصرّ الطيبين، تلك الحرب بدأت وانتهت دون أن نعلم لماذا، حمص اليوم وبآلاف الأدلة القاطعة تصالحت مع بعضها دون أحقاد وعادت الأمور لتسير كما قبل الحرب”.

يبتسم ويوضح فكرته بالإشارة: “من كان يتوقع يوماً أنني سأشتري غرضاً من الخالدية، وأنني سأسير في سوق الدبلان وأشتري الملابس من هناك، وأني سأشتري رأس غنمٍ من دير بعلبة، وبأني سأفتل كل المدينة وأحصل على ما أريد وأزور أصدقائي في جب الجندلي والبياضة وباب السباع وبأن الناس من تلك الأحياء ستزور الزهراء لتشتري ما تريد ولتزورنا بعد أن لم يبقَ في حمص متراسٌ واحدٌ يحجبنا عن بعض”.

لا إرهاب ولا شبيحة

تطلب فهم الجو العام في حمص وكيف تسير الحياة هناك البقاء فيها أياماً ليست بالقليلة، وعلى فترات، رُصدت خلالها آراء تكاد تكون متطابقة في طبيعتها المتسامحة، في مدينة نسيت الحرب مخلفةً جراحها وراء ظهرها، وصولاً لمقابلة عمال وموظفين يعملون في أحياء قبل سنوات كان مجرد ذكر اسمها يستفزهم ويشعرهم بالخطر.

بين أولئك العمال أبو ماجد الذي ينتمي سكناً وعيشاً إلى حي بابا عمرو الذي لم يغادره حتى وهو في أتون معركته الأشد، أبو ماجد يعمل اليوم في مطعم للوجبات السريعة في حي النزهة الذي كان يشكل خصماً لحيّه في الموقف السياسي والعسكري خلال الحرب.

أبو ماجد أوضح أنّ أيام العداء والخلاف ولّت تلقائياً دون جهود، وبأنّ في حيّه عمالٌ أيضاً من أحياء أخرى، وخلال عام عمله الثالث هذا لم يشعر لحظةً أنّه غير مرحب به وعلى حدّ تعبيره لم يعامل كـ “إرهابي” من قبل أهالي الحي، كما لم يعامل أهل حيّه بعض العاملين لديهم كـ “شبيحة”.

أطروحةٌ في العيش المشترك

في حمص حصل تصالح مجتمعي شعبي بين الأحياء ومعه عادت الخلطة الديمغرافية مناطقيا ودينيا (طائفياً ومذهبياً) بين الأحياء والقرى بعد حرب ضروس كانت تنذر بنهايات وحشية، فحتى ريفها الشمالي الذي كان يعد واحداً من أخطر بؤر التوتر حلّ به ما حلّ بأحياء المدينة من تصالح فعادت منطقة الحولة بقراها السبع ممراً لوسائل النقل التي تقل الناس بين المدينة وأرياف أخرى ممتدة حتى مدينة مصياف في ريف حماه والتي كان الوصول إليها عبر شمال حمص ممنوعاً بل حتى لم يكن هناك طريق يقود إلى ذلك الريف لشدة الاشتباكات في محيطه. وإلى جانب الحولة فتحت مناطق تلبيسة والرستن طرقها للعبور من حمص إلى حماه دون الاضطرار للالتفاف حول عشرات القرى تجنباً للرصاص والمخاطر والخطف.

مجدداً، الآن في شباط/فبراير 2024، عاد الناس للاختلاط والزيارات والعلاقات الاجتماعية والتبادلات التجارية وكأن كل من بقي قرر نسيان سنوات الحرب القاسية التي لم تخلف سوى الدم والدمار دون حلول جذرية سياسية فكان الحل بعودة الاندماج نحو الخلاص المعنوي والنفسي انطلاقاً من الترابط المجتمعي الذي يكمل بعضه في ظل استحالة عيش كل فئة منعزلة عن جوارها لتستحق حمص بكل جدارة أن تكون موضوع أطروحات أكاديمية تناقش العيش المشترك.

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

ينتظر السوريون في الأسابيع المقبلة بفارغ الصبر وفق تصريحات حكومية انطلاق المشغل الخلوي الثالث "وفا تيليكوم" المرتبط بإيران التي ستدخل على خط الاستحواذ في قطاع الاتصالات الحساس والذي ظلّ حكراً على متنفذي السلطة لعقود. من خلال التواصل المباشر مع مصادر متعددة من داخل...

تدريباتنا