تدريباتنا

أفراح الأيام المعتمة في دمشق

by | Jan 22, 2022

تتسع مساحة العتمة. يصير للكلمات لون الأسى، لون اسود داكن وموجع. النهارات معتمة كالليل، والليل المتسلح بقمره كئيب وموحش، لم يعد يعني القمر شيئا لأحد، يذكر بالعتمة الجاثمة في البيوت وفي القلوب وفي محركات الآلات الضرورية لاستمرار الحياة اليومية.
يبدو سؤال الفرح ترفا بلا معنى، ويبدو الاحتياج للتوازن مشروطا بالتصديق، أجل إلى أي درجة يمكن تصديق كل هذا التراجع اليومي المستمر والمتصاعد ليكرس الفقدان التام، فقدان أساسيات العيش، وكأن الحياة باتت قاب ومضة كهرباء او أدنى؟

مصالحة كهربائية
اتصال هاتفي من صديقة طال غياب التواصل معها بقرار منها، لكنها اليوم تلح في الاتصال. بعد تبادل التحيات الخجولة والأسئلة الساخطة والموحدة والساخرة، تعلن برجاء حاسم، وكأن لا أحد غيري قادرة على تلبية حاجتها الماسة والمستعصية، تقول: “أخي مسافر إلى الشام بسيارة زميله لنقل حمولة تفاح إلى سوق الهال، سأرسل لك معه أمانة وأرجو ألاّ ترديني خائبة”. قبلت فورا، ابتسمت، وتبدل موقفي وفهمي لاتصالها. لا بد أنها رشوة مصالحة طيبة من مأكولات الضيعة، لإعادة العلاقة شبه المقطوعة إلى مجاريها الدافئة، قرص شنكليش! كمشة سليق أو هندباء برية، وكانت المفاجأة! كومة ثياب بيضاء متسخة، مطلوب مني غسلها وإعادتها مع أخيها ولو مازالت مبتلة.
أذهلتني تلك المدعوة أمانة! والمرسلة كهدية تفوح منها رائحة الرجاء، لكني فرحت بوجبة الغسيل المتسخ التي أزالت ركام المكارهة القصدية، حتى لو خيبت أمالي المعقودة على نكهة ريفية محببة ومفتقدة.
أوقات توفر الكهرباء سمحت لي بتنفيذ المهمة المطلوبة، خاصة أن الأخ الودود أوصل وجبة الغسيل المتسخة قبل موعد الكهرباء بدقائق، كما أن كبريائي احتفل بإعلان الصديقة بأنني قادرة، والأهم أنني راغبة بمساعدتها وتقديم أي خدمات ممكنة رغم قرارها بالجفاء.
وأنا اصارع الوقت وحواسي ومشاعري متنقلة ما بين الساعة والغسالة، تمنيت لو يتأخر الأخ بقدر ما يسعفني الوقت لإنجاز المهمة وربما طي الملابس وتوضيبها رطبة في أكياس كبيرة ونظيفة.

ابنة ذكية
ليالي الشتاء طويلة وباردة، تثقلها العتمة فتصير وحشية، تحار العائلة الصغيرة المكونة من خمسة أفراد في كيفية تمضية أوقاتها المشحونة بالغضب والعجز، تقول جويل: “تعوا نلعب لعبة الأسماء، يوافق الجميع رغم غياب الحماسة، يوافقون من شدة الملل والانكسار، فلنلعب إذن، كي يمر الوقت لا أكثر”.
تصرخ جويل: “حرف ال ب”. تطلب اسم مدينة تبدأ بهذا الحرف، ثم اسم حيوان، وبعده اسم إنسان، ويليه اسم طعام. تضحك العائلة، تشعر جويل بالفخر. لقد حاربت العتمة باللعب، تستمر الألعاب وتتنوع، تتذكر الأم ألعاب الحارة، والنط على الحبل والقفز على الأدراج ولعبة بيت بيوت. تكتشف العائلة أن والدهم كان أمهر أولاد الحارة بلعبة الدحل، يسرد مغامراته ويضحك، يصف مهارة أصابعه بالإصابة المباشرة و شدة التحكم بالدحل ويضحك، والبنات كما أمهن مستمتعات، يعود الأب طفلا، يقول: “بس لو في كهرباء لقمنا بشراء الدحل واللعب به الآن”. يتبدل وقع الليل على أرواحهم وتصير الذاكرة حيوية ومبهجة رغم غرقها بالعتمة.

فقراء يشترون ضحكات
على الفرش الإسفنجية الرقيقة يجلس العمال المياومون، أنهوا لتوهم وجبة يومهم، قدر كبير من حساء العدس المسلوق مع وريقات بصل أخضر اقتطعوها من حوش جارهم، يبلغ الضجر أشده، تهاجمهم طلبات عائلاتهم البعيدة، أرسلوا لنا مالا لنأكل، تطوف الحسرات في الفضاء، لدى الجميع رغبة بالصراخ لكن الصمت أبلغ وأكثر سطوة.
يصرخ جابر: “مين يقاتل؟”. لا أحد يرد! “خلونا نتقاتل”. ويقبض على ذراع أيمن ويلويها، تدب الحمية في الرجال، يتصارعون ويضحكون، يضربون بعضهم بقسوة لكن بمودة، تتوقف الضحكات، تعلو وتيرة الضربات على الأجساد المتعبة، وكأنما يسددون اللكمات للقدر المر، للعتمة الخانقة، ينتبه محسن إلى أن توفيق يضربه بعنف مبالغ به، يصرخ به قائلا: “أنا محسن يا ول، أنا محسن مو الزلمة يلي أكل عليك تعبك اليوم”. تنطفئ جذوة النشاط العنيف، يصرخ بلال: “فلنوقف القتال، سنجوع من جديد ولا طعام لدينا”. يحل الصمت ويطبق على خناق الجميع، يفردون أغطيتهم الرقيقة والمتهالكة، يديرون ظهورهم لبعضهم وكأنهم هاربون من مواجهة غير معلنة ولا أحد يريدها، يتصنعون نوما يجافيهم من شدة البرد والجوع والعجز.

الاحتيال العاجز
يتحايل البشر على الفقدان، يدربون عيونهم على المزيد من العتمة، يشتري سامر مصباحا على البطارية يوضع على الرأس كي يتمكن ابنه من الدراسة، سيتقدم هذا العام للشهادة الثانوية، لا إمكانية للدراسة في غرفة الجلوس حيث تجتمع العائلة حول مصدر الدفء الوحيد والمتبدل حسب توقيت الكهرباء، في غيابها يتم تشغيل مدفأة الغاز أو مدفأة المازوت حسبما يتوفر وللضرورة القصوى، وفي حال ثبات درجات الحرارة ما فوق الخمسة عشرة درجة فلا داعي لأي نوع من التدفئة، يتجول البشر وكأنهم رجال الأسكيمو وقد ارتدوا كامل عتادهم من الألبسة لمواجهة البرد، سترات خاصة وسميكة للبيوت ، تلبس وفاء سترة زوجها لأنها مبطنة بالفرو، دافئة لكنها تعيقها عن الحركة، ويلف رامي وفادي بطنيهما بملاءة صوفية رقيقة، الإبداع مطلوب، ويسخر الإبداع من اسمه هنا، فرط التكيف يعني هروبا من الموت بردا او انفجارا من شدة العتمة والقهر.

ثوب جديد
تتلقى سما دعوة كريمة وجميلة من والدتها، تعوا تحمموا، عنا كم ليتر مازوت لمدفأة الحمام. تلبي الدعوة ولسان حالها عاجز عن الشكر، تأخذ معها كمية من الكشك وكيلو ونصف من البطاطا وبرتقال، تقول لأمها سننام عندك الليلة خوفا من المرض بعد الاستحمام، ترحب الأم بذلك، تطهو سما الكشك كوجبة ليلية يعززونها بشقف من الخبز المحمص، يتضاعف الدفء في تلك الليلة، ينام الأطفال مبتسمين، تقول الأم لابنتها: كلما توفر لي مازوت للحمام جيبي ولادك وتعي تحمموا، تشكرها سما بحرارة، لكنها تردف قائلة: مصروف المواصلات مرهق وتأمينها أصعب، أتمنى أن نقدر على تكرار المجيء! تعتذر سما عن تقصيرها تجاه أمها الوحيدة، وتعتذر الأم عن عجزها عن دعم ابنتها المسؤولة عن عائلة كاملة تستنزف كل طاقتها وقدراتها المادية والجسدية والنفسية ليستمروا بالبقاء.
في ظل كل هذا الغياب لأساسيات الحياة، يغرق الناس في حالة من الاستنزاف لقواهم وقدرتهم على التواصل والتوازن، باتت الحاجات اليومية كابوسا ضاغطا وقاهرا، ومن المؤلم أن الأطفال يعلنون وبصراحة بالغة: نريد أن نرحل إلى بلاد تتوفر فيها الكهرباء! ويتساءلون ببعض الأمل، هل ستضيف منظمة الهجرة واللاجئين بندا إضافيا لقبول طلبات اللجوء وهو انعدام الكهرباء مما يعني انعدام الحياة، فيفوزون بفرصة للعيش على حدود الإنسانية.

*سلوى زكزك دمشق 20 كانون الثاني 2022

صورة محمد تاج الدين بدمشق *

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

ينتظر السوريون في الأسابيع المقبلة بفارغ الصبر وفق تصريحات حكومية انطلاق المشغل الخلوي الثالث "وفا تيليكوم" المرتبط بإيران التي ستدخل على خط الاستحواذ في قطاع الاتصالات الحساس والذي ظلّ حكراً على متنفذي السلطة لعقود. من خلال التواصل المباشر مع مصادر متعددة من داخل...

تدريباتنا