تدريباتنا

الخيار الأخير: سكن بائس في سوريا

by | Nov 24, 2024

تقطن أم عمر مع أولادها الثلاثة في منزل ضمن بناء كان يفترض إكمال بنائه وإكسائه لكنّ الحرب عاجلت مدينة دوما في ريف دمشق فتوقفت أحوال الاستثمار فيها كما سائر البلاد. قُتل زوج أم عمر خلال سنوات الحرب، وصار منزلها ركاماً لأسباب يطول شرحها وتبدو محاولة شرحها نكأ لجراح عقد انقضى على دمار المنزل الذي كان لسوء حظها- مجاوراً لغرفة عمليات تتبع فصيلاً مسلحاً. ورغم خسارتها لجنى العمر، إلا أنّ أم عمر ممتنة أنها وأطفالها خرجوا أحياء.

البحث عن مأوى

هامت أم عمر على وجهها في الشوارع لياليَ طوالاً لم يكن لينير عتمتها سوى سماء مشتعلةٌ بصنوف القذائف والمدافع والرصاص المخطط. قصدت جمعيات خيرية اصطفت على الطرف الآخر من النزاع بحكم التموضع الجغرافي والسياسي لكل طرف، لكنّها لم تفلح في العثور على المأوى. طردها قائد فصيل عسكري راحت تلتمس منه سكناً، ولو غرفةً، أيّ شيءٍ يقيهم أمطار شباط الغزيرة. قَبِل صديقٌ سابق لزوجها استضافتهم مؤقتاً، لكنّ زوجته رفضت غيرةً. بحثت في بيان قيدٍ عائلي تمتلكه بين أسماء إخوتها عالمةً مسبقاً بالنتيجة، وحدها هناك، من مات مات، ومن هاجر في وقتٍ سابقٍ نجا بنفسه.

ضاقت بأمّ عمر الدنيا واستحكمت حلقاتها وما انفرجت، على مضضٍ طلبت الإيواء من ابنة خالتها، وجرت العادة أن يسمع المرء عن زوجة أب تهين أولاده، عن زوج أم يهين أولادها، وهكذا، ولكن عن زوج ابن خالةٍ، فتلك كانت معاناةً أخرى، كان يهينها، يحقرها، جعل أولادها الصغار يعملون بـ “الفعالة” على صغر عمرهم، ضربها مراراً، حاول الاعتداء عليها أخيراً، فهربت من جديد لتهيم على وجهها في أضيق حيزٍ جغرافي يستحيل الخروج منه تحت وطأة إطباق حصار عسكري معلوم الأسباب.

الخيار الأخير

لم يبق أمام أم عمر إلا الالتجاء إلى إحدى كتل البناء الكثيرة التي لم يكتمل إنشاؤها في دوما وغيرها، حيث استقرت أم عمر وأطفالها في الطابق الثالث ببناء قريب من ساحة المدينة. تقول أم عمر: “يوم قررت ولا أدري كيف سأقولها، الاستيلاء على هذا المنزل وهو على”العظم “. كنت أعلم أنّ أصحابه هاجروا جميعهم ولن يعودوا، الآن على الأقل، هكذا قلت وقتها، وبعد كل هذه السنين لم يعد أحد منهم فعلاً، كان المنزل مقطّعاً ولكنّه غير مكسو، بلا نوافذ أو أبواب أو خدمات صحية وكهربائية، كان جدراناً فقط، جدراناً بلا طينة حتى”.

خلال الأشهر والسنوات التالية عملت أم عمر في الكثير من الأشغال بين الخياطة والحياكة والمياومة وشيئاً فشيئاً تمكنت من إنجاز العديد من الأمور لصالح المنزل الذي لا تملكه أساساً، ومشهد المنزل اليوم يبدو مغرقاً في سريالية عجيبة.

أين تلك السريالية؟ هي في جدار مطلي وآخر لا، في جدار بطينٍ وآخر لا، في جهة من المنزل لها نوافذها وأبوابها وأخرى لا، في مطبخ شبه مكتمل بنصف الأغراض، من كلّ شيء نصفه، حتى الخدمات الصحية، إلا أنّها تمكنت فعلياً من إتمام الشؤون الكهربائية، والمفارقة الأخرى أنّها استنزفت مدخرات تعبها على إتمام تمديدات الكهرباء في بلد لا كهرباء فيه.

في نهاية المطاف تدرك أم عمر أنّ هذا المنزل ليس لها، ولن يكون ولو حولته لقصر، وإذا ما عاد أصحابه فستلقى شرّ طردةٍ منه ولن يعوضها أحدٌ بقرشٍ واحدٍ، ولكن هل تملك أم عمر رفاهية الاختيار لئلا يكون هذا خيارها الوحيد بكل ما بذلته من أجل جعله صالحاً للسكن!

تشير في حديثها أنّها تعرف كل ذلك، وتضيف: “منذ أول يومٍ في الحرب هذه البلد ما عادت للفقير، كيف يمكن أن تكون البلد لأولادها الذين يحلمون بامتلاك منزلٍ فيها، بأبسط حقوقهم؟ كيف ترى السوريّ اليوم يتدبر أمر معيشته كلّ يومٍ بيوم؟ كذلك أفعل أنا منتظرة اليوم الذي سأطرد فيه من هذا المنزل، ولكنّي حينها لن أخاف كما كنت قبل سنين، فأولادي حينها سيكونون رجالاً”. تغالب دمعتها وتكمل: “ما لم يتركوني ويهاجروا كما يفعل الجميع”.

عقدة مركبة

يعاني السوريّ عقدةً مركبةً تقف حائلاً في وجه كل ما يمكن أن يفكر فيه تجاه مستقبله، فتلعب دوراً مركزياً وأساسياً في قراره بالهجرة، وفي سياق الهجرة من الضرورة التذكير أنّها لا زالت تتنامى باضطراد.

وتمثل مدينة حمص المدمرة بأكثر من نصفها مثالاً عن حلم السكن، فما بقي من أحياء من حمص، ومن بينها عكرمة على سبيل المثال تتراوح أسعار العقارات الجيّدة فيها بين 700 مليون و5 مليار، نعم 5 مليار في مدينةٍ لا شيء مغرٍ فيها للسكن، وفي حيٍّ ليس أبو رمانة ولا المالكي أو الشعلان في دمشق، مجرد حيٍّ عادي. ومن يعتقد أنّ الأحياء الشعبية أقل ثمناً يكون واهماً في ثورة جنون العقارات أمام العرض الوفير والطلب ما دون الشحيح، ضمن واحدةٍ من أغرب معادلات الاقتصاد.

“استبدلوني بمنزل بريء الذمة”

كان المهندس أحمد المنجد يريد الزواج من زميلته في الكلية بعد قصّة حب دامت سنوات عدّة، لكنّ والدها اشترط عليه امتلاك منزلٍ قبل الزواج. رغم ما مرّ به أحمد من ظروف وجدانية متعارضة لكنّه يبدو أنّه لم يفقد شيئاً من طرافته التي يعبر عنها بأنّها الشيء الوحيد الذي لا زال متمسكاً به، إذ قال لوالد الفتاة: “لنسكن لديك، أنت أصلاً ورثت منزلك من والدك، هل يمكنك شراء منزل الآن”.

يقول أحمد إنّه قضى أشهراً مبتسماً وهو يفكر في معضلة الحصول على البيت ساخراً في كلّ لحظة من فوضوية المنطق الذي قوبل به من طرف الوالد، فالمهندس الذي تخرج قبل سنوات قليلة، لم يكن ليجمع ثمن منزل، ولو كان يعمل بالمخدرات، كما يقول.

أخيراً قرر أحمد الهجرة إلى ليبيا، هناك حيث يتقاضى الآن ثلاثة آلاف دولار شهرياً، وهذه الطريقة الوحيدة ليتمكن من العودة يوماً ما وشراء منزل، لكنّ حبيبته تزوجت، فقرر أن يسمي ما حصل معه بأنّه: “جرى استبداله بمنزل عقاري مفرز 2400 سهم بريء الذمة ولا ضرائب عليه”.

لولا الحرب!

يتداول السوريون مراراً مقولة تنسب لحاكم الإمارات السابق وبأنّه قالها في ثمانينيات القرن الماضي في ذكرى تأسيس دولتهم ومفادها: “كيف سأطلب من مواطن إماراتي واحد الولاء لدولته وهو يقطن بالإيجار؟” وعليه بدأت مشاريع تمليك كل المواطنين لمنازل لتصل تلك الدولة منذ سنوات مرحلةً لا يوجد فيها مواطن دونما منزل.

تسترعي هذه المقولة الانتباه بشدّة، فهي تحمل بعدين، سياسياً واقتصادياً، ومن المجحف القول إنّ سوريا مع بداية الألفية الحالية لم تكن تسير في طريق مشابه عبر القروض الميّسرة والمسهلة التي تفضي لامتلاك شقة، عدا عن إنشاء مئات المجمعات السكنية في كلّ المحافظات وبأقساط شهرية تكاد لا تذكر أمام راتب شهري كان مجزياً وكافياً.

بنوكٌ شريرة

أما اليوم فقط تغيّر كل شيء، ولكن ما زال يمكن الحصول على قرض لشراء عقار، أعلاه ما يمنحه البنك العقاري وهو مئتا مليون ليرة سورية، يجري سدادها على عشر سنين، وبفوائد كبيرة بالطبع، وبالمحصلة سيحاج القرض وساطة وفوقها بضع مئات ملايين أخرى وربما مليارات لشراء عقار.

في حين تمنح البنوك الخاصة قروضاً أيضاً، بعضها يمنح قرضاً نصف مليار ويسترده ملياراً ونصفاً، فيما يُمكن وصفة بعملية سرقة وابتزاز منتشرة بشكل واسع في قطاع البنوك الخاصة وعلى رأسها البنوك الإسلامية التي وجدت طريقتها للحصول على أرباح خيالية دون استخدام الفوائد، بل تحت مسميات أخرى تجعلها أكثر شرعية وخنقاً للمواطن في آن.

مخاطر اعتياد المهانة

انقضى قرابة أربعة عشر عاماً على الحرب السوريّة، شيئاً فشيئاً اعتاد السوريّ في الداخل المهانة في كل مفصل وجزء من حياته. ناس كثيرون اعتادوا تناول الخبز والشاي، ومن الممكن قرص من البندورة وفلافل في مناسبات ليست كثيرة. وهناك الكثير الكثير من الباحثين عن الطعام في حاويات القمامة. ولكن كلّ ذلك يمكن بشكل أو بآخر معالجته في مشاريع التعافي المبكر أو الشروع بإعادة الإعمار أو إعادة هيكلة السياسة الاقتصادية وتحقيق انفتاح ليبرالي نحو العمل الحر والسوق الجماعي الذي يدمج بين المعسكرين الكلاسيكيين في الاقتصاد، الاشتراكية والرأسمالية.

ولكن من يؤمن منازل يسكنها أولئك المشردون، وبالمناسبة فحتى المستأجرون هم مشردون تحت وطأة ابتزاز الارتفاع المستمر للإيجار وهم ما يزالون يقطنون ذات العقار، فعلامَ يكون إيجار منزل في حمص 5 ملايين شهرياً، وفي طرطوس 6 ملايين شهرياً، وفي دمشق قد يصل إلى أكثر من 10 ملايين شهرياً. وأما أفقر الفقراء فلا يستطيعون إيجاد منزل غير مفروش بأقل من 500 ألف، وهو رقم يمثل ضعف راتب الموظف الحكومي.

تحقيق حلم يداوي جراح المقهورين

ثمّة شيء وحيدٌ يمكن قوله للإيضاح: إذا كان متوسط ثمن عقار متواضع في حيٍّ جيد نحو مليار ليرة، وكان من سيشتريه موظفاً، فإنّه سيحتاج جمع مرتبه لـ 300 سنة دون أن يصرف منه قرشاً واحداً! وهل يعلم القائمون على الأمر أن أسعار العقارات في دبي وبيروت وماليزيا باتت أرخص من دمشق!

لذا يسكن الناس، الكثير منهم،  في بيوت على الهيكل، وبأفضل الحالات بالتشطيبات الأولية، مستغنين عن كل ما أمكن من تمديدات كهربائية وصحية، هؤلاء لا يريدون سوى حلم السقف والجدران والباقي تحلّه الأيام.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

(1) في وقت فراغي كنتُ أملأ الأوراق البيضاء بالحقول كان يبدو الفجر أقرب و السحاب يمرّ فوق الطرقات بلا خسائر..  وكان الماضي  يمتلئ  بالألوان. لا شيء مثل اللحظة حين لا تجد المسافة الكافية لتخترع أجنحة تكاد تنمو كزهرة برية.  بدأتُ أجمع صوتي من الريح و أفسّر...

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

تدريباتنا