تدريباتنا

السويداء وسقوط نظام الأسد

by | Dec 23, 2024

لم يكن يوم الثامن من كانون الأول/ديسمبر يوماً عادياً في حياة السوريين\ات عامةً وأهل محافظة السويداء خاصةً. منذ أواسط شهر آب/أغسطس عام 2023 بدأ أهل مدينة السويداء جنوب البلاد احتجاجات واسعة على نظام حكم الأسد السابق وسياساته الاقتصادية كرفع سعر البنزين والمشتقات النفطية في سوريا. تنامت الاحتجاجات سريعاً لتصير حاشدةً وتلقى تأييداً شعبياً وجماهيرياً توّج بوقوف المشيخة الدينية الروحية لطائفة الموحدين الدروز إلى جانب الحراك ممثلةً بشيخ العقل حكمت الهجري، فيما احتفظت المرجعيتان الباقيتان والممثلتان بشيخي العقل يوسف جربوع وحمود الحناوي بالحياد المائل نحو النظام المخلوع في أغلب الأحيان.

مظاهرات معيشية فسياسية

تجمهرات السويداء اليومية التي استمرت حتى سقوط النظام بدأت بيافطات ومطالب معيشية فقط، ولكنّها سرعان ما تحوّلت لمظاهرات سياسية تطالب برحيل الأسد وتطبيق القرار الأممي 2254 الذي يقضي بانتقال سلمي للسلطة في بلدهم. وفي أفضل الأحوال لم يتوقعوا أحداثاً دراماتيكيةً سريعةً تهوي بنظام الحكم في بلدهم بين ليلة وضحاها.

مظاهرات السويداء حملت لأهلها التخوين والعمالة، وما زاد من تجييش النظام ضدهم هو رفع المتظاهرين صورة مقسّمة لنصفين إبان طوفان الأقصى، تحمل تلك اليافطة صورة نصفها للرئيس الأسد ونصفها الآخر لرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو. فبدوا وحيدين في ميدان القتال مستشرفين أياماً لم تكن بقية المحافظات على اطلاع عليها، والمطلعون عليها جرى كمّ أفواههم بقوة المعتقل كما حصل بناشطي الساحل السوري.

أصوات مناصرة

بالتزامن اجتاحت موجة من التضامن بقية المحافظات، ولكن دون أن تصل مرحلة المظاهرات، إنما اقتصرت على رفع الأصوات علانية ودون هوادة على مواقع التواصل الاجتماعي.

استشعرت السلطة سريعاً حساسيتها وخطورتها في مناطق الساحل السوري خاصةً، البيئة الحاضنة الأمتن للنظام السوري السابق، فجرى سريعاً تغييب تلك الأصوات جنائياً أو أمنياً، وبالفعل سريعاً خمدت تلك الأصوات المناصرة للسويداء.

كان ذلك المؤشر الأول للنظام الساقط على فقدان شرعيته وبيئته الحاضنة ونقاط ارتكازه السابقة، ولكنّه مارس دوره في المكابرة والاستنكار معتبراً أنّ الأمور بخير. وظلّ يتصرف على ذلك النحو حتى اضطر الرئيس السابق للفرار كاللصوص من مطار حميميم الروسي في مدينة اللاذقية.

كانت المؤشرات تتوالى تباعاً، أولها من السويداء، وليس آخرها تحذيرات إيران للأسد بأنّ جيشه يتهاوى ويفتقد المعنويات، كان ذلك قبل أسبوع من سقوطه، لكنّه مرّة أخرى كابر ورفض وظلّ كذلك حتى اجتاح بضع مئات من المقاتلين المعارضين حلب وحماه وحمص ودمشق وهو في غفلة عن أمره وحاله.

وصلت الأمور بالرئيس المخلوع عن كرسيّه “الأبدي” الذي ورثه ليكمل عهد 54 عاماً من حكم عائلة واحدة أن هرب دون أن يخبر شقيقه وأقرب المقربين إليه من حمايته الشخصية وصولاً لمستشاريه وكبار ضباطه تاركاً إياهم لمصير غير معلوم. ليسأل الشارع والمجتمع الدولي لاحقاً: أيّ رئيس هذا الذي يمضي دون أن يخبر أخاه بخطة هربه، وليترك شقيقه يواجه مصيراً كان يمكن أن ينتهي بأسوأ الاحتمالات لولا نجاح هروبه عبر العراق، يقول الناس: “تلك نذالة اشتهر بها الأسد منذ كان شاباً، ولم يغير هذا الطبع حتى في عزّ أزماته”.

تجييش وأحقاد

استاء أهل السويداء من النظام السوري منذ أيام اجتياح داعش ريف المحافظة الشرقي في أواخر تموز/يوليو عام 2018، حيث اتهم الأهالي وفصائل محلية مسلحة النظام والقوى الأمنية بقطع الكهرباء عن المنطقة وقت الهجوم ووقف إمدادهم في المنطقة تاركين إياهم شبه عزل في معركة غير متكافئة قضى فيها أكثر من 200 مدني في قرى ريف السويداء الشرقي على أيدي تنظيم الخلافة. وبالفعل ذلك ما كان، وما كشفته الأيام اللاحقة.

يقول مهيب أبو باكير أحد سكّان تلك القرى ومن أبرز المشاركين في مظاهرات السويداء خلال أشهرها الأولى إنّ الدولة بصورتها الرسمية تركتهم لمصيرهم بغية الاستثمار السياسي فيما سيحصل وكدرس لأهل السويداء الذين تمرد سابقاً الكثير منهم على الحكومة وشكّلوا فصائل مناوئة لها.

ويضيف: “تشكيل بقية الفصائل جاء لحمايتنا بعد اغتيال الشيخ وحيد البلعوس زعيم حركة رجال الكرامة عام 2015، وكان لدى شريحة واسعة منّا إيمانٌ أنّ الدولة تركتنا ككبش فداء لداعش من جهة والمخدرات من جهة أخرى ومن جهة ثالثة لجماعات مسلحة كانت ترعاها هي وتلك المجموعات تمارس البلطجة علينا لصالح الأفرع الأمنية”.

دويلة لا تريد الفدرلة

خلال ذلك، وبعده، إلى ما قبل سقوط النظام، عانت السويداء ككثير من المحافظات السورية شحّاً هائلاً في معظم الموارد والاحتياجات الأساسية من ماء وكهرباء وبنزين ومازوت وحوامل طاقة وغيرها، ما جعل الغضب يتصاعد يوماً تلو آخر، وتفقد الدولة بأجهزتها الرسمية مكانها تباعاً، لتحلّ الأعراف العشائرية وشبه الإدارة المحلية محلّها.

احتياج السويداء لتلك العوامل الصحية الأساسية كان شكلاً رئيساً من أشكال الغضب المتفجّر، فتمكنت فصائلها من إنشاء دويلة داخل دولة دون المطالبة بأي نوعٍ من الفدرلة. ولكن ما حصل كان أفضل، على ما يقوله أهالٍ في السويداء، فالنظام بأسره سقط أخيراً، بعد 14 عاماً من حربٍ وقصف وجوع وتنكيل ومعتقلات سرية وتغييب قسري وانتهاك حرمات وسوقٍ إجباري للتجنيد واستخدام أولادهم كحطب للموقدة المشتعلة من أجل الحفاظ على الكرسي.

تواجد شكلي

قبل سقوط النظام ما كان يحصل عند إيقاف القوى الأمنية لمواطن من السويداء في محافظة أخرى، هو لجوء الفصائل المحلية (وأحياناً عوائل المعتقلين) لقطع الطرق في المدينة وخطف ضباط وعناصر من الجيش والأمن للضغط على السلطات نحو الإفراج عن الموقوف، وهو سيناريو قد نجح عشرات المرّات على الأقل.

وفي السياق فإنّ النظام حافظ حتى يوم خلعه على تواجده الرسمي ولو بشكل مبسط عبر فرع حزب البعث، ووجود محافظ ومكتب تنفيذي للمحافظة، ومؤسسات خدمية، وقطعات للجيش أبرزها القوات الخاصة، ومجمل الأفرع والأقسام الأمنية وقيادة الشرطة، والتي تبدو جميعها غير مرحبٍ بها، وتتعرض لهجمات بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة بين وقتٍ وآخر. أما اليوم فجميعها لم تعد موجودة في سوريا الجديدة.

مفاوضات خارج عباءة السلطة

وفي آخر الحوادث التي شهدها النظام الساقط هو إلقاء قواته الأمنية القبض على الشيخ بهاء الشاعر في شهر أيار/مايو الفائت في دمشق، لتختطف فصائل السويداء ضابطاً وثلاثة عناصر للمقايضة عليه، وكانت المرّة الأولى التي تطول فيها عملية التفاوض إلى هذا الحد، فعادةً ما تنقضي تلك الأمور ويتم الإفراج عن المتهم خلال أيام.

هذه المرة توجه وفد من مدينة حمص من أهالي الضباط والعناصر قاصدين “أهل النخوة” في جبل العرب (أي السويداء) للإفراج عن الموقوفين لديهم، وبالفعل تجاوبت تلك الفصائل مع مطالب الوافدين إليهم بعد أشهر من احتجاز الرهائن وبالتزامن مع إطلاق السلطة سراح الشيخ ورفيقه خلال الشهر الفائت. هذه الحادثة مثال عن قصة كانت تتكرر أسبوعياً في تأكيد أن المشاكل بين أطياف الشعب السوري كانت من صنع النظام.

تنحية الضابطة العدلية

الإنفلات الأمني وانعدام الاستقرار خلق حالةً من شريعة الغاب في السويداء في عهد الأسد الابن وفي سنوات الحرب، إذ صار كل طرف يأخذ حقه بيده، مع فقدان الأمل بالضابطة العدلية والشرطية والأمنية والقضائية، فساد عرف المحاسبة العشائرية القاسي. 

ومن بين تلك الأعراف تشكيل دوريات ليلية في القرى والمحافظة، ففي قرية مياماس تمكّن عناصر من القرية من القبض على لصوص دراجات نارية وقاموا بتصويرهم ونشر صورهم وعرضهم على الرئاسة الروحية للطائفة لاتخاذ قرار بشأنهم. وبشكل شبه يومي كانت تحصل أمور مشابهة، والنظام أذن من طين وأخرى من عجين، وكل ذلك زاد في رصيد رغبة إسقاطه لدى سكّان المدينة.

البرودة الاستراتيجية

حصلت نحو 250 جريمة قتل منذ مطلع عام 2024 الجاري في المحافظات التي كانت تسيطر عليها الحكومة وحتى سقوط النظام. كانت حصّة السويداء منها أكثر من 60 جريمة قتل، توزعت ما بين جرائم شرف وسرقة واغتيال وغير ذلك.

اتبع النظام سياسة البرودة الاستراتيجية والتي تتسم بالهدوء وعدم اتخاذ خيار التصعيد والمواجهة العسكرية والحفاظ على سلمية الحراك لئلا يخسر واحداً من أقوى أوراقه التي يقدمها في المحافل الدولية بكونه حامياً للأقليات.

وكانت نهاية تلك البرودة الاستراتيجية إزاحة نظامٍ أثقل كاهل السوريين لعقود طويلة دون إراقة دماء، وتنفست سوريا ومعها السويداء الصعداء في فجر حريةٍ جديد يأمل الجميع أن يكون على قدر الحلم والطموح والتضحيات الجسام التي قدمتها كل الأطراف على مدار العقود الماضية. 

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا