تدريباتنا

المؤونة في سوريا أصبحت ترفاً

by | Sep 24, 2020

تنهمك في شهر أيلول أيادي ربات البيوت السوريات في إعداد المؤونة، ويسبق هذه العملية أسابيع طويلة من التحضير وخطوات كثيرة، تبدأ بشراء أطنان من أكياس الطماطم والخيار وأوراق الملوخية والبازلاء والفول الأخضر وسواها، مروراً بنزع القشور عنها ثم جمعها وتجميدها. ولمن لا يعرف بيت المؤونة، فهو عبارة عن ركن، يشترط أن يبنى في منطقة أخفض من باقي أرجاء المنزل، على أن يكون بارداً وغير مشمس، يُتخذ كمستودع لتخزين الطعام، تحفظ فيه شتى أنواع المأكولات الشتوية. ويتصدر المكدوس، طليعة هذه الأطعمة التي تُوضع على موائد العائلات السورية ولصنعه، يتوجب على النساء سلق كميات هائلة من الباذنجان بما يتناسب مع أعداد أفراد الأسرة، وتلطيخ أيديهن في خليط ممزوج من الفليفلة الحمراء الحارة وقطع الجوز المفروم، إلى أن تستشعر أصابعهن الناعمة طعم الخريف.

اعتاد السوريون في مطلع شهر أيلول من كل عام على ممارسة هذا الطقس الجماعي كعادة شعبية منذ عقود عديدة، فيبدأون باقتناء بعض البقوليات والخضار والفواكه وتخزينها في الثلاجة حديثاً، وبيت المؤونة سابقاً، لتناولها في فصل الشتاء. غير أن موجة الغلاء الأخيرة حالت دون قدرة البعض على تموين الطعام، لاسيما أنه جاء بالتزامن مع افتتاح المدارس وشراء الحاجيات الضرورية، ما شكل عبئاً إضافياً على كاهل الأسرة السورية.

ما أن تطأ قدمك أسواق الخضار في العاصمة دمشق، حتى تلمس الفرق الشاسع في الأسعار للصنف الواحد، بحجج الجودة والمصدر.  تساوم أم إبراهيم بحدة على سعر كيلو الفليفلة الحمراء المفرومة الذي وصل سعره إلى 6000 ليرة، متفاجئة بفارق الأسعار بين سوق وآخر لا يفصل بينهما سوى شارع واحد. تقول للبائع بصوت مرتفع: ”لسا من شوي شفتو أرخص من هيك، 3500 ليرة وأنظف من هاد،  كتير غالية هيك”. وما أن تتقدم بضعة أمتار حتى يتناهى إلى سمعك صوت بائع آخر يضيف ألف ليرة أخرى على صنف الفليفلة، وعند السؤال عن سبب الزيادة يجيب بثقة: “نخب أول، لا مثيل له في السوق، أتحداكِ أن تشتري مثله”، والأمر ينسحب على الجوز والباذنجان والبقوليات وغيرها.

تصف أم إبراهيم الأعباء المادية والمصاريف الإضافية  التي سببها إعداد المكدوس في شهر المونة (أيلول) قائلة: “أنفقت قرابة 100 ألف على تحضير 40 كغ من المكدوس، هذا المبلغ يعد باهظاً بالنسبة  لصنف واحد من أصناف المؤونة، أي يعادل قرابة راتب شهرين، هذا ما لم نتحدث عن الأنواع الأخرى، لكن لا يمكن الاستغناء عن هذا الطبق اللذيذ  في فصل الشتاء، فهو أساسي على مائدتنا.”

سياسة الاستبدال

تتجه صفاء إلى خيار أقل كلفة في محاولة منها لتقليص نفقات المونة واستثمار مواهبها التي اكتشفتها مؤخراً في الترشيد الاقتصادي التي أصبحت مجبرة على استخدامها في ظل ارتفاع مكونات طبق المكدوس، خاصة الجوز، إذ تلجأ إلى استبدال حشوة فستق العبيد عوضاً عن الجوز المفروم، وعن ذلك تقول: ”وصل سعر كغ الجوز إلى 16 ألف ليرة، وفي أماكن أخرى بلغ 25 ألف، لذلك استغنيت عنه نهائياً، واستبدلته بفستق العبيد، كبديل اقتصادي، طعمه لذيذ لكنه لا يعادل طعم الجوز، أفضل من لا شيء“. بينما ذهبت ولاء لخيار أكثر كلفة بقليل وهو استخدام  ثمرة اللوز، عوضاً عن الجوز: “فثمنه مقبول مقارنة بالأخير، فالكيلو الواحد يبلغ 4000“. بينما تضيف سيدة أخرى: “الحمد الله، ولادي مابحبو المكدوس، وفروا علي كتير مصاري”. فيما اتبعت العديد من الأسر السورية سياسة “النصف” عبر تقليص الكميات المعتادة والاكتفاء بكميات محدودة.

من جهتها، لم تصرف رجاء (معلمة في الصف الابتدائي) ليرة واحدة على تحضير المكدوس والسبب حسب قولها: “تملك عائلة زوجي شجرة جوز وأرض زراعية يزرعون فيها جميع أنواع الخضار ومنها الباذنجان ،أخذنا حصتنا، ما كنت سأعد المكدوس لو أنني سأصرف عليه مالاً.” وتضيف مازحة: “لو بقدر بيع الجوز، كنت بعتو، حقو هلق تقريباً 25 ألف”.

كورونا ترفع الأسعار

فعلت كورونا ما لم تفعله سنوات الحرب التسع في سورية، فلم تشهد البلاد مسبقاً غلاءً فاحشاً بالأسعار كالتي تعيشه الآن والذي يطال كل نواحي الحياة دون أن يقتصر على جانب واحد. يعقب شاب (رفض مشاركة اسمه) على هذا المشهد الغارق في الواقعية: “كلفة مؤونة هذا العام مضاعفة عن العام السابق، دوبلت الأسعار على خلفية كورونا بمبررات واهية كضعف الإنتاج مقابل زيادة الطلب، لاسيما مادتي الجوز والزيت إلى جانب الحصار الاقتصادي على البلاد”. بينما حذفت أم جبير فكرة مؤونة الشتاء هذا العام من قائمتها لصالح تأمين المستلزمات  الدراسية لأطفالها الأربعة، تقول السيدة: “كان علي الاختيار بين شراء القرطاسية وملابس المدرسة وتخزين الطعام لفصل الشتاء، تعليم أولادي أهم، سنعتمد هذه السنة على المحاصيل الشتوية في غذائنا”.

الكهرباء تفسد مؤونة السوريين

مع الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي لساعات متواصلة في كافة المحافظات السورية، تسبب هذا الوضع بإفساد المؤونة وتكبد السوريين لخسائر مالية لم تكن في حسبانهم، كأم خالد التي أفرغت حمولة ثلاجتها من فول وبازلياء وبامية وملوخية والتي تقدر بحوالي 200 ألف ورمتها في القمامة بعد أن تُلفت بسبب غياب الكهرباء لفترات طويلة، بينما اضطرت لينا إلى استخدام المؤونة المخزنة من لحوم وخضار وطبخها كي لا تفسد.

مواضيع ذات صلة

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد "هاني الراهب" ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه،...

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

ياسين الحافظ كاتبٌ ومفكر سياسي سوري من الطراز الرفيع، يعدُّ من المؤسسين والمنظرين للتجربة الحزبية العربية. اشترك في العديد من الأحزاب القومية واليسارية، ويعدُّ الحافظ في طليعة المفكرين التقدميين في العالم العربي، اتسم فكره بالواقعية النقدية، تحت تأثير منشأه الجغرافي...

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

مواضيع أخرى

زكريا تامر بوصلة التمرد الساخرة

زكريا تامر بوصلة التمرد الساخرة

"أكثر قصصي قسوة هي أقل قسوة من الحياة العربية المعاصرة، وأنا لا أستطيع وصف السماء بجمالها الأزرق متناسياً ما يجري تحت تلك السماء من مآس ومجازر ومهازل.. صدّقني الأسطورة أصبحت أكثر تصديقاً من واقعنا المرير" بهذا التوصيف العاصف يلخص الكاتب السوري زكريا تامر (1931) تجربته...

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد "هاني الراهب" ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه،...

افتحوا النوافذ كي يدخل هواء الحرية النقي

افتحوا النوافذ كي يدخل هواء الحرية النقي

يصدمنا الإعلام الاجتماعيّ كل يوم بمقاطع فيديو وأخبار حول امتهان كرامة الإنسان في سورية عن طريق استفزازات لفظية وعنفٍ جسديّ يُمارَس ضد أشخاص تصنّفهم الآلة الإعلامية للمرحلة الانتقالية على أنهم من "فلول النظام“ السابق. ولقد سمعنا عن أشخاص تُقتحم بيوتهم...

تدريباتنا