تدريباتنا

تصفية القضية السورية

by | Nov 24, 2017

من الصعب توقُّع ما سيحدث في المستقبل، خاصةً في وضع مُعقَّد ومركَّب كما هو في سوريا، ولقد أثبتت السنوات الأخيرة كَمْ كانت توقّعات الأطراف المختلفة مستعجلة وسطحيّة. أظنّ أنّ الأمور تتّجه إلى تسوية سياسيّة تُشرف عليها الدول التي أجَّجَت الصراع وأدارتْه وأطالتْ أمدَه حتى اليوم، تتضمّن هذه التسويةضمناًتصفية القضيّة السورية، باعتبارها قضيّة شعب طالبَ بأبسط حقوق الإنسان، وبدولةٍ فيها قدْرٌ يسيرٌ من الحرية والتعدُّدية والكرامة.

على الأرجح، سوف يعتبر النظام السوري بقاءَه الشكليّ بمثابة الانتصار، لكنْ في الحقيقة لا يوجد منتصرون في النزاعات الأهلية، فالكُلّ خاسر لأنّ بندقيته اتّجهتْ نحو الهدف الخطأ. واليوم تبدو خسارة السوريين واضحةً للمراقب الحيادي، فحين ننظر إلى خارطة البلاد نجدها مقسَّمة إلى مناطق نفوذ متعدّدة، تتحكّم بكلٍّ منها دولةٌ إقليميّة أو أجنبية، ولم يعُدْ للسورييننظاماً ومعارضةًأيُّ سلطة على أيّ منطقة في البلاد. هذا التقسيم الواقعي الذي نشهده اليوم، قد يتحوّل ضمن التسوية السياسية إلى تقسيم رسمي وقانوني، كمثل إعلان نظام فيدرالي ومناطق حكم ذاتي قد يكون لكلٍّ منها قوانينها وإدارتها وسياستها.

ربما فات الأوان لعودة سوريا دولةً موحدة ومتماسكة كما كانت عليه منذ عام 1946 وحتى 2011، فسوريا اليوم تمتلك كلّ صفات الدولة الفاشلة، وحتى لو توقّفت العمليات العسكرية، فإنّ الانقسام السياسي والمجتمعي لن يشفى في عقود. أما الحديث عن عودة الاستقرار، فقد يتحقق نوعٌ من الاستقرار في الكثير من المناطق، لكنه سيأخذ شكلَ الاستقرار الكاذب أو الاستقرار القمعي القهري. وهنا أستشهد بدولة العراق بعد الغزو الأمريكي، فبالرغم من إجراء انتخابات نيابيّة وتشكيل حكومات، وإنشاء جيش جديد وقوات شرطة، وكذلك خروج القوات الأمريكية أواخر عام 2011، لكنّ الاستقرار الفعلي لم يحدث. وذلك لأنّ أسباب الانفجار الأمني والصراع السياسي ما زالت قائمة، ومن بينها الفساد والتمييز الطائفي وغياب العدالة الاجتماعية.

لقد كان الحلّ المناسب للأزمة السورية موجوداً في النقاط الستّ التي وضعهاكوفي عنانفي نيسان 2012، وتبنّاها مجلس الأمن الدولي بالقرار رقم (2042). لكنْ لم توجدْ إرادة دولية آنذاك لتطبيقه، ولا تبدو التوافقات الدولية اليوم بأحسن حالاً مما كانت عليه قبل خمس سنوات.

ولذلك، فأنا لا أرى في الأفق المنظور وصفةً مناسبة لإنقاذ البلاد من الانقسام والتبعيّة للخارج، أو لرَأْب الصَّدْع المجتمعي. لكنْ ثمة أمورٌ يجب العمل عليها من أجل تخفيف أضرار الحرب، وتلافي تكرار بعضها. من أهمّها العمل الحقوقي، وما أقصده بالضبط هو متابعة توثيق الجرائم والانتهاكات، وإعداد ملفات قانونية بحقّ مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، واستغلال أيّ فرصة أو إمكانيّة لملاحقتهم أمام محاكم الدول الأجنبية أو أمام محكمة دوليّة خاصة بسوريا في حال إنشائها. يجب أنْ تبقى هذه الملفات جاهزة وحاضرة كأداة ضغط على الدول التي تحمي هؤلاء المجرمين.

وينبغي علينا كسوريينفي الداخل والخارجإعادة إحياء المجتمع المدني، من منظمات وجمعيات ونقابات، بعيداً عن التمويل الخارجي وأجنداته التي شَرَختْ المجتمع المدني، وحوّلته إلى أجزاء متشظّية ومتناحرة.

ومع أنني أتجنّب الحديث عن دور المثقف، نظراً لاتساع هذا المصطلح ومُرُونته وتقلْقُله، فقد لفَتَ نظري في السنوات الأخيرة أننا لم نتركْ فرصة لذمّ المثقف وتحقيره إلّا واستخدمناها، وكأنّ لدينا شعوراً جمعيّاً يُعادي الثقافة ويُحابي الجهل والسذاجة. وأذكُر بعضاً من ظواهرنا المضحكة؛ كأنْ يشتُم أحدهم المثقفين لكي يُثبت أنه مثقف، أو يشتُم المثقفين وهو يعمل ويُصِرّ على العمل في المجال الثقافي.  إذا كان هناك دور للمثقف لا بدَّ من الحديث عنه، فإنه لنْ يتحقّق إلا عندما يبني المثقف مواقفه ورؤاه على أساسٍ معرفيّ، لا على أساس تبعيّته لهذه الجهة السياسيّة أو تلك، ولا على مبدأ مُحاباة الشارع وتملُّقه والسير على هَوَاه. وكما ترى، فقد انحدر عددٌ من المثقفينخاصةً المعارضين منهمإلى أدنى درجات الشعبويّة والغوغائية، إرضاءً لعواطف شريحة من الشعب السوري، يحسَبُون أنها تمثّل الشعب بأكمله.

وليس بعيداً عن العمل الحقوقي والمدني والثقافي، ولا عن الإعلام والسوشال ميديا، لم يعدْ بالإمكان الـمُسَاومة أو التهاون في قضايا الـمُوَاطنة والعَلْمانية، وليس من المقبول مراعاة مشاعر أحد عندما يتعلّق الأمر بالمصلحة العامة، وبـوصفات طبيةأثبتَ العلم والتجربة نجاعتها. صحيح أن المنابر العربية المؤثرة محجوزة لرجال السياسة ورجال الدين، وكلاهما لا يُؤتمن له جانب، لكنْ ما زال هناك مَنْ يحاول الحفرَ في الصخر، لعلَّهُ يُحدِث تأثيراً ما. وبالطبع، فإنّ أيّ تغييرات على مستوى الوعي الاجتماعي تحتاج إلى سنوات، وإلى الجرأة والجدّية والمثابرة.

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

ينتظر السوريون في الأسابيع المقبلة بفارغ الصبر وفق تصريحات حكومية انطلاق المشغل الخلوي الثالث "وفا تيليكوم" المرتبط بإيران التي ستدخل على خط الاستحواذ في قطاع الاتصالات الحساس والذي ظلّ حكراً على متنفذي السلطة لعقود. من خلال التواصل المباشر مع مصادر متعددة من داخل...

تدريباتنا