في أحد أشدّ أيام سوريا حساسيةً وأكثر مفاصلها تعقيداً، تحديداً في اليوم الرابع...
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...

أعرف جرمانا جيداً، كنت أحب الذهاب إليها وقضيتُ فيها أوقاتاً ممتعة في منازل أصدقاء ما يزالون يسكنون هناك، وفي القلب. كانت أحياناً سهرات صاخبة تتخللها اختلافات في الرأي ونرفزة وصياح ومقاطعة كعادة السوريين في الحوارات السياسية في إطار اختلافٍ في الآراء لا يفسد للود قضية. وكنا نعود في أوقات متأخرة من الليل متفقين على اللقاء في بيت آخر لنكمل الحوار الذي لم يُحسم، أو لنستمع إلى قصائد جديدة لشاعر صديق. كانت جلسات المنازل أكثر راحة لتبادل الآراء في الأدب والسياسة بعيداً عن آذان مخبري العهد المتبخّر، الذين مُنحوا سلطة مطلقة غير قانونية على رقاب الناس في المقاهي والمطاعم.
حين قرأتُ في الإعلام التصريحات الأخيرة لرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، المتهم بارتكاب جرائم حرب، والذي يعدّ نفسه رئيسَ بعثة تبشيرية للتقدّم الغربي في عالم يتسم بالإرهاب والتخلف، كما يروّج في خطاباته، اختلط لديّ الشخصي بالموضوعي، وثار غضبي من هذه التصريحات الملغومة التي تهدف إلى إذكاء نار الفتنة.
ثمة من يصطاد في الماء العكر، على الإعلام الاجتماعي، مستغلاً هذه التصريحات للتشكيك بوطنية الآخرين، ولا شك أن اصطياداً كهذا يعكس ذهنية طائفية منحطة تهدف إلى تخريب النسيج الجوهري للخارطة السورية الذي يشكل فيه ”بنو معروف“ أحد أجزاء القلب السوري. والجدير بالذكر أن سوريي السويداء خطّوا ملحمة فريدة في النضال المدني اللاعنفي ضد نظام بشار الأسد يثير الإعجاب، ويُضْرب به المثل، وتحمّلوا الحصار وشظف العيش، كي يوصلوا رسالتهم للسوريين كافة بأنه لا خيار إلا في حياة كريمة مشتركة مع السوريين كلهم في إطار نظام ديمقراطي حقيقي، بعيداً عن المصطلحات التي تسمم عالمنا.
أن يصرح رئيس وزراء من طينة نتنياهو ووزير دفاعه كاتس أنهما أصدرا الأوامر للجيش الإسرائيلي كي يستعدّ للدفاع عن جرمانا في العاصمة دمشق لهي مهزلة القرن الواحد والعشرين، وأمر يستدعي الضحك والسخرية، إذ كيف لمن تلطخت يداه بدم الأطفال والنساء والشيوخ وهادم البيوت فوق رؤوس سكانها، وقاتل ٤٥ ألف فلسطيني، هذا من دون أن نحصي اللبنانيين والسوريين الذين قُتلوا في الغارات داخل سوريا، كيف يمتلك هذه الجرأة- المسخرة، ويعلن جاهزيته للدفاع عن جرمانا. ليست هذه إلا بلاغة كاذبة وجوفاء ذلك أن نتيناهو ومن لفّ لفه لا تهمه سلامة أحد من السوريين، وهو الذي تفوح منه رائحة العنصرية الصهيونية، كما يعرف ذلك الموحدون الدروز قبل غيرهم. إن ما يهمّه بالدرجة الأولى هو الأرض السورية والماء السوري والثروات السورية وربما في النهاية اليد العاملة السورية، في ظل تفكّكٍ وركوعٍ واقتتالٍ بين السوريين. لكن هذا التصريح يحمل في طياته ما يحمل، ذلك أنه رسالة صريحة للقوى الدينية والسياسية في سوريا وللسوريين كلهم بأن إسرائيل، بعد ٢٠١١، وفي أعقاب حرب التدمير في غزة وجنوب لبنان، صارت ”سلطان“ الأراضي السورية التي تقع في الجنوب، وهذا يعني أن الجغرافية السورية صارت مقسمة في ضوء الأوضاع القائمة بين أراض واقعة في شرق سوريا تحت سيطرة ”السلطان“ التركي حيث يحشد الجيش التركي قواته، و“السلطان“ اليهودي الذي انتهك الاتفاقيات والترتيبات الأمنية في الجنوب. ذلك أن الأتراك، الذين يدعمون التحول السياسي القائم في سوريا، المتمثل في منح كرسي الحكم لهيئة تحرير الشام والتنظيمات المنضوية في عملية ردع العنوان، في إطار الصفقة السياسية الكبرى التي ما تزال تفاصيلها طيّ الكتمان، يتحركون من جهة فيما الإسرئيليون يتحركون من جهة أخرى لإحكام السيطرة على الجغرافية السورية إلا أن تصريح نتنياهو الماكر يلعب على وتر التوازنات الطائفية، موهماً من يريد أن يفهم خطأ بأن مكوناً ما هو تحت حمايته، كما لو أن أبناء هذا المكون يقبلون بأن يحميهم مجرم حرب يطلق التصريحات من أجل توجيه المزيد من الضربات للنسيج السوري المثقل بالجراح.
بدأت القصة في عهد رأس النظام الفار الذي أبدى جبناً فاضحاً في وجه انتهاكات إسرائيل شبه اليومية للمجال الجوي السوري، وفي وجه الإنزال العسكري المهين في قلب مصياف، بينما وجّه قواته وبراميله وجنرالاته، الذين كانوا يطيعونه طاعة عمياء، للبطش منذ البداية بمعارضي حكمه، الأمر الذي تطوّر إلى حرب حقيقية في الداخل على أنقاض هوامش المدن حيث اندلعت الانتفاضة المدنية قبل أن يسطو عليها ويركب موجتها الأصوليون.
اخترق الطيران الحربي الإسرائيلي المجال الجوي السوري واللبناني وعربد في السماء السورية قاصفاً على هواه، وكانت عملية التدمير الكبرى في أعقاب فرار بشار الأسد إلى موسكو. كانت البداية غارات متلاحقة طالت المدن السورية كلها وسط تواطؤ روسي وعجز إيراني ولامبالاة عربية بخطورة هذه الرسالة التي قالت للعرب بالبنط العريض إن اختراق المجال الجوي السوري يعني أن أجواءكم كلها تحت مؤخراتنا. ثم أُرسلت الرسالة من جديد في عهد القوى التي استولت على السلطة في دمشق وتم تدمير معدات الجيش السوري كلها، وانتُهكت الأرض السورية من جديد وسط صمت لم تعكر صفوه كلمة استنكار أو إدانة واحدة.
والآن تأتي الرسالة مرة أخرى بشكل استفزازي، كما لو أن جرمانا مستوطنة إسرائيلية، لكن الرسالة المضادة تأتي من السويداء، ومن سكان جرمانا أنفسهم، الرافضين لحماية مجرم حرب مطلوب لمحكمة الجنايات الدولية، وهذا هو الموقف الوطني النبيل لبني معروف على مدار التاريخ السوري.
إن الردّ السوريّ الحقيقي الوحيد الفعال على هذه التصريحات المريبة، وللتخلص من بلاغة لا تجد في قاموسها إلا كلمة فلول لشيطنة الآخرين وتسريحهم من وظائفهم، هو بناء دولة ديمقراطية حقيقية قوية تمثل سوريا كلها خارج الاستئثار بالسلطة والتوجهات الديكتاتورية العسكرية والفصائلية الأحادية التي دفع ثمنها السوريون كلهم، بطريقة أو أخرى، في عهد الأسد من دمهم ورفاههم.
مواضيع ذات صلة
مواضيع أخرى
تدريباتنا
فوضى الإعلام والحاجة إلى شاشاتٍ وطنيةٍ موثوقة
في أحد أشدّ أيام سوريا حساسيةً وأكثر مفاصلها تعقيداً، تحديداً في اليوم الرابع...
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...