تدريباتنا

سلام الكواكبي: “اليسار إما مستقطبٌ سلطوياً أو نخبوي مرضي”

by | Jan 28, 2019

*ينشر هذا الحوار ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟

لا شك أنّ انهيار المنظومة الاشتراكيّة، وخصوصًا الاتّحاد السوفيتيّ، شكّل مفصلاً هاماً في التحوّلات التي شهدتها تيّارات اليسار العربيّ عامّة، والسوريّ على وجه الخصوص. لدرجة أنّ المفكر اليساريّ الراحل سلامة كيلة رأى أنّ هذا اليسار دخل “أزمة موت.” وفي سوريا التي انتفض شعبها ضدّ الاستبداد والطغيان في آذار/ مارس 2011 بقي اليسار “في الهامش”، وتجاوز الربيع السوريّ اليسار القائم في البلاد، خاصّة بعد انحدار وضع الأغلبية المجتمعية نحو الفقر والبطالة والتهميش ما أدى إلى أن تكون كلّ قوى اليسار في سوريا بعيدة عن الشعب.

وللوقوف على واقع الحال وأسبابه ومآلاته التقينا مع الكاتب والباحث الأكاديميّ في العلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة سلام الكواكبي، المدير التنفيذي للمركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات في باريس، ومدير بحوث ونائب مدير سابق في «مبادرة الإصلاح العربيّ» المهتمة بحركة المجتمع المدني.

 

غسان ناصر: أبدأ معكم بسؤالكم: ما الذي تبقى اليوم من “يساريّة” اليسار السوريّ؟ 

سلام الكواكبي: أخشى أن أجيب بأنّ مختلف العوامل تكاتفت على إجهاض التيّار اليساريّ السوريّ بمختلف تنويعاته منذ أمد بعيد نسبيًّا. وكذلك يؤسفني أن أشدّد على أنّ من ساهم بشكل فاعل في هذه العمليّة، هو البنية التكوينيّة هشة التقاليد الديمقراطيّة للأحزاب والجماعات اليساريّة من جهة، وكما هم بعض رموز اليسار نفسه من جهة أخرى. فالبنية الأساسيّة، قامت على قواعد غير متمكنة من المفاهيم الأساسيّة المكونة لحركة اليسار تاريخيًّا عدا استثناءات بأسمائها تم تهميشها أو القضاء عليها رمزيًّا. وصارت التجارب التوتاليتاريّة في الدول التي اغتصبت مفاهيم اليسار، وطوّرت له ممارسات شاذة، هي المرجعيّة لدى الكثير من اليسار السوريّ. أما وقد مرّ على البلاد عقود من الممارسات الأمنوقراطيّة، فقد صار اليسار مهجّرًا أو مسجونًا أو شهيدًا. ومن تبقى في المشهد العامّ، فقد كان إمّا مستقطبًا سلطويًّا أو مصابًا بنخبويّة مرضيّة عزلته عن حس وحراك المجتمع.

غسان ناصر: برأيك إلى أيّ مدى كان هذا اليسار فاعلًا في الحياة السياسيّة العامّة في سوريا بعد انقلاب 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970؟

سلام الكواكبي: لقد كان مفعولًا به ومقسّمًا ومشتتًا في الإطار العامّ. أمّا الحديث عن يساريّة الحزب الحاكم، فهو يخرجنا من الجديّة في الطرح لما من ممارساته من صفات متعدّدة لا يمكن أن تكون اليساريّة إحداها. فهي رأسماليّة الدولة الأمنوقراطيّة الزبائنيّة. ولا يمكن ربطها باليسار بأيّة صورة ولو ساهم في ذلك كتّاب السورياليّة الكبار.

أمّا الشيوعيّون الرسميّون، فإضافة إلى فساد جزء لا بأس من قياداتهم، وانصياع الجزء الآخر للخوف المهيمن، وانشقاق الجزء النقيّ ليجد نفسه مسجونًا أو منتهكًا بكلِّ الأساليب، فتجربتهم السوريّة تحتاج إلى مجلدات لا تفوح منها روائح مريحة البتة للأسف الشديد. من ظلَّ متمسكًا بمبادئه، كالماسك على الجمرة براحة الكف، فألمه لا يمكن وصفه، وتشفّي “رفاقه” النظريين به يُعتبر جزءًا لا يتجزأ من الثقافة السياسيّة التي هيمنت على المشهد السوريّ. وعلى الرغم من هذا المشهد السلبيّ للغاية، إلّا أنّ الحراك الداخليّ الوحيد الفاعل سلميًّا بعيدًا عن التجربة العسكريّة للإخوان المسلمين، كان يعتمد على الأنقياء في المجموعات اليساريّة التي غلب عليها طابع العمل السريّ والهروب المستمر من الرقابة الأمنيّة. ولكن فعاليّته لا تُذكر إلّا من خلال الإنتاج الفكريّ المتميّز. لبعض رموزه وعلى الرغم من محدوديّة انتشاره.

 

غياب ممارسة النقد..

غسان ناصر: ماذا عن حضور اليسار النظريّ، بعد كلِّ القمع الذي تعرض له، والفشل الديمقراطيّ العلمانيّ المتراكم في سوريا؟ والعلاقة غير السويّة بين الأحزاب اليساريّة خاصّة رابطة العمل الشيوعيّ (صار اسمها “حزب العمل الشيوعيّ”) والحزب الشيوعيّ السوريّ – المكتب السياسيّ (صار اسمه “حزب الشعب الديمقراطيّ”)؟

سلام الكواكبي: في الأساس، فإنّ العلاقة غير السويّة والتنافسيّة بطريقة الإلغاء وغير الديمقراطيّة بين مختلف رموزه ساهمت بشدة في إضعافه وفي إستضعافه. أمّا الحضور النظريّ، فقد عابه عدم ممارسته النقد، ليس الذاتيّ، فهو مطلب كبير في الثقافة المشرقيّة، بل نقد تجارب الدول التي شوهت اليسار عبر الممارسات الشموليّة المكتنزة فسادًا وقمعًا في بلدان مرجعيّته كالاتّحاد السوفييتيّ ومن دار في مساره. ومن تمت ملاحقتهم وسجنهم، فإن كان ليس من الانصاف انتقادهم عمومًا، لكنّهم في المشهد السوريّ يستحقون الإشارة إلى ممارساتهم الفرديّة وسعيهم لفرض آرائهم على مجمل المشهد الحزبيّ الذي انتموا إليه. كما برز ضعف هيكلي في عمليّة تطوير الفكر اليساريّ النظري ليُجاري الواقع الاقتصاديّ والاجتماعيّ والدينيّ المحليّ.

غسان ناصر: هل كان لقوى اليسار حضور في الأوساط العماليّة والفلاحيّة ما قبل الثورة، أم كانت بعيدة عن القاعدة الاجتماعيّة في عموم سوريا؟

سلام الكواكبي: اُحيل إلى كتابات المؤرخ المُجدّ أطال الله في عمره الدكتور عبد الله حنا للسعي إلى الحصول على إجابة دقيقة لا أمتلكها حول هذا التصنيف. لكنّني أعتقد بتحفّظ شديد، بأنّ الحَضور، ولأسباب موضوعيّة متشابكة، كان ملموسًا أكثر في الأوساط العماليّة عمومًا، وفي بعض الأوساط الفلاحيّة المتميّزة دينيًّا واثنيًّا.

غسان ناصر: هل استطاعت قوى اليسار أن تؤثر فكريًّا في الثقافة وتجذب الأجيال الجديدة؟

سلام الكواكبي: الجزء الأكبر من المثقّفين السوريّين يعرف نفسه باليساريّ ولكن دون أن يعرف جزء منهم ربما ما هي المعايير الدقيقة لهذا التعريف. وعمومًا، فاليسار السوريّ أنتج أدبًا وفنًا أكثر مما أُتيح له أن يُنتج فكرًا لخضوعه لمناخ مهيمن تمتزج فيه التسلطيّة السياسيّة والأمنيّة مع التركيبة الدينيّة المحافظة التي ارتاح لانهماكها في العبادات وتفاصيلها أهل الحلّ والعقد من أصحاب الرتب أو أصحاب اللحى.

 

اليسار كونيًّا في أزمة نظريّة وعمليّة..

غسان ناصر: أسألكم عن موقف اليسار من الأزمة السوريّة. وماذا عن الأحزاب اليساريّة التي أعلنت عن ميلادها خلال سنوات الثورة مثل (حزب اليسار الديمقراطيّ السوريّ)؟

سلام الكواكبي: ضعف اليسار السوريّ أدى به إلى خيارين أحلاهما مرّ: الأوّل، القبول بإملاءات قوى محافظة والخضوع لها في محاولة غير ذكّيّة لتبنّي الواقعيّة السياسيّة من جهة. والثاني، رفض الانخراط في العمل العامّ تأنفًا أو ترفّعًا أو تكبّرًا، والقفز في كلِّ شاردة وواردة لادّعاء امتلاك الحقّ ومعرفة مآل الفشل المتوقع وتقريع الآخرين بالقبول بفتات الموائد. وعمومًا، فالتشكيلات السياسيّة اليساريّة الجديدة لا يمكن أن يكون لها أيّة فاعلية في ظلِّ الانسحاب الجماعيّ للشباب من المشهد الحزبيّ والتوجه أكثر فأكثر نحو التجمعات المدنيّة. الانتماء إلى أيّ حزب صار أمرًا غير مغري على الصعيد الفكريّ والصعيد السياسيّ.

غسان ناصر: أين اليسار العربيّ الدوليّ من دعم الثورة السوريّة؟

سلام الكواكبي: اليسار كونيًّا في أزمة نظريّة وعمليّة، وعندما نتابع بعض مواقفه من قضايا تحرر الشعوب من الطغيان، نكاد نقول بأنّ الجانب الأخلاقيّ يمكن أن يُضاف إلى مكوّنات أزمته. فالتجربة البافلوفيّة المرتبطة بتصرفات الحيوان الجائع، وجدت لها مرتعًا خصبًا في مواقف وردود أفعال الكثير من أصحاب اليسار الأوروبيّ عمومًا والعربيّ خصوصًا تجاه الثورة السوريّة. يكفي أن نراجع في عجالة مواقف اليسار التونسيّ أو المغربيّ أو الجزائريّ، لنجد منطقًا بافلوفيًّا هائل التخلي عن المعايير الأخلاقيّة والإنسانيّة، ليتشبث بمفاهيم حجريّة تربط أوتوماتيكيًّا بين نظريّة المؤامرة وبين الإمبرياليّة وبين الإسلاميّة. وكما أنّ السعي إلى الحرّيّة والعدالة يُعتبر نظريًّا من ركائز فكر اليسار، إلّا أنّ النوم تحت بسطار العسكر والطغيان أثبت بأنّه الأكثر ممارسة ممن يدّعون وصلًا باليسار في الدول العربيّة. ما هو منتظر نظريًّا من المنتمين إلى اليسار في أن يكونوا مؤمنين بمفاهيم الحرّيّة والعدالة لأنفسهم ولأقرانهم، غاب تمامًا عن تصريحات وأفعال اليسار العربيّ الذي طالما تناول زعماؤه الطعام على موائد الطغاة من صدام حسين وصولًا إلى القذافي. وأكاد أن أجد في اليسار الأوروبيّ تميّزًا عن اليسار العربيّ في هذا المجال بحيث نجد فئات تروتسكيّة أو يساريّة معتدلة أو من ينتمون إلى “الخضر” هم من مناصري الربيع السوريّ الموؤد. في حين، من النادر أن نجد مجموعات سياسيّة يساريّة عربيّة تتبنى هذا الموقف. ربما نجد أفرادًا.

غسان ناصر: أخيرًا، برأيكم هل يمكن اليوم تأسيس يسار سوريّ جديد يحاكي تطلعات وآمال الشعب السوريّ الذي يواصل نضاله من أجل الحرّيّة والعدالة والمساواة في سوريا الجديدة؟

سلام الكواكبي: الحلّ الوحيد، إن كان من حلّ يومًا ما، هو أن يُعيد اليسار إنتاج نفسه من خلال التبنّي الكامل للديمقراطيّة، رغم عدم مثاليّتها وإشكاليّاتها وضرورة إعادة إنتاجها هي نفسها في ظلِّ الخيبات الجديدة في المشهد الكونيّ. قيم الحرّيّة والعدالة والمساواة، كما قيم الحقوق البشريّة والدفاع المبدئيّ، وليس الانتقائيّ، عنها، هي من صلب تعريف اليسار كما أراه. إنّ النمط القائم على احترام الحرّيّات وتطوير العدالة الاجتماعيّة قانونًا وممارسةً هو الأفضل لإنقاذ ما تبقى من يسار.

اليسار الفرنسيّ الذي حكم لعشرات السنين، انهار بصورة كرتونيّة في السنوات الأخيرة، فانبثق عنه متطرفون شعبويّون سرعان ما انضمّ جزء منهم إلى يمين متطرف عنصريّ لضعف تكوينيّ وهشاشة في الوعي. واليوم، تنطلق حركات يساريّة مزجت في مبادئها الحرّيّة والعدالة وحماية البيئة الكونيّة وليس الوطنيّة فحسب، وذلك على اكتاف مجموعات شبابيّة تستند إلى مقومات فكريّة واعية كحركة الفيلسوف الشاب رافائيل غلوكسمان الجديدة.

أختم بالقول بأنّ اليسار الديمقراطيّ الاجتماعيّ هو الحلّ الأنسب لمشاكل المجتمعات قاطبة.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا