تدريباتنا

رأس السنة في دمشق… حفلة على الناشف

by | Dec 30, 2021

“أحلى السهرات مع الفنان الكبير والراقصة جيجي”، “المقاعد محدودة وأيام قليلة تفصلنا عن بداية الـ ٢٠٢٢”،  “ما بقي إلا القليل لتخلص 2021 خلصها بفرح، للحجز والاستفسار الاتصال على الأرقام التالية”،   “أحلى السهرات بالميلاد ورأس السنة مع الصوت العذب واللحن الجميل”.
هذه جملة اقتباسات بدأت تنتشر في شوارع كل المدن السورية التي تعيش تقنينَ كل شيء. كم مواطن ومواطنة مرّوا من أمام هذه اللافتات والإعلانات دون أن ينتبهوا لها ومشاغلهم تقتصر على توفير الغاز والكهرباء؟ وكم مواطن ومواطنة تساءلوا في سرّهم عمّن سيحضر الطبل والزمر في بلاد ترقص بلا دف؟ وكم مواطن ومواطنة همّوا في مراسلة الجهة المنظّمة للسؤال عن مقعد بالقرب من “البيست”؟ هل على المواطن أن يعيش فقط هموم وقود التدفئة والحرب؟ ما المشكلة لو رقصت الطالبات وتمايل الطلاب لليلة واحدة فقط دون التفكير بالغد المجهول؟ في البلاد التي تعيش كل أشكال التناقض كل شيء ممكن.

فوق 200 ألف
بداية كانون الأول (ديسبمر)، ارتفع سعر كل شيء إلا المواطن/ة، بدأ يخفّ سعره ووزنه وتنقص فيتاميناته بسبب قلة الغذاء والخضار والفواكه التي تبشر الجهات المعنية في تصريحاتها للإعلام أن أسعارها سترتفع 15% في المحال التجارية وبيع المفرق. كيف ستكون حاضرة على موائد رأس السنة هذا العام؟.
يتحدث جورج البالغ من العمر 40 عاماً وهو واحد من منظّمي الحفلات في مطاعم دمشق القديمة لـ “صالون سوريا”: “تسعيرة الدخول إلى حفل رأس السنة هذا العام تبدأ من 60 ألف ليرة سورية وتصل إلى الـ 200 ألف”. وهو يتحدث عن الحفلات التي ينظّمها والتي تتضمن وجبة دجاج ومشروب روحي ونرجيلة ومطرب من الدرجة الثانية أو الثالثة، أي أنه غير معروف. ويشير جورج إلى أن الأسعار ارتفعت عن العام الماضي ما يقارب 100% وأكثر، حيث بلغ سعر أعلى بطاقة 75 ألف ليرة سورية. في أحد المطاعم الفخمة في العاصمة دمشق، تبدأ أسعار البطاقات بـ 200 ألف ليرة سورية للشخص الواحد، وتصل لل300 ألف ليرة للطاولات القريبة من المطرب. وتتضمن وجبة عشاء كاملة وكل أنواع المشروبات، ومع ذلك يشير أحد العمال في المطعم إلى أن هامش الربح قليل جداً، لكن لا توجد خسارة بالطبع لأصحاب المنشأت.
وبين الـ60 ألف وال200 ألف ليرة سورية، هنا في شرق العاصمة دمشق أماكن للرقص والكأس فقط. وتعتبر اليوم للشباب والشابات الفقراء، أي ذوي الدخل المحدود والعازبين/ات، ممن يريدون أن يودعوا عامهم برقصة مع الحبيب/ة ع الناشف “أي دون عشاء وبكأس واحد”، على حد تعبير علي 30 عاماً وهو مستثمر أحد البارات في باب توما، “40 ألف ليرة سورية” أي حوالي نصف راتب موظف/ة بعد الزيادة الأخيرة، هي ثمن دخول أرخص البارات بمشروب واحد لليلة رأس السنة، لكن هنا الرقص ببلاش، يمكن للشباب والشابات الرقص حتى الصباح ولا أجور على كل هزة خصر يميناً ويساراً.

سهار بعد سهار!
كيف سيقضي بعض السوريين والسوريات رأس السنة هذا العام؟ ومن سيطرق باب أماكن السهر؟ وكيف سترقص الناس هذا العام في بلاد التقنين؟ لا يقتصر الاحتفال برأس السنة الجديدة على طائفة معينة فقط، فالجميع يشارك في الاحتفال على طريقته.
تنوعت الإجابات واختلفت الأسباب بين من سيرقص على أمنية أن تكون هذه الرقصة الأخيرة له في البلاد، ويودع 2022 تحت برج خليفة أو في أحد الدول الأوربية. أحمد 23 سنة طالب في كلية طب الأسنان بجامعة دمشق، قام هو وأصدقاؤه بحجز أماكن في أحد بارات باب توما بتكلفة 40 ألف للشخص، ومع أن أحمد لم يبدأ العمل ومازال يدرس فقط، إلا أنه قرر وزملاؤه منذ شهرين أن يلملموا بعض النقود من مصروفهم الشخصي ليحتفلوا في هذا اليوم مع بعضهم البعض. سيسهر أحمد ويشرب نخب البلاد المتعبة ويقرع الكأس مع الرفاق على أمل ولادة جديدة خارج حدود الوطن. حال أحمد كحال الكثير من الشباب والشابات الذين اقتصدوا بمصاريفهم مدة أشهر ليستطيعوا الاحتفال بنهاية العام. أما نهى 33 عاماً وهي موظفة حكومية فستخرج مع زميلتها في السكن للسير في شوارع دمشق بعد منتصف الليل ومراقبة الناس لأن وضعها المادي لا يسمح لها بأن تسهر خارج منزلها. و ككل عام ستقوم مع شريكتها في السكن بتحضير بعض المأكولات المتعارف عليها “تبولة، سلطات، دجاج مشوي”. إذ أن إعداد الدجاج بات يتطلّب مناسبة واحتفالاً ولم يعد شراؤه في الأيام العادية ممكناً.
هذه الحالات هي نماذج قليلة من شريحة باتت تتجاوز ربما الـ 70% من تعداد السوريين. لكن رغم كل وجع دمشق هناك وجه آخر للحياة، حيث يتسابق فيه الناس للحصول على مقعد في حفلات “الكلاس” ومحلات الخمس نجوم. إبراهيم، أحد التجار في دمشق سيدفع مليوني ليرة سورية مقابل أن يحضر حفلاً مع عائلته في مطعم خمس نجوم ليلة رأس السنة. ويرى أن هذا الرقم منطقي في ظل تدهور الليرة السورية الحالي أمام سعر الصرف وأن أي مواطن سيدخل إلى بيته عشاء عادياً لا تتخلّله لحوم حمراء، سيدفع 150 ألف ليرة سورية تغطّي عشاء شخصين فقط.
الدكتورة سحر 32 عاماً تعتقد أن الأوضاع تتيح للجميع أن يحتفلوا كلّ على طريقته وبحسب دخله ومستواه المعيشي، وهي ستسطيع بدخلها وبمستوى معيشتها مع زوجها أن تحتفل في أغلى مطاعم دمشق وستستمتع بنتاج عمل وجهد بذلته طوال العام. كما أنها تحب أن تستقبل العام الجديد في أفخم الأماكن وتتمنى لو كان بإمكان كل السوريين أن يحتفلوا في أماكن فاخرة. ستدفع سحر ما يقارب 4 ملايين ليرة سورية هي وعائلتها وعائلة زوجها أيضاً، وتقول “عادي”!

أطلال الماضي!
كل سنة، وعند الساعة الثانية عشر يقبّل الجميع بعضهم البعض على أمل الخير والقادم الأفضل. في سوريا وقبل الحرب تحديداً منذ 11 عام ، كان الكل يحتفل على طريقته ولا رائحة تعلو على رائحة الشواء والبطاطا المقلية وغيرها. تقف أم غسان 55 عاماً على أطلال الماضي وتتذكر “جمعة” عائلتها وأبنائها وكيف أن عشاء رأس السنة مما لذّ وطاب في العام 2010 بلغت تكلفته 10000 آلاف ليرة في قريتها غرب حمص. وعند الساعة 12 تماماً يدخل الجيران إلى بيوت بعضهم البعض للمعايدة “ع الحارك” ويرقص الشباب والشابات في الشارع. لا ممنوع أو عيب أو حتى غالي. أما هذا العام فيقتصر عشاء رأس السنة على البرتقال والقليل من الموالح العادية وكأس مشروب من صنع يديها ويدي زوجها، أما الأولاد فكلّهم خارج البلاد يحتفلون على طريقتهم وستنتظر مكالمة جماعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
“من زمان، كيف كنا، ووين صرنا، بتتذكروا” جميعها مفردات يتعكز عليها السوريون والسوريات للبقاء على قيد الحياة كل عام، وعلى أبواب 2022 أمنيات السلام للشام.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا