تدريباتنا

زيارة الى بيت نزار قباني

by | Mar 16, 2022

في أحد أحياء دمشق، هناك منزل تفوح منه رائحة العراقة التي عرفت بها البيوت العربية، بيت شهد ولادة وانطلاقة واحد من أهم شعراء سوريا والوطن العربي. انه بيت نزار قباني في حي مئذنة الشحم في دمشق القديمة، الشاعر السوري الذي جعل منزله بما فيه من أشجار ونباتات وحيوانات حاضراً في الكثير من قصائده.
ولد نزار قباني بدمشق عام 1923، وكان جده أبو خليل القباني أحد رواد المسرح السوري والعربي، بينما عمل والده توفيق بائع سكاكر. أما والدته فائزة أقبيق، فهي ابنة عائلة دمشقية عريقة.
ويقول قباني في كتابه قصتي مع الشعر: “يوم ولدت في 21 آذار 1923 في بيت من بيوت دمشق القديمة كانت الأرض هي الأخرى في حالة ولادة وكان الربيع يستعد لفتح حقائبه الخضراء”.
لكن، “هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة، إني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ ولكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر وإنما أظلم دارنا”. بهذه الكلمات وصف الشاعر نزار قباني بيته، الذي استند إليه في العديد من القصائد خلال مسيرته الشعرية.

يوضح الباحث التاريخي علي المبيض لوسائل إعلام سورية أن نزار استند في شعره إلى مرتكزين أساسيين: هما الأم والبيت، حيث غرق في وصف مسقط رأسه، لدرجة أنه لم ينس القطط والبحرة وشجرة الياسمين وغيرها. ويقول نزار: “شجرة النارنج تحتضن ثمارها، والدالية حامل، والياسمينة ولدت ألف قمر أبيض وعلقتهم على قضبان النوافذ.. وأسراب السنونو لا تصطاف إلا عندنا”.
وحتى عندما خاطب نزار والدته بقصيدةٍ من مدريد بعنوان “خمس رسائل إلى أمّي”، ذكر بيته الدمشقي. اذ يقول: “صباح الخير من مدريد.. ما أخبارها الفلّة؟ بها أوصيك يا أمّاه.. تلك الطفلة الطفلة.. فقد كانت أحب حبيبة لأبي.. يدلّلها كطفلته.. ويدعوها إلى فنجان قهوته.. ويسقيها.. ويطعمها.. ويغمرها برحمته”.
ويبين المبيض أن قباني ربط الفل برسائله إلى والدته ويقول: “تصويره لنبتة الفلّة الموجودة في بيته القديم، يعكس علاقة تبادُلية وعاطفية وثيقة.. شاعر يتحدَّث إلى والدته وهو على بُعد آلاف الكيلومترات ومع ذلك يسألها عن الفلّة”.
ومن الياسمينة وشجرة النارنج والبحرة والبوابة وغيرها، أخرج قباني قصائد عديدة مليئة بالحس الدمشقي البيتوتي، أضفت الكثير على مكانته الشعرية.
رغم بيع المنزل وسفر نزار قباني خارج سوريا لفترات طويلة، استمر بزيارته مسترجعاً ذكرياته أيام طفولته ومتمعناً بالأشياء التي كان يتغزل بها في أشعاره. ويقول صاحب المنزل حالياً محمد نظام: “ولد نزار وترعرع في هذا المنزل حتى المرحلة الجامعية، ثم انتقل مع أهله لمنزل آخر قريبٍ منه”. وأوضح نظام أن البيت بقي على حاله، خاصة أشجار الياسمين والكباد والليمون والنارنج، التي كان نزار يتحدث عنها بقصائده.
في عام 1968، اشترى السوري عباس نظام المنزل الذي ولد فيه نزار، وإلى اليوم لايزال يعرف بمنزل نزار قباني، ولكن لا توجد أي مقتنيات له. ويضم المنزل باحة الدار والبحرة التي تغنى بها نزار، والفسحة السماوية والقاعة الصدفية، والليوان والعديد من الغرف.
ويروي صاحب المنزل، أن نزار زاره بإحدى المرات وجلس عند طرف البحرة، عندها تقدمت قطة وجلست في حضنه، قال: “ربما عرفت أنني كنت من سكان هذا البيت”. وتقول إحدى القصص إن نزار كان يحاول فتح شقته في مدريد، فأخرج مفتاح منزله في دمشق القديمة بدلاً من المفتاح الصحيح.

لا يمر أسبوع دون أن يزور العديد من السوريين وبعض السياح منزل نزار قباني، بغرض مشاهدته والاطلاع على تفاصيله والربط بينه والقصائد. وتوجد لافتة أمام باب المنزل كتب عليها “هنا سكن نزار قباني”. كما يشهد المنزل في بعض الأوقات فعاليات ثقافية واجتماعية تجريها جمعيات مختلفة، إضافة إلى تصوير المسلسلات.
ويؤكد صاحب المنزل أنه مفتوح أمام عشاق نزار وجميعهم محل ترحيب، مبيناً أن عدد الزوار قد انخفض مع بداية الحرب في البلاد. ويضيف: “يأتي الناس لمشاهدة البحرة والأشجار وغيرها من الأشياء التي كتب عنها نزار، ويسألون عن التغييرات التي طرأت على المنزل ولن نغلقه أمام أحد واللافتة تؤكد ذلك”.
قبل سنوات عرضت عائلة نظام بيت نزار قباني للبيع، والذي يقدر عمره ما بين 400 إلى 500 سنة. وسبق أن افتتحت وزارتا السياحة والثقافة في سوريا المنزل ووثقته عام 2015 بعد أن كان هناك اختلاط بينه وبين منزل آخر قريب منه يعود أيضاً لعائلة القباني، واعتبر المنزل مكاناً سياحياً وثقافياً لشخصية معروفة، لكنه يبقى مسكناً له ملكية خاصة.
ويقول محمد نظام: “أتمنى أن يشتريه شخص قادر على الاهتمام به، ويشعر بالقيمة المعنوية الموجودة في المنزل، فنحن لا نشتري جدراناً بل ثقافة”.
وسيبقى منزل نزار قباني شاهداً على قصائده، كيف لا، وهو يرقد بالقرب منه إذ دفن في مقبرة الباب الصغير عام 1998، كما أن كلماته حاضرة في الأذهان دائماً، وهي: “الذين سكنوا دمشق، وتغلغلوا في حاراتها وزواريبها الضيقة، يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون”.

مواضيع ذات صلة

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد "هاني الراهب" ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه،...

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

ياسين الحافظ كاتبٌ ومفكر سياسي سوري من الطراز الرفيع، يعدُّ من المؤسسين والمنظرين للتجربة الحزبية العربية. اشترك في العديد من الأحزاب القومية واليسارية، ويعدُّ الحافظ في طليعة المفكرين التقدميين في العالم العربي، اتسم فكره بالواقعية النقدية، تحت تأثير منشأه الجغرافي...

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

مواضيع أخرى

زكريا تامر بوصلة التمرد الساخرة

زكريا تامر بوصلة التمرد الساخرة

"أكثر قصصي قسوة هي أقل قسوة من الحياة العربية المعاصرة، وأنا لا أستطيع وصف السماء بجمالها الأزرق متناسياً ما يجري تحت تلك السماء من مآس ومجازر ومهازل.. صدّقني الأسطورة أصبحت أكثر تصديقاً من واقعنا المرير" بهذا التوصيف العاصف يلخص الكاتب السوري زكريا تامر (1931) تجربته...

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد "هاني الراهب" ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه،...

افتحوا النوافذ كي يدخل هواء الحرية النقي

افتحوا النوافذ كي يدخل هواء الحرية النقي

يصدمنا الإعلام الاجتماعيّ كل يوم بمقاطع فيديو وأخبار حول امتهان كرامة الإنسان في سورية عن طريق استفزازات لفظية وعنفٍ جسديّ يُمارَس ضد أشخاص تصنّفهم الآلة الإعلامية للمرحلة الانتقالية على أنهم من "فلول النظام“ السابق. ولقد سمعنا عن أشخاص تُقتحم بيوتهم...

تدريباتنا