تدريباتنا

هل تتجنب سوريا “وهم” إعمار العراق؟

by | Mar 3, 2018

إذا أردت أن تعرف ماذا يعني إعادة إعمار سوريا عليك أن تطّلع على حقيقة تجارب إعادة الإعمار  في العراق وأفغانستان وغيرهما من الدول التي مازالت تعاني من الحروب والأزمات التي تسببت بتدمير البنى التحتية واستنزاف الطاقات البشرية تحت آلة الحرب والتهجير القسري.

منذ ثلاثة أعوام بدأت سيمفونية إعادة إعمار سوريا تُعزف في الكثير من المؤتمرات الاقتصادية والمعارض، حينها أطلقت الحكومة السورية برنامج عملية إعادة الإعمار لتكون من ضمن أولوياتها. وبالطبع كان للقطاع الخاص دوره أيضاَ بالمشاركة في جوقة عزف سيمفونية “إعادة إعمار سوريا” حتى أن البعض منهم لم يكتف بالكلام بل ذهب إلى أبعد من ذلك وأقام المعارض والندوات وورشات عمل لبحث ومناقشة آلية كيفية إعادة إعمار سوريا.

رغم أهمية عقد هذه المؤتمرات والمعارض، لكن يبدو أن الأمر ليس أكثر من فقاعات إعلانية وإعلامية، حيث أن بعض المحللين يجدون أن الوقت مازال مبكراً للحديث عن إعادة الإعمار خاصة في ظل استمرار الصراعات والاختلافات الإقليمية بين الدول الكبرى التي لم تُخف عدم رغبتها في المشاركة في عملية إعادة الإعمار دون الوصول إلى حل سياسي بموافقة جميع الأطراف المتنازعة في سوريا. بناءً على هذه النقطة فإنّ بعض المحللين الاقتصاديين يجدون أنّ كلّ مايتم تسويقه والترويج له حول بدء عملية إعادة إعمار سوريا ليس أكثر من موسيقى تصويرية رومانسية على وقع مشهد مأساوي تتخلله مناظر القتل والتشريد والدمار.

من هنا نجد أن عملية إعادة إعمار سوريا ليست بالأمر السهل، ولن تتم بعصا سحرية خاصةً إذا ما نظرنا إلى تجارب الدول المجاورة مثل العراق والتي مازالت حتى اليوم تدفع ثمن “أكذوبة إعادة الإعمار”، نتيجة الفساد وسوء الإدارة واستمرار الصراعات والنزاعات. وبالتالي فإن إقحام سوريا بهذه السيمفونية يحتاج إلى الجدية بالطرح ولا يكفي أن يتم عقد مؤتمر هنا وإقامة معرض هناك في حين أنه على أرض الواقع لا يوجد فعل حقيقي لكل ما يتم طرحه والإعلان عنه من نتائج لهذه المعارض. وكمثال على ذلك نأخذ مدينة حلب “عاصمة الاقتصاد السوري” والتي مضى على تحريرها قرابة عام كامل منذ تاريخ 22/12/2016 ومع ذلك لم نسمع عن أي عملية لإعادة إعمار المناطق التي هُدمت بفعل الحرب، ولم يطرح حتى اللحظة أي مشروع استثماري خارجي أو داخلي للمشاركة أو البدء في إعادة إعمار حلب. لقد اقتصر الأمر على عودة الأهالي إلى الأحياء التي هُجروا منها، ودعوة الصناعيين لإعادة افتتاح ورشاتهم، حتى أن غالبية الصناعيين ممن أعادوا تشغيل منشآتهم المتضررة تحملوا كلفة هذه العودة على حسابهم الخاص. وقد اقتصر دور الحكومة السورية على تأمين التغذية الكهربائية والفيول (الوقود) للمصانع ضمن الإمكانيات المتاحة، في حين أنّ الكلفة الأكبر وقعت على عاتق الصناعيين.

تُمثل حلب مثالاً هاماً يكشف عدم جدية الذين يدعون للمشاركة بعملية إعادة الإعمار، وعدم وجود رؤية وسياسات اقتصادية واضحة للبدء بهذه العملية، خاصة وأن الاقتصاد السوري مازال يعاني من غياب لقانون الاستثمار الجديد والذي مازال قيد الدراسة ولم يتم طرحه حتى تاريخ اليوم. إضافةً إلى ذلك هناك توجس لدى العديد من المستثمرين من الدخول إلى السوق السورية في ظل القرارات الاقتصادية المتعلقة بالقطاع النقدي والتي أحدثت فوضى في سوق سعر الصرف. فقد أثارت القرارات الاقتصادية التي طالت القطاع الصناعي، والذي يعتبر عصب الحياة الاقتصادي في حلب، ردّات فعل سلبية من الصناعيين الذين هدّدوا بإيقاف معاملهم عن العمل في حال الاستمرار بمثل هذه السياسات الاقتصادية.

ربما يعترض أحدهم بالقول إنّ مضي عام كامل على “تحرير” حلب ليس مقياساً لمصداقية عملية إعادة الإعمار وبأنّ الأمر يحتاج لسنوات. هذا الكلام صحيح لكن من جانب آخر كان من الأجدر والأهم أن تقوم الحكومة السورية من خلال اللجان الاقتصادية التي شكلتها لتنفيذ عملية إعادة الإعمار بوضع قوانين اقتصادية واضحة لآلية إعادة الإعمار. فقد أشار العديد من المشاركين في معرض دمشق الدولي الأخير “باستثناء المشاركين من إيران و روسيا” إلى عدم وجود برنامج سياسي اقتصادي يوضح كيفية المشاركة في عملية إعادة الإعمار. ووجد عدة مشاركين صعوبة في عقد اتفاقية تخص عملية إعادة الإعمار، وكأن الأمر مقتصر على الدول الصديقة “طهران وموسكو.” ولايمكن نكران هذا الأمر خاصةً وأن العديد من المسؤولين والاقتصاديين السوريين أكدوا أن الأولوية في عملية إعادة الإعمار ستكون للدول الصديقة “روسيا وإيران.”

من جانب آخر تظهر الحقائق الرقمية بأن تكلفة إعادة الإعمار في سوريا ستتراوح بين 200 مليار دولار و350 مليار دولار، وهي كلفة تتجاوز إمكانيات سوريا بكل ما تملكه، كما تتجاوز قدرات حلفائها الإيرانيين والروس. فمن جانب إيران، تُعاني هذه الدولة من أزمةٍ اقتصاديةٍ راهنة، ورغم أنها قد بدأت تخرج من العقوبات الأميركية إلا أنّ احتياجاتها اللازمة لتنفيذ متطلبات البلد من ناحية البناء وإعادة الإعمار تُقدّر بما يقارب 100 تريليون دولار في السنة خلال أعوام 2015 و2025. حالياً ليس لدى إيران خيارٌ آخر سوى أن تُنفق أموالها لحماية عملتها الوطنية وميزانها التجاري خاصةً وأنّ عملتها قد انخفضت بشكلٍ حاد بعد انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومازال حجم التضخم غير محدد من قبل محللين اقتصادية رغم اعتباره أحد المبادئ الاقتصادية العامة لبلد يسعى للتقدم اقتصادياً. كما أنّ حجم الإنفاق على الجيش بالغ الأهمية وكذلك الأمر بالنسبة لإعادة إعمار الاقتصاد والحفاظ على العملة والإنفاق والبطالة والاستثمار الذي يُعد من أولويات عمل الحكومة الايرانية.

كذلك الوضع الاقتصادي في روسيا ليس أفضل من غيره حيث تعتمد موسكو اقتصادياً على أسعار النفط والغاز بشكل كبير. وشكلت تدخلات روسيا العسكرية في سوريا وأوكرانيا عبئاً اقتصادياً على البلد. إضافةً لذلك مازالت الاتفاقات الاقتصادية بين موسكو وسوريا مقتصرة على التنقيب عن النفط، الأمر الذي يعكس بأن روسيا وإيران لا يمكن أن يكونا اللاعبين الوحيدين في عملية إعادة إعمار سوريا.

وبالتالي فإنه يتوجب طرح قوانين وخارطة اقتصادية استثمارية واضحة تتيح لبقية الدول إمكانية المشاركة في إعادة الإعمار خاصة وأن سوريا بلد متنوع يحتاج إعادة إعماره إلى وجود شركاء حقيقيين من دولٍ لديها إمكانيات اقتصادية كبيرة للمشاركة. أما اقتصار الأمر على الدول الحليفة “موسكو وطهران” فهو أمر أشبه بلجوء مريض إلى مريض، حتى أن دولاً مثل فنزويلا أو الإرجنتين لن تكون قادرة على المشاركة نتيجة ما تعانيه اقتصاداتها من أزمات وسوء إدارة.

في ذات السياق لا يمكن تجاهل العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا والتي تتطلب من الاقتصاديين في سوريا البحث عن بدائل اقتصادية للتغلب على هذه العقوبات، وإلا ستبقى  عملية إعادة الاعمار سيمفونية يتم ترديدها في كل المحافل والمؤتمرات، مثلها مثل سيمفونية “أكذوبة إعادة إعمار العراق وأفغانستان.”

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

تدريباتنا