تدريباتنا

قلعة من الورق المقوى

by | Dec 12, 2024

حين تُفْقَد الشرعية، وينهار الاقتصاد، وينحسرُ الدعم الشعبي، ويتفشّى الفساد والمحسوبية، وتُفْرضُ العقوبات والعزلة الدولية، ويشتدّ التغوّل الأمني وسوء الإدارة والرشوة، ويُفْقد دعم النخبة وتتفكك، أو تُصادَر أموالها وتُهَمَّش، ويتحوّل الجيش إلى حرس خاص وتسود الفئوية، ويفتقر الرئيس ونخبته للرؤية السياسية، ويثور الشعب، ويتم تبني العنف الأمني المتوحش كطريقة للحفاظ على السلطة مترافقاً مع كم الأفواه والرقابة على الصحافة، والتحكم بالمعلومات ونهب المال العام، وحين يتم الفشل في التكيف مع الظروف المتبدلة، وفهم المتغيرات الإقليمية والدولية وإطالة الاتكال على العنف، واللجوء إلى الدعم الخارجي دون استقلالية في اتخاذ القرار، والتمسك بالكرسي على حساب أي شيء، فإن النتيجة هي السقوط المدوي، والذي يكون أحياناً سوريالياً.

تغيّر المشهد في سوريا بشكل مفاجئ وبسرعة فائقة. فبشار الأسد، الذي ورث السلطة عن أبيه في انتهاك صارخٍ للقانون، اختار أن يتخلى عن ٢٤ عاماً من الحكم في يوم واحد، في صفقة لا تزال تفاصيلها غامضة، ومن الصعب التنبؤ بتداعياتها واحتمالات ما قد تفضي إليه من نتائج في الداخل السوري. كما لو أن لاعب شطرنج قضى بحركة واحدة مفاجئة على الملك وجنرالاته وجنوده على رقعة اللحظة السورية.

 قرأ بشار الأسد الأوضاع الداخلية والإقليمية والخارجية بعينين أمنيتين أعماهما ضباب الغرور والتسلط والعجرفة، فلم يستطع أن يفهم طبيعة التحولات في المنطقة، ونظر إلى الربيع العربي منذ بدايته على أنه مؤامرة، وبدأ حربه على الشعب السوري الذي ردْكَلتْهُ ممارسات الأجهزة الأمنية الوحشية وغير الإنسانية، ودفعت الكثير من أبنائه إلى الخيارات التطرفية القصوى. بدأت الحكاية بقتل المتظاهرين السلميين، أو زجّهم في السجون، وتطور الأمر إلى اقتحام المدن بالدبابات، وقصفها بالبراميل المتفجرة، وتشريد أهلها في الداخل والخارج إلى درجة أن الجيش العربي السوري، تحوّل إلى ”جيش أسدي“، كما قال المعارضون لحكمه، إلى آلة لخدمة كرسيه، وصار يُقارَن بقوات الاحتلال التي تأسّس كي يقاتلها بالأساس، بل هناك من المعارضين من ذهب إلى أبعد من ذلك وقال إن ما فعله يذكر بوحشيته بممارسات إسرائيل.

ازداد عدد القتلى من السوريين العزّل والأبرياء، وتوسّعت السجون العلنية منها والسرية، وهُدمت البيوت والمدن فوق سكانها، وانهار الاقتصاد، وزاد من انهياره الحصار الغربي الجائر الذي فُرض على سوريا وشعبها. أوغل الجهاز الأمني في الإجرام ضد الشعب بتطبيقه للحل الأمني الذي انتهجه بشار غير مصغٍ لنصيحة العقلاء من ضباطه ضارباً عرض الحائط بجميع وجهات النظر. ويتجلى حله الأمني الآن في هذه المناظر المخزية للزنزانات التي حُرر منها المساجين الذين رأيناهم على الشاشات، والتي زُجّوا فيها دون محاكمة لأنهم رددوا بصوت جهوري: هيا ارحلْ يا بشار! هذه الزنزانات التي تجعل (إذا ما عدّلنا قليلاً جملة لسلمان رشدي) الطفل في سوريا يولد من رحم أمه محمراً من العار.

لم يُصْغ بشار الأسد، ولا المجموعة التي تحلقت حوله من شاربي البلاك ليبل والنبيذ المعتق وويسكي السينكل مولت ومدخني السيجار الكوبي وراكبي السيارات الفاخرة ومهربي الكبتاغون لأصوات السوريين تهدر في المدن، واتخذ قراراً بإخراس الجميع بخياره الأمني الذي كان أشد تطرفاً من تطرف السلفية الجهادية. وصُفّي الضباط الذين أرادوا التوصل إلى حل وسط مع المعارضة، وتحولت سوريا إلى سجن كبير. قُتل من قُتل، وسُجن من سُجن، وهاجر من هاجر حتى صارت الأرقام المتداولة مخيفة. واستطاع جهاز الحكم السوري، الذي أداره بشار وبعض ضباط الأمن المقربين منه، أن يقنع كثيراً من السوريين بالقتال معه، وخاصة من أبناء الطائفة العلوية والأقليات الأخرى، تحت ذريعة حماية أنفسهم من ”الإرهابيين“، ومن ”المذابح القادمة“،  وعزف على وتر الذاكرة التاريخية كي يحقق ما يريده، ثم في نهاية المطاف أبرم صفقة كي ينفد بجلده هو وعائلته متخلياً عن ضباطه وجنوده بطريقة تفتقر للفروسية والرجولة غير مستبعدة عنه، وغادر البلاد مالئاً حقائبه بالمال غير آبه بمن تركهم خلفه.

ما حدث في سوريا كان مفاجئاً وغير متوقع. ففي رفة هدب اختفى الجيش السوري والأجهزة الأمنية، وغادر الجميع مواقعهم وكراسيهم من العرفاء إلى أعلى الرتب. وطُويت حقبة من الدكتاتورية العسكرية استمرت عقوداً، وأُرسل الجميع إلى بيوتهم تاركين أسلحتهم خلفهم دون أن يفهموا الأمر المربك الذي وصل إليهم بالانسحاب إلى درجة أن بعض المقاتلين المغرر بهم عدّوا ما حدث خيانة فقرروا الانضمام إلى المعارضة.

اقتحم أبو محمد الجولاني زعيم المنظمة السلفية الجهادية هيئة تحرير الشام، هو والفصائل المنضوية تحت لوائه في عملية ”ردع العدوان“، المشهد في حلب وحماة وحمص ودمشق وصولاً إلى الساحل السوري وجاء إلى العاصمة دمشق كي يلقي خطبة النصر في الجامع الأموي معلناً نهاية نظام الأسد وبداية نظام جديد. استخدم، هو وقادة قواته، لغة جديدة غير مألوفة في القاموس السياسي الحالي للمنطقة، مستمدة من صلب التجربة الإسلامية، وهي أنهم لن ينتقموا، ولن يحاربوا من لا يحاربهم، وإنهم لا يقاتلون طلباً للثأر، بل يقاتلون في سبيل الله، وإنهم يريدون بناء دولة مؤسسات (كما قال أبو محمد الجولاني في حواره مع قناة السي إن إن الأمريكية)، وسيقومون بحماية مؤسسات الدولة الموجودة وتشغيلها. أربكت هذه اللغة الجديدة، وغير المألوفة في الجو السوري، السرديات السائدة وأصحابها، وهزمت توقعاتهم. ثمة أشخاص قادمون إلى السلطة بأسلحة جديدة، ولغة جديدة، ويبشّرون بلغة الانفتاح والبناء واحترام الأقليات الدينية وأملاك الناس، ويتصرفون بذكاء وحنكة أكسبتهم ودّ الجميع. ومما سمعناه في الساحل السوري والقرداحة ومصياف والسلمية حيث العلويون والإسماعيليون والقرى المسيحية في طرطوس وأماكن تواجد المسيحيين في دمشق هو أنهم قادمون كي يبنوا ما هُدم، ويحافظوا على النظام، ويطبقوا القانون مما فاجأ الجميع في هذه المناطق.

هرب بشار الأسد مع أمواله المسروقة من دم الشعب السوري بعد أن حوّل سوريا إلى ”جمهورية كبتاغون“، وذهب كي يعيش خارج البلاد تاركاً خلفه إرثاً مخزياً من قصور الرؤية السياسية والفشل. كان متكبراً ومتجبراً ومغروراً، ويعد نفسه أذكى من الجميع. كان باختصار، من النوع الذي لا يصغي إلا إلى نفسه. إن من سماهم سكانَ مكب نفايات الإرهاب، الذين نقلتهم باصاته الخضراء من المناطق التي هاجمها جيشه وقواته الرديفة، وجمّعتهم في إدلب، هم الذين نظّموا أنفسهم، وتدرّبوا، وتلقوا الدعم المطلوب، وزحفوا إليه فاضطر إلى الفرار في مسرحية هزلية للفشل السياسي لا نعرف حتى الآن ما الذي ستتمخض عنه فيما بدأت سوريا تدخل عهداً جديداً في ظل هذه المجموعات المسلحة التي زحفت بدعم تركي مباشر، وربما بأجندة اقتصادية وترتيبات يتولاها رجال الأعمال الجدد من ذوي التوجه النيوليبرالي ومن خلفية إسلامية تم تليينها وتثقيفها وتدريبها كي تتولى إدارة البلاد.

فقد بشار الأسد شرعيته المشكوك بأمرها في الأساس منذ أول رصاصة أُطْلقت بأمر منه على المتظاهرين، وثم بدأ يخسر الجميع داخل البلاد وخارجها إلى أن تخلى عنه في النهاية حماته الإقليميون والدوليون فسقط كأنه أسد من ورق. وبدأ العالم كله يرى تماثيل عهده المتوارث تتحطم وتتهاوى وتُداس بالأقدام في المدن السورية التي كان يقصفها بالمدافع والصواريخ دون رحمة جنود وصف ضباط ومساعدون وضباط رددوا هذا الشعار الهمجي: ”الأسد، أو نحرق البلد“. 

لا يمكن التحدث عن إرث إيجابي تركه بشار خلفه. لن يذكر الناس إلا سجن صيدنايا الرهيب، وسجون الأقبية الأمنية الأخرى التي عمقت الجرح السوري، ورفعت الأسوار بين مكونات الشعب السوري، لن يذكروا إلا نهب المال العام والفساد ومشاغل الكبتاغون وبطولات معارضيه المدنيين الذين تظاهروا ضده بشجاعة تاريخية قل مثيلها ودفعوا أثماناً باهظة.

في خضم هذه التحولات يجب ألا ننسى خطر إسرائيل المتربص بسوريا على الدوام، والذي تُرجم في الهجمات الأخيرة المدمرة، كا يجب ألا ننسى أن هناك قوى أخرى عربية وإقليمية ودولية، لعبت أدواراً مشبوهة في سوريا، ولا تريد لها الخير، وأن ما جرى كان نتيجة سلسلة تدخلات مدروسة في الجغرافيا السورية إلا أن النظام يتحمل في النهاية المسؤولية عما جرى ويجري بسبب لجوئه إلى الحل الأمني وتغليب مصلحة البقاء على الكرسي على مصلحة سوريا كدولة وشعب.

 منذ مدة، وقبل هربه، شاهدنا فيديو لبشار نشره موقع رئاسة الجمهورية يدخل فيه إلى القصر الجمهوري كفاتح فيما تعزف له فرقة موسيقية موسيقى كلاسيكية، كما لو أنه كان يتوهم أنه نابليون بونابرت مترجلاً عن حصانه وداخلاً إلى مقره بعد عودته منتصراً من إحدى المعارك، لكن بشار لم يكن من طينة قادة كهؤلاء، ولقد فرّ في جنح الظلام حين حُبسَ في خانة اليك. وفي يوم الأحد في الثامن من كانون الأول\ديسمبر بدأ يوم جديد في سوريا، ويبقى أن ننتظر التطورات كي نرى كيف سيكون البديل وشكل الحكم القادم في الجمهورية التي سُمّيت مرة قلب العروبة النابض وقلعة الصمود والتصدي، القلعة التي انهارت أسسها فجأة كأنها بُنيت من كرتون وحكمها أسد من ورق.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

“ذاكرتي مليئة بالأشباح”:كيف نشفى من ذاكرة الحرب؟

“ذاكرتي مليئة بالأشباح”:كيف نشفى من ذاكرة الحرب؟

لم تكن النجمة الذهبية التي فاز بها الفيلم السوري "ذاكرتي مليئة بالأشباح" مناصفة مع الفيلم المصري "رفعت عيني للسما" في مهرجان جونة السينمائي في القاهرة مؤخراً، هي الجائزة الأولى له، فقد شارك في عدة مهرجانات حتى الآن وحصل على الجائزة الأولى في مهرجان الأفلام الوثائقية...

التعليم الافتراضي في سوريا: ميزات في ظل فقر البنى التحتية

التعليم الافتراضي في سوريا: ميزات في ظل فقر البنى التحتية

على الرغم من مرور أكثر من عقدين على بدء التعليم الافتراضي الجامعي في سوريا، وما وفره من خصائص تتصف بالمرونة والحداثة النسبية، يواجه الطلاب والمدرسون على السواء عوائق بسبب ضعف البنى التحية واللوجستية اللازمة. تسوغ آية أسباب التحاقها بكلية الحقوق الافتراضية؛ منها ما...

الخيار الأخير: سكن بائس في سوريا

الخيار الأخير: سكن بائس في سوريا

تقطن أم عمر مع أولادها الثلاثة في منزل ضمن بناء كان يفترض إكمال بنائه وإكسائه لكنّ الحرب عاجلت مدينة دوما في ريف دمشق فتوقفت أحوال الاستثمار فيها كما سائر البلاد. قُتل زوج أم عمر خلال سنوات الحرب، وصار منزلها ركاماً لأسباب يطول شرحها وتبدو محاولة شرحها نكأ لجراح...

تدريباتنا