تدريباتنا

أمهات دون أعياد

by | Mar 21, 2020

ورثتُ بعد سفر أصدقائي إلى مختلف بقاع العالم، أهلهم وذكرياتهم وصارت رائحتي تشبه رائحة كل بعيد، أجلسُ بينهم شاهدة على أثر الغياب. أراقبُ الخالة سعاد كيف تعتني بما تبقى من ثياب ابنتها وكتبها المدرسية وتعتني بقطة لطالما انزعجت من اعتناء ابنتها بها، تلاعبُ بحنانِ جدةٍ أطفال القطة ذاتها وكأنهم أحفادها التي تمنت أن تلاعبهم في يوم ما، تقول: “لم يبق لي غيرهم يؤنسني بعد رحيل الأبناء”.

ويؤلمني النحيب المكتوم لوالدة صديقتي الأخرى كلما احتضنتني، تخبرني بغصّة: “رهنتُ كلّ ما أملك لمنح ابنتي فرصة حياة أفضل في أوروبا، حياة تليق بابنةٍ أفنيتُ عمري في تنشئتها، والآن أقف عاجزة يحاصرني السؤال هل كان أمامي خيارات أفضل؟ سأحرمُ رؤيتها ما تبقى من حياتي وسأموتُ هنا وحيدة.” واليوم تكادُ تنهار وهي تتابع أخبار انتشار كورونا في أوروبا خوفاً من أن تفقد ابنتها الوحيدة.

لم يمض عيدُ أمٍ منذ توفيت صديقتي حلا بمرض السرطان منذ 8 أعوام إلا وأزور أمها الخالة أم حلا، وما أن تراني مقبلة من باب البيت حتى تنتفض واقفة وهي العجوز السبعينية وتأخذني بحضنها لننتحب في بكاء طويل وهي تصيح “هلا بريحة الحبايب”. أم حلا التي تعيش وحيدة بعد وفاة زوجها وابنتها وسفر باقي أبنائها تخبئ لي أخبار القرية لتقصها علي دون أن تنسى الكثير من التنهيدات عندما يمر ذكر ابنتها أو عندما تتذكر الأيام الماضية السعيدة يوم كان أبناؤها يملؤون البيت، وبدوري أحكي لها عن قصص نساءٍ في المدينة وما فعلت بهنّ وبأبنائهن الحرب، ثم أودّعها وأعدها بألاّ أتأخر في زيارتها المرة القادمة.

أكاد أجزم أنه لا يوجد أم سورية لم تحترق بالدموع خلال هذه الحرب المجنونة، الكل بكين أبناءهن سواء الضحايا أو المعتقلين أو المفقودين أو الهاربين من الجيش أو العاطلين عن العمل، أو اللاجئين الذين  توزعوا في كافة أرجاء الأرض. لم أزل هنا بينهم أراقب حزنهنّ اللانهائي، وأحسد من استطاع النجاة والهروب بعيداً.

في عيد الأم أفتقد جدتي، لو أنها على قيد الحياة اليوم لمسحت بيدها قلبي المليء بالحكايات ولشكوتُ لها عن خلاف خالاتي، فالكبرى فقدت أحد أبناءها أثناء خدمة العلم وترفضُ الاعتراف بموته معللة “لم أر جثته، هو في مكان ما وسيعود حتماً”؛ يأكلها الانتظار بعدما فقدت بصرها من كثرة ما بكت عليه، تستلم راتبه كل شهر وتخبئه لتزوجه فور عودته.

 أما خالتي الصغرى التي التحق أحد أبنائها بفصائل الجيش الحر حالماً بغدٍ أفضل وبحرية شاسعة تشبه البراري التي نشأ بها قبل أن يُفقد أيضاً في الحرب ولا أحد يعلم عنه شيئاً، فإنّ كل ما تفعله هو إشعال الشموع والنذور له كل ليلة والنحيب الطويل عليه. أمي ذات الولد الوحيد والذي لم يذهب للحرب ولازال بقربها يعاني قسوة الحياة ويشقى بلا طائل، يذوب أمامها وتذوب معه، وتحاول بشجاعة أن تقف بجانب الأختين اللتين تحولتا إلى عدوتين لدودتين ولا يمكن أن تعزي إحداهما الأخرى وفي أعماق كل واحدة حقدٌ وقناعة بأنّ “ولدك قتل ولدي”. وأمي التي تفتتت بين أختيها تبكي معهما وتعيش مأساة الفقد هي الأخرى آسفةً على شابين رائعين نشآ معاً كأخوة وفرقتهما الحرب.

أسيرُ في طرقات هذه المدينة وأقول في نفسي لن تقسو الحياة هذه المرة على السوريات المنكوبات، ولن تأتي أعيادُ أمٍ أخرى والدموعُ تملأ المحاجر والقلوب، أضحك بمرارةٍ من تفاؤلي أو ربما من حماقتي، لا أدري حقاً، ولكني أتذكر مشهداً من فيلم الفراشة (Papillion)، عندما وصل البطل إلى جزيرة المصابين بالجذام وكان لزاماً عليه أن يصافح أحدهم، وقتها ورغم كل ما عاناه أثناء هروبه ليحصل على حريته يتقدم ويصافح الرجل بشجاعة وبثقة العارف أنّ الحياة لن تقسو عليه هذه المرة أيضاً، وأنه سينجو ولن يصيبه الجذام، وينجو فعلاً في النهاية.

آه يا جدتي .. هل ستحيا السوريات أياماً جميلة قادمة؟ وهل ستفتقدني حفيدةٌ ما بعيدِ الأم كما أفتقدك؟

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

(1) في وقت فراغي كنتُ أملأ الأوراق البيضاء بالحقول كان يبدو الفجر أقرب و السحاب يمرّ فوق الطرقات بلا خسائر..  وكان الماضي  يمتلئ  بالألوان. لا شيء مثل اللحظة حين لا تجد المسافة الكافية لتخترع أجنحة تكاد تنمو كزهرة برية.  بدأتُ أجمع صوتي من الريح و أفسّر...

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

تدريباتنا