تدريباتنا

أن تعيش في هذا الموات: السويداء المُهَمَّشة

by | Mar 15, 2023

الحرية

لم يكن يخطر في بال الجموع التي هزَّت البلاد منذ سنوات أصبحت لا تُعَدُّ أنَّ الأشياء كلّها ستحصل على حرّيتها إلاّهم.
الحرية تلك الكلمة الأثيرة التي اعتلت الحناجر والمنابر ولافتات الشوارع، تجتاحنا بلا رحمةٍ اليوم… الأشياء تتحرّر تباعاً.. كل صباح أستيقظُ لأترقّب جغرافيا الحرية، الخبز الحُرّ.. السكر الحُرّ.. الرز الحُرّ.. الزيت الحُرّ.. المازوت الحُرّ.. البنزين الحُرّ… والسقوط الحرّ للكرامة الإنسانيّة في هاوية سحيقة من الضلال السياسيّ والتمزّق الطائفيّ والانهيار الاقتصاديّ.
نعم لقد أصبحت هذه السلع كلّها حرّة، ونحن نراقبها بصمت، عبيداً، أمام هذه الكثرة الكاثرة من الحريّات السِلعيّة.. ونصلي من أجل أن تخسر السلع حرياتها، وتعود إلى عبوديتها، ولكن السلعة الوحيدة التي لم تصبح حرة حتى الآن هي الإنسان!

الفرح
لا فسحة للاكتئاب في ديارنا، الفرح يداهمنا كيفما توجهنا، كأن تستيقظ على صوت شحن بطاريات الطاقة مدركاً أن الكهرباء العزيزة في الدِّيار… ثم تخرج إلى عملك لتستقلّ إحدى وسائل النّقل العام، فتجد مقعداً دون أن تشعر أنك في يوم الحشر، وتدخل إلى إحدى الدوائر الرسمية لتجد موظفاً يقوم بعمله باحترام، وتُنجز معاملة في وقت مثاليٍّ، ثم تعود إلى المنزل لتشعر بمدى عظمتك عند إشعال المدفأة بالمازوت..!
هذا الفرح مخاتل شجي، هذا الفرح عصيٌّ على غير السوريين، هذا الفرح خاصٌّ بنا، فوحده من ذاق عرف..
إلا أنه مثل كل غالٍ وثمين كالفينيق والعنقاء والخلّ الوفي. إنّه فرح ذاتي بالوجود ولو للحظة داخل عالم يتجه نحو التلاشي والزوال…إنّه فرح يوهم بالفرار إلى عالم آخر غير هذا العالم التعِس البائس…هذا ما قاله حسّان أستاذ اللغة الفرنسية، معبّراً عن فرحه داخل المأساة الكونية.

السويداء
يُقال سويداء القلب : حبّته، عمقه، مهجته
والآن هي الهامش: اقتُلِع من السويداء عمقها، رُفِعت اليد عنها، وتُركت تتقاذفها الأهواء في أقاصي الأزمة..
هذا بناء المحافظة اليوم يشهد كيف تقاذفت الأهواءُ النيران، تحوّل هذا البناء في الأيام الفائتة إلى أذن ثالثة التقطت الصوت من عمق السوق، حيث كانت تتحرك مجموعة من الجياع تنادي بحقها من قوت الحياة وتصرخ بالمتجمهرين: من لم يكن جائعاً لا يلحق بنا..
في زاوية أبعد توجد مجموعة أخرى من شبابٍ بلباسٍ مختلف يتأهبون لالتقاط اللحظة وخطف الزَّخم..بدؤوا الاتصالات لدعم حراك الجوع، وإطعامه بألون مختلفة من الإيديولوجيا..
أما حاتم بائع القماش بدأ يهمس لزبائنه بأن هناك رجالاً كانوا قد تضرّروا من قرارات ضريبية، فأرادوا بثَّ الفوضى في بناء المحافظة عسى أن تُحرق الأضابير الضريبية الخاصّة بهم، يجيبه هايل -الشاب الذي ينتظر تأشيرة نجاته بعد تخرجه من الجامعه وفشله في إيجاد عمل أفضل من عمله أجيراً لدى حاتم- بأنَّ في كلامه هذا تقليلاً من شأن ما يحدث (إنه نداء الجوع يا معلم).
ولكنَّ حُساماً الخارج من السجن بعفوٍ عام علّق قائلاً: لابد أنها حركة من حركات الدولة لإطباق السيطرة على البلد. يقهقه حاتم قائلاً يبدو أنهم “برعوا في تأديبك”..
في البناء المجاور لمبنى المحافظة كانت همسات البعثيين القدامى تملأ المكان، بعد أن بدأ المحتجون باقتحام المبنى وتكسير أثاثه وإحراق أوراقه. إنهم المندسون أولئك الشباب المُتنفّعون مما يقدمه الخارج، بحجة دعم حراكهم ودفعهم وتوجيههم لفعل الأسوأ. لابد أنهم كذلك..من أين أتت تلك اللافتات المعنونة بالشعارات المبسترة المسيسة بالطريقة الغبية نفسها؟ من أولئك الذين يرتدون الأسود ويصورون الوقائع ويتكلمون على الهواتف الجوالة؟ هل يدرك هؤلاء أنهم ينتهكون رمزاً للوطن.
ربيع يهاتف أصدقاءه المحامين ليخبرهم أن اللحظة التي مازلنا نحلم بها من أحد عشر عاماً قد حانت، إنه التغيير يقرع بابنا ولابد لنا من إعادة تنظيم أنفسنا من أجل هذا الحراك. تليق بنا دولة مواطنة، آن الأوان ليحكم الشعب نفسه حقاً..
الدولة كانت تحاول إطفاء النار دون أن تشعل حرائق أكثر. حضرت مجموعة من رجال الأمن لتفريق المحتجين بعد أن اخترق الرصاص القاتل جسد عنصرٍ من عناصر الأمن، وكذلك قُتِلَ شاب قاده القدر إلى المكان.. دون تأكيدٍ لهوية القتلة..

المركز الأول

نسيم معروف حارس مرمى نادي العربي الرياضي في السويداء، من قرية عتيل التي شهدت مؤخراً النزاعات الأهلية بين الفصائل المحلية، بُغية ضبط الأمن المحلي، كتب عن فعالية اجتماعية نجح في إقامتها في بلدته: الأرجنتين كسبت الكأس، ونحن في عتيل ربحنا المركز الأول أيضاً.
فقد أطلق أبناء عتيل مبادرة اجتماعية رياضية لشراء بطاقة اشتراك تلفزيونية، واستئجار بعض المعدات، واستخدام الصالة الاجتماعية في البلدة لعرض مباريات مونديال قطر ٢٠٢٢. كما تم تحديد سعرها رمزياً بمبلغ قدْره خمسمئة ليرة سورية للدخول، الأمر الذي استقطب متابعي الرياضة من القرية ومن القرى المجاورة لها.
ونشر نسيم معروف على تدوينته بياناً بالمبالغ المحصلة من هذه الفاعلية، والتي بلغت نحو ثلاثة ملايين ليرة سورية، ليقول إنها ستُجيّر لصالح شراء الأدوية للأمراض المزمنة، وستقدم للمحتاجين.
نعم لقد نجح في ظل كلّ هذا الفشل، يبدو أنّ النّجاح ممكن.

الرسالة
“أمّةٌ عربيّةٌ واحدة ذاتُ رسالةٍ خالدة”، كانت الرسالة الأولى التي سمعت بها قبل أن أرسل رسالة عشقي الأول لـ”ناي” صديقتي في الصف الخامس، قال وفيق. وتابع: بعد ذلك أصبحتُ مطيّةً في أرض الرسالات..رسالة الدين، رسالة الأخلاق، رسالة الحزب، رسالة التخرج، رسالة الدبلوم لكن لم يخطر في بالي أبداً أن تكون رسالةٌ مثل رسالة تكامل (وهي الرسالة التي تصل للهاتف الجوال مبشرة بقدوم الدعم في ما يخص الغذاء والوقود) هي الرسالة الأثيرة لقلبي..أحس بمعنى كل الرسائل فيها، أتلمس الخلود والعشق والرحمة والأدب والعلم بأوضاع الحال، ينشرح صدري دون صلاة حين تقع في قلبي نغمتها المميزة عن كل نغمات العالمين، أقف ضد نفسي أنا الذي ظننت يوماً أني حرٌ فجوارحي تنتظر تلك الرسالة الخالدة التي تقف بكامل ألقها في وجه الخبز الحر والسكر الحر والرز الحر والغاز …
تتحدى كل ماهو حر وهي تحتضن رجائي بدوام الدعم الحكومي. قلبي الصغير لم يعد يحتمل أكثر من تلك الرسالة الشقيّة العصيّة.

الأفق والضوء في آخر الصّورة
كقصيدة شعرٍ تخبو لتتحول إلى صورة، كلحظةٍ يُراد بها تجميد المشهد، التقط ملهم الشاعر المسافر إلى دمشق آلة التصوير و رسم..
أسودٌ هو ذاك الجبل الذي يستقبلك حين الدخول إلى أرض البازلت؛ عزيزاً يطل على لؤم ما يحصل. لونٌ ناري يهبط على تلة جبل (قليب) عسى أن تُشعل النار التي كانت تُنذر أن خطراً محيقاً بأهل الجبل في الديار..لونٌ نبيذي شاحب يندلق من اللوحة يعلن انتهاء موسم النبيذ دون صخبٍ، دون سمر.
وجوهٌ شاحبة مسمّرةٌ إلى ذاك الضوء في آخر الأفق.. وحين أخبره العسكري على الحاجز أن اسمه مطلوب للاحتياط وعليه النزول رسم قطاراً لا يُرى إلا ضوءه، يدهس الجميع.

الغواية
للحياة غواية لا يدركها إلا من يناضل ليعيش، الآن أنا في السويداء؛ سويداء قلبي التي هُمِّشت وهُشِّمت، أتماهى مع بازِلتِها، أتشبث بالعيش كما العشب ينمو بين صخورها، تهدر روحي لترتقي من هاجس البقاء على قيد الحياة لهاجس الحياة، ها أنا أراها، أتلمسها، أطرق على جدار الخزان بكل قوتي، أريد أن أتبع شغفي، أركض خلف غواية الحياة فقد نجحت بالعيش في كلِّ هذا الموات. هذا ما قالته لبنى الفتاة الجميلة الموهوبة بكتابة القصة القصيرة.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “إرادة المقاومة اليومية في سوريا لدى المواطنين العاديين

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

(1) في وقت فراغي كنتُ أملأ الأوراق البيضاء بالحقول كان يبدو الفجر أقرب و السحاب يمرّ فوق الطرقات بلا خسائر..  وكان الماضي  يمتلئ  بالألوان. لا شيء مثل اللحظة حين لا تجد المسافة الكافية لتخترع أجنحة تكاد تنمو كزهرة برية.  بدأتُ أجمع صوتي من الريح و أفسّر...

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

تدريباتنا