تدريباتنا

الانتحار السوري أكبر من إشاعة

by | Feb 6, 2019

يسهب السوريون في وصف حالات الانتحار لا في ذكرها فحسب، شنق نفسه،  تناولت علبة حبوب كاملة ، توقف قلبها بعدما شربت سم الفئران، قطع أوردة يده، أطلق رصاصة على حبيبته ثم أطلق الطلقة الثانية على رأسه في توصيف لحالة قتل متبوعة بعملية انتحار لحبيب تركته حبيبته فقتلها وانتحر!

وأثارت حادثة انتحار امرأة سورية في مخيم الركبان على الحدود الأردنية، ضجة كبيرة في الأوساط السورية الشعبية وفي الإعلام وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي.

وكانت الأم ذات الثمانية والعشرين عاما أضرمت النار في خيمتها بسبب الجوع، وعجزها عن تأمين لقمة طعام لأبنائها الثلاثة لثلاثة أيام متتالية، حيث احترقت خيمتها بالكامل وتم نقلها إلى المشفى مع ابنها الرضيع وهما بحالة حرجة، كما أصيب  ولداها الآخران بحروق أيضا لكن وضعهما الصحي مستقر.

العديد من الحوادث الأخرى عرفت طريقها لأحاديث السوريين اليومية، مصورة وغير معلنة،  كفيديو من حماة يظهر فيه رجل في  حوالي العقد السادس من عمره وقد تناول  عددا غير معروف من الحبوب الدوائية، وهو يحاول رمي نفسه في نهر العاصي، وفيديو لشابين من السويداء يودعان رفاقهما وأصدقاءهما قبل أن يتوجها إلى حديقة “الفيحاء” ليفجرا نفسيهما بقنبلة يدوية.

وفي فيديو آخر تظهر امرأة متزوجة تهرب من تهديد زوجا بقتلها، وتعمد لرمي نفسها من نافذة الطابق الثالث في أحد أحياء مدينة حلب، لتقضي على الفور فيما بقي زوجها طليقا، أما ما يقال في حق الزوجة فهما روايتان: هي تستحق القتل فعلا وإلا لما قامت بالهرب منه أصلا أو لما تجرأ زوجها على تهديدها بالقتل علنا، أو سيقولون إنها غبية، هدرت حياتها مجانا بسقطتها تلك و بالتالي خسارة حياتها مسؤوليتها وحدها.

وعادة يرافق محاولات الانتحار حالة من التكتم الشديد تصل للإنكار من قبل ذوي المنتحر، لكن الآن تغير الأمر، فلم يعد العدد الكبير هو وجه التميز الوحيد، بل الاستعداد الطوعي -وأحيانا دون تردد- بعرض تجربة الانتحار من قبل الشخص نفسه،  تقول س وهي طبيبة مشهورة، بأنها  فكرت بالانتحار بصورة جدية لأربع مرات متتالية، لكنها لم تقدم عليه حفاظاً على مشاعر عائلتها وخاصة أبنائها، لكن لماذا؟ خاصة كطبيبة ناجحة ومعروفة.

يُرجع عدد من الأطباء النفسانيين والأخصائيين الاجتماعين انتشار حالات الانتحار إلى تردي الثقة بالنفس وبالغد، وإلى نتائج الصدمات المتتالية على البنية النفسية للسوريين الذين عانوا من أهوال النزاع المسلح ومن الفقر والتشرد والتهجير من بيوتهم ومناطقهم وفقدان الممتلكات و العمل، إضافة لإنفاق كافة المدخرات -إن توفرت- وتضاؤل القيمة الشرائية لليرة في مواجهة ارتفاع حاد في سعر الدولار، وبالتالي في سعر المواد الأساسية واللازمة لتأمين الحد الأدنى من البقاء وخاصة الأدوية والمواد الغذائية وبدل إيجارات المساكن البديلة. هذا عدا عن الصدمات المتتالية  الناجمة عن فقد الأحبة  وخاصة أفراد العائلة وخسارة المعيلين اقتصاديا أو تغييبهم، وجهل حقيقة أوضاع المفقودين وإن كانوا أحياء أو ميتين.

كما يربط العديد من الاختصاصيين في الطب النفسي والعلاج السلوكي بين ارتفاع حالات الانتحار وتناول الأدوية المهدئة والأدوية المضادة للاكتئاب وحبوب المنومات، والتي يشهد استعمالها تزايدا غير مسبوق وغير منضبط.

وتشهد العديد من المناطق السورية حالات بيع لهذه الأدوية  دونما وصفة طبية مبنية على تشخيص طبي مختص، وبهذا يعاني متعاطوها من آثارها الجانبية بالغة الخطورة أهمها التعود والتسبب بهشاشة الجهاز العصبي وبالتالي عدم القدرة على ضبط النفس والسيطرة على ردود الفعل والانفعالات العصبية والنفسية التي تتأزم جراء ضغط ما، أو لغياب المادة الدوائية  تلك لأسباب عديدة قد يكون الفقر أهمها، هذا عدا عن الأعراض الجانبية التي تنشأ كرد فعل كيميائي في الجسم جراء استخدام الأدوية المضادة للاكتئاب، خاصة ما قد تتسبب بتعزيز الميل للانتحار الذي يكاد أن يكون بنيويا في حالات بعض المرضى. وجراء تزايد تعاطي كل هذه الأنواع من الأدوية، بات من الطبيعي أن تجد شابا مرميا على طرف الطريق وهو شبه مشلول الحركة، ساكن وخامد ، لا يتفاعل مع المحيط الخارجي، يحدق في المارة بحدقة جامدة في محجر العين أو متوسعة بشدة ، أو  أن تجد مريضا يكلم نفسه أو يثور غضبا ولا يهدأ إلا بعد ضرب أحدهم أو كسر شيء ما، لينخرط بعدها في نوبة بكاء مريرة تحرق القلوب وتضاعف حجم الخسارات.

وهنا لابد من الإشارة إلى أن عدد الأطباء النفسانيين الباقين في سوريا قليل جدا، ويقدر البعض أن النسبة قد تصل لتكون طبيباً واحداً لكل مائة ألف شخص، وهو ما يصعب التحقق منه.

ويمكن ملاحظة أن السمة العامة لحالات الانتحار هو تأكيدها من قبل الكثيرين، وإن لم تذكر رسميا، أو تسجل في إحصائيات منهجية لزوم الدراسة التحليلية والكمية للوصول للعدد الحقيقي والأسباب المباشرة وغير المباشرة.

ولا يتردد السوريون في  رواية سرديات الانتحار السوري، الأخطر أنهم يعتبرونها نتاجاً طبيعياً للحرب، وماذا لو كانت فعلا كذلك؟ أين الرقم الحقيقي ؟ وأين وسائل الحماية ؟ ومن ينصف الضحايا؟ من ينصف ذويهم من تهمة الجنون أو العقوق أو الخروج عن الأعراف، أو الضعف البشري أو العجز؟ ويمنع توسع قوائم السرد بأسماء جديدة تتحول لمجرد أرقام وقصص  مكررة بشفهية غير مجدية، تُتبع أحيانا بعبارة “يا حرام” ! أو “عجهنم فورا” ، كونه خالف أمر الله وهدر حياة لا يملكها هو أساسا.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا