تدريباتنا

التاريخ بقراءة مغايرة في رواية “الأفغاني-سماوات قلقة” لهوشنك أوسي

by | Apr 19, 2023

“الحياة والموت وجهان أبديان للعبث”، بهذه التداعيات للأفكار الملتبسة يدخلنا هوشنك أوسي في تفاصيل روايته الثالثة “الأفغاني –سماوات قلقة” الصادرة عن دار خطوط وظلال الأردنية لعام2021 إلى أجواء مكابدات بطله ذي الحيوات الممتدة في التاريخ، وهو الملقب بالأفغاني على الرغم أنه لم يثبت على انتماء محدد لبلد أو مكان، فكل صديق اقترب منه أو صاحَبه  يجزم بانتمائه إلى بلده وإلى مكان يخص من جاوره، وما يعنيه ذلك من المعرفة العميقة والحميمة بصفاته وتاريخه، في مشابهة مع فكرة رواية بول أوستر “4321” بالمصائر المتعددة للشخصية الواحدة.

 الرجل الاستثناء الذي يتجول بين العصور، هذه الشخصية المتنوعة بمنعرجاتها الفكرية والموشحة بالشعر والرومانسية في القصائد المتروكة بعهدة كل صديق وكل منها بلغة مختلفة ما يؤكد عمق انتمائها الذي يدعيه في مخاتلة من الكاتب الذي يكاد في كل رواية لحياة منها أن يقنعنا بها ليراوغنا في الحكاية الثانية فما أن نقارب على الاقتناع حتى يقوض فهمنا التالي للشخصية التي خلقها ببراعة في مرويات من شهده وعاشره قبيل مصرعه. 

هذا النسج لشخصيات متعددة تتوالد من شخصية واحدة فيما بقي في ذهن من عاصروه، الشخصية الإشكالية التي استطاعت أن تحوز على ثقة واهتمام كل من التقاه على الرغم أن الراوي لم يقابلها إلا خلال فترة بسيطة في معسكر اللجوء في جزيرة خيوس اليونانية التي جمعت أطيافاً بشرية من كافة أنحاء البسيطة،  ليتم جمع كل هذه المعلومات من خلالهم بعد موت هذه الشخصية ورغم الشكوك التي تحيط بهذه النهاية ولكن الكاتب أدار دفة العمل لما يغاير المنحى البوليسي في البحث عن القاتل وجعله في معرفة القتيل من خلال معارفه، فالأول منها يعتقد ومتأكد من أنه مصري من عشاق عبد الحليم حافظ والمقرئ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد ومن الذين شهدوا حرب مصر مع إسرائيل وله رأي يظهر فيه تخاذل السادات. 

الشخصية الثانية للأفغاني يفترضه فلسطينيًا هجر من أرضه و كبر وسط المأساة وعانى من نكبات متتالية؛ تهجير 1967؛ ومن ثم أيلول الأسود في الأردن؛ وبعدها شارك بحرب1982 بلبنان؛ وانتقل مع المقاتلين الفلسطينيين إلى تونس ومنها إلى لندن وبعدها رجع يتنقل بين العواصم خاصة بعد توقيع اتفاقية أوسلو ليترقى في المناصب الأمنية وبعدها استقال محاولًا الرجوع إلى حياته وتجارة الأقمشة ومعاودة  القراءة بعد أن يئس من السياسة، لأن بداية انتمائه الحزبي كانت  مشحونة بالأوهام عن أعداء الثورة الواجب تصفيتهم، الأمر الذي خلق مناخ الاحتراب بين الفصائل الفلسطينية،  ما جعله يكره ذاته إضافة لرأيه في قضية محمود درويش وناجي العلي بمن يخسر كل شيء ومن يفوز بكل شيء، وقد كان قد قرر أن يفجر قنبلة وأن يعترف بأنه أحد المتورطين باغتيال ناجي العلي لكنه اغتيل دون ذلك.

الشخصية الثالثة للأفغاني يفترضه أفغانيًا يعاني من تبعات ومخازي الاحتلال الأميركي وفجور جنوده وتعنت طالبان.

الشخصية الرابعة جزائري ابن يهودي تربطه علاقات مع قيادات الثورة الجزائرية والسلطات الفرنسية معًا الأمر الذي جعله في مرمى تهديدات المتطرفين أيام العشرية السوداء التي عصفت ببلد المليون شهيد.

الشخصية الخامسة تونسي أبوه شيوعي معارض للحبيب بورقيبة وقضى بالسجن ردحًا من الزمن ما اضطر الابن لترك المدرسة وإعالة أمه وإخوته بغياب أبيه

الشخصية السادسة إيراني جده من حزب تودة غدر بهم ستالين وأطلق يد الشاه في قمع جمهوريتي المهاباد الكردية وأذربيجان الإيرانية.

الشخصية السابعة كردي والده متورط بالصراعات الكردية الإيرانية والعراقية ووصية والده له بعد انتحاره هي الابتعاد عن السياسة فمن دخل مستنقع السياسة لن يخرج منه نظيف العقل والروح والضمير واليدين، وهو في كل هذه الشخصيات ثمة من يستهدفه ويفكر في تصفيته، ودائمًا ثمة قصيدة بلغة ما تؤكد انتماءه للشخصية التي لبسها عندما يتطور الحدث كبؤرة تتسع باستمرار للإيغال في تفاصيل شخصيات تتفرع من شخصية واحدة.

هذا التكنيك في السرد المتشظي تجاه قضايا عدة افترضتها الشخصيات المتناسلة التي نسجها ببراعة وهذا التنوع الذي خلقه في الحيوات العابرة للزمن والمتوزعة بانتماءات عدة من هوية مصرية وكردية وإيرانية وفلسطينية وسواها عاد وضيقها في الجزء الثاني من العمل بحصره استحضار الأحداث في موقعة النهروان وخلاف علي بن أبي طالب مع الخوارج.

مامن شيء حرج وشديد الحساسية مثل طرح الخلافات التاريخية ذات الفحوى الديني على بساط البحث والسجال سواء في المجال الفكري أو السردي أو النقدي، ولا ينفي ذلك الحاجة الماسة إلى رفع صفة التقديس عن كل القضايا ومناقشتها بمنطق العقل والعصر الذي لا ينتظر صحوتنا، وخاصة في ظل سعي محموم لذوي الرايات السوداء في التأليب والتكفير وتوزيع الجنة والنار وفق أهوائهم باعتبارهم قابضين على عنق الحقيقة.

بعد مرور كل هذا الزمن يطل الكاتب على الأحداث ليعيد تقييمها ورؤيتها بمنطق عقلي والاحتكام لضرورات عصرية بعيدًا عن نزاعات الطوائف والاصطفاف العاطفي. فقد عارض الخوارج عليًا لقبوله بتحكيم كل من عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري وهم ليسوا أصحاب ثقة ويتوقع منهم الغدر، كما عارضوا حصر الخلافة في قريش بين بني هاشم وبني أمية كونها لا تؤسس لشورى حقيقية، كما تأييدهم لضرورة وتطبيق حكم الله لما فيه نص صريح وهو قتال الفئة الباغية في تخيل الكاتب للحوار بين الفريقين ومستشهدًا بأحكام جلد الزاني وقطع يد السارق التي فيها نص واضح.

ولكن إن وافقنا على ماذهبوا إليه في البداية فالجزء الثاني من كلام الخوارج ذو النفس الراديكالي معطل للعقل في الاحتكام للنص دون سواه فعندما حلل عمر بن الخطاب إيقاف حكم قطع يد السارق في سنة المجاعة وإلغاء حق المؤلفة قلوبهم في المغانم والكلأ بعد أن قوي عضد الدولة في قراءة معاصرة للنص المقدس بتحكيم العقل وقراءة الواقع، فقد عرف عن الخوارج أنهم كانوا ميالين للعنف والتكفير والأخذ بالنص دون هوادة وربما كانت فكرة علي بن أبي طالب حقن دماء المسلمين فمن قال إن علي كان لينتصر على معاوية لو حاربه، وابن أبي سفيان معروف بثرائه ودهائه،  في أي حرب هناك احتساب لاستشراف النصر أو الخسارة وهنا دور القادة في استقراء الوقائع، ربما سارع علي لحرب الخوارج لأنه وثق من إمكانية انتصاره عليهم وربما الأفكار المتقدمة لم ينضج ظرفها التاريخي بعد، ونحن عندما نطرح شخصية ما على بساط البحث من غير الوارد أن نشيطن جهة ونضع الأخرى بجهة الملائكة ضمن العوامل المتقلبة المنتجة لفكر الجماعات والدول. فالخوارج كانوا متشددين في حضِّهم الثوري على أئمّة الجور، وفي استحلالهم لدماء مخالفيهم، والدعوةِ إلى العدالة الاجتماعية والمساواة ولكنهم رغم ذلك انزلقوا إلى العنف والدماء أو جروا إليه ويظهر ذلك في الانشقاقات المتكررة في جماعاتهم.

المثال الذي أورده الكاتب على لسان الخوارج حول آية الرجم كمثال على الاحتكام للنص، في نص مشكوك بنسخه إذ هناك من يقول إن عمر بن الخطاب أضافها إلى القرآن بعد أن نسخت (ثبت في صحيحي البخاري ومسلم وفي الموطأ والسنن الكبرى وغيرها من كتب الحديث نسخ آية الرجم لفظًا لا حكمًا أي: أنها بعد النسخ لم تعد من الآيات القرآنية، وبقي حكم الرجم الذي دلت عليه. قال السيوطي في كتاب الإتقان في علوم القرآن أن آية الرجم مما نسخ لفظها وبقي حكمها.) بالإضافة إلى أن فرقة من الخوارج والمعتزلة أنكروا حد الرجم فمن التناقض إدراج مثال ضمن حجاج المتحاورين في أمر مشكوك فيه بالأصل، وربما كان من الأفضل لو استخدم نصًا مختلفًا للبرهان والحوار الذي يتوه القارئ بين مرجعيته التاريخية وحقيقة وجوده وبين خيال الكاتب في استنطاقه لكلام الشخصيات التي يوردها، وبالعموم كمسألة فكرية الاحتكام إلى نص لزمن ما قد يعني قوة بالفكر ربما يفحم طرفًا في وقت ما، ولكن بزمننا أي احتكام لنص باعتباره الحقيقة المطلقة قد نعتبرها نوعاً من الانتقاص من القدرات العقلية للكائن المفكر.

ربما لو أبقى الكاتب الحوارية ضمن رموز لشخصيات روائية لتجنب المباشرة في طرح الحوار المتخيل بين الخوارج وعلي بن أبي طالب مما يجعل لكل ذي رأي الإدلاء بدلوه حول مصداقية الحوار والتوجه الفكري والمسألة الشائكة الذي لم يستطع الزمن المديد الذي يفصلنا عن هذه المشكلة رأب الصدع بازدياد تمترس كل وارث لفكر في موقعه وتناسل الضغائن والأحقاد.

تظهر المباشرة في طرح الأفكار في أكثر من جانب ففي الاستطراد الاستشهادي ((تشابه الخطاب الثوري الشيوعي مع الخطاب الجهادي الإسلامي)) تشابه ارنستو تشي جيفارا مع المجاهد الإسلامي في نصرة المظلومين ومناهضة الاستعمار وأيضًا الاستنتاج “أن التاريخ يكتبه المنتصرون لو انتصر هتلر أو ستالين أو لتغيرت كتابة التاريخ وفق منطقهم”، لا يترك  أوسي هذا الاستنتاج للقارئ ليترك له مساحة من القبول والاختلاف فيما يذهب إليه، كما أن المباشرة ظهرت في هذا الطرح للمماحكات الفكرية بين الخوارج وأنصار علي بن أبي طالب التي أخذت أكثر من شكل بالإضافة إلى إتباع قالب مكرر في السرد بشكل كبير كوجود أوراق في صندوق بعد مضي زمن عليه لتعاد قراءته مشكلة الجزء الأكبر من جسد العمل سبق أن فعله يوسف زيدان في “عزازيل” وآلان بادو في “عبدة الشيطان” وواسيني الأعرج في “ليالي ايزيس كوبيا” وغيرهم.

تختلط الشخصيات التاريخية بالشخصيات الروائية فهو يستنطق الأولى ويؤلف حججًا وبراهين على لسان الأخرى في حشد هائل منها، تتوزع بين الصحابة معاصري أيام الخلافة إلى عبد الله عزام والتنظيمات الجهادية التي يحتاج الخوض فيها إلى كتب وملفات واسعة تعج بالتفاصيل والتواريخ باحتشاد لا يجد القارئ صبرًا على الإلمام بكل هذا التاريخ، ولكن أهم ما فيها رفع صفة القداسة عن الأشخاص ومناقشة الأحداث بمنطق العقل الذي نتفق فيه أو نختلف.  

ولكن ما يجعلنا نتعاطف مع العمل أن الكاتب ينتصر لفئة مهزومة عبر التاريخ لم يبق لها مريدون ولكنها تحمل بذور حرية العقل إلى حد ما، فنحن نحتاج لمساحة الحرية التي تسمح لنا بمراجعة تاريخنا كله بمنطق العقل والبرهان الفكري لا التكفير والإلغاء، وإلا سنظل نؤجج الخلافات والتحزبات الطائفية والمذهبية إلى ماشاء الله وحتى لا تقوم لنا قائمة بعد اليوم.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا