تدريباتنا

الحياة في دمشق… اشبه بالموت

by | Nov 10, 2021

بيدين راعشتين، يخرج أبو أحمد ورقة نقدية من فئة ألفي ليرة سورية. يمسكها بحذر الخائف من السرقة، والحريص على ما يبدو أنّه آخر ما بجيبه. يتفحص الرجل السبعيني أقراص الفلافل، وهي تقلى من أمام واجهة أحد المطاعم الصغيرة في مدينة جرمانا بريف دمشق.
ينقل عينيه بين زبونين ينتظران دورهما، ينصت باهتمام لسؤال عابر من جواره، “كم سعر السندويشة؟”، يأتي الجواب: “1300 ليرة”، يتحسس العجوز ماله من جديد، وتبدو ملامحه وكأنّه يجري عملية حسابية بسيطة ومعقدة في آن، يسأل صاحب المطعم: “هل يمكنني أن آخذ سندويشتين بألفي ليرة”، يجيبه العامل: “نعم ولكن بعدد أقراص فلافل أقل”، يقول أبو أحمد: “لا بأس، واحدة بلا مخلل والثانية زيادة بندورة، لو سمحت”.
“لو سمحت”، بكل انكسار الكون يقولها الرجل السبعيني وبكل ما أوتي من عزة نفس مزقتها ظروف الأيام وأحوالها، أبو أحمد الذي عاصر أحداث “الإخوان المسلمين” نهاية سبعينات القرن الماضي، يقول لـ “صالون سوري”: “لم يحصل هذا وقتذاك، لم نجع أو نتشرد أو ننم دون طعام، لم نقف على واجهات المحال نشتهي ونتمنى، آخ على هذا البلد”. ببحة وقهر يقولها أبو أحمد، ويمضي ليأخذ سندويشتيه داخل كيس أبيض، على عكس ألوان أيام حياة السوريين، “تنتظرني أم أحمد في المنزل، اليوم قررت أن أدللها وأن نستعيض عن الزعتر واللبن بالفلافل، من حسن الحظ وسوءه في آن أنّه ليس لدينا أولاد”، وعن آخر مرة تناولا فيها اللحوم، يقول: “كان ذلك قبل أربعة أشهر حين كنا مدعوين لدى ابن عمي”.

وفي دمشق أيضاً
لا يبدو الحال في دمشق أفضل بأي شكل. سيدة في عقدها الرابع تقف على واجهة محل لبيع الألبان، في حي الشيخ سعد التجاري، على مقربة من وسط العاصمة، تراقب وتتمعن بالأسعار المعروضة، على الواجهة وضعت أسعار تقول أن كيلو الجبنة البلدي بـ 9400 ليرة سورية، والمغلية بـ 10000 والعكاوية بذات السعر، أما الشلل حب بـ 18000 ليرة، وكذلك المالحة والحلوة وحلوم، أما القشقوان فسعرها 19500 ليرة.
“حقيقةً وقفت مصدومة لهول الأسعار، بدايةً كنت أفكر بشراء بعض الجبن بألفي ليرة لزوم الإفطار والعشاء ربما، نحن خمسة أشخاص في المنزل، ولكن في ظل هذه الأسعار من الجيد أن يسمح لي بتذوق الجبنة فقط بألفي ليرة، يبدو أنّنا سنتناول الزعتر وبعض المكدوس أيضاً ليوم آخر”، تقول السيدة.
ولما أسمته شدة فضولها راحت تسأل عن أسعار الدجاج، رافقها “صالون سوري” ليرى طبيعة الأسعار فعلاً، ليتبين أنّ سعر كيلو الفروج 7400 ليرة، الشرحات 11500، الدبابيس 7100، وكيلو الجوانج 5400، هنا لم يكن من الضروري مراقبة ردات فعل السيدة وهي تقرأ، فكل ما كانت ستحسه كان واضحاً وجلياً يمكن لمسه وقراءته على جبين السوريين، السوريين الذين يبلغ متوسط راتب أفضل موظف فيهم سبعين ألف ليرة سورية، مبلغ بالكاد يكفي بضعة أيام، وبقية الشهر يقضيها السوريون بالشح والاستدانة و”تدبير راسهم”.

طعام اليوم
بحسبة اقتصادية سريعة، إذا أرادت عائلة مكونة من خمسة أفراد، تقليص وجبات طعامها الرئيسية من ثلاث وجبات إلى وجبتين فقط، وأن تقتصر هاتان الوجبتان على الفلافل، فستحتاج العائلة لـ 6500 ليرة على الفطور، ومثلها على العشاء، أي ما يعادل 390000 ألف ليرة ثمناً للفلافل فقط في الشهر، أي نحو خمسة أضعاف الراتب، وهذا دون دفع أي مصاريف للطبابة والمدارس والجامعات والفواتير وأجار المنزل والإصلاحات البسيطة وأجور النقل والملابس والخضار والفواكه… والخ
إذن، فإنّ راتب الموظف الحكومي يكفي في ظل هذه المعطيات ثمن فلافل لخمسة أيام بالضبط، لتبدأ رحلة يطلق عليها الشوام اسم “الحربقة” وتعني بصورة مبسطة “تدبير الراس”، لإيجاد طرائق وبدائل لإمضاء الشهر، قد تبدو المهمة مستحيلة حقاً، لكنّ السوريين خبروا أيام الفقر هذه، وعاينوها عن قرب، ووجدوا أساليب متعددة للتعايش معهما، بأقلّ القليل.

أكثر من عمل
سالم موظف حكومي ويعمل بعد الظهر سائق تكسي في دمشق، يخبر “صالون سوري” أنّه يعمل لدوامين متتاليين، فيعود إلى منزله بعد الحادية عشر ليلاً كل يوم، “أخرج صباحاً في السابعة والنصف، بالكاد أعود آخر اليوم لأرى زوجتي وطفلتي قليلاً، وأتعشى، ثم أنام فوراً، هذه حياتي وهذا شكلها، كذلك زوجتي تعمل من داخل المنزل في مهنة الخياطة، لا أقول أنّ دخلها سيء للغاية ولكنّه بالتأكيد ليس جيداً، إلّا أنّ دخلي ودخلها معها مجتمعين بالكاد يغطيان مصاريفنا الأساسية يضاف إليهما أجار المنزل المرتفع ومصاريف الطفلة الصغيرة”.

المشكلة بالدخل لا بالأسعار
تضحك ميرنا (طالبة جامعية) حين سؤالها عن انخفاض سعر الموز الذي وصل إلى أربعة آلاف بعد أن كان عشرة آلاف قبل أيام قليلة، “يبدو أنّ المشكلة ليست في سعره الذي انخفض، فرغم انخفاضه لا زلنا غير قادرين على شرائه، المشكلة في دخلنا، أنا أعمل بعد جامعتي في محل للمكياج براتب 60 ألف، ووالدي موظف، أما والدتي ربة منزل، ولدي أخوان، لولا أنّنا جميعاً نعمل، لما كنا تمكنا من الإكمال ولو بالحد الأدنى، وأقول الحد الأدنى لأنّ مرتبي كما هو، وفوقه مبلغ من إخوتي حتى يكفيني ثمن مواصلات وبضع محاضرات فقط، هل تعتقد أنّ زملائي لا يلاحظون أبداً أني لا أغير ملابسي كثيراً؟، ولا أصبغ شعري؟، ولا أروح لصالونات تجميل؟، نعم، هم يعرفون جيداً، ولكن كثر منهم مثلي، فليكن الله بعون الناس، ما يحصل ليس قليلاً”.

لقمة الذل
يقال أنّ السوريين شعب حي، ولكن قد يبدو مفهوم الحي مختلفاً قليلاً في هذه الأيام، فثمة حياة كالموت. هكذا يحياها ويصفها السوريون، وحياة لأجل الركض واللهاث خلف لقمة الطعام، فهذه عائلة تطالها وأخرى لا تصلها، وبين كل هذا وذاك، طبقة سوريةٌ أفرزتها الحرب، أناس لو اشتهوا الموز قد يشترون شاحنة، هذا ما يقوله المدرس الثانوي فاتح حمادة.
وفي كل الأحوال، يبقى أنّ الغالبية جائعة وخائفة وحزينة، تبحث عن خبزها كفاف يومها، عن لقمة كانت مغمسةً بالدم، وصارت مغمسةً بالذل، هل يصدق أحدٌّ أنّ سوريين كثر صاروا يتناولون طعامهم من القمامة؟!.

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

ينتظر السوريون في الأسابيع المقبلة بفارغ الصبر وفق تصريحات حكومية انطلاق المشغل الخلوي الثالث "وفا تيليكوم" المرتبط بإيران التي ستدخل على خط الاستحواذ في قطاع الاتصالات الحساس والذي ظلّ حكراً على متنفذي السلطة لعقود. من خلال التواصل المباشر مع مصادر متعددة من داخل...

تدريباتنا