الروائيّ مازن عرفة يكتب لمقاومة الذاكرة الجمعيّة ضدّ العبثيّة المتوحشة

by | Jun 18, 2024

يكتبُ الروائيّ السوريّ مازن عرفة (1955) نصّه بحرارةٍ تُشعلها الذاكرةُ ويطاردها الخوفُ وتُشتّتها السورياليّة المُطلقة. هذا ما نتلمّسه في أعمالٍ سابقةٍ له مثل “الغرانيق” و “سريرٌ على الجبهة” وصولاً إلى أعماله الجديدة “الغابةُ السّوداءُ” و “داريّا الحكاية”؛ يُمعن “عرفة” في تقديم مشاهداته السوريّة من بوّابة تجربته الذاتيّة ومحاكاته لواقع عايشه بالتفاصيل، ومرَّ عبرهُ بقسوة، ربّما احترق فيه ولم يُعد حتى الآن، لذلك لازال إنتاجه الأدبيّ عن سوريا دون تردد.

ثمّة فروق نقديّة توقّفنا عندها مع جديده اليوم، مثلاً حجم النصّ في كلّ رواية وأسلوبها ومعمارها الفنيّ. هناك تجريبٌ سرديٌّ لا ينتهي، ربّما مُشتّت، وآخرُ سبق وأن اختبرهُ قبل أعوام في أعمال سابقة. يتميّز صوته الروائيّ بزخمٍ مضطربٍ من الصور واختلاط الواقع بالحلم حتى حدود غير معقولة من الخيال والألم.

صدر للكاتب مؤخراً رواية “الغابة السوداء” (منشورات رامينا – لندن 2023)، ورواية “داريا الحكاية” (منشورات ميسلون – باريس 2023) واللتان كانتا “رواية واحدة، وجهين متقابلين متشابكين لعوالم “البلاد” وعوالم “الغربة”، حسب ما قال “عرفة”، وللمزيد حول ذلك أجرينا معه الحوار التالي:

عمر الشيخ :هناك تداخلٌ ما بين وقائع شخصيتك الحقيقية، والشخصية التي تعيش صراعات “الغابة السوداء”، مثلا تذكر دراستك في بولونيا وبعض التفاصيل التي يمكن الوصول إليها ببحث بسيط عن سيرة حياتك الحقيقية، كأنك تحاول اقتراح حياة تبحث عنها أو عشت شيئاً منها، ألا ترى ذلك ضُعفاً في التجربة يستنزف قصص “الأنا” حتى الرمق الأخير؟

مازن عرفة: أستخدم في جميع رواياتي “الأنا ـ الراوي”، وهي مفضّلة لي بدلاً من “الراوي. العالم”، لأنّها أكثر قدرة على التعبير عن المشاعر والعواطف والتجارب الشخصيّة، وهي ترتبط عميقاً برؤيتي للحياة، وطريقة التعبير عنها. الحياة هي بالنسبة لي رواية (أو بالأحرى مزيج من الرواية/ الفيلم)، وأنا أعيشها كما لو أنّني في قلب شكل من “المُحاكاة الإلكترونيّة”، يُختزل فيها دور “الإرادة” إلى أشكال من “الاستيهامات” و”أحلام اليقظة”ـ سواء على المستوى الفرديّ أو الجمعيّ.، مقابل نوع من “الحتميّة الخفيّة” المتحكمة بنا (“العولمة”، خاصة بشكلها “الاستهلاكيّ الاقتصاديّ. الثقافيّ”، و”شبكات التواصل الاجتماعيّة الإلكترونيّة”، و”احتكارات الأسلحة والمخدّرات والجنس” العابرة للحدود بكافة أشكالها، وليس آخرها “الماورائيّات الدينيّة”).

أحاول دائماً عبر هذه “الأناـ الراوي” تسجيل تفاصيل الحياة اليوميّة، لكنّي أتركُ الفانتازيا تلعب بالوقائع، باستخدام مزيج من “الواقعيّة السحريّة”، و”السورياليّة”، و”الكوميديا السوداء”، الأقدر على التعبير عن “استيهاماتنا”، و”أحلام يقظتنا”. لذلك، يُسيطر الشكل “الأوتوبيوغرافي. الفانتازيّ” على ما أكتبه، وهو ما يتوسع دائماً بآفاق تجربتي الإنسانيّة، في تنوعات الزمان. المكان.

إضافة إلى ذلك، لا أجد في “الأناـ الرواي” أيَّ ضعف أو استنزاف لديّ، فهي تمثيل لـ”الأنا الجمعيّة” بغناها، التي تتمزّق وتتبعثر باستمرار في مجتمعاتنا العربيّة إلى عشرات الشخصيات. تعود هذه “الانفصاميّة التعدديّة”ـ مثلاً في المجتمعات السوريّة، والعربيّة الشبيهةـ إلى أن الفرد هو نتاج مجموعة من البُنى المتشابكة؛ سياسيّةـ اجتماعيّةـ تاريخيّة. وتتمثل بـ”الاستبداد الشرقيّ البطريركيّ”، “والعسكرة الأمنيةـ الستالينيّة، و”الذهنية الدينية الدمويّة المتوحشةـ الجّهاد”. هذه البُنى تجعل من الفرد الواحد ممزقاً بالكامل إلى عدّة شخصيات، تحدّد هويتهُ المُتقلبة بينها؛ الظروف المتغيّرة، فيلعب في الوقت نفسه أدوار الازدواجيّة لثنائية “الديكتاتورـ البطل الثوريّ”، أو “الجلادـ الضحية”، أو “الطائفيّ. العلمانيّ”، على سبيل المثال، مع القدرة على تلّبس أيّة شخصية منها، واقعياً، حسب الظروف التي يعيش بها.

عمر الشيخ :إلى أيّةِ درجةٍ تعتقدُ أنّ النجاة-الآن، ومأساة-الماضي، هي فرص حياتيّة تُتيح مساحة آمنة للحكاية التي تريد تتويجها كتاريخ ربّما أو كـ توثيق فنيّ للألم السوريّ على طريقتك الأدبيّة؟

مازن عرفة: تنتظم جميع رواياتي في إطار “الحكاية السوريّة”، بمعناها الواسع، أينما يعيش السوريّ، بما فيه عالم المنافي. في العادة، تبدو العودة إلى الماضي نوعاً من “النوستالجيا المرضيّة” ـ بالنسبة لي، ما بين أربعينيات وسبعينيات القرن الماضي، حيث عشتُ طفولتي وشبابي، قبل انتشار الشكلين المتوحشين لـ”العسكرة” و”المدّ الدينيّ، الوهابيّ خاصة”ـ، إذ ينبغي للمرء أن ينظر للمستقبل بآمالٍ متجددةٍ. لكن عندما أنظر للمذبحة السوريّة الحالية، بآلام الحاضر وسوداويّة المستقبل المجهول أمامنا، أضطر للعودة إلى ماضي حياتنا ببساطتها، سواء الريفيّة أو المدينيّة. لا يكتفي كلٌّ من “البوط العسكريّ” والسيف الإسلاميّ” بتشويه سرديّة حكاياتنا؛ بل ويسعيان إلى خلق ترهات جديدة تلغي بساطتها وجمالياتها الإنسانيّة. لذلك، فالتوثيق الروائيّ لـ”الحكاية السوريّة”، على طريقتي بالفانتازيا، تجعلها عابرة لـ”الزمان ـ المكان”، كنوعٍ من مقاومة “الذاكرة الجمعيّة” ضدّ العبثيّة المتوحشة التي نعيشها!

عمر الشيخ :ما بين فصلي “الصور” و”المتاهة” حتّى النهاية؛ يُلاحظ في روايتك “الغابة السوداء” أن هناك انفلاتاً مفاجئاً من تجميع خطوط الحكاية عبر الشخصيات المحيطة بالشخصية الرئيسية التي تحكي بضمير المتكلم (أنا)، وتقذف بالقارئ إلى هلوسات لا تنتهي بين الماضي السوريّ والحاضر الألمانيّ، ألا تخشى على شكل معمار روايتك من التشتّت؟

مازن عرفة: بالعكس، التشتّت ليس في بنية الرواية، وإنّما في حياة “المهجر السوريّ”، وهذا ما أحاول أن أعكسه بكتاباتي. لا تنس أن هناك ما لا يقلُّ عن ثلاثة عشر مليون مهجر خارج سورية، وعدداَ آخر كبيراَ داخلها. وبالأصل كلّ منّا يعيش “المنفى” في داخله، سواء كان فيها أو خارجها. لكنّ الأزمات النفسيّة تتراكب لدى كلّ منا كمُهجرين، خاصة إلى أوروبا، تلاحقنا “كوابيس المذبحة السورية” ليلاً، لنستيقظ على كابوس نهاريّ آخر، مرتبط بضياع ذواتنا في مجتمعات نفتقد فيها الحميميّة الشرقيّة. نحن نعيش الحنين إلى “الحكاية السوريّة”، لكنّه تمّ تدمير أُسسها الماديّة! وإذا عدنا، لن نجد بيوتنا ومراتع ذكريات طفولتنا وشبابنا. وفي الوقت نفسه نحن نعيش في أوروبا دون “حكاية”، في حين أن أطفالنا سيبنون حكاية شخصية لهم؛ ألمانيّة، فرنسيّة، سويديّة…إلخ، أي حكاية سيقتلعون فيها بالكامل من جذورنا.

“ظلمة الغابة السوداء” تعيش في ذواتنا، على طريقة “جوزيف كونراد” في روايته “قلب الظلام”، التي نُشرت في نهاية القرن التاسع عشر، وأعادها فرانسيس كوبولا فيلماً “القيامة الآن”، في نهاية القرن العشرين. ومع أنني أستقي فكرة الظلمة من هنا، إلا أن “الغابة السوداء” لدي تصبح “الغابة المُنيرة”، عندما نتخفف من آلامنا بروايتها حكاية. والحكاية تعني الذاكرة والجذور، وبالتالي التماسك قدر المستطاع في وجه التشتّت والتمزق.

عمر الشيخ :هناك مسرحةٌ سورياليةٌ في الجانب الخاص بهلوسات بطلك في رواية “الغابة السوداء” وكأنّنا نتلمس نوعاً من “أدب الشواش” هنا. برأيك إلى أي حدّ يمكن للكاتب إعادة تدوير “ثيمة” الأحداث بما أنك تناولت حالة “الشواش” في روايتك السابقة “الغرانيق” بشكل كبير أيضاً؟!

مازن عرفة: في “الغرانيق” كانت شخصية “الأناـ الرواي” أكثر من مشوشة، كانت متقلبة بانفصاميّة متشظيّة، بسبب عدم القدرة على اتخاذ موقف. كان هو “الشاب الثوريّ العنيف”، الذي سيتحول بظروف القمع إلى “إسلاميّ متشدد”، وفي الوقت نفسه هو “الزعيم الجنرال الديكتاتور”، و”المثقف الانتهازيّ المتقلّب”؛ جميعها وجوه لفرد واحد، حسب الظروف التي يعيشها. تطورات “الثورة السوريّة”، والعنف الدمويّ والتهجير الديموغرافيّ الذي سيرافقها… كلّ هذا جعل من الصعب اتخاذ مواقف حاسمة فيها، ناهيك عن لعبة “الضحيةـ الجلاد” المتبادلة لدى الفرد نفسه. المهجر السوريّ في “الغابة السوداء” يعيش واقعاً جديداً، فبالإضافة إلى تمزقاته التي يحملها في داخله من البلاد، ستنمحي شخصيته بالكامل (وبالتالي هويته)، في “اللا بلاد”؛ في مجتمعات مريعة، تفتقد الحميميّة والدفء الإنسانيّ والتكافل الاجتماعيّ في بنيتها، بعكس ما اعتاد عليه كشرقيّ. ويتحول بعد اقتلاعه من جذوره إلى أكثر من مُهمش، إلى مسحوق بالوحدة المُريعة، دون أن يستطيع الاندماج بما حوله، وتتحول حياته إلى عالم من الهلوسات مرتبطة بتمزقاته، وكأنّه يعيش في “محاكاة” مرعبة. نحن نعيش الشّواش والتمزق والضياع و”المنفى” في داخلنا أصلاً، لكنّها تزداد حدة في مجتمعات الغربة. ربما تلملم “حكايتنا” بعضاً من ذواتنا، وتعزز “الذاكرة الجمعية” كهوية، تصمد في وجه غربة نفوسنا، سواء كنا في البلاد أو خارجها.

عمر الشيخ :تبدو رواية “الغابة السوداء” تجربة أكثر اختزالاً عن رواياتك السابقة، من حيث الحجم وأسلوب البناء الأدبي وتكثيف الصور والجمل القصيرة، ووحدة الموضوع، وهي تعكس واقعيّة سحريّة من النوع المأساويّ، ولفتتنا جملة تقول “ماذا يعنني الاسم والهوية إذا لم ألتقِ أحداً كي أعرف عن نفسي؟” هل تعتبر تلك النظرة تبشيراً بالعدميّة الممتدة من سوريا إلى السوريين في لجوئهم؟ 

مازن عرفة: أعتمد في روايتي دائماً على عنصري “الغرابة” و”إثارة الدهشة”، في إطار عوالم مجنونة. في البداية، كنت أستفيض في الوصف رغبة في إيصال تفاصيل حياة يوميّة مُحددة. لكن في روايتيّ الأخيرتين؛ “الغابة السوداء”، و”داريا الحكاية”، وبسبب كثافة “الهلوسات” و”الكوابيس” و”اللّامعقوليّة”، التي تميزهما، وجدتُ أنّي بحاجة إلى تكثيف “المعنى” في كلمات جمل قصيرة، إنّما بطريقة شاعرية، تسمح بانفتاح المعاني على “استيهامات” مُتعددة. وقد تَطلّب هذا تطوير طرق التعبير الأدبيّ المكثف لدي، بحيث تقترب بعض النصوص فيهما من شاعريّة كثيفة، وأدى هذا إلى اختزال النص. لكن هذا لم يحدث عفوياً، ففي الأصل كانت كلتا الروايتين الأخيرتين رواية واحدة! وجهين متقابلين متشابكين لعوالم “البلاد” وعوالم “الغربة”. واضطررت إلى فصلهما بسبب إشكاليات النشر. رغم أن أوروبا تحترم “تعدّد الثقافات”، ضمن مفاهيم “حقوق الإنسان”، إلاّ أنّه في نهاية الأمر يبدو أن مفهوم “اندماج المهجر” يتطلب عملياً التحول إلى “برغي في ماكينة العمل الضخمة” لديها، والانغماس في “رتابة الحياة وإيقاعاتها السريعة”، ضمن تعقيدات مجتمعات عولمية متقدمة. وبالضبط من أجل هذا تستقبلنا أوروبا، وهي تفكر باحتياجاتها الاقتصادية. وإذا كان جيلنا يعاني تمزق “الهوية” في مجتمعات غريبة بالكامل، بعيداً عن حميميتنا الشرقية، فماذا سيحصل مع أجيالنا التالية، التي لن تتذكر سورية التي نعرفها، خاصة في ظل احتلالات يبدو أنها طويلة الأمد؟ ربما يحاول كلّ منها فرض قيمه الخاصة، بالارتباط مع تغيير “البنية الديموغرافية” فيها. هل ذلك عدمية، أو واقع…؟

عمر الشيخ :لاحظنا وجود صراع أخلاقيّ لدى البطل في تبرير سلوكيات أصدقائه في مجتمع منفتح مثل ألمانيا، وشيئاً من الإضاءة على “ازدواجيّة المعايير”، “العنصرية”، “التطرّف”، “فوبيا الدين”.. وتفكيك مفرداتهم وقصصهم وظهوره كضحية إلا قليلاً! أضف إلى أنّه على نحو ما يبدو رومنسياً بشكل غير معقول، هل تريد الإشارة إلى مدى السذاجة التي تعاني منها الشخصية السورية في المنفى؟

مازن عرفة: شخصياً أعد نفسي مواطناً أقرب إلى “الكوزموبوليتانية” بثقافات متعددة؛ “عربية”، و”فرنسية” و”بولونية” (عشت في بولونيا ما يقارب ستة أعوام)، والآن “ألمانية”، فلا أجد أي مشكلة لي في مجتمع غريب. لكن أفكر بجيل المهجرين السّوريين، خاصة الذين تجاوزت أعمارهم الأربعين، الذين قدم معظمهم إلى بلد أوروبي لأول مرة، يحملون في لاوعيهم “ما ورائياتهم الدينية”، و”نرجسياتهم وخيلائهم الشرقيّ” المرتبطة ببنى “ما قبل الحداثة”؛ “الطائفة” و”العشيرة” و”العائلة”، والأهم “اعتيادهم على الانفلات من القانون” في مجتمعات “الفساد العربيّة”. مثل هؤلاء سيصطدمون بشكل مريع بقيم مخالفة لهم ومستفزة؛ “سيادة القانون”، “المجتمعات اللادينية”، “ممارسة الجنس فيما قبل الخامسة عشر”، “مجتمع (الميم) بعوالم المثليين والمتحولين جنسيّاً”، “شرعنة تدخين الحشيشة”، “منع الأهل من ضرب الأطفال”، “حرية اتخاذ الأولاد قراراتهم، والانفصال عن أهلهم بحماية القانون”… هم لا يستطيعون منع جيل أطفالهم من الاندماج في هذه الحياة، ولا يسعهم سوى أن يتمزقوا، ولا يبدو الموقف عندئذ “موقف أخلاقيّ” أم لا. أنت أمام مجتمعات استقبلتك بكل احترام كـ”مهجر حرب” وقدمت لك المأوى والأمان وفرصة العمل الكريم، وهو ما افتقدته في بلدك، فماذا تفعل أمام قيمها الاجتماعيّة المغايرة.

عمر الشيخ :“داريا الحكاية” كانت تتسلسل ببداية ممتعة عن تفاصيل سورية عريقة في تاريخ المجتمع وعاداته وتقاليده، ما لبثت الرواية إلى أن تحولت إلى ساحة حرب، هل تحاول أن تظهر لنا بساط الحياة التي كانت وانقلابها مع وجود العسكر في السلطة؟ 

مازن عرفة: ليس فقط وجود العسكر في السلطة، وإنّما أيضاً انتشار المدّ الإسلاميّ، برمزيتهما معاً “البوط العسكريّ”، و”السيف الإسلاميّ”؛ وجها القمع للعملة نفسها، خاصة منذ سبعينيات القرن الماضي. في جميع رواياتي، أحاول إعادة إحياء “الحكاية السورية” بجذورها، ليس كـ “نوستالجيا”، وإنّما في مواجهة “التشويه” الذي نالها من هذين الطرفين. في بداية “داريا الحكاية” استخدمت شكلاً من “الواقعية الشعريّة” لوصف حياة الناس البسيطة، قبل “عسكرة البلاد” بشكل شمولي. لكن، بالوصول إلى حاضرنا مع “الربيع العربيّ” وتداعياته المأساويّة، لجأتُ إلى نوع من “سوريالية اللّامعقول”، وهو ما لا يمكن وصف ما حدث فعلاً في الواقع إلا بها. يُضاف أنّه بواسطتها يمكن الذهاب من الخاص إلى العام، لتشمل ليس فقط المناطق السورية الأخرى، وإنّما أي مكان أو زمان تنتهك فيه كرامة الإنسان بوحشية الحروب ومجازرها.

عمر الشيخ :شعرنا في “داريا الحكاية” بالكثير من الاضطراب بسبب كمية الكره نحو شريحة اجتماعية تنتمي لها سلطة النظام في سورية، ألا يخيفك هذا الانحياز بوضع كلّ من ينتمون لتلك الشريحة بأنهم متهمون أيضاً، حتى لو لم يوافقوا على إرهاب تلك السلطة وأفعالها؟

مازن عرفة: ليس اضطراباً، وإنّما مواجهة واقع حدث فعلياً، حتّى نفهم كيف تطورت الأمور لاحقاً، بهذا العدد الهائل من القتلى والمعوقين والمهجرين المشردين، بما فيه مشروع “التغيير الديمغرافيّ” في سورية، وهو ما يتم الحديث عنه بالملايين بلغة الأرقام. استغلت السلطة الديكتاتوريّة العسكريّة التجييش الطائفيّ في قمع سلمية “الربيع العربي”، وهو ما أدى إلى ظهور “الأسلمة” بوجهها الوحشيّ ضمن ظروف إقليمية ودولية معقدة. وبالتأكيد، لا ينبغي تعميم رموز القمع من أي طرف على أي مجموعات أثنيّة أو دينيّة أو طائفيّة، إذ إن كثيراً من أفراد من هذه المجموعات لهم تاريخ نضاليّ طويل من أجل الحريّة ضد السلطة الديكتاتورية نفسها، قضى قسما كبيراً من حياته في المعتقلات، قبل في “الربيع العربي”، وشارك في بداياته السلمية. وهم أصدقاء شخصيون يعيشون الآن المنافي مثلنا. يستند مشروعي الروائيّ كلّه عن “الحكاية السورية” على مواجهة سوريالية ما حدث، بالسوريالية نفسها، كأحد أشكال الفانتازيا.

عمر الشيخ :هناك نوع من الموافقة الضمنيّة على استخدام “أدبيات إعلامية” ليست دقيقة، كانت قد أنتجتها فئة من “المعارضة السورية” ألا تعد ذلك شحاً بالمخيلة لإعادة انتاج مفردات رمزية تبعد العمل عن خانة التصنيف الفوريّ بأنه مراجعات أدبية عن تقارير واقعية لأحداث وثقها الإعلام؟

مازن عرفة: الرواية هي رؤية أدبيّة ـ فانتازية، تحاول أن تنتقل من خصوصيّة منطقة، للتعميم على جميع المناطق السوريّة. لكنّها تنهض في الوقت نفسه على وثائقيّات محدّدة؛ الأول منهاـ وهو الأهمّ. ما شهدته أنا نفسي شخصياً، وقد عشتُ هذه الفترة في بلدتي بريف دمشق الغربيّ، المُلاصقة لداريا، بكلّ أجواء جنون المجازر الوحشيّة السائد وقتها، وربّما نجوت بحياتي منها بالصدفة. وثانياً شهادات أصدقاء من أهالي داريا أنفسهم، الذين نجوا من المجازر فيها بأعجوبة. لكن إلى جانب ذلك، كانت هناك مفاتيح مهمة، هي تلك الوقائع الموثّقة بالفيديوهات، ومن قبل منظمات دولية. الكثير منها هي من وثائقيات النظام الديكتاتوري نفسه، التي يفتخر بها. لا توجد عائلة في سورية إلا ولها قتلى في “المُعتقلات السوريّة”، وتحت “البراميل المتفجرة”، ومهجرين مشردين لكني في روايتي كنت موضوعيّاً، فالفصل الرابع، وهو من أهم الفصول التوثيقيّة، الغارق بالكامل بـ”سوريالية الجنون اللّامعقول”، يستند على واقعة قامت فيها “داعش” بسحق أحد الجنود تحت جنازير دبابة، مقابل وقائع شبيهة قام بها الجنود المتعصبون وميليشياتهم في الطرف المقابل. الضحية في كلّ الأحوال هي “الإنسان السوريّ”.

عمر الشيخ :انتقدت في ختام روايتك “لغة الدّم” ألاّ ترى أنك أيضاً استخدمت ذات اللّغة في تجسيد الوجع السوريّ في هذا العمل، ألا يمكن للأدب أن ينجو من الدم؟ وإذا كان الجلاّد شريراً هل يجب أن نكون أكثر شراً منه لنرفع صوتنا؟ ألا ترى ذلك تجريداً من الإنسانيّة يجرنا نحو وحشية مطلقة؟

مازن عرفة: الراوي في “داريا الحكاية” يحمل جُثث المجازر في داخله، ترافقه في الذاكرة دائماً، هي “حكاية السوريّ” أينما تنقل. الجُثث برمزيتها ضاجة لا تهدأ، إلا إذا تم رواية حكاياتها للزمن. حدث هذا أيضاً في “الغابة السوداء”، حيث ستتحول في داخلنا إلى “الغابة المُنيرة”، بمجرّد أن نروي حكاية مآسينا، ونتخّف بذلك من آلامها. الهدف من رواية “الحكاية السوريّة” في “مشروعي الروائيّ” هو تحدي رموز القمع بكافة أشكاله، وتوثيق مجازره، وإنّ عن طريق الفانتازيا، حتّى لا ننسى. وسيأتي الزمن المناسب، ويحاسب التاريخ رموز القمع هذه بكافة أشكاله. ليست وظيفة الأدب التغيير السياسيّ المباشر، وإنّما هو نشر الوعي بقيم الحياة الإنسانيّة واحترام حقوق الإنسان وكرامته.

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

مهن سوريّة تُبعث من رمادها

مهن سوريّة تُبعث من رمادها

للعمل الحرفي في سوريا - سيما العاصمة دمشق – مكانة خاصة وتاريخ قديم يذهب بنا عميقاً في ردهات الزمن، حِرف أصبحت مع الوقت وجهاً من وجوهِ دمشق، وسوراً من أسوارها، وعطراً لاذعاً تفوحُ مقتنياته من زوايا بيوتها الدافئة كما تفوح روائحُ التوابل من أسواق ساروجة ومدحت باشا، شأن...

الحرية وأطيافها المشعة في رواية “زهر القطن” لخليل النعيمي

الحرية وأطيافها المشعة في رواية “زهر القطن” لخليل النعيمي

في بادية مترامية الأطراف لا تلحظ بداية لها أو نهاية يستشعر خليل النعيمي جماليات الحياة العفوية والفطرية في بيئة قاحلة وجافة، إذ يراها مزركشة بالشمس والندى والهواء في روايته العاشرة "زهر القطن" الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، بسرد يحاكي السيرة الذاتية...

سوريا: صحة الفم والأسنان ليست على قائمة الأولويات

سوريا: صحة الفم والأسنان ليست على قائمة الأولويات

على مدار سنوات، عانت دليلة (68 عاماً- ريف دمشق) من تسوس ونخر ظاهرين في عدد من أسنان الفكين السفلي والعلوي، مع ذلك لم تقدم على زيارة الطبيب بسبب تردي الوضع المادي للعائلة، غير أنها قررت أخيراً الخضوع لسلطة الأمر الواقع نتيجة ألم مباغت في ضرس سفلي مكسور، بقي جذره عالقاً...

تدريباتنا