تدريباتنا

“الصلح خير” مقابل الثأر العشائري

by | Mar 24, 2022

بعد انسحاب القوات الحكومية تدريجياً من مناطق عديدة من أنحاء البلاد، بينها ريف دير الزور الشرقي؛ غابت دوائر القضاء والمحاكم الحكومية والشرعية عن معظم هذه المناطق مترامية الأطراف منذ نحو 10 سنوات، الأمر الذي دفع الأهالي وسكانها للعودة طواعية ًالى القانون العشائري العرفي الذي يتيح أن تحل العدالة القبلية محل القوانين المدنية الوضعية عند اندلاع توترات ونزاعات.
فالمنطقة خضعت لسيطرة جهات عسكرية إسلامية متطرفة وفصائل وقوات مسلحة تركت سنوات حكمها موجة من الخلافات والصراعات، وانخرطت فيها عشائر لفرض عرفها كبديل لنظام العدالة الاجتماعية ومحدودية تدخل السلطة أو الحكومة، لكنها وبعد مرور هذه السنين باتت تهدد الاستقرار والسلم المجتمعي نظراً لأن الولاءات العشائرية دعمت بشكل مستتر جهات عسكرية متناقضة بالحرب الدائرة في البلاد.

“الصلح خير”
وفي إطار سعيها إلى إعادة ترميم العلاقات بين أبناء المنطقة وتعزيز التماسك المجتمعي، أطلقت خمس منظمات وجمعيات مدنية حملة بعنوان “الصلح خير” مناصرةً لتعزيز دور “لجان الوساطة المجتمعية” بريف دير الزور الشرقي، واستهدفت المدن والبلدات الخاضعة لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) المدعومة من تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية. وتشارك في الحملة جمعيات «ديرنا» و«فراتنا» و«سامه» و«ماري» و«إنصاف للتنمية»، وشكلت هذه المنظمات “لجان الصلح”، وتلعب شخصيات مجتمعية بارزة مثل رؤساء عشائر ووجهاء وقضاة وقانونيين دوراً فعالاً في التسويات العشائرية التي تصدر في بعض الاحيان أحكاما صارمة لمنع الفتنة والاقتتال العائلي لتجنب انتقام أبناء القبائل.
وعن أهمية الحملة ودورها في دعم جهود وصلاحيات “لجان الصلح”، يقول الناشط أيمن علاو لـ “صالون سوريا”، إن الحملة مدعومة من “مؤسسة الشارع للإعلام والتنمية”، وهدفها حل الخلافات بين الناس بالطرق والأدوات السلمية، “لتخفيف حدّة تلك النزاعات ومنع تفاقمها لأن المنطقة شهدت فوضى سلاح وحروب كثيرة، بغية كسر دائرة العنف التي أحاطت بالمجتمع خلال السنوات الماضية”، ويرى بأن هذه المناطق ذات طابع عشائري وما يزيد من تعقيد الوضع وتأزمه غياب الدوائر والمحاكم المختصة بعد سنوات عجاف من الحرب.
وأوضح بأن المنطقة كان يسودها العرف العشائري حتى بوجود القوات النظامية والسلطات الحكومية، ليزيد: “كان جلياً عندما تتدخل الدولة لحل خلاف عشائري تتصرف وكأنها جزء من المنازعات القبلية، بدلاً من السعي لإيجاد وسائل بديلة لمحاسبة المتورطين الأمر الذي قوض القضاء والحط من شأنه”.

منذ 3 سنوات تخضع هذه المنطقة لـ “مجلس دير الزور المدني” التابع لـ “قسد”، وشكلت بدورها مجالس قضائية وتشريعية لتحل مكان هيئات القضاء ودور المحاكم والسلطة المركزية، وقامت هذه الجمعيات بتأسيس “لجان الصلح” وتعمل منذ بداية العام الماضي ونجحت في حل العديد من النزاعات العشائرية ومشكلات تتعلق بقضايا معيشية في ظل نقص الموارد والأزمة الاقتصادية، الى جانب التدخل في حل خلافات تنظيم توزيع الكهرباء من المولدات الخاصة وتوزيع الماء بشكل عادل وتوزيع مادة الخبز على الأهلي منعاً لحصول أزمات غذائية.
وأخبر أيمن علاو بأنها ساهمت بحل قضايا الخلافات الشخصية بين سكان المنطقة والنازحين من مناطق أخرى، وصولاً إلى المشكلات الناتجة عن حوادث المرور والابتزاز عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها من القضايا التي تُقلق السلم والاستقرار المجتمعيين، لافتاً بأن أعضاء اللجان والمشاركون في “لجان الصلح” هم وجهاء وشيوخ عشائر ونخبة من القانونيين والمحامون وشخصيات فاعلة ممن لديهم خبرة في حل القضايا المجتمعية، ويمتلكون سمعة حسنة وطيبة بين الأهالي: “لجان الصلح لديها مكتب في كل منطقة وبلدة تشارك في كل منها سيدة وفتيات لوجود قضايا ومشاكل تتطلب حضور النساء إلى جانب الرجال لفهم حيثيات الدعوى”.

خلال أحد النزاعات نهاية فبراير (شباط) الماضي في بلدة غرانيج بريف دير الزور الشرقي على خلفية ثأر بينهما، دارت اشتباكات مسلحة عنيفة بين عائلتين من عشيرة الخابور العربية تسببت بوقوع ثلاثة مدنيين قتلى وعشرات الجرحى، وفرضت قوات الأمن الداخلي حالة من حظر التجول غير المعلنة خوفاً من وقوع المزيد من الإصابات، واستخدم الطرفان الأسلحة الرشاشة الخفيفة والمتوسطة والقنابل اليدوية، واستنفرت قوى الأمن والقوات العسكرية التابعة لمجلس “دير الزور العسكري” لضبط الحالة وحقناً للدماء خوفاً من اتساع رقعة الاشتباكات لأن أبناء المنطقة أولاد عمومة تربطهم علاقات قرابة الدم.
ونقل تركي وهو من أبناء عشائر العقيدات ينحدر من بلدة ذيبان بريف دير الزور الشرقي أن النزاعات العشائرية وقضايا الثأر هي أخطر الظواهر التي تهدد الاستقرار والسلم الأهلي في المنطقة، وقال: “كونها تقع دون تخطيط مسبق نتيجة قضايا تتعلق بالميراث أو انتقاماً لمقتل أحد أبناء العشيرة في وقت سابق، مشيراً الى أن ظاهرة الأخذ بالثأر أو الاقتتال العشائري موجودة قبل عام 2011، “النظام وقتذاك كان يتفرج على الأطراف المتقاتلة دون أن يحرك ساكناً لمنعها، بهدف أضعاف احدها ومحاسبة الثاني، أما اليوم تقف قوات (قسد) عاجزة ولا تتدخل خشيةً من سقوط مقاتليها”.
وتنشب في هذه المناطق بشكل متكرر نزاعات مسلحة بين أبناء العشائر غالباً ما تتطور إلى معارك ضارية، وبفعل هذا العنف الذي يؤدي أحياناً إلى سقوط أبرياء وما يترتب عليه من عمليات ثأر عائلي، تقف القوات الأمنية على حياد خوفاً من الانتقام، ويقول المحامي سعيد القدرة وهو عضو في الأمانة العليا لـ(لجان الصلح) بأنهم يستندون لمزيج من العرف العشائري والقانون السوري التشريعات الدولية ذات الصلة ومواثيق حقوق الإنسان، وأكد في حديث الى موقع (صالون سوريا): “نعتمد على خبرات محلية وتجارب أعضاء اللجان ومعارفهم من وجهاء وأصحاب دراية بالعادات والتقاليد، فالهدف الاسهام في ترسيخ مبدأ الصلح ليكون سيد الأحكام”، ولدى هذه اللجان نحو 40 قضية حالياً منها تتعلق بالملكية والميراث وحدود الأراضي والعقارات ومنها اقتصادية وخدمية وقضايا الثأر والحق الشخصي، وخضع أعضاء اللجان لدوريات واستشارات لمعرفة حيثيات الدعاوي وكيفية حلها بالطرق السلمية.
وتابع الخبير القانوني بأن الجمعيات المشاركة بالحملة تعمل عبر الورشات التدريبية واللقاءات الجماهرية وتوزيع منشورات ورقية ذات صلة، “نحض الأهالي وأبناء المجتمع المحلي التخلي عن العنف وترك السلاح واللجوء الى الحلول السلمية، والمحافظة على النسيج الاجتماعي الذي مزقته سنوات الحرب السابقة”، بحسب المحامي سعيد القدرة.

تبلغ مساحة دير الزور المحاذية للحدود العراقيّة نحو 33 ألف كيلومتر مرّبع، وهي تشكّل 18 في المئة من مساحة سوريا (البالغة 185 الف كلم مربع)، وجغرافية المحافظة باتت منقسمة عسكرياً بعد معركة الباغوز بشهر (آذار) 2019؛ تخضع جهتها الجنوبية وجزء من الشرقية ومركز المحافظة للقوات الحكومية الموالية لنظام الأسد، بينما تخضع المدن والبلدات المحاذية لضفة نهر الفرات الشمالية لسيطرة (قوات قسد)، وتدير المنطقة هياكل حكم محلية ومجالس مدنية وتشريعية خاضعة لـمجلس دير الزور المدني.
وبحسب محمد المحمد مدير منظمة «إنصاف للتنمية» وأحد الشخصيات المشاركة في لجان السلم الأهلي، أن نحو نصف مليون شخص، استفادوا من عمل هذه اللجان بشكل مباشر، وتنشط “لجان الصلح” في مدينة هجين والقرى التابعة لها، وبلدات أبو حمام والكشكية بالريف الشرقي، وبلدة محيمدة والقرى التابعة لها، وبلدة جديد بكارة وما يتبعها، وبلدة البصيرة وما يحيطها من قرى.
وقال لـ “صالون سوريا”: “عقدنا اتفاقات ومذكرات تفاهم مع المجالس المدنية والتشريعية التي تدير هذه المناطق”، كما يقوم فريق المنظمة بمراجعة القضايا التي يتم تدوينها لدى ديوان لجان الصلح): “ثم نعقد ندوات جماهيرية وورشات تدريبية، بهدف نشر أفكار تعزز القيم المجتمعية، واستخلاص العبر والحلول وطرحها على أكبر شريحة من المستفيدين”.
ورغم ان اندلاع العنف العشائري ليس جديداً بهذه المناطق وأصبحت أكثر تكراراً وتجاوزت في بعض الأحيان السلطات الحاكمة لتسفر عن اشتباكات مع قوى الأمن والقوات العسكرية نفسها، ويقول أعضاء الجمعيات المنظمات والمجتمع المدني أن النزعة العشائرية أحد أعراض ضعف سيادة القانون والذي يعود الى ما قبل بداية الاحتجاجات المناهضة لنظام الحكم وانحساب القوات الحكومية، ويقول أحد الناشطين المدنيين: “هنا الانتماء للعشيرة يأتي قبل الانتماء للدولة أو المجتمع الذي نعيش فيه، اليوم نرى احتكاماً أكبر للعشيرة بحل المشاكل الحياتية للناس”.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا