تدريباتنا

“الميت لا يجر ميتاً”: عن تباين مواقف السوريين والسوريات من حرب غزة

by | Nov 6, 2023

يعرف السوريون\ات الحرب جيداً، اختبروها بكل عنفها، واختبروا كل أشكال القتل والتغييب والتدمير والجوع والنزوح واللجوء والموت داخل سوريا وخارجها. ماتوا على الحدود وفي البحر وفي بلدان الشتات الممتد. يعرف السوريون فلسطين جيداً، يعرفون شعبها ومعنى الحروب الطويلة والإصرار على حق البقاء أحياء على أراضيهم والتمسك بحق العودة.

ولكن معرفة الحرب لاتكفي للجمها. وإن كان لدماء الضحايا وخاصة المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ وعجزة قول بليغ وصريح دونما إفصاح: “يجب وقف هذه الحرب وفوراً.”

يمكن القول إنه ثمة تبدل شبه عام وخاصة في سورية في الموقف من الحروب، لم تعد الغالبية تراها حلاً ولا وسيلة لتثبيت الحقوق أو استعادتها، ومن كان يخاف متردداً في إعلان مسؤولية مشرعي القتل والتدمير عن دم الضحايا، بات يعلن موقفه بعالي الصوت، وإن شابَ ذلك بعض التردد خشية ردات فعل أولي الأمر.

ترددت عائشة في إعلان رفضها لحماس مع أنها افتتنت بطريقة الاختراق الفلسطيني، كان ثمة إبهار ينتصر لإرث طويل من الظلم والتمييز وهضم الحقوق الأساسية ونكرانها. يحيا السوريون كما جلّ أبناء منطقتهم في خضم هزائم داخلية وإقليمية. لا يملكون قرار الحرب ولا قرار السلم، ويعيشون في مواجهة ركون وصمت ممتد وضعيف، صمت مرتهن للأقوى ومتلاعب به.

 تخاف عائشة إعلان موقفها في بيئتها الضيقة لأنهم سيخونونها، سيعدونها ضد القضية الفلسطينية وضد أشقائها الفلسطينيين. حاولت أن تطرح وبشكل موارب فكرة الحوار، فكرة أننا تعبنا من حرب الاستنزاف الطويلة والتي تُقدم كمبررات لترك بلادنا ساحة حرب مستمرة، لكنها فشلت، لم تجدِ نفعاً كل محاولاتها لفصل حق المدنيين بالحياة والحماية عن التحكم بقرار المدنيين ومصادرته ضمناً وعلناً تحت شعارات كرهتها الشعوب وتحاول الهرب منها. لكن لا فكاك أبداً، كل طرف يعتبر المدنيين ملعبه، مساحة لصراعاته، ومداً بشرياً يحق له التصرف به، بل وإهداره، تصرخ عائشة لقد دفعنا طويلاً أثمان حروب بالوكالة يراق فيها دمنا وتهدر حيواتنا.

في الحقيقة يبدو أن اختلاف المواقف لم يكن يخص الموقف من الضحايا المدنيين أبداً، فالمواقف هنا حاسمة ضد الحرب وضد المعتدين وضد كل أشكال وأدوات القتل الهمجية والمنفلتة من كل الضوابط الإنسانية والأخلاقية، مواقف متضامنة مع المدنيين العزل حتى درجة التشارك في ذات السردية. يعرف السوريون\ات جيداً معنى هدم البيوت والنزوح واللجوء إلى المدارس والجوامع والشوارع، تقول سوسن: “عندما أرى الصور أستعيد رائحة البارود وغبار الهدم وتداهمني شراسة الخوف من كل شيء، لا شيء مجهول في ظل تغول مرعب يهدف إلى الإبادة دون أي رادع أو تردد أو التزام. لكن الرعب متجدد والموت عام مع أنه متعدد ومتنوع الأشكال.” وأضافت سوسن بأنها لم تعد قادرة على النوم منذ السابع من أكتوبر، خاصة بعد حادثة خسارة المراسل الصحفي وائل الدحدوح لأفراد من عائلته حيث لجأوا لأماكن وصفت بأنها آمنة، حادثة مأساوية ومثلها الكثير من الحوادث التي حفرت عميقاً في وجدان السوريين والسوريات وحرمتهم من النوم ومن راحة البال أيضاً، في ظل احتمالات حرب مفتوحة قد تطال سوريا أيضاً، لم يعد أحد قادراً على تقبل الحرب ولا استعادة أحداثها وتفاصيلها.

يرفض السوريون والسوريات الحرب وأي امتداد لها، لا قدرة  لهم على تحمّل خسارات مرهونة ومفروضة من قبل الأقوى.

يصرخ السوريون\ات “لماذا تركت أهل غزة وحدهم يا الله!” وهم يعلمون أن الخسارات المتعاظمة والواسعة لن تغير الصورة العامة للمشهد الدامي ولا الوقع القاسي والتمييزي الظالم في أصله، بل ستترك ندباً غائرة لمئات السنين القادمة. بات الجميع يخاف من شدة العنف المتصاعد والمتسلسل والقاتل لأي أمل بالسلام والعيش الكريم والحفاظ على الحقوق وخاصة الحق بالحياة.

من جهتها، سخرت نهاد بمرارة فائقة من بعض الدعوات التي وجهت عبر وسائل التواصل الاجتماعي لفتح معبر رفح لإجلاء الأجانب والجرحى والمرضى، أو لتأمين خط إنترنيت خاص لغزة لمتابعة ما يجري عن كثب ولإيصال الحقائق وعدم ترك أهل غزة في العتمة والصمت المطبق. يعرف الجميع أن النداءات الشعبية في بلاد لا يتم فيها احترام رأي شعوبها لن تصل أسماع أحد. لن يسمع أحد من المتنفذين أوأصحاب القرار أو المسؤولين أو القتلة، أصوات التضامن والمتضامنين في بلاد تسودها تقاليد ثابتة ومبرمة في إسكات كافة الأصوات المناهضة لتغول طرف ضد طرف أو للمطالبة بالحقوق المشروعة.

ثمة سبب آخر لاستنكاف السوريين والسوريات عن إعلان التضامن، رغم كل الخيبة والصدمة التي ألمت بهم من هول ما يحدث لأشقائهم وخاصة المدنيين العزّل، هم متعبون جداً، يتجلى نضالهم الحقيقي على أفران الخبز وفي الأسواق لتأمين الحد الأدنى من العيش وفي الشوارع البائسة بانتظار وسائل نقل لن تأتي أبداً، وإن وصلت ستصل بأسوأ حال وأرذل شكل. تقول لينا: “الميت لا يجر ميتاً، ونحن موتى على قيد الحياة، لابل يترجى بعض السوريين الموت باعتباره حسن الخاتمة والمنفذ الوحيد للراحة الأبدية والخلاص النهائي من ظلمة العيش وقساوته وانغلاق كل أبواب الانفراج.”

الدم ليس وجهة نظر، والسوريون والسوريات مجروحو الكرامة، لم يتضامن معهم أحد في موتهم، تركوا لوحدهم وفقدوا كل أشكال التضامن، ضاعت خارطة التضامن. من الصعب جداً أن ينسى الغرقى تنكر الآخرين لهم، وفاقد التضامن لا يعطيه ويعجز عن التضامن مع سواه.

يمكن اعتبار تغيّر مواقف السوريين والسوريات وتباين ردود أفعالهم محصلة طبيعية لسلسلة كاملة من التهميش والانزواء عن الشأن العام. الدم ليس وجهة نظر مطلقاً، لكن الموتى لا يمكنهم نقل الموتى الآخرين إلى المقابر. بلاد تحولت إلى قبر كبير، بلاد الأكفان أوطاني، وأهل غزة يُبادون بتعنت وهمجية غير مسبوقة يتحمل مسؤوليتها الجميع، والنأي بالنفس عن الإدانة مجزرة جديدة ومستمرة، وأشد أنواع القتل فتكاً هو الصمت، ومن يملك المقدرة على الفكاك من وصمة وعقدة الصمت قد يكون هو الناجي الوحيد.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

(1) في وقت فراغي كنتُ أملأ الأوراق البيضاء بالحقول كان يبدو الفجر أقرب و السحاب يمرّ فوق الطرقات بلا خسائر..  وكان الماضي  يمتلئ  بالألوان. لا شيء مثل اللحظة حين لا تجد المسافة الكافية لتخترع أجنحة تكاد تنمو كزهرة برية.  بدأتُ أجمع صوتي من الريح و أفسّر...

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

تدريباتنا