تدريباتنا

بين مندمج ومقاوم وغير مكترث: كيف تنوعت آراء السوريين حول غزة

by | Oct 26, 2023

وجد السوريون أنفسهم فجأة أمام تحدٍ جديد ابتداءً من يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، اليوم الذي بدأت فيه عملية “طوفان الأقصى،” ومعها تقدمت حماس مخترقة غلاف غزة لتردّ إسرائيل بقصف مستمر ومتواصل لم يهدأ حتى اليوم على غزة المحاصرة أساساً.

غزة التي ترد منها صور يومية تخبر بفداحة المجزرة وقسوة المعتدي وضياع الإنسانية والرحمة والشفقة وفوقهم تعاضد العالم المتقدم محزّماً إسرائيل بدعم يبدو ألّا نهاية له، دعم أعاد للأذهان العربية مشاهد قاسيةً ترتبط بعقدة العالم الثالث وحقيقة ضياع الثقل الإسلامي والعربي، وباستحضار متكرر لمشاهد ألفها العالم عن أحزان فلسطينيين يقضون كلما دارت آلة القتل من حولهم دون سند أو معيل.

صحيح أنّ فلسطين التاريخية شهدت النكبة، والنكسة، والانتفاضتين، وحربي غزة 2008 و2014، وسيف القدس ووحدة الساحات والآن طوفان الأقصى، لكنّ لكل معركة وحدث بعداً مختلفاً، فما كان موحداً للموقف المحيط يوماً تلاشى اليوم. وعلى وجه الدقة ما جمع العرب خلف “المقاومة” في حرب تموز 2006 هو ذاته ما أبعدهم عنها وعن فلسطين نفسها وفق خوارزمية التبدلات الإيديولوجية مع الربيع العربي.

وفي خضم الحزن العربي الأثير كان على الدوام لسوريا موقف متقدم من الصراع مع الاحتلال، وهو الموقف الجماعي الذي منعَ سورياً من أن يزاود على آخر في تمسكه بالموقف والقضية، وإلّا لما احتشد الملايين في حمص وحلب ودمشق والساحل وغيرهم ذات كل مظلومية أحاقت بأهل فلسطين، وما أكثر المظالم هناك.

إلا أن هناك ما جرى في سوريا وبدّل شيئاً كبيراً فيها، بدّل شيئاً ببلد صار فيه 7 ملايين نازح ومهجر، وملايين القتلى والجرحى والمفقودين، كل ذلك كان كثيراً على البلد المتوسطي الذي يرسم سياسته على حدّ السيف.

ابن درعا الذي قاتل ابن حلب في حماه، وابن دير الزور الذي قاتل ابن اللاذقية في حمص، والسوريّ الذي استقوى على السوريّ في كل بقعة من بلده الذي صار سوقاً حراً للمقاتلين الأجانب المستوردين لا شك أنّ قناعات كثيرة تغيرت في رأسه حيال موقفه من وجوده نفسه.

فكيف يمكن اليوم أن تسأل سوريّاً عن موقفه من حرب غزة، وهو المثقل بحياة تفتقر لأدنى أساسيات العيش.

اندماج تام بالمعركة

كان من المتوقع أن تفرز الحرب السورية بعد 12 عاماً من طحنها للناس قناعات متباينة جداً حيال الأوضاع الداخلية فكيف بالخارجية! وانطلاقاً من هذا الفرز، تم في هذا التقرير مقابلة أشخاص سوريين من شرائح مختلفة للاستماع عن موقفهم من حرب غزة.

استناداً إلى هذه المقابلات، يمكن القول إن هناك توجهين مركزيين لم يكن من الصعب التمييز بينهما إطلاقاً، وإلى جانبهما تفرعات أخرى أقل وضوحاً. التوجه الأول هو ذلك المرتبط بازدياد التمسك بالموقف “المقاوم” وهو الموقف الذي يمثله من ظلّ حيّاً في كنف الدولة الرسمية متجرعاً ومؤمناً بسياساتها. فعلى سبيل المثال، يعتقد المهندس إباء الحفار أنّ سوريا اليوم حاضرة بقوة في معركة غزة، ليس ذلك الحضور الداعم النظري، إنما الحضور العسكري واللوجستي والتخطيطي على أرض الواقع. ويوضح وجهة نظره قائلاً: “هل يعتقد أحدٌ أنّ المقاومة أطلقت رصاصة واحدة دون إذن سوريا وموافقتها وهل تعمل المقاومة دون تنسيق حثيث مع سوريا! صواريخ حماس هي صواريخ سورية وهذه حقيقة لا ينكرها أحد، وكلاهما، حزب الله وحماس، امتداد سوريا وإيران في شدّ منعة العالم لمواجهة أبشع آلة قتل واحتلال في التاريخ”.

وكذلك يتفق معه الموظف ماجد هاشم بأنّ سوريا هي التي تدير المعركة في فلسطين برفقة حلفائها، يوضح رأيه شارحاً: “من لفلسطين في هذا العالم سوى الحلفاء القلّة! سوريا تدرك جيداً أنّ مشكلتها خلال حربها لم تكن إلا مع إسرائيل، ونحن اليوم نرد الصاع، وسنظل نخوض في هذه الحرب الوجودية حتى آخر واحد فينا أو فيهم”.

نوستالجيا

يوضح سليمان جوخدار تمسكه بفلسطين انطلاقاً من أبعاد وجودية وإنسانية، أبعاد تتخطى السياسة الضيقة كما يصفها، يعبر عن ذلك بالقول: “فلسطين هي حلم الطفولة، الحلم الذي بكينا لأجله وقهرنا وتعذبنا وقطعنا عن أنفسنا لأجلها، فلسطين التي ترتبط بوجداني وكياني وحياتي، فلسطين التي هتفت لها في الساحات والمدارس، فلسطين التي لم تكن يوماً مدينة سوريّة أغلى على قلبي منها، فلسطين الآن في مظلمة تاريخية!”.

آخرون، مثل المحامي جهاد خليل، مستعدون للقتال في فلسطين انطلاقاً من وحدة الساحة والعدو الواحد، فقد وضح جهاد موقفه أنّ انتهاء معاناة بلده ترتبط بانتهاء وجود إسرائيل قائلاً: “كل عقد أو اثنين سيكون هناك مقتلة في بلدي طالما إسرائيل في جوارنا”.

“حفظ دون فهم”

فاض على حديث نمير وطنيات ترتبط بالقضية ودعم المقاومة وأمومة سوريا لها، فكان لا بد من مواجهته بسؤال حول إن كان يعلم أنّ “حماس” على مستويات القيادية العليا حملت لسنوات علم الثورة السورية.

بدا نمير غير فاهم أو مستوعب أو مصدق للطرح، لكنّه دافع عن وجهة نظره قائلاً: “إن كانت حماس رفعت علمهم أو قاتلت ضدنا فلا بأس، نحن أجرينا تسويات لمسلحين ومتطرفين وأصبحوا يقاتلون معنا، يمكن اعتبارهم قد خضعوا لتسوية وأزال الله الغشاوة عن أعينهم، إن فعلوا ذلك فقد كان مغرراً بهم، ثم إنّ دولتنا طالما تدعمهم الآن فإذاً نحن ندعمهم”.

تيار عقلاني

بعض الأشخاص لديهم دوافع قد تبدو غير مقاربة للمنطق في معالجة ملفات المنطقة، ومن أمثالهم المقاتل نمير، وهو اسم مستعار بناء على طلبه.

وبين المندمجين تماماً في دعم غزة وطوفانها ثمة تيار أكثر عقلانيةً كما يصف نفسه، تيار يعرف أنّ حلم التحرير لا زال بعيداً جداً، وبأنّ بلده منهك أكثر من أن يخوض معارك ويدعم جماعات ويواجه دولاً جديدة.

يعبر عن ذلك التيار موقف الطبيب سمير عرفة إذ يقول لـ “صالون سوريا”: “من المهم أن تبقى أرجلنا على الأرض، بلدنا مدمر، نحن منهكون، ونحن مع فلسطين لآخر نفس، ولكن لا يكلف الله نفساً إلا وسعها”.

“مشاكلنا تكفي”

أما التوجه المركزي الآخر حيال حرب غزة يمكنه وصفه باللا اكتراثي، وهو يمثل الأشخاص الذين يقولون إنّهم يملكون أسبابهم لعدم الاهتمام بما يحصل، مبررين ذلك بأسباب قد تكون متباينة نسبياً ولكنّ جوهرها متفق على الأرجح. وعلى سبيل المثال، يعبر عن هذا التوجه فاضل شريف أستاذ مدرسة بقوله: “منذ دهر نحن محرومون كشعب لأجل دعم المقاومة، ندفع أثماناً باهظة لذلك، لا فلسطين انتصرت ولا نحن، الموت عبثي، ونحن خبرناه جيداً في سوريا، بالتأكيد لا يمكنني إلّا أن أكون متعاطفاً مع غزة، ولكن هل سأقاتل هناك لو أتيح لي؟ بالتأكيد لا، ثمّة ما هو أهم في بلدي”.

أما غيداء جروان وهي سيدة تعمل في مجال الترجمة فتوضح أنّها كسورية دفعت ثمناً باهظاً مع بلدها وأهله خلال حربهم الطويلة وليست مستعدة لأن تبذل أي شيء جديد وتحت أي ظرف. وتكمل: “يوم قرر الفلسطينيون أن يحاربوا خارج أرضهم قاتلونا وقتلونا في سوريا. بعد عقود من الاحتضان قتلونا. ويوم متنا جميعنا لم تتحرك شعرةٌ في رأس أحد هناك، لا أحد عليه أن يزاود على الآخر، على كل شخص أن يعالج مشاكله”.

في حين تقارب جميلة سعفان وهي موظفة بأحد البنوك الموضوع من زاوية سؤالها حول تعداد المسلمين والعرب حول العالم، تسأل وتجيب قائلةً: “أليس هناك مليار مسلم وضمنهم العرب! غصت فلسطين على بضعة ملايين قليلة من السوريين المتبقين والذين يتسولون على أبواب الجمعيات الخيرية! ما يصل لقيادات حماس من أموال ومساعدات تبني دولاً بحالها”.

مصائب الناس تخصهم

وفي لقاء مع مفيد الطاهر وهو خريج جامعي لم يعثر على عمل حتى الآن، أكد مفيد تعاطفه وتضامنه الكامل مع فلسطين إنسانياً واصفاً كيان الاحتلال بأبشع الصفات، ولكنّه يرى أنّه من بلد قاوم فيه حتى اكتفى على حدّ تعبيره. ويوضح موقفه: “فقدت عمي وعمتي في تفجير مفخخة، فقدت ابن عمي بطلقة قناص، فقدنا أرزاقنا وأراضينا في ريف حماه. لديّ من المصائب ما يكفي لأحزن لأجلها عمراً بحاله. مصائب الناس للناس، وأولئك الذين يتاجرون بالقضية صبح مساء على صفحات التواصل الاجتماعي فهنيئاً لهم”.

جيل الألفية

ضمن هذا التوجه المركزي هناك تفرعات وتشعبات متعددة، بينهم أولئك الذين ولدوا بعد الألفية، فلا هم شهدوا الانتفاضتين، ولا شهدوا الحروب التالية، وحين استفاقوا على مراهقتهم وجدوا أنفسهم محاصرين في أحياء بلدهم. هذا الجيل قد لا يعرف الكثير عن فلسطين، وقد لا يكون مطالباً بالكثير، ولكنّه بالتأكيد جيلٌ لا يشبه سابقيه، جيلٌ لديه مفاهيم واضحةٌ عن الخذلان والموت والبذل والخوف بين جدران بيته، فكيف سيكون مطالباً منه أن يندمج في محيطه البعيد!

مستسلمون ومندفعون

وفي محاولة لفهم آراء الناس ضمن توجهاتهم المختلفة، يوضح الخبير في علم النفس الأكاديمي عامر مهرة أن: “لكل إنسان طاقة، ما أن تستنزف هذه الطاقة يصبح عاجزاً عن شحن المزيد إذا استمرت الظروف السيئة من حوله، وهذا ما حصل مع السوريين. وحتى أولئك الذين هم مستمرون بالدفاع المستميت عبر منصاتهم عن غزة سيتعبون مع مرور كل يوم إضافي على الحرب”. ويختم حديثه: “وبالنسبة لأولئك المندمجين بكل طاقتهم فهذا أيضاً تعبير انعكاسي عن الحزن يجعلهم يتمسكون بقضية تحاكي مشاعر الاندفاع لديهم، وهي المشاعر التي تحتاج للتفريغ بهذا الشكل، وهذا بالتأكيد لا يقلل من مشاعرهم الوطنية أو النضالية، ولكنّه يظلّ شعوراً اندفاعياً في ظلّ علمهم أنّه ليس بأيديهم أن يفعلوا شيئاً آخر.”

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

ينتظر السوريون في الأسابيع المقبلة بفارغ الصبر وفق تصريحات حكومية انطلاق المشغل الخلوي الثالث "وفا تيليكوم" المرتبط بإيران التي ستدخل على خط الاستحواذ في قطاع الاتصالات الحساس والذي ظلّ حكراً على متنفذي السلطة لعقود. من خلال التواصل المباشر مع مصادر متعددة من داخل...

تدريباتنا