تدريباتنا

!حمص التي لا تشبهني

by | May 28, 2018

بعد غياب أعوامٍ، تجوّلت في شوارع حمص، التي كنت أحفظ أدق تفاصيلها. كنت أطوفها بسيارتي، قبل اندلاع الثورة، كل يوم مرة أو مرتين، أثناء ذهابي وعودتي من عملي، وكنت أتسوق حاجياتي من لباس ومأكل وبقية متطلبات المنزل قاصدةً كلّ أسواقها، البعيدة منها والقريبة، الحديثة “المودرن” منها والشعبية، وصولاً إلى “البسطات” المنتشرة في منطقة الساعة القديمة، والتي منعها المحافظ السابق، المغضوب عليه من قبل أهلها، إياد غزال، في فترة ما قبل الثورة.

اليوم، لا شيء يشبهها؛ شعرت باغترابي وغربتي عنها. لعله الزمن الذي بدأ يمحو تفاصيل المدينة من ذاكرتي، أو لعلّني أنا من تعمّدت القطع معها ونسيانها، بعد تتابع الخيبات، وتتابع التدمير والتهجير. أو أن رفضي للتقسيم الطائفي حينها هو ما دفعني إلى رفض المدينة، ومغادرتها؛ فقد قُسمت حمصُ بالدبابات والحواجز، ولا يمكنك اجتيازها دون التأكد من أن طائفتك تتناسب مع الحي الذي تقصده.

هذا المشهد، الطائفي، تغير اليوم؛ لا حواجز طائفية، ولا تقسيمات، ولا حساسيات حتى. عاد مشهد الحياة الطبيعية، أو كما اعتدنا تسميته بالتعايش، إلى أحياء المدينة المأهولة منها. أبو محمد صاحب محل في حي كرم الشامي يعزّي نفسه بأنّ الوضع أفضل منه قبل 2011، من ناحية الحساسيات الطائفية، وأن جميع سكان المدينة خبروا خطورة ذلك، ويرغبون بالعيش بسلام. منطقي ردّه، ففترة الثورة، بما تعنيه من أحلام ورغبة في التغيير كانت قصيرة، سنة أو سنة ونصف، قبل أن يتمكن النظام من إرغام المقاتلين على التمركز في الأحياء القديمة، وتحويل الثورة إلى حرب استنزاف، وتهجيرٍ وتدميرٍ شامل لتلك المناطق، وانكفاء سكان الأحياء الغربية عنها.

رغم تراجع الحساسيات الطائفية الملحوظ لي، ما زلت أشعر بالغربة. الحقيقة أن من أشعل الحساسيات الطائفية، هو نفسه من أخمدها؛ لم يعد له من حاجة إليها، فقد تمكن من السيطرة على كامل المدينة، ومؤخراً أكمل سيطرته على الريف الشمالي، وأعلن عودة حمص ومحيطها بالكامل إلى “حضن الوطن”، وأنّها آمنة! هي بالفعل آمنة بالنسبة إليه من العصيان، وبالتالي لم يعد من حاجة إلى أدوات القتل من قذائف عشوائية، أو حتى تفجيرات في أماكن مكتظة كانت تحصد وتجرح المئات. حتى “الشبيحة”، الذين كانوا الأكثر انفلاتاً في المدينة، تم سحبهم إلى الخدمة العسكرية، بعد انتفاء الحاجة إليهم داخلها.

هي مدينة آمنة بالنسبة للنظام. الأحياء التي صمدت في وجهه سنوات شاهدة اليوم على ذلك؛ الخالدية والبياضة وعشيرة ووادي السايح والسوق المسقوف وجزء كبير من باب هود، مدمرة بالكامل، وخالية من أي سكان، منهوبة بالكامل، ومحروقة الجدران. لم يتبين ما يُبيَّت لهذه الأحياء مستقبلاً، عدا حي الحميدية، ذي الغالبية المسيحية، سُمح بالعودة إليه وترميم بعض مبانيه وكنائسه. لكنّ المرور بتلك الأحياء يومياً يبثّ الرعب في قلوب سكّان بقية الأحياء، ويجعلهم يختارون الصمت، خوفاً من مصير مماثل.

استوقفتُ صبيةً في مقتبل العمر لمساعدتي في الاستدلال على أحد الشوارع الفرعية في حيّ الإنشاءات، صَعُبَ على ذاكرتي المنهكة بتفاصيل سنوات الحرب استحضاره. كان ردُّها مليئاً بالحيوية، بنبرة صوتها وتعابير وجهها وإيماءات يديها، أعادت إليَّ بعض الألفة، وذكرتني بطيبة وعفوية “الحماصنة”، واندفاعهم للمساعدة. شعرت ببعض الارتياح، وتابعت جولتي باتجاه حيّ كرم الشامي، حيث انتقل سوق المدينة إليه. هو أيضاً استفزّ ذاكرتي الحمصية؛ تباع فيه بضائع من حلويات ومشتقات الألبان واللحوم والخضار، كلّها بجودة عالية، وبأسعار أقل من باقي الأحياء، وأقل من نظيرتها في أسواق دمشق بمعدل 15 إلى 25 بالمئة، بما يذكرني بأنّ حمص ما زالت أمّاً للفقير.

المشهد مختلف في سوق الناعورة وشارع أبو العوف والسوق المسقوف؛ أقل من نصف المحال فقط قد فُتِحت، ببضاعة خجولة، وحركة شراء محدودة. الحكومة هي من أرغمت أصحاب المحلات على فتحها، بالترهيب تارةً، وبالترغيب تارة أخرى، عبر تقديم بعض الخدمات المجانية كتعزيل الأنقاض من المحال التي أعيد افتتاحها.

قُدِّمَت هبات مالية لمتضرّري حي الحميدية، عبر الكنائس، من قبل منظمات دينية مسيحية، مما ساعد الكثير من السكان على ترميم بيوتهم والعودة، ليصبح الحيَّ المأهول، أي الحميدية، محاطاً بالدمار من جهاته الأربع.

مظاهر التشبيح في الأحياء الشرقية، ذات الغالبية العلوية، باتت أقل بكثير. صورٌ لآلاف ضحايا الحرب من مقاتلي النظام تملأ الجدران، مقابل آلاف الأرامل والثكالى؛ بعضهن يتعرضن للاستغلال من قبل المسؤولين بسبب الحاجة إلى عمل أو معونة لكفاية قوت الأطفال.

يسود هذه المنطقة حالة من الفقر وتراجع المستوى المعيشي، تلحظها من كمية ونوع البضائع التي تُعرَض في المحال. يقول أحد أصحاب محلات الحلويات في حي الأرمن، إن البيع تراجع كثيراً هذه الأيام، بعكس ما كان عليه في الفترات التي انتعش فيها سوق التعفيش. معظم الشبيحة واللصوص هم من الفئات المهمشة والجاهلة في الغالب، وكل الأموال التي كانوا يجنونها من بيع المسروقات أنفقوها على “ملذّاتهم الشخصية” بالمعنى الحرفي لهذا التعبير، الذي ارتبط بأصحاب الجنح والسوابق في السجون؛ فقد سمحت “الجهات المختصة” بافتتاح الملاهي الليلية في الجزء الشرقي من الحي، والتي سببت إزعاجات للسكان بسبب الشجارات اليومية للمخمورين، والأعيرة النارية. قادة الشبيحة حافظوا على مستوى معيشتهم، وعبر استغلال نفوذهم. مثلاً أحدهم افتتح معهداً لتدريس طلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية؛ حيث يتهافت الأهالي لتسجيل أولادهم بمبالغ كبيرة، تحت دعاية قدرة القائمين على هذا المعهد على تسريب الأجوبة إلى الطلاب داخل قاعات الامتحان.

في حي العباسية الذي يتواجد فيه نسبة من السكان الشيعة، أيضاً تراجعت مظاهر المبالغة في الاحتفالات بالمناسبات الدينية، بعد أن كسرت روسيا جبروت إيران في المدينة، عبر إلزام النظام باتفاق الوعر، والذي تضمن ترحيل الراغبين، والإبقاء على من يشاء، بعكس رغبة المليشيات الإيرانية، بإفراغه وتعفيشه، كما فعلت باتفاق حمص القديمة في 2014.

نعم، باتت حمص مدينة وادعة، كما يسمّيها إعلام النظام. لكنها وادعة لدرجة الموت؛ إذ لا أحلام ولا آمال بمستقبل أفضل، بل أناسٌ مُثقلون بصمت الانكسارات، وهمّهم تدبر شؤونهم الخاصة. حمص التي أعشقها هي اليوم مدينة الموت والدمار، مدينة الانكسارات، المدينة التي لا تشبهني!

مواضيع ذات صلة

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد "هاني الراهب" ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه،...

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

ياسين الحافظ كاتبٌ ومفكر سياسي سوري من الطراز الرفيع، يعدُّ من المؤسسين والمنظرين للتجربة الحزبية العربية. اشترك في العديد من الأحزاب القومية واليسارية، ويعدُّ الحافظ في طليعة المفكرين التقدميين في العالم العربي، اتسم فكره بالواقعية النقدية، تحت تأثير منشأه الجغرافي...

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

مواضيع أخرى

انتهت الحملة الأمنية في مدينة حمص ولم ينته الخوف

انتهت الحملة الأمنية في مدينة حمص ولم ينته الخوف

لا أعرف من روى نكتة أنه لو فُرض علينا حظر تجول لخرجنا نتفرج على حظر التجول! هذا ما حدث في الحي عند بدء الحملة الأمنية على بعض أحياء حمص التي وُصمت بالموالاة للتفتيش عن السلاح وفلول النظام كما قيل، إذ خرج سكان الحي ووقفوا "يتشمسون" أمام أبواب البيوت كي يراقبوا السماء...

زكريا تامر بوصلة التمرد الساخرة

زكريا تامر بوصلة التمرد الساخرة

"أكثر قصصي قسوة هي أقل قسوة من الحياة العربية المعاصرة، وأنا لا أستطيع وصف السماء بجمالها الأزرق متناسياً ما يجري تحت تلك السماء من مآس ومجازر ومهازل.. صدّقني الأسطورة أصبحت أكثر تصديقاً من واقعنا المرير" بهذا التوصيف العاصف يلخص الكاتب السوري زكريا تامر (1931) تجربته...

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد "هاني الراهب" ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه،...

تدريباتنا