في أحد أشدّ أيام سوريا حساسيةً وأكثر مفاصلها تعقيداً، تحديداً في اليوم الرابع...
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...

يتوهّم كثيرون أن الديمقراطية صارت قاب قوسين أو أدنى في سورية، وأن الدول العربية والإقليمية، وقوى الداخل المنتصرة، ستقبل بتعدد الأحزاب وبإنشاء نظام ديمقراطيّ قائم على تداول السلطة وعلى الأغلبية السياسية، لا الطائفية، وأن البيانات الختامية للمؤتمرات ستُطبق على أرض الواقع حيث تتواصل الانتهاكات وعمليات القتل والاعتقال خارج إطار القانون. إنّ ما يريده الغرب في سورية، هو وأتباعه من الدول العربية والإقليمية التي توظّف المال السياسي في دعم جماعات بعينها، نظام تابع يطبّق الإملاءات الاقتصادية والسياسية الإقليمية، ومن خلالها الدولية. وبما أن رياح السوق الحرة تهب في أنحاء العالم من دون أي عائق يُذكر، نرى الآن أنه قد فُتحت لها بوابة للدخول إلى سورية بعد أن أُزيلت الحواجز من طريقها بعد فرار رأس النظام السابق من العاصمة. وفي الأيام التي أعقبت الثامن من كانون الأول\ ديسمبر ٢٠٢٤ سمعنا أكثر من تصريحٍ حول تحرير الاقتصاد في سوريا حتى قبل أن يثبّت النظام الجديد قدميه بشكل جيد على أرض السلطة، وبدأ التسريح التعسفي لموظفي القطاع العام.
صار من النافل القول إن أنظمة الغرب القائمة لا تريد الخير لسورية على صعيد بناء الدولة الديمقراطية كي تبقى سوقاً للسلاح ومصدراً للطاقة، ومفككة ومتحاربة بينياً لتظل إسرائيل هي الأقوى. ويؤكد الواقع الجديد، الذي نتج عن حرب غزة ولبنان، التفوق الإسرائيلي تحت مظلة الدعم الغربي، وتتويج إسرائيل كحاكم مطلق للفضاء العربي وجغرافيته السياسية. وتجلى هذا في تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأخيرة حول منع أية قوات من دخول جنوب دمشق، كما تجلى في التحليق المنخفض لطيران الاحتلال الإسرائيلي فوق موكب جنازة الأمين العام السابق لحزب الله حسن نصر الله في لبنان.
إن نظاماً ديمقراطياً حقيقياً هو الحل الأمثل لسورية ذات الأديان والأعراق والأقوام والقوميات والثقافات المتعددة إلا أنه يبدو أكثر بعداً من المريخ عن الواقع السياسي، أو يبدو كما لو أنه قُذف إلى الثقوب السوداء لمستقبل غير واضح المعالم. علاوة على ذلك تخلو الساحة السورية من أحزاب وقوى سياسية مؤهّلة وفعّالة قادرة على أن تشكّل أعمدةً لبناء الدولة المدنية الديمقراطية، خاصة بعد أن وجّه نظام الاستخبارات البعثي المنهار ضربةً قاضية للنشاط السياسي الحقيقيّ المستقل بأشكاله كافة في سورية كي يبقى الدكتاتور وحيداً على العرش بلا منافس. فضلاً عن أن الجغرافية السورية، صارت بعد حرب طويلة مدمرة، ساحة لتلقين تعاليم القوى المنتصرة، وهي في جوهرها أصولية بحتة في شقّيها الشيعي والسني. وينبغي ألا تفوتنا الإشارة إلى أن قوى اليسار لم يعد لها وجود يُذكر في الشارع السوري من ناحية الفعالية والعمق الثقافي والتأثير السياسي. كما أن حزب البعث لم يكن له أي رصيد في الشارع السوري كونه كان ملحقاً بالجهاز الأمني. وفي هذا الجو المُفْرَغ من البدائل تبدو سورية مجرد كعكة للاقتسام شارك بنهشها الإيراني والروسي في حقبة النظام المتبخر، الذي دعمه العرب والغرب والإيرانيون والروس لوأد الثورة السورية في مهد بداياتها المدنية كي لا تصبح ظاهرة قابلة للتصدير. وثمة مؤشرات الآن على أن الشركات التركية بدأت بتهيئة نفسها كي تنهي ما تبقى من الكعكة. وبدأ سيلان لعاب مقاولي حزب العدالة والتنمية، الذين ثبت تورطهم في تركيا في بناء أبنية بعد عام ٢٠٠٠ لا تطابق المعايير والمواصفات، انهارت كلّها في زلزال مرعش بحسب مقال لعالم الاجتماع التركي هارون إركان قال فيه إن استراتيجية تراكم رأس المال لدى حزب العدالة والتنمية تعتمد بشكل كبير على النمو السريع في قطاع العقارات والتسامح البيروقراطي مع الانتهاكات المنهجية للقواعد والقوانين على المستويين المحلي والوطني.
بصرف النظر عن إشكالات الداخل التركي ما يهمنا هنا هو احتمال قائم بأن تتحول سوريا إلى سوق لتركيا وإلى مصدر للأيدي العاملة في المشاريع التركية، بعد أن صارت مصدراً للمقاتلين المرتزقة العابرين للحدود الذين يبعثهم الجيش التركي للقتال أينما يشاء. وإذا ما اعتُمد اقتصاد السوق الحر في سوريا على أنقاض ما تبقى من القطاع العام فإن هذا يعني، في ضوء التسريح الجماعي المتلاحق للموظفين من دوائر الدولة ومؤسساتها، والتوجه إلى تحرير الاقتصاد، أن الشركات الخاصة قادمة لا لكي تبني اقتصاداً جديداً يلبي احتياجات السوريين بل كي تمتص ما تبقى من دماء في شرايين سورية وتوسّع هامش الفقر.
خرجت سوريا من ركام حرب طويلة مدمرة تركت أثراً عميقاً في نفوس أبنائها، وزعزعت هويتهم، ما أدى إلى انقسامات طائفية حادة. ويبدو أن السوري الآن أصبح غائباً عن المعادلة بوصفه مواطناً سورياً يتمتع بحقوقه، وينتمي إلى مجتمع سوري في إطار الدولة السورية. بدلاً من ذلك، أصبح وجوده مرتبطاً بهويته الطائفية أو انتمائه إلى أحد المكونات التي أصبحت مصطلحاً شائعاً في الإعلام اليوم. وفي ظل الحديث المتواصل عن إمكانية بناء نظام ديمقراطي في سوريا، والدعوات المتزايدة لتحقيق ذلك، خرج المؤتمر الوطني بنقد صريح للأشكال السياسية المستوردة، ما ترك صورة النظام القادم ضبابية وغير واضحة المعالم. ما يشي به هذا هو أن النظام الديمقراطي التمثيلي ليس من أولويات الأجندة السياسية، وهو ما يكشفه التهرب الذكي من الإعلان عن موقف واضح، والتصريحات المتباعدة التي تظل تطفو في جو من الغموض السياسي، ذلك أن القوى التي تدعم التحوّل في سورية، تريد حراساً للمصالح وللحدود لمنع الهجرة وتهريب المخدرات، ويلتزمون بأمن إسرائيل. ولن يُسمح بأن تصبح سورية دولة ديمقراطية في سياق دول عربية غير ديمقراطية تحتاج لأموالها، وبوجود أنظمة غربية لا يهمها إلا أرباح شركاتها ومنع الهجرة، وأمن إسرائيل وفي هذا درسٌ من السهل أن يتعلّمه السوريون وهو أن الديمقراطية والدولة المدنية مصلحة سورية صرفة لا تخدم إلا الشعب السوري هذا إذا كان يهمه أن يعيش في دولة مواطنة وتمثيل وتداول للسلطة، وأن يخرج أبناء سورية من قوالب الطوائف التي أُفْرغوا فيها نحو المواطنة الحقة المسلحة بحقوق يحميها القانون وتخدمها السلطة المنتخبة، وتجعل كرامة الإنسان السوري وحقوقه فوق كل اعتبار.
إن التعامل مع إرث النظام السوري المتبخّر ليس مسألة سهلة ذلك أن القرار الذي اتخذته العصبة الأمنية العسكرية السورية الهاربة، تحت مظلة علاقاتها الإقليمية والدولية، لشن الحرب داخل المدن السورية ضد السوريين المتمردين على حكم الأسد مزّق الروابط بين مكونات المجتمع السوري، التي يمكن أن ندافع على أساسها عن انسجام اجتماعي سوري، أو إمكانية بناء هوية سورية جديدة، ولكننا رغم كل ما حدث نستطيع أن نراهن دوماً على شيء في سورية يمكن أن نسمّيه الوطنية العميقة لدى أبنائها والتي، رغم ألم الجراح التي تثخن الجسد السوري، يمكن أن تشكّل رافعة لسورية الجديدة مهما طال الزمن، وعليها وحدها يمكن التعويل للتخلص من بقايا الدكتاتورية العسكرية ومنع عودتها إلى المشهد بأية طريقة، ومنع سلطة الأمر الواقع من أن تتمترس أيديولوجياً وتفرض الدولة الدينية وتنطح الاحتمال الديمقراطي بقرنيْ العقيدة وفكرة الأغلبية.
إن الحلم الديمقراطي في سورية أمر قابلٌ للتحقق لكنه يحتاج إلى تضافر جهود الجميع، وإلى تفانٍ وتضحية وتعال على الجراح لن يكون سهلاً. ويمكن تخيل ما ستؤول إليه الأمور من خراب في حال فَشِلَ السوريون في بناء شكل حكم حضاري راق يعتمد المواطنة والتمثيل وتداول السلطة ديمقراطياً والعدالة الانتقالية داخل بنى دولة القانون.
إن الطريق إلى الديمقراطية وعر ومليء بالمطبات لكن السوريين قادرون على اجتيازه، وإن في عمقهم الحضاري وذكائهم وتعدديتهم الثقافية وانفتاحهم ما يمكن التعويل عليه بقوة من أجل المستقبل.
مواضيع ذات صلة
مواضيع أخرى
تدريباتنا
فوضى الإعلام والحاجة إلى شاشاتٍ وطنيةٍ موثوقة
في أحد أشدّ أيام سوريا حساسيةً وأكثر مفاصلها تعقيداً، تحديداً في اليوم الرابع...
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...