تدريباتنا

دمشقيون عراة أمام الألبسة المستعملة

by | Nov 5, 2021

مع أول قطرة مطر هطلت في شوارع دمشق، بدأ الناس، كما كل شتاء، يستجمعون ذكرياتهم، عن مرويات صنعوها وعايشوها عن شتاء كان يوماً دافئاً. أيامٌ كانت تكتنز الكثير من النعمة لكل شيء فيها حتى بأبسط الأشياء. وأبسط الأشياء هنا، هو معطف محشو بالفرو الذي كان يقيهم برودة الطقس والأسى، ذلك ان السوري بات اليوم عارياً أمام يومياته المثقلة بالهموم.
لم يعد أحد يهتم بتلك الذكريات، مع الغلاء المبالغ به في أسعار الملابس الشتوية التي ترتفع أكثر فأكثر كل موسم. وكل موسم هنا تعني ما كتب للسوري أن يحياه موسماً بعد موسم ليشهد على الفقر المتنامي ينهش جسده وجسد أقرانه.
“أريد فقط أن أشعر بالدفء منذ ساعات الصباح الأولى للذهاب إلى عملي حتى الانتهاء والعودة إلى المنزل”، هذا ما قالته لنا هبة راجح (موظفة حكومية – 29 عاماً) عندما التقيتها في سوق البالة الشهير وسط دمشق والمعروف بـ “سوق الإطفائية”، وهو سوق البالة الأكبر في سورية، على مقربة من حي الحجاز الدمشقي. تضيف: “جئت إلى هنا لأشتري معطفا يدفئني في الأجواء المطرية والحرارة المنخفضة، لكني فوجئت بالارتفاع الكبير في الأسعار بعدما كانت تناسب الكثير من الزبائن مثلي في هذا السوق”.
تنظر في المعروضات، وتقول: “أنا موظفة في مؤسسة حكومية”، وتسأل: “كيف لي أن أدفع ثمن معطف يساوي راتبي الشهري كاملاً؟ هذا جنون!، وعندما اعترض يواسيني بائعو البالة بالقول هناك أنواع معاطف بجودة أقل وبها عيوب، ربما تلك تكون خياراً لا بأس به”، لكن “الغريب”، في رأيها، أنه حتى ملابس البالة أصبحت لها جودة وتصنيف وميزات وهي أيضا باتت تفرق ما بين الفقير والغني في هذه البلاد.

جولة في السوق
رافق “صالون سوريا” الشابة ميرنا عبد الباقي خلال جولتها في “سوق الإطفائية”. ترى ميرنا المشهد من بعيد: بائع على يمين السوق يصيح على مدخل محله: “الشتوي صار عنا ببلاش”، ويضيف آخر: “شو بدك بالجديد، الي ماله قديم ماله جديد”، تلك صيحات يطلقها البائعون لاستجلاب الزبائن في السوق، والمنافسة الأحد بينهم تتعلق بسعر الملابس الأرخص.
تقترب ميرنا لتسأل عن سعر معطف باللون الأسود الذي يليق على كل ملابسها الشتوية. يجيبها البائع بأنها اختارت أجمل القطع في المحل وأميزها، يضيف: “سعره ثمانون ألف”. وبعد الأخذ والرد ينهيه بخمسة وستين ألفا! (الدولار الاميركي يساوي حوالى ثلاثة الاف ليرة)، ما يدل على ضياع التسعير وكل هنا يعطي للقطعة سعرا على هوائه.
هنا تعلو على وجه ميرنا ابتسامة ساخرة، وتقول: “هذا السعر يعادل راتبي لشهر كامل، كيف لي أن دفع كل ذلك المبلغ؟”.
من مكان إلى آخر تتجول ميرنا بين المحلات للعثور على ضالتها المنشودة. وفي محل آخر لا يكلف البائع نفسه عناء النقاش مع الزبائن لأنه فعل كما كثر في السوق وعلق ورقة السعر على كل قطعة، لعله يرتاح من هم السؤال الذي أصبح على لسان الكثير من الزبائن نظرا لهول ارتفاع الأسعار في سوق البالة، السؤال الأقرب للاستغراب الذي يختصر كل ما في الخاطر من صدمة “أوووف؟”.
لم تطل جولة ميرنا كثيرا بين المحلات بعد أن فقدت الأمل في العثور على معطف مناسب بالجودة والسعر. وبعد عناء البحث عن المعطف الذي لا تجده ميرنا، تعود خالية الوفاض خارجةً من السوق عبر النفق القديم المفضي من وسط السوق إلى منطقة معروفة بمختار القنوات. تقول: “صحيح أنّني لم اشترِ المعطف الذهبي، لكني وضعت إعجابات كثيرة على الأسعار”. وتضيف: “هذه رحلتي إلى هنا وهي ليست الأولى أمضي كل يوم خميس هنا بين الأخذ والرد وفي النهاية أعود خالية اليدين لأنه إذا كان من أمل لو ضئيل أن أشتري شيئا من هنا. فبالتأكيد لا أمل لي أن اشتري شيئا من أسواق دمشق كشارع الحمرا والشعلان”، وعما سوقان شهيران في القسم الحديث من دمشق.

جنون الأسعار
“في الموسم الماضي كان سعر المعطف الشتوي يتراوح ما بين عشرة آلاف إلى عشرين ألف. اليوم أصبح سعره يتراوح ما بين أربعين إلى ثمانين ألف بحسب الجودة والنوعية وفي بعض الأحيان يصل إلى مئة ألف، أما الجينز فكان قبل أشهر يتراوح ما بين ثلاثة ألاف إلى ستة ألاف، وأصبح الأن يباع بأكثر من عشرين ألف، ناهيك عن أسعار ملابس الأطفال التي تباع بمثل أسعار ملابس الكبار، فيما تتجاوز أسعار بعض الأحذية الرياضية المئة ألف”، بحسب سالم حلوم الذي يعمل في مدرساً في احدى المؤسسات الحكومية. وسالم ، على حد وصفه، صار متمرساً ببسطات البالة لكثرة ما يقصدها لشراء ملابسه وملابس أولاده.
“كان سوق البالة الملجأ الوحيد لي ولزوجتي وأطفالي الثلاثة بعد أن هجرنا أسواق الملابس الجديدة منذ زمن، لكن الآن الوضع اختلف، الأسعار صارت جنونية، كيف لنا أن نكتسي كلنا جميعا وفق تلك الأسعار العالية والراتب الزهيد؟، وفوق ذلك مصروف المنزل وفواتير الكهرباء والغاز والماء التي بدأت هي الأخرى بالارتفاع، وإلى متى لا أحد يعلم!.”.

مبررات الجودة والسعر
يقول أحد تجار البالة لـ “صالون سوري”: “الدولار مرتبط بكل شيء حتى بأسعار ملابس البالة التي نشتريها على شكل حزم “صرة ملابس” ندفع ثمنها ابتداء من ألف دولار وصعوداً، بحسب نوعيتها، وتصل إلى سورية عبر التهريب، ما يحملنا مصاريف إضافية عادة ما تكون باهظة، وهو ما يدفعنا لرفع الأسعار، وبالطبع كل حزمة تتفاوت فيها درجة النوعية والجودة، نصنفها بحسب ما نطلق عليه “نظافة القطعة” من ممتازة، إلى جيدة، متوسطة الجودة، متوسط درجة ثانية، درجة ثالثة، سيئة، للبيع بالكيلو، للتنسيق، ولكن اليوم غالبية قطع الحزمة تكون ممزقة أو مثقوبة أو ملوثة وفيها عيوب متنوعة، وهذا ما يجعلنا نستند في ربحنا فقط على البضاعة السليمة”.
الواضح، انه باتت القدرة الشرائية للمواطنين من ذوي الدخل المحدود تكتوي بنار الأسعار، ولا يقتصر ذلك على سعر الملابس المستعملة بل أيضا على معظم الجوانب المعيشية بدءا من الطعام وليس انتهاء بالفواتير المعيشية والخدمية. وبعد أن كان سوق البالة الهدف المناسب لشريحة كبيرة من الناس يبدو أنه اليوم ما عاد يتسع لمعظمهم، ما يطرح السؤال: “ماذا بقي من خيارات للفقراء في هذه البلاد التي يسافر أطباؤها للعمل في الصومال؟”، حسب قول خبير اقتصادي يتابع الوضع المعيشي في دمشق.

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

ينتظر السوريون في الأسابيع المقبلة بفارغ الصبر وفق تصريحات حكومية انطلاق المشغل الخلوي الثالث "وفا تيليكوم" المرتبط بإيران التي ستدخل على خط الاستحواذ في قطاع الاتصالات الحساس والذي ظلّ حكراً على متنفذي السلطة لعقود. من خلال التواصل المباشر مع مصادر متعددة من داخل...

تدريباتنا