تدريباتنا

دمشق: أزمات متواصلة وحلول غريبة للبقاء على قيد الحياة 

by | Mar 28, 2023

كهرباء تغيب عن معظم الأحياء لأكثر من عشرين ساعةٍ في اليوم، أزمة محروقات جعلت البرد يُعِّشش في المنازل، أزمة غاز، أزمة ماءٍ وغلاءٍ ومعيشة وغيرها الكثير من الأزمات التي صارت جزءاً أساسياً وطبيعياً من حياة الناس الذين نسوا كيف تُعاش الحياة العادية والطبيعية، وصار قصارى حلمهم أن يستعيدوا بعضاً من أبسط تفاصيلها.  

الشتاء الأقسى على السوريين 

 وصفت الأمم المتحدة فصل الشتاء الحالي في البلاد بأنه “الشتاء الأقسى على السوريين”، إذ تغيب جميع وسائل التدفئة، في ظل أزمتي المحروقات والكهرباء، فيما تنتظر معظم العائلات حصولها على مادة مازوت التدفئة (50 ليتر) التي ينبغي أن توزَّع في فصل الشتاء بسعرٍ مدعومٍ، حيث لم يستلم تلك المخصصات، التي لا تكفي لأكثر من أسبوعين، سوى أعدادٍ قليلة. ونتيجة لذلك لم يبق أمام الناس سوى خيارين: شراء المازوت من السوق السوداء (سعر الليتر12 ألف)، أو شراء الحطب (سعر الطن مليوني ليرة). أما من كان وضعه الاقتصادي معدماً فعليه الاستسلام للعنة البرد أو البحث عن حلولٍ شبه معدمة، قد تحتاج إلى معجزة.  

ويحدثنا أبو أحمد (52 عام/ عامل في ورشات البناء) عن الحل الذي لجأ إليه لجلب بعض الدفء إلى منزله البارد: “استعرت مدفأة حطبٍ من أحد أقربائي، كانت مهملة في المستودع منذ عقود، ولأننا عاجزون عن شراء الحطب رحنا نوقد تلك المدفأة بما تيسر من موادٍ نقوم بجمعها من الشوارع والدكاكين، كالقطع الخشبية، الكراتين وأكياس الإسمنت الفارغة، بعض أوراق الشجر وعيدان الأغصان التي نجلبها من الحدائق، وقشور الفستق واللوز التي تُخلفها بعض المحامص، هذا إلى جانب الكتب المدرسية والجامعية ودفاتر الأطفال القديمة التي يستغني عنها أصحابها”. ويضيف: “نضطر أحياناً لإشعال قصاصات الأقمشة التي يرميها أصحاب المعامل، وأكياس النايلون والعلب البلاستيكية وبعض الأحذية والثياب الرثَّة، رغم أن اشتعال تلك المواد يسبب كثيراً من الأضرار كونها تَبعَثُ دخاناً كثيفاً ورائحة ًبشعة تُشعرنا بالاختناق”.  

أما الطالبتان الجامعيتان رشا وحنان فقد وجدتا حلاً  للتدفئة عبر اللجوء لفحم الأركيلة أو فحم الشواء. وعن ذلك تحدثنا رشا: “نُشعل الفحم في منقل الشواء، على شرفة المنزل، وحين يصبح جمراً نحمل المنقل إلى الداخل لنجلس بقربه وننعم بالقليل من الدفء. لكن ذلك الحل ليس ناجحاً أو مجدياً فهو يتطلب مصاريف كبيرة نتيجة ارتفاع أسعار الفحم الذي نحتاج لكمياتٍ كبيرة منه، ناهيك عن الأضرار الصحية التي  يُسببها احتراقه واستنشاق الكربون المنبعث منه”. 

وتبقى الطالبتان أفضلُ حالاً من الموظف علاء (35عام) الذي يضطر لمغادرة منزله ليلاً هرباً من البرد والعتمة، حيث يتسكع في الشوارع لنحو ثلاثة ساعاتٍ فتمنحه الحركة بعض  الدفء وتُشعره  ببعض التعب الذي يُجبر جسده على الرغبة في النوم مبكراً.   

الاستحمام عملية معقدة 

بات الاستحمام، عند معظم الناس أمراً مؤرِّقاً وصعباً ويحتاج لمعجزة في ظل صعوبة توفير الماء الساخن، فكمية المياه التي يمكن تسخينها، خلال توفر الكهرباء على مدار اليوم وفي معظم الأحياء، بالكاد تكفي لاستحمام شخصٍ واحد، هذا إلى جانب استحالة استخدام السخانات التي تعمل بالمازوت. وفي ظل ذلك الواقع يحاول الناس البحث عن حلولٍ إسعافية من بينها الذهاب إلى حمامات السوق، التي نشطت بشكلٍ كبير، أو العودة إلى الطرق القديمة كالاستعانة بنار الحطب أو ببور الكاز لتسخين الماء، كحال السيدة أم خالد (48 عام / زوجة وأم لخمسة أبناء) التي تتحدث لنا عن تعاملها مع تلك الأزمة: “بعد انعدام توفر الكهرباء واستحالة تأمين الماء الساخن أحضرت ببور الكاز، الذي انعدم استخدامه منذ عقود، من منزل أهلي بعد أن كان موضوعاً في الصالون كتحفةٍ أثرية، ورحت أسخن الماء على ناره في حال توفر مادة الكاز، فيما أسخنه، في حال عدم توفرها، على نار ما توفر من حطبٍ وكراتين أو أية مواد يمكن إشعالها، حيث أُوقدها داخل تنكةٍ على شرفة المنزل وأضع فوقها طنجرة الماء”.   

الشاب مازن (33 عام/ موظف في شركة خاصة) وجد حلاً جيداً لكنه مكلفاً. يحدثنا عنه: “أخبرني صديقي أن النادي الرياضي، الذي يذهب إليه لممارسة تمارين اللياقة البدنية وبناء العضلات، يؤمن ماءً ساخناً لزبائنه على مدار اليوم لكي يستحموا بعد التعرق الناتج عن التدريبات الرياضية. ورغم أنني لست من محبي الرياضة لكنني حذوت حذو صديقي وسجلت في النادي فقط لكي أتمكن من الاستحمام متى أردت”. ويضيف مازن:”رغم أن الاشتراك الشهري في النادي (45 ألف ليرة) يُعتبر مكلفاً إلا أنه يبقى أوفر من دخول حمامات السوق، كما يتيح  إمكانية أن يتناوب شخصان على دخول النادي في أيامٍ مختلفة، وهو ما منح شريكي في السكن فرصة الذهاب عوضاً عني لكي يستحم مرتين في الأسبوع”. 

أما الطالب يوسف (23 عام) فلم يجد سبيلاً للاستحمام سوى أن ينتظر موعد زيارته إلى قريته كل أسبوعٍ أو عشرة أيام، حيث يقول: “خَفضتُ عدد مرات الاستحمام من ثلاث مراتٍ أسبوعياً إلى ثلاث أو أربع مراتٍ شهرياً، في انتظار زيارتي لعائلتي التي يُمكنها تسخين الماء في القرية على نار الحطب، فيما تغسل أمي وأختي ثيابي المتسخة، التي أحملها معي، بشكل يدوي في حال تَعذُّر عمل الغسالة”. 

قهوة من عربة البائع الجوال 

“في الصباح الباكر وقبل ذهابنا إلى الجامعة نمرّ بعربة بائع المشروبات الساخنة، لنشتري قهوتنا الصباحية ونشربها على مصطبةٍ قرب الرصيف في ظروف البرد. لا نملك أي مصدرٍ للنار في بيتنا ما يضطرنا أحياناً إلى الاستعانة بالجيران لتحضير ركوة القهوة أو إبريق الشاي، وكثيراً ما نهرب من بيتنا إلى بيوت بعض الأصدقاء والأقارب لكي نشرب مشروباً ساخناً أو نتناول طعاماً مطبوخاً”. هكذا يلخص الطالب الجامعي عمران (24 عام) معاناتة اليومية التي يعيشها مع صديقه في ظل غياب أزمة الغاز التي حرمت الكثير من الناس من طهو طعامهم أو حتى تحضير مشروبٍ ساخن، حيث باتت العائلات تنتظر نحو 100 يومٍ  لتستلم مخصصاتها من مادة الغاز (أسطوانة سعة 8 كيلو) الموزَّع عبر “البطاقة الذكية”، فيما لا يحصل الكثيرون على أية مخصصات، ما يضطر بعض ميسوري الحال للجوء إلى السوق السوداء حيث تباع الأسطوانة بأكثر من 200 ألف ليرة،  فيما يلجأ البعض لاستخدام ببور الكاز أو الببور الصغير، الأشبه بالفانوس، والذي يعمل بواسطة الكحول الأزرق، لكن ذلك الأمر يُعتبر مكلفاً أيضاً، إذ يصل سعر ليتر المادتين إلى نحو عشرة آلاف ليرة.  

 وفي ظاهرة غريبة على الشوارع، نشطت في الآونة الآخيرة مهنة تعبئة البوتوغازات الصغيرة عبر عرباتٍ جوالة أو بسطات. ويحدثنا الرجل الستيني أبو شادي- الذي يَجرُّ عربة، في شوارع مدينة جرمانا، تَحملُ أسطوانتي غاز وميزان- عن طبيعة مهنته: “في ظل أزمة الغاز الخانقة يلجأ الناس إلينا لتعبئة البوتوغازات الصغيرة المحمولة (التي كانت تستخدم سابقاً للرحلات والسيرانات) حيث نضعها على الميزان خلال تعبئتها من الأسطوانة لنقوم بتسعيرها بحسب الكمية المعبأة، إذ يُباع سعر كيلو الغاز بعشرين ألف ليرة”. ويضيف: “ونتيجة تردي الوضع المعيشي عند بعض الناس لا يسعهم سوى شراء كيلو أو نصف كيلو غرام من الغاز وأحياناً أقل من ذلك، فمثلاً، قد يطلب أحدهم تعبئة كمية غاز بقيمة سبعة آلاف ليرة فقط”.   

طرق جديدة للرفاهية 

على طريق مطار دمشق وفي بقعة ترابية، تجلس أم محمود بصحبة أولادها الثلاثة وجارتيها. يفترشون التراب ويثرثرون وكأنهم بذلك يحاولون محاكاة طقس السيران الذي غاب عن حياة معظم السوريين. لا شيء يُسَلي جلستهم سوى بعض الموالح الرخيصة وإبريق شاي تم تحضيره على نار الأخشاب والكراتين التي جُمعت من أرجاء المكان. هذه الجلسة تُعدُّ رفاهية كبيرة بالنسبة لأم محمود ومن معها، حيث تقول: “هذا المكان هو المتنفس الوحيد بالنسبة إلينا، نهرب إليه من بيوتنا الباردة  لنحظى بدفء أشعة الشمس الذي لم نُحرم منه حتى الآن. لم يعد هناك أية أماكن يمكن زيارتها بما فيها الحدائق والبساتين والمقاهي، فالأمر بات يحتاج إلى أموالٍ طائلة”. ترتشف شايها البارد وتذكر ماضيها: “فيما مضى كنا نخرج بصحبة الأقارب والجيران إلى البساتين لنفرد أمامنا عشرات الأطعمة من المشاوي والكبب،الطبخات المنزلية المتنوعة، والسلطات والعصائر والفاكهة وغير ذلك، في أجواء من الفرح والمحبة، أما اليوم فنحن عاجزون حتى عن شراء الفاكهة أو مستلزمات الأركيلة وعن تحضير أبسط أنواع الحلويات المنزلية”.  

حالة مشابهة يعيشها أبو عمر (58عام) الذي لا يمتلك  سوى رفاهية زيارة الحديقة بعد انتهاء عمله في ورشات البناء، حيث يشتري كأس شاي من عربة بائع المشروبات ويجلس على إحدى المقاعد محدقاً بالمارة وهو يدخن ويرتشف شايه. وعن سبب ممارسته لهذا الطقس شبه اليومي يقول: “بت عاجزاً عن دخول المقهى ولعب طاولة الزهر بصحبة أصدقائي فيما أصبحت لقاءاتنا في البيوت صعبة للغاية إذ نخجل من عجزنا عن توفير الدفء وتقديم واجب الضيافة”. يطلق تنهيدة ثم يضيف: ” كل يوم نصحو على أسعارٍ جديدة، وكل حينٍ يُذكرنا صاحب المنزل بضرورة زيادة الإيجار. صرنا نجبر أطفالنا على الاكتفاء بوجبتي طعامٍ في اليوم، نؤِّخر موعد الغداء حتى المساء لكي نستغني عن وجبة العشاء”. 

وليست الرفاهية داخل المنزل أفضل حالاً من خارجه، إذ بات الجلوس بداخله يشبه “العقوبة” بحسب ياسمين (27 عام/ خريجة كلية الفنون الجميلة) التي تصف واقع حالها: “نحن محرومون من مشاهدة التلفاز، محرومون من الدراسة والمطالعة، نلتحف البطانيات طوال الوقت، وإذا ما فكرت في مشاهدة فيلمٍ ما على شاشة اللابتوب سينفذ شحن بطاريته في منتصف الفيلم أو حتى بدايته، وإذا ما حاولت التواصل مع أصدقائي في الخارج أو تصفح اليويوب ستنقطع خدمة الإنترنت في أي لحظة أو تغيب شبكة الاتصال أو ينفذ شحن بطارية هاتفي المحمول الذي أضطر في كثيرٍ من الأحيان للذهاب إلى بيوت الجيران أو الأصدقاء لأتمكن من شحنه”. 

 وفي ظل هذا الواقع لا تمتلك ياسمين وأخوتها سوى رفاهية لعب ورق الشدة وطاولة الزهر وبعض ألعاب الطفولة، رغم أنها ترى في ذلك الأمر مضيعة للوقت.

ونتيجة غرق معظم البيوت في العتمة الدامسة وصعوبة شحن بطاريات الإنارة البديلة وارتفاع أسعار الشموع، لجأ كثير من الناس، كحال عائلة ياسمين، لاستخدام الفوانيس القديمة (الأنتيكا) التي كانت تعمل بواسطة الكاز، عبر تشغيلها بما توفر من مواد كالكيروسين أو الكحول أو الزيت. 

قبل أيام كنت أسير في الشارع المحاذي لقلعة دمشق والحديقة البيئية، أحرك قدميَّ بتباطؤ وأنا بالكاد أبصر تفاصيل المكان في ظل غياب أي مصدر للضوء. ولأن هاتفي المحمول قد نفذ شحن بطاريته فتعذَّر الاستعانة بضوء مصباحه، استعنت بضوء القداحة لكي أُضيءَ الطريق أمامي وأنا أتساءل: كيف لأقدم عاصمةٍ مأهولةٍ أن تجتاحها كل هذه الوحشة وكل هذا الظلام؟.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “إرادة المقاومة اليومية في سوريا لدى المواطنين العاديين

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

(1) في وقت فراغي كنتُ أملأ الأوراق البيضاء بالحقول كان يبدو الفجر أقرب و السحاب يمرّ فوق الطرقات بلا خسائر..  وكان الماضي  يمتلئ  بالألوان. لا شيء مثل اللحظة حين لا تجد المسافة الكافية لتخترع أجنحة تكاد تنمو كزهرة برية.  بدأتُ أجمع صوتي من الريح و أفسّر...

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

تدريباتنا