تدريباتنا

ساحة الصبارة في دمشق..وحكايات الغائبين

by | Jun 24, 2022

في طريقه للذهاب إلى ”ساحة الصبارة“، المجاورة لحي المالكي في العاصمة السورية دمشق، لا يهتم عادل وغيره من قاصدي المكان للتنظيم الراقي للأبنية والسفارات والوزارات والمصارف على جانبي شارع أبو رمانة المتصل بالساحة. تبدو الحارة وكأنها معزولة عن الحرب، نظراً لحالة الهدوء والأمان التي تعيشها المنطقة.

”هي فسحة سماوية“ بهذا يصف عادل الذي يعمل كمهندس برمجيات في إحدى الدوائر الحكومية ساحة الصبارة، التي يرتادها بشكل متكرر هو وأصدقاؤه دون انقطاع.

يقول عادل لـ “صالون سوريا”: “لا مكان أفضل لكي نجتمع أنا ورفاقي في كل الأوقات، ليلاً ونهاراً وبجميع الفصول، في هذا الهواء الطلق نسرد أخبارنا وقصصنا مع صحن من الفول النابت، وكأس مرقة الفول، أو بعض البطاطا الحلوة المشوية على الجمر في الشتاء، أما في الصيف فبالتأكيد صحن من الصبار أو البطيخ كفيل بأن يبرد لهيب حرارة الجو“.

ويقصد عادل وأصدقاؤه الساحة بعيداً عن حالة القلق عن تواتر انقطاع الكهرباء في بيوتهم.

يتوسط ساحة الصبارة دوار مروري، على يمنيه ويساره كشكان متقابلان مع طاولات كثيرة يبيعان الصبار والفول النابت والذرة والكستناء والبطاطا المشوية، حسب الموسم. يبدو كل شيء هنا خارجاً عن المألوف، فقط طاولات وكراسي بلاستيكية وبعض مشاتل الورود ولا غطاء إلا السماء وجنونها في فصل الشتاء الذي يشكل بحد ذاتها حالة مغرية للجلوس تحت أمطاره للكثيرين، كل ذلك بعيداً عن تقاليد وأعراف المطاعم الفاخرة التي لم يعد يرتادها إلا ميسوري الحال وقد أصبحوا قلة قليلة جداً، أما الحصة الأكبر في هذه الأماكن الغالية فهي من نصيب سادة الحرب، “ومن يدري، قد يأتي يوم يلتهمون فيه ساحة الصبارة نفسها”، يقول عبد السلام العكام في معرض حديثه ل “صالون سوريا” عن آخر مرة تمكن فيها من الجلوس بمطعم معروف.

حكايات الساحة

وكما الحكايات التي يتشاركها عادل مع أصدقائه في الساحة، قصص كثيرة يتردد صداها مع ذكريات من مروا/ن في هذه الساحة، وباحوا/ن لها بمكنوناتهم/ن و أسرارهم/ن وأحلامهم/ن قبل أن يغادروها/نها إلى غير رجعة، فقد شهدت الساحة على آلاف الأحاديث لرفاق ورفيقات اجتمعن/وا بها قبل أن يتفرقوا/ن كل منهم/ن إلى دولة ومكان، بعد أن أودت الحرب بالملايين بين قتيل وجريح ومفقود ومهاجر.

ميرنا سالم فنانة تشكيلية تجلس وحيدة على أحد الزوايا بجانب بسطة البائع، وأمامها طاولة عليها صحن فول وكأس مرقة الفول، تشيح بنظرها بعيداً غير مهتمة بحركة المارة أو بالجالسين حولها على الطاولات.

مضيفةً ”خالد خطيبي الذي لم يفارقني لحظة، وهذه الساحة شاهدة على كل ما بيننا من أسرار وأحلام استشهد بقذيفة هاون، أما محمد فلم يستطع تحمل ثقل الأيام وتبعات الحرب التي طالت كل نواحي الحياة، فقرر الرحيل وهاجر مع الكثيرين إلى ألمانيا أملاً ببناء مستقبل أفضل، بالنسبة لسلمى فربما حالفها الحظ هي الأخرى برجل تزوجته وذهبت لتسكن معه في السعودية، فلم يبقى غيري هنا”.

تستذكر ميرنا ليال كثيرة قضتها هنا مع أصدقائها، تشق ضحكاتهم/ن هدوء المنطقة، متجاهلة أصوات القذائف والمدافع التي كانت تكدر صفو المكان، والمسموعة من أرياف دمشق، تتنهد ميرنا وتقول:” يا ليت العمر لم يمض وليت الحال لم يتبدل، فقد فرقت الحرب مجموعتي المكونة من أربعة أشخاص، ولم يتبق غيري أنا أعيش على أطلال الذكريات الجميلة“.

ورغم البعد مازالت ميرنا على تواصل مع محمد وسلمى، ”وأحاديثنا تدور دائماً حول حفلات سمرنا هنا في ساحة الصبارة“ كما تقول.

تعتذر ميرنا عن الظهور في صورة نلتقطها للمادة مبررة ”مو حابة أتصور، بدي أتصور لما نجتمع كلنا هون من جديد”.

رحمة أسعارها

بالإضافة لخصوصية الاجتماعات والذكريات في الساحة، فهي تجذب روادها بمغريات أخرى كانخفاض تكلفة الجلوس فيها.

حامد شماس أستاذ جامعي جاء مع زوجته وولديه إلى الساحة لتناول الذرة والصبار، يروي لـ“صالون سوريا“: “لم يعد بقدورنا دفع فاتورة غداء أو عشاء أو حتى إفطار في مطاعم دمشق، أسعار الوجبات في المطاعم قفزت بشكل غير معقول، والحجة الدائمة صعود الدولار وقلة الموارد وصعوبة الاستيراد“.

كل هذا لم يجعل للأستاذ حامل وعائلته من متنفس إلا في هذه الساحة، فالأسعار هنا ”أرحم“ من أي مكان آخر بحسب تعبيره، ويضيف ” الصحن الواحد لمختلف ما يقدم هنا من الذرة أو الصبار أو الفول لا يتعدى الأربعة آلاف ليرة، وهذا مقبول بالنسبة للراتب الذي أتقاضاه من عملي، شو بدنا أحسن من هيك متل ما بقول المثل: في ومي ووجه حسن”، ينهي كلامه متأملا ضحكة زوجته.

شبح الغربة

كثرة مشاغل الحياة والركض سعياً وراء لقمة العيش، إضافة لعدم تزويد وسائل النقل العامة من مكيروباصات وسرافيس بمادة المازوت يومي الجمعة والسبت، جعلت من ساحة الصبارة تبدو فارغة في هذين اليومين، فبالطبع من لا يملك مالاً كافياً للذهاب إلى المطاعم والمقاهي، فمن أين يأتي به لدفع طلب سيارة أجرة قاصداً الساحة؟

يخيم السكون على البسطة والكراسي والطاولات الفارغة التي تمتد على جنبات الدوار لا يؤنسها إلا سيارات فارهة تمر بجانبها مرور الكرام.

مواضيع ذات صلة

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد "هاني الراهب" ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه،...

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

ياسين الحافظ كاتبٌ ومفكر سياسي سوري من الطراز الرفيع، يعدُّ من المؤسسين والمنظرين للتجربة الحزبية العربية. اشترك في العديد من الأحزاب القومية واليسارية، ويعدُّ الحافظ في طليعة المفكرين التقدميين في العالم العربي، اتسم فكره بالواقعية النقدية، تحت تأثير منشأه الجغرافي...

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

مواضيع أخرى

سوريا الجديدة وتحدياتها المقبلة كما يراها كتاب وسياسيون وأكاديميون سوريون

سوريا الجديدة وتحدياتها المقبلة كما يراها كتاب وسياسيون وأكاديميون سوريون

بعد انهيار نظام الأسد الاستبدادي، تمر سوريا اليوم في مرحلة دقيقة وحاسمة من تاريخها، جراء الفراغ السياسي والدستوري الذي حصل في البلاد بعد أن فرّ بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي، وظهرت أمام السوريين تحديات كبيرة غير مسبوقة، تتداخل فيها معطيات...

انتهت الحملة الأمنية في مدينة حمص ولم ينته الخوف

انتهت الحملة الأمنية في مدينة حمص ولم ينته الخوف

لا أعرف من روى نكتة أنه لو فُرض علينا حظر تجول لخرجنا نتفرج على حظر التجول! هذا ما حدث في الحي عند بدء الحملة الأمنية على بعض أحياء حمص التي وُصمت بالموالاة للتفتيش عن السلاح وفلول النظام كما قيل، إذ خرج سكان الحي ووقفوا "يتشمسون" أمام أبواب البيوت كي يراقبوا السماء...

زكريا تامر بوصلة التمرد الساخرة

زكريا تامر بوصلة التمرد الساخرة

"أكثر قصصي قسوة هي أقل قسوة من الحياة العربية المعاصرة، وأنا لا أستطيع وصف السماء بجمالها الأزرق متناسياً ما يجري تحت تلك السماء من مآس ومجازر ومهازل.. صدّقني الأسطورة أصبحت أكثر تصديقاً من واقعنا المرير" بهذا التوصيف العاصف يلخص الكاتب السوري زكريا تامر (1931) تجربته...

تدريباتنا