تدريباتنا

سوريا الجديدة و «تجربة» كوريا الشمالية

by | Feb 10, 2022

سفير كوريا الشمالية في دمشق مون جونغ نام، زار وزيراً في الحكومة السورية، كي يشرح له «تجربة جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية في تجاوز الحصار المفروض عليها وترقية معيشة الشعب الكوري في ظل الضغوطات» الغربية على بيونغ يانغ، حسب ما جاء في بيان رسمي.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل يمكن فعلاً أن تنسخ دمشق، الخاضعة لـعقوبات غربية، تجربة بيونغ يانغ في مواجهة «الحصار»؟
الجواب المباشر والفوري: لا، لأسباب كثيرة.
بداية، لا بد من الإشارة إلى المفارقة المتمثلة في أن «عرض» سفير كوريا الشمالية، لم يقدم إلى وزير يمثل حزب «البعث» الذي يريد تعميم تجربة الحزب في «الأمة العربية» أو وزير شيوعي سواء كان صيني الهوى أو سوفياتي المرجعية، بل إلى وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك عمرو سالم، العائد من الولايات المتحدة إلى سوريا، مبشراً بنقل «التجربة الليبرالية» الأميركية و«مشروع الإصلاح» إلى سوريا، سياسياً وتقنياً واقتصادياً.
سالم، حسب السيرة الذاتية المعروفة والموثقة في موقع الوزارة، درس في سويسرا، وليس في جامعات الكتلة الشرقية «السوفياتية». ثم عاد إلى دمشق مديراً عاماً لـ«مركز آبل للكومبيوتر» وليس قيادياً حزبيا. ساهم مع باسل الأسد في تأسيس «الجمعية المعلوماتية» وليس توسيع الحلقات «البعثية»، قبل سفره إلى الولايات المتحدة للعمل في مقر شركة «مايكروسوفت». عاد ثانية إلى سوريا، وقدم نفسه على أنه كان «مستشاراً لبيل غيتس» وبات مستشاراً في القصر الرئاسي ومقرباً من الرئيس بشار الأسد، ثم عمل وزيراً للاتصالات في 2006.
في ضوء هذه «السيرة»، يمكن قراءة مدى جدية «ترحيب» الوزير سالم بـ«مبادرة السفير الكوري بدمشق لتقديم نتائج التجربة الكورية والتي حسنت الواقع المعيشي في كوريا، وعرض تبادل الخبرات بين البلدين»، إذ أنه كان بين مستشارين كثر قدموا قبل سنوات للقصر سلسلة أفكار ومبادرات للتخلص من آثار «الكورنة الشمالية» في «النظام السوري». بل كان من المبشرين والمرحبين بالإقلاع عن «إشارات شمولية» تخلت عنها دمشق قبل عقدين، مثل خلع لباس «الكاكي» من المدارس الأولية، وإخراج «العسكرة» ونظام التدريب العسكري من المدارس العليا والجامعات، خصوصاً أنه سليل أسرة دمشقية كانت فخورة بأنها أرسلت خبراء نسيج إلى كوريا في بداية عقد الخمسينات، كي تنقل تجربتها الاقتصادية إلى آسيا.
تلك «الإشارات الشمولية» يعتقد إلى حد كبير أن الرئيس حافظ الأسد استوحى جوهرها قبل عقود متأثراً من تجربة يونغ يانغ، في عهد «القائد المؤسس» كيم إل سونغ الذي عرف أيضاً بـ«القائد العزيز»، وورثه ابنه كيم جونغ حتى 2011، ليخلفه كيم جونغ أون الزعيم الحالي. ومشياً على التجربة الكورية، سمي الرئيس حافظ الأسد في الخطاب الرسمي بـ«القائد المؤسس» بدلاً من «القائد الخالد».
خلال عقد خلع «الكاكي» الكوري واختبار العلاقات مع أوروبا وأميركا، ابتعدت دمشق عن بيونغ يانغ في بداية الألفية. لكن سرعان ما عادت الحرارة، العسكرية والسياسية والأمنية، إلى العلاقة بين الرئيسين بشار الأسد وكيم جونغ أون، إلى حد أنهما تبادلا في العام الماضي 12 رسالة، كان بينها «تهنئة» من الرئيس الكوري الشمالي بعد الانتخابات الرئاسية في منتصف 2021، بعدما رفعت في إحدى ساحات دمشق حديقة ورود تكريما لـ«القائد الكبير» الحاكم في بيونغ يانغ. كما استقبل الأسد مرات، مبعوث الزعيم الكوري، وزير الخارجية ري يونغ هو.
لعل الشيء الجامع حالياً بين البلدين هو العقوبات. لكن واقع سوريا مختلف كلياً عن كوريا الشمالية المحكومة بنظام شمولي حديدي القبضة والأيديولوجيا يبسط سلطته على حصته من شبه الجزيرة الكورية من هدنة الخمسينات، فيما باتت الجغرافيا السورية مقسمة إلى ثلاث مناطق نفوذ تنتشر على أرضها خمسة جيوش أجنبية وتتجاور في مساحاتها القواعد العسكرية للحلفاء والأعداء، وتزدحم في سمائها طائرات دول أجنبية عديدة بدعوة من «الحكومة الشرعية» أو دونها، إضافة إلى مشكلات النزوح واللجوء والفقر والفساد وأثرياء الحرب وفقدان العصب الأيديولوجي.
هناك تأثيرات كثيرة تركتها كوريا الشمالية في هيكلية النظام السياسي و«الحلقة الضيقة» والتجارب العسكرية في سوريا. لكن لا يمكن القول أن «النظام السوري» هو نسخة طبق الأصل عن كوريا الشمالية، من حيث الإمكانات الاقتصادية والانسجام الهيكلي والعصبية الشخصية والتنظيم الحزبي وحصص الأكسجين، والمحيط الإقليمي.
عليه، يغدو الحديث عن نسخ «نموذج كوريا الشمالية» غير جدي، كما هو الحال – عدم الجدية – في بداية الألفية لدى كثرة الحديث عن نظرية «اقتصاد السوق الاجتماعي» ونقل «التجربة الصينية»، التي أقرت في المؤتمر العام لـ«البعث». وقتذاك، كان لزاماً انتظار مرور بضع سنوات ليقتنع مستشارون وصناع قرار بأن سوريا ليست الصين، لا بنظامها السياسي ولا قدراتها الاقتصادية ولا إطارها الجيوسياسي… ولا حجمها. ينطبق الأمر ذاته، لدى ارتفاع أصوات تقول بإمكان نسخ «التجربة الكوبية» أو «التجربة الإيرانية».
واقع الحال أن سوريا الجديدة، خلطة تحتوي تطعيمات من نماذج كثيرة. في مكان ما، لم يتغير أي شيء في الهيكلية وآلية القرار. وفي مساحات أخرى، تغير الكثير وتقلصت مساحات وتآكلت أخرى. فغدت «التجربة السورية»، فريدة وعصية على التقليد أو النسخ من تجارب أخرى.

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

تدريباتنا