تدريباتنا

سورية بلد مُستباح

by | Nov 29, 2017

صحيح أن سورية كانت تنعم بشيء من الاستقرار بعد أحداث نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، وصحيح أنّها شهدت تطوّراً في بعض الصناعات خاصّة منها التحويلية، ومشاريع بناء سدود التي شكلت ركيزة مهمة في مجال الزراعة وتربية الحيوان، وصحيح أنّ المديونيّة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي كانت صفراً، لكنّ الصحيح هو أنّه كان هناك إلغاء للعمل السياسي والاجتماعي خارج إطار الدولة، فتشكّلت طبقة اقتصادية تعتمد على الاستغلال وعلى النهب دون أن يكون هناك من يستطيع ردعها، فازداد الفقر والأمّية في ريف دمشق وريف الداخل أضعافاً وفرص العمل قلّت إلى حدّ كبير، وبلغ الفقر ذروته حين اضطرّت كثير من ورشات صناعة الأثاث والأخشاب إلى أن تُغلق أبوابها أمام موجة الاستيراد المجنونة من تركيا والصين. وهكذا وجدت آلاف العائلات نفسها عاطلة عن العمل وبلا أيّ دخل.

وقد سمعنا التحذيرات التي أطلقها بعض المفكّرين السوريين والعرب، الذين حذّروا من مغبّة الاعتماد على الأمن ومن اضمحلال الطبقة الوسطى الحامل الأساسي للتغيير العقلاني اجتماعياً وسياسياً ومن انعدام الحرّيات. وأتذكّر مؤتمر تجديد الفكر القومي، الذي عُقد في دمشق عام  2008 بمبادرة ورعاية من الدكتورة نجاح العطّار، وأتذكّر أنّ ما قيل في ذلك المؤتمر كان يمكن أن يُشكّل برنامج عمل للتغيير وقطع الطريق أمام الانفجار الذي لم يلبث أن وقع.  لقد قيل فيه كلّ الذي كان يجب أن يُقالَ تقريباً، لتفادي الانفجارات المجتمعية. لكنّ أحداً لم يولِ ما قيل أدنى أهمّية. طبعت المحاضرات في كتاب صدر عن وزارة الثقافة وأعتقد أنه ما يزال مركوناً في مستودعاتها ولم يقرأه أحدٌ من المعنيين بقراءته. عندما انفجر الشارع في درعا وحاولت بعض الأصوات المثقفة أن تقول كلمتها بما يمكن أن يُجنّب البلد ما حدث في ليبيا كان قد فات الأوان، فالردّ كان واحداً، كلّ شيء تحت السيطرة، في الوقت الذي بدأ كثير من الأماكن يخرج من تحت السيطرة وتدخّل من كان ينتظر المناسبة كي يتدخّل وبدأ التسليح وهكذا بدأت المطالبة بالحرية وبالديمقراطية والكرامة الإنسانية تتحوّل إلى تكبير إلى مواجهة كان يتمناها كلّ عدّو لبلد خرج أهله يطالبون بحقوقهم ولم يخرجوا ليحملوا السلاح، وبدأ يُرد على العنف بعنف أشدّ وأدهى وتشيطن الجميع وبدأ كلّ بلد من بلدان المنطقة والعالم يتبنى فريقاً ويُسلّحه ودخلنا في لعبة المحرّم: الدم السوريّ لم يعد حراماً على السوري، صار مباحاً. تدخلت دول كبرى وبدأت توظّف دولاً صغرى تابعة لها في  توريد إسلامويين من كلّ حدب وصوب. ولم تعد الديمقراطية ولا الكرامة ما يُبحث عنها. صار إسقاط النظام هو التكتيك والاستراتيجية. لم نتعلّم من درس العراق، الذي ساهمت الدول العربية التي دعمته في حربه ضدّ إيران في الحرب ضدّه وإسقاطه وليس إسقاط نظامه الدكتاتوري، فهم لم يسقطوه لأنّه كان ديكتاتورياً، فالدول التي تعاونت معهم في إسقاطه أسوأ من النظام الدكتاتوري، فهي لا تعرف أيّ نوع من الحرّية، ولا حتى في الطعام، بل للانتقال إلى أجنداتهم المريعة في المنطقة من حيّز النظرية إلى حيّز التنفيذ، لكن هذه المرّة دون تدخّل مباشر، تقسيم المقسّم وزرع الطائفية  والعرقية والأضغان الداخلية، والمحاصصة الطائفية والعرقية.

لقد بدأ مشروع الفوضى الخلاّقة وبدأت طاحونة القتل والتدمير العبثيّة تطحن شعوب المنطقة وها نحن اليوم في أتونها. الديمقراطيّة التي لم نستطع تجذيرها بل قاومناها وحاربناها، لم يعد لها وجود. فالقوى الديمقراطية ضعيفة، ضعيفة إلى حدّ أنّها لم تستطع أن تنتج مشروعها وأُلحقت أو التحقت بقوى دينية رجعية وانتقامية، فغاب صوتها وغابت. ولم تتمكّن هذه القوى من أن يكون لها صوتها المسموع وبقيت أصواتاً مشتتة، بعضها يدعو إلى اللاعنف وإدانة العنف من أين ما جاء، لكنّها فقط تدعو. لو نظرنا إلى المؤتمرات التي عُقدت وتعقد بدءا من مؤتمرات جنيف وحتى مؤتمرات أستانة هي مؤتمرات لقوى متصارعة متشرذمة، هناك أكثر من ألف فصيل مسلح يعمل في سورية، صار لها مصالحها ما تحت الوطنية فكيف بالديمقراطية. لا يهمّها إلا ما يهمّ مموليها وجيوبها.

لم يعد في سورية قرار وطني مستقل، لقد صار رهينة القوى الداعمة للمتصارعين. آفاق المستقبل ليست في منظار السوريين، بل في منظار الغريب، في منظار من أقاموا قواعد عسكرية لهم سواء أكانت شرعية أم غير شرعية. صار الوطن ملعباً اللعب فيه بالسلاح الفتّاك.

لا بد كي نستطيع أن نُضمّد جراحنا من أن نطرح مشروع الديمقراطية والفصل بين السلطات الأربعة، التنفيذية والتشريعية والقضائية والصحافية وفصل الدين عن الدولة ونعمل على ترسيخه في وعينا، وتشكيل لجنة غير جهوية للبحث العلمي المقترن بالمعلومة الدامغة حول كلّ من ساهم في تمويل وتسليح وتوريد الإسلامويين داخلياً وخارجياً للقتال في سورية وإقامة دعوى ضدّهم أمام المحاكم الدولية وتغريمهم بإعادة بناء ما دمّر وهو كثير في البلد. وهذا ليس أمراً سهلاً على الإطلاق. لكن لا بدّ من عمله.

مواضيع ذات صلة

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد "هاني الراهب" ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه،...

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

ياسين الحافظ كاتبٌ ومفكر سياسي سوري من الطراز الرفيع، يعدُّ من المؤسسين والمنظرين للتجربة الحزبية العربية. اشترك في العديد من الأحزاب القومية واليسارية، ويعدُّ الحافظ في طليعة المفكرين التقدميين في العالم العربي، اتسم فكره بالواقعية النقدية، تحت تأثير منشأه الجغرافي...

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

مواضيع أخرى

كي لا تصبح دمشق سجناً لأبنائها مرة أخرى

كي لا تصبح دمشق سجناً لأبنائها مرة أخرى

بين اللطم المشهديّ في الشوارع "ولبّيك يا حسين" إلى "أعزّنا الله وأذلّكم"، و"الشام عادت إلى أهلها أمويّة أمويّة رغم أنف الحاقدين"، وفي ظلّ حملةٍ أمنية متبّلة، في بعض تصريحاتها، ببهارات الانتصار الطائفية، ومشهدية صارخة لمعاملة الآخر المعتقل كحيوان وإجباره على النباح أو...

تدريباتنا