تدريباتنا

سوريون يؤسسون متاحفهم الخاصة بعيداً عن ضجيج الحرب

by | Sep 5, 2022

في منطقة “ببيلا” الخارجة منذ سنوات قليلة من حرب قاسية، وبُعيد الشاخصة المرحبة بالقادمين توقنا أمام باب معدني كبير خلفه يقبع بناء من ثلاث طوابق، وبمجرد اقترابك منه ستشعر بالتأكيد أنك غادرت المكان والزمان، لا شيئ سيذكرك بأنك في العام 2022 إلا مشاهد الدمار التي تكشفها النوافذ.

هنا أسس خليل عبدالله متحفه الخاص، و جمع فيه مئات القطع القديمة التي تعكس تاريخ دمشق خاصة وسورية عامة، وبين القطع العديدة ستسمع حكايات أعراس ريف دمشق، ومجوهرات سيداتها، إضافة لمجالس رجال الحارة وسيوفهم القديمة وخناجرهم، ولا ننسى مصبات القهوة وسهرات المذياع وصناديق السمع، وأول الدرشات الهاتفية بهواتف “القرص”.

يخبرنا خليل بأنه بدأ بجمع التحف كهواية من أربعين سنة، ومع بداية الحرب في ببيلا قام بإخلاء البناء كاملاً، وبقيت التحف حوالي السبع سنوات في مكان آمن داخل العاصمة.

وعن بناء المتحف يوضح الرجل الستيني ”اشتريت قطعة أرض في ببيلا منذ سنوات عديدة، وقررت إنشاء بناء فيها أحوله إلى متحف، بعدما ضاق منزلي بالتحف العديدة التي أملكها“.

 يرفض عبدالله -الذي كان يعمل سابقاً بالشحن بين الدول العربية- بيع القطع التي يمتلكها خاصة وأنه حصل عليها بعد جولات عديدة في مختلف المحافظات السورية، كما اشترى الكثير منها من دول أوروبية، ودول عربية أيضاً.

نجح متحفه في استقطاب الكثير من الشخصيات الهامة ووسائل الاعلام، كما يستقبل عبدالله كل من يرغب بزيارة المكان بوجه بشوش، ولكنه يرفض أن يكون متحفه مأجور فهو يخاف على مقتنياته، ولا يمكنه ترك المكان مفتوحاً أمام أعداد كبيرة.

يقول عبد الله ”حتى اليوم لم أكتف من جمع المقتنيات ومازالت أسعى للمزيد، لكن صعوبة تأمين البنزين جعلت من العسير علي التنقل بين المحافظات، لكني لا أكف عن زيارة البيوت التي يود أصحابها بيع قطعهم القديمة، ومازالت قادراً على تميز القطع الأصلية، واكشفها بطرفة عين، وخاصة تلك المصنوعة من الصدف“، متأسفاً لغياب الحرفيين أصحاب الخبرة الذين سافر غالبيتهم بعد الحرب، كما يتأسف لجهل الكثيرين بما يملكون من إرث خلفته العائلة ما يجعلهم عرضة لاستغلال التجار.

في جولتنا بالمكان الذي يضم أكثر من ألف قطعة، عرفنا عبدالله على أنواع مختلفة من الأوبالين بتصاميم متنوعة، وأطلعنا على “المينة” الرائعة بألوانها المتعددة من خلال قطع فنية مختلفة منتشرة على رفوف المتحف تنوع بين صحون ومزهريات وسواهما، ومن داخل الصناديق يمكن التعرف على مختلف بلدان العالم من خلال طوابع وعملات ترجع لسنوات قديمة وحقب زمنية مختلفة، رتبها كلها في دفاتر خاصة، و مازال يعرف قصة كل عملة وكل طابع إضافة لتاريخ ومكان شرائها. 

لا يريد عبدلله من متحفه أي شيء، ”فهو بالنسبة لي مكان للراحة والسعادة أجلس فيه يومياً، أدخن نرجيلتي وأطمئن على سلامة محتويات المكان، وأُسعد أكثر حينما يشاركني أصدقاء العمر وأصدقاء أبنائي بزيارة المتحف، ونتبادل الأحاديث والقصص في ليال لا تشبه تعب ليال دمشقي بشيء“ بحسب قوله.

وفي قلب دمشق

 هذه الليالي ربما هي قريبة من الليالي التي ينظمها هيئم طباخة بشكل دوري في منزله العربي الكائن في حي القنوات داخل دمشق القديمة، هذا المنزل الذي جعله أشبه بالمتحف المتخصص بالتراث أيضاً.

 التجربة في منزل طباخة تختلف عن سابقتها، فهنا نحتاج للسير بين الأحياء القديمة والبيوت العتيقة كي نصل لمدخل المنزل، وبمجرد تجاوزنا العتبة سنجد نفسا أيضاً امام كمية كبيرة من القطع التراثية وأول ما يصادفنا هو “صندوق الدنيا” الذي كان وسيلة لتسلية الأولاد قبل زمن الموبايلات والشاشات، أمامه كانت تتزاحم رؤوس صغيرة لرؤية صور تروي حكاية بسيطة تمنحهم من المتعة ما كان يسعدهم لساعات في حينها.

 يعمل طباخة بالأصل بمجال الألبسة، وهو يملك محلات في المنطقة نفسها، تركها لأولاده وتفرغ لعشقه القديم المتمثل بجمع التحف والاعتناء بها، لهذا اشترى منزلا خاصاً وحوله لمتحف، تحول لنقطة علام في المنطقة ونجح في استقطاب من الشخصيات الثقافية والاقتصادية في البلد، يقول طباخة :” أتمنى لو يملك كل أهل دمشق زاوية في بيوتهم يعرضون فيها القطع القديمة“. 

 يشتري طباخة القطع من خلال جولاته في الأسواق ومن خلال معارفه، وبالنسبة له “أصغر قطعة غالية على قلبي، فجل وقتي أقضيه في المتحف، وبابي مفتوح للجميع“ بحسب قوله، وكي يكمل الجو التراثي، قرر ارتداء اللباس الدمشقي القديم مع الطربوش، ويشرح لنا عن لباسه من خلال قصيدة تتحدث عن تفاصيل كل قطعة من هذا اللباس التي تبدأ بالطربوش، ويختم قصيدته بالقول:” بان الحارات لا تحلو الا بلباس رجالها”.

يسعى طباخة لتوثيق تاريخ بلده من خلال القطع التي يجمعها، وهذا التراث يتمثل بكل التفاصيل من زجاجات العطر الشهيرة على رفوف الحلاقين القدماء، وملابس طلاب المدارس أو أزياء الأحياء المختلفة بالإضافة لأواني الطبخ وأدوات الأكل وزجاجات الكولا القديمة، وشرائط المسجلات والكثير غيرها.

ومتحف في السويداء

هذا الشغف هو أيضاً ما دفع شادي عدنان اسليم، 42 سنة، لتأسيس متحفه في محافظة السويداء. ونشأ عدنان في منزل عائلة غني بالتاريخ، فهو بيت روماني قديمة يقع بقلب السويداء، وكان يضم صوراً وخناجر وكل مقتنيات العائلة التي تعود لأجيال مختلفة حافظوا عليها وصانوها، لهذا تفتحت عينا شادي على هذا الإرث، وبدأ منذ عشرين سنة بجمع دلال القهوة، وكان ينوي جمع دلة من كل قرية، وتفاصيل تراثية تخص كل منطقة، ومع الأيام ازداد العدد لديه، حتى قرر في عام 2019 تأسيس متحفه الخاص على نفقته الخاصة، وكان الأمر مكلفاً بشكل كبير بالنسبة له، لكن شغفه كان أكبر من الظروف، عن هذا يقول عدنان: “أريد توثيق تاريخ بلدي، كي يتعرف أبناء هذا الجيل على ماضي آبائهم وطبيعية الحياة القديمة”، ولتحقيق الغاية بنى منشآة في مساحة تصل لمئة متر وهي تضم حوالي ثمانية آلاف قطعة باختلاف أحجامها.

يؤكد شادي بأنه يعاني كثيراً في تأمين القطع بسبب صعوبة الوصول إليها وارتفاع التكلفة، خاصة وأن مشروعه دون عائد، فالدخول للمتحف مجاني. ورغم أنه وضع صندوقاً للتبرعات، لكن ما يجمعه الصندوق لا يشكل ربع المبلغ اللازم لخدمة المكان، وما يزيد الأمور صعوبة هو عدم وجد أية جهة داعمة لمشروعه، فالدعم الذي حصل عليه هو إعلامي فقط وبالكلام والتشجيع.

رغم هذا، إلا أن شادي مصر على حلمه، رغم تراكم الديون التي أجبرته على بيع سيارته، ولهذا قرر عدم الاستماع لانتقادات الناس بخصوص ما يصرفه من مال وتعب. يقول شادي بكل فخر، ”المتحف هو الأهم على مستوى الوطن العربي فهو يضم قطعاً كثيرة ونادرة، خاصة على مستوى الأسلحة كالسيف الدمشقي وسيف الجوهر والخناجر العثمانية والعُمانية والبدوية وغيرها، وهي كلها قطع ذات قيمة مادية وتاريخية عالية“.

لا تقتصر التجربة على هذه المتاحف الخاصة الثلاثة فثمة متاحف عديدة أخرى وباختصاصات متنوعة مثل المتحف الجيولوجي للدكتور المرحوم فواز الأزكي الذي أسسه عام 2002 في قريته قسمين وسط طبيعة ساحرة، مستفيداً من خبرته الطويلة في المجال الجيولوجي فهو خريج جامعة بوخارست وحاصل على الدكتوراه من الجامعة نفسها، وأستاذ في جامعة تشرين في كلية العلوم وقسم الجيولوجيا.

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

تدريباتنا