أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...
يحدث في الحرب أن تستيقظ الساردة صباحاً، تستعدّ لقضاء نهارها في عملها اليوميّ، وقبل أن تتناول قهوتها كالعادة، يطلب أبوها منها مرافقته إلى محلّه في هامش المدينة:” سألني بتودّد إذا ما كنت سأرافقه مشياً في الشارع المفضي إلى الخوف…” بذريعة أنّها ستتناول قهوتها مع أمّها مجبورة الساق، وإلى حين يتمكّن طلّابها من تجاوز حواجز التفتيش الكثيرة وصولاً إلى المدرسة. يصيب صاروخ جدار غرفة المعيشة، مكان شرب القهوة المعتاد، فتنسحب وأمّها إلى مكان أكثر أماناً؛ الحمّام، عوض الخروج من البيت، بسبب جبيرة ساق أمّها المكسورة. وفي الحمّام، تغلي القهوة بعد أن تسلّلت إلى المطبخ، لجلب دلّة وفنجانين، ولعجلتها المرتعبة تنسى الملعقة، فتضطرّ أمّها لوضع القهوة في الماء بأصابعها، ولتحريكها تقترح استخدام فرشاة أسنان الأب! وفي إثر سقوط صاروخ آخر، وانهيار أحد جدران البيت، وتطاير الغبار الخانق، يحطّ الهذيان ويُدفِق الأسئلة واقعيّة، وجوديّة وعبثيّة، تسأل الساردة:” أمّي، لماذا على المرأة أن تكون (ست بيت)؟ “أمّي، ألا نملك إجابات لكلّ شيء؟” ” أمّي، هل سيغفر لنا أبي هذا؟” استخدامهما فرشاة أسنانه لتحريك القهوة! يبدو المشهد غريباً، بيد أنّ واقع الحرب المفترض أنّها السوريّة الراهنة، بفجائعها الغرائبيّة والكابوسيّة تفوق التصوّر والتصديق، فالقصّة لم تحدّد مكان حدوثها.
تتسلسل الأحداث وتتنامى على وقع القصف، وتتداخل الأزمنة ما بين الأمس واليوم، وتتوالد مشاعر الرعب؛ فالأمّ تحار كيف ستنجو مع جبيرتها، وتصرّ على ترتيب الأشياء في البيت وتنسيقها الصارم المعتاد، ترتدي حجابها، فالسترة واجبة حتّى في لحظة الموت! والأب يعود، بعد خروجه من الباب، لتقبيل زوجته وابنته، كأنّما في وداع أخير، ثمّ ينصرف إلى عمله. والابنة المرتعبة تتأمّل داخل البيت وخارجه، بانتظار موت مرتقب. فضاء مشحون بالرعب يستبدّ حتّى بطلّاب الساردة/المعلّمة في المدرسة، فقد رسمت إحدى الطالبات دجاجة تفقس صواريخ!
ذلك ما حكته لنا الساردة/ الكاتبة نهى حسين، في القصّة البديعة “جبيرة”، أولى قصص مجموعتها البكر “سيلفادور دالي يعدّ لي الفطور!” إصدار دار ممدوح عدوان/دمشق 2024.
بعيداً عن الحرب، وقد ذُكرت في أربع قصص، انشغلت الكاتبة في النصوص السبعة المتبقة، بالموت أيضا، بالظلم المجتمعي الذكوري، بالطفولة المعنّفة، وبغير ذلك. يتكرّر ذكر الأطفال في النصوص، فثمّة طفلة أخرى رسمت في حصّة الرسم معلّمتها/الساردة التائهة القلقة على شكل شجرة متشابكة الأغصان! أمّا الطفلة/ الساردة في القصّة الغريبة المدهشة والمخيفة “الكافور”، فقد رسمت في حصّة الرسم: “حديقة أزهارها توابيت.” فهي تعيش في بيت لا يتوقّف عن استقبال الجثامين لغسلهم وتهيئتهم للدفن. طفلة لا تتوانى عن فتح باب البيت لعويل الأهالي حاملي الجثمان، وعن مناولة أبيها الأكفان الاحتياطيّة المركونة في غرفتها. ولكسر الضجر تبدأ بتطريز عصافير ملوّنة على حوافّ الأكفان البيضاء، قبل أن تأخذها لأبيها مُغسّل الموتى، مهنة ورثها عن أسلافه، ويحرص على الحفاظ عليها. وقد اعتاد أهالي القرية حمل جثامين موتاهم إليه، يفضّلونه على مغسّلي الدكاكين. بدا الأب كآلة تعمل لا تتوقّف. رفض طلب زوجته بالانتقال إلى مسكن آخر لإبعاد طفلتهما عن الأجواء الجنائزيّة، وقد باتت تقضّ مضجعها؛ هلع وبكاء، كوابيس وهلوسات، فتهرع الأمّ إلى إيقاظها، تسقيها ماء وتقرأ عليها القرآن لتعاود النوم، تشرح لها:” أنّ الموت سنّة طبيعيّة كتعاقب الليل والنهار وتوالي الفصول.” تصلّي الطفلة طلباً للاعتياد. تقول:” أريد حصّتي من الحياة من دون هذا القرب الحميم من الموت.” (يؤخذ على الكاتبة هنا، تقويل الطفلة ما لا تدركه اللغة الطفليّة.)
على وقع سيل ماء غسيل الموتى خارج الغرفة، وانتشار رائحة الكافور المعطّر، تسرد الطفلة حياتها وسط طقوس جنائزيّة مضجرة؛ أكفان ونعوش وتفجّع، ورائحة الكافور تعشّش في البيت، وفي النوم. ذات ليل ثلجي، طرق على الباب يوقظها، وكعادتها حين تنشغل أمّها، أو تغطّ في نوم عميق بعد نهار جنائزيّ متعب، تهرع الطفلة لفتح الباب. لم تجد وشاحها السميك، فتلحف الكفن الذي تطرّز على حوافّه العصافير، لم يكن بالباب جثمان أو عويل، إنّما هرّة غطّاها الثلج، فلم يكن بدّ من إدخالها، انتبهت الطفلة إلى أنّ الهرّة لا تموء، فتخمّن أنّ البكاء على فقدان ما كابدته، أفقدها صوتها. تدخل الهرّة غرفة الطفلة، مأخوذة بالعصافير المطرّزة على الكفن. تتقدّم بقسوة نحو الطفلة، فيتضخّم خوف هذه! في الصباح، حين ناولت أباها الكفن ذاته، انتبهت إلى اختفاء عصافيرها عنه، وحين سألت أباها عنها: “دخل في اضطراب مفرط، وقال:” لقد التهمتها القطّة وفرّت كالمجنونة.” رمزيّة أبدعتها القاصّة ببراعة. بلى، لا بدّ للأب أن يضطرب كثيراً، وأن يؤكّد أنّ القطّة التهمتها وفرّت، التهمتها تماماً حيث لا أمل في استعادتها! فالعصافير ترمز إلى الطيران والانعتاق. وفي بيت لا تصلح فيه للعيش سوى مهنة غسل الموت التاريخيّة الموروثة، على القطط التي ترمز للجنس/الحياة المضادّ للموت، أن تفرّ وأن تكون قاسية، متوحّشة ولصّة! وعلى الأب أن يبعد عن ابنته رغبتها في أن تكون لها حصّتها: “من الحياة من دون هذا القرب الحميم من الموت.” قصّة تترك أثرها في نفس القارئ بقوّة.
بديهيّ أنّ أوّل ما سيخطر في بال القارئ مع ذكر الرسّام سيلفادور دالي هو السرياليّة وتعني “ما فوق الواقع”. نشأت هذه المدرسة في فرنسا، وتوهّجت في عشرينات وثلاثينات القرن المنصرم. وتهدف إلى الغوص في العقل الباطن واللّاوعي، لاستكشاف ما يبطن من أفكار تتنافى مع الواقع والحقيقة، وتعتمد الأحلام، تأثّراً بعلم النفس الفرويديّ وسواه، فتدمج الخيال بالواقع بعيداً عن الأطر والقواعد المكرّسة، في شتّى الفنون الإبداعيّة. تزعّمها، الشاعر أندريه بروتون وأطلق بيانها الأوّل رفقة أدباء آخرين مثل بول إيلوار ولويس أراغون، ورسامين مثل ماكس إرنست وسيلفادور دالي هذا الذي يعدّ الفطور للكاتبة نهى حسين، أولى وجباتها/ إصداراتها الأدبيّة. لكنّنا سنلمس بوضوح سافر، أنّ ما ورد في المجموعة برمّتها لا يمتّ إلى السرياليّة بصلة، إذ أنّ الأحداث والأفعال تتتابع عبر رصد الساردة، الشخصيّة الرئيسة في أغلب النصوص، بوعي شديد للواقع من حولها وما ينجم عن ذلك من ردود أفعال، وهواجس ومخاوف، حيرة وتيه، تساؤلات، وتأملات فلسفية وجوديّة تنحو إلى العبثيّة مرّات كثيرة، تنقله إلى عوالم فنّيّة، بواقعيّة تارة وبرمزيّة تارة أخرى، وإن بدت غريبة أحياناً فذلك يعود إلى مخيّلة الكاتبة الوسيعة الجميلة، تحلّق كما الشعراء أحياناً وتأتي بصور أدبيّة محمّلة بالهواجس المتأتّية من واقعها. ليكون العنوان شرْكاً يعثّر القارئ!
ثمّة أيضاً، ما يشي باستعجال نهى حسين في نشر مجموعتها اللّامتجانسة هذه، والكتابة الأدبيّة إنّما هي أيضاً فعل تأنٍّ وصبر. ففي حين نجدها قاصّة بارعة في نصوص خمسة تراوحت بين الحداثة والتقليديّة، وبين الواقعيّة والرمزيّة، وأُدرجت في سرد مكثّف، سلس، عفوي، مقنع وممتع، ولغة أنيقة شعريّة حينا وشاعريّة أخرى في اتساق جميل ومؤثّر، محمّلة بأفكار عميقة وتأمّلات لافتة. إلّا أنّنا نلقى في قصص أخرى مثل “نزح الماء” القصديّة والافتعال والمبالغة! وفي قصّة “الجوبي” محاولة متعثّرة لتقديمها بشكل القصّة القصيدة فيما يبدو، كما أنّها تعاني من إبهام مطبق، يُذهِب بمتعة الاكتشاف لدى القارئ!
في نصوص أخرى يبهت الشكل الفنيّ وينتفي، فمثلاً في نص” حجراً إن شئت” تتحدّث الساردة عن جدليّة العلاقة بين الذات المهنيّة والذات الإبداعيّة، والصراع اللّامنتهي للتخلّي عن المهنة قاضمة الوقت وخانقة الفعل الإبداعيّ. النصّ لافت إنّما ليس قصصياً البتّة، أُدرج بخطابيّة ومباشرة لن تسترها أناقة اللغة أو التأمّلات. أمّا نصّ “طابع مجهود حربيّ” وقد جاء في مقاطع تطول أو تقصر، هي رسائل متتالية ترسلها كاتبتها إلى حبيبها الذي بعد عنها، من دون ردود منه، ومن دون أن نعرف عنه شيئاً. رسائل انكتبت بلغة شعريّة لافتة، إنّما أُثقلت بهواجس ورؤىً مختلفة وتحتشد فيها الأفكار فتزدحم، (هو حال النصوص غير القصصيّة كلّها)، فبدت الأحداث فيها ظلالاً لقصص تمكث على ضفاف دانية هنا، ونائية هناك، بانتظار إنجازها!
ذلك التباين بالأشكال التي وردت فيها النصوص غير القصصيّة، واحتشاد الأفكار بشكل مبالغ، رغم أهمّيتها، فقد طغت على فنّيّة القصص، ما لا يؤمّن للقارئ، في النهاية تكوين وحدة انطباع فنّيّة شاملة للمجموعة.
وسمت الكاتبة مجموعتها بــ “سرد حكائي”، وكأنّما تبريراً لخلط ما لا يتجانس! فلا شكّ أنّ نهى حسين تدرك أنّ السرد الحكائي يعني السرد القصصيّ والسرد الروائيّ. وللتوضيح أورد تمييز جيرار جينيت في كتابه “الخطاب الجديد للنصّ السرديّ”، بين ثلاثة مكوّنات للخطاب السرديّ، هي: “الحكي: الترتيب الفعليّ للأحداث في النصّ. القصّة: التتالي الذي حدثت فيه هذه الأحداث فعليّاً. السرد: فعل السرد ذاته.” لنفهم من جينيت ومن نقّاد منظّرين آخرين، كتزيفيتان تودوروف صاحب مصطلح “علم السرد”، على أنّ السرد الحكائيّ، أكان حداثيّاً أو ما بعد حداثيّ أو تقليديّاً، فإنّه يشترط وجود حكاية فيها يتنامى الحدث والشخصيّات بقوّة روح القصّ.
يجدر القول إنّ نهى حسين كاتبة جادّة ولافتة، بلا أدنى شكّ، تدفعنا لمتابعة إصداراتها القادمة بحماس.
مواضيع ذات صلة
مواضيع أخرى
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...