تدريباتنا

سَاطِع الحُصْريّ أو مأساة الجُذُوْر

by | Jul 10, 2023

     تكوّنت شخصيّة المفكِّر السُّوريّ ذي الأصول الحَلبيَّة ساطع الحُصْري (1879-1968 م) بين رماد العثمانيين ونار الطُّورانيين، فقد شهد أفول “السَّلطنة العثمانية” وبزوغ النزعة القوميّة التُّركيّة، ولئن كان منذ ريعان شبابه وبداية عمله بصفته مُدَرِّساً ميّالاً إلى العثمانيين، إلا أنّه بعد تولِّيه لمناصب إدارية رفيعة (قائممقام) أيّد “جمعيّة الاتّحاد والتَّرَقِّي”، وشعر بسعادة غامرة حينما قوَّضت هذه الجمعيّة عرش عبد الحميد الثاني سلاطين بني عثمان عام 1909، وحوّلت “الخلافة العثمانيّة” إلى حالة صوريّة. هذا، ورغم تماهي ساطع تماهياً كاملاً مع الأتراك، حياةً وثقافةً ولغةً؛ إلا أنّه قد حدث انعطاف كبير في شخصيته دفعه إلى أن ينقلب على حياته السَّابقة انقلاباً كاملاً، فقطع علاقاته مع “جمعيّة الاتّحاد والتّرقي”، ووجد فيها خطراً يفوق خطر العثمانيين؛ لأنّه بدأ يكتشف ظهور نزعة عرقيّة تعمّ أرجاء تركيا، وتدفع الأتراك إلى استبدال ولائهم للعرق بولائهم للدِّين الإسلاميّ.

    وجد ساطع نفسه مخدوعاً مرَّتين: الأولى، حين اعتقد أن سلاطين بني عثمان يمثِّلون المسلمين كافةً ويدافعون عن حقوقهم؛ والثانية، حينما ظنَّ أنَّ جمعية الاتّحاد والتّرقي يمكن أن تطوِّر إصلاحاً شاملاً يشمل العرب الخاضعين للاحتلال التركيّ الوارِث للاحتلال العثمانيّ.

    اكتشف ساطع أنّ هُويته بصفته إنساناً ينتمي إلى أرضٍ بعينها هي هُويّة ضائعة، وأنّه لا بدّ من إنباهِ أبناء جلدته من العرب إلى إعادة النَّظر في معنى وجودهم في أُفق هُويّتهم القوميّة؛ لأنَّ العثمانيين طمسوهم في هُويّة دينيّة أخضعتهم لفكرة الولاء لـ”الخلافة الإسلاميّة العثمانيّة”، فغيَّبَ هذا الإخضاعُ عينُهُ في عقولهم الشُّعور بانتمائهم القوميّ. دعْ أنَّ القوميين الأتراك-الذين شاركهم ساطع نفسه في إصلاحاتهم التربويّة-بعد أن ركّزوا جهودهم على فصل الدِّين عن الدّولة، تبنّوا نظريّة عرقيّة تقول بسيادة العرق التركي على بقيّة الأعراق التي خضعت شعوبها باسم الإسلام للخلافة العثمانيّة وكان أحد أهم واضعي هذه النظريّة بهاء الدّين شاكر الذي انتهت حياته بالاغتيال في برلين عام 1922 على يد أرشافير شيراكيان أحد أعضاء الحزب الثوريّ الأرمينيّ لمسؤولية شاكر عن الإسهام في الإبادة التي تعرَّض لها الشَّعب الأرميني.

    دفعت هذه التحولات ساطعاً إلى أن يكتشف عُمق مأساة الشُّعوب العربيّة التي خضعت باسم الإسلام للعثمانيين، وستخضع باسم سيادة العرق التُّركي للطُّورانيين؛ لذلك كان لا بدّ-في رأيه-من تقديم رؤية جديدة لماهيّة الوجود العربيّ.

      ويمكن أن نؤكِّد من دون مبالغة أنَّ ساطعاً استطاع قبل غيره من المفكِّرين العرب أن يفهم أنَّ الوجود القوميّ لشعب من الشُّعوب، لا يمكن أن يُؤسَّسَ على العقيدة الدينيّة التي تعتنقها غالبيّة أفراد هذا الشَّعب، ففي رأيه أنَّ الوجود القوميّ للشَّعب أعلى منزلة من أيّ انتماء روحيّ في ما يتعلّق بضمان وحدة هذا الشَّعب. ويبني ساطع على هذا الفهم أنّه لا توجد أيّ علاقة تضايف بين القوميّة والدِّين، بمعنى أنَّ القوميّة لا تتكوَّن من أتباع دين بعينه، ولا الدِّين يتوقَّف على قوميّة من القوميّات؛ إلا في حالة الدِّين اليهوديّ الذي يقوم على الربط بين العِرق والاعتقاد، غير أنَّ هذا الربط مشكوك فيه تاريخيّاً وآثاريّاً وأنثروبولوجيّاً؛ أمَّا الدِّين المسيحيّ والدِّين الإسلاميّ، فهما دينان عالميان ولا يصلحان كي يكونا أساساً لأيّ قوميّة، لأنهما يسريان في قوميات متعدّدة.

     وهنا نجد أنَّ ساطعاً كان مختلفاً عن القوميين العرب الذين وظَّفوا الدِّين الإسلاميّ لصالح فكرة القوميّة العربيّة، من أمثال زكي الأرسوزي وميشيل عفلق وعصمت سيف الدولة وغيرهم، إذ أدرك قبلهم على نحوٍ مبكِّرٍ جدّاً الإشكاليات التي يُمكن أن تُثار بسبب تحويل الظَّاهرة الدينيّة إلى ظاهرة سياسيّة!

     بعد قيام الثورة العربيّة الكبرى عام 1916، ومآل الأحداث إلى تتويج فيصل بن الشريف حسين ملكاً على سوريا عام 1918، استدعى فيصل ساطعاً ليتولّى منصب وزير المعارف في أول حكم عربيّ مستقل عن الأتراك في سوريا.

    لم يدعُ فيصل ساطعاً إلى هذا المنصب الكبير، لو لم يكن ساطع قد خدم الثورة العربيّة الكبرى-وهو في تركيا-، بمعنى أنَّ هناك دوراً مستوراً لساطع في الثورة العربيّة الكبرى، بدلالة أنّه كيف يسوِّغ الملك فيصل لنفسه-وهو من زعماء الثورة ضدّ الأتراك-أن يدعو رجلاً كان في مرحلة من مراحل حياته موالياً للعثمانيين ثم للقوميين الأتراك، لكي يُؤسِّس أول وزارة للمعارف في سوريا؟

     أخذ ساطع على عاتقه بعد أن انخرطَ في حركة النهضة القوميّة العربيّة، أن يضع الأساس النّظري لفكرة القوميّة العربيّة، إذ بعد أن استبعد العامل الدِّينيّ من تكوين القوميّة، استبعد العامل التاريخيّ، فإحياء التاريخ المشترك في نظر ساطع يمكن أن يكون سبباً في إيقاظ أحقاد وصراعات ونزاعات دفينة تمزِّق الوحدة القوميّة، كما أنَّ العامل الجغرافيّ، بصفته أساساً للوحدة القوميّة، يمكن أن يُفضي إلى نزعة إقليميّة ضيّقة. وبذا افترقَ ساطع عن منظِّري القوميّة العرب على اختلاف مشاربهم.

     وجد ساطع أنَّ اللغة العربيّة هي العامل الوحيد الذي يُمكن أن تُبنى عليه القوميّة العربيّة، فاللغة ليست شيئاً عارِضاً بالنسبة إلى الكينونة الإنسانيّة، بل إنَّ فيزيولوجيّة أي إنسان لا تكتمل إلا إذا صار ناطقاً بلغةٍ من اللغات. وهذا يعني أنَّ اللغة مقوِّم كِياني لوجود شعب من الشُّعوب أو أمَّة من الأُمم. ولئن كانت اللغة حاملاً رئيساً لمعتقدات شعب من الشُّعوب، فهذا لا يعني أنَّ لهذه المعتقدات الأولويّة على اللغة نفسها بحسبانها ماهيّة تكوينيّة مشتركة بين أفراد هذا الشَّعب.

     والحقيقة أنَّ ساطعاً عرف معرفة عميقة أنَّ فكرة القوميّة العربيّة في أُفق الدِّين أو التاريخ أو الجغرافيا، ليست إلا مفهوماً صوريّاً غير قابل للتطبيق؛ لأنَّ أفراد الشَّعب العربيّ رغم وجود تنظيرات تفترض وجود قيام وحدة بينهم؛ إلا أنَّ واقعهم الحقيقيّ يتجلّى في كونهم دَيِّنون بأديان مختلفة، ولكلّ دينٍ منها نسقه الفقهيّ أو اللاهوتيّ الخاصّ به، وله تصوّراته الميتافيزيقيّة المتوافقة أو المتناقضة مع غيره من الأديان؛ بل بدأ التنازع داخل الدِّين الواحد، فظهرت الطوائف والفرق داخل كلّ دينٍ بعينه. هذا إلى تنامي الأحقاد التاريخيّة الموروثة عن تجارب مريرة، وظهور النزعات الإقليميّة والشعوبيّة والقبليّة والعشائريّة داخل النسيج العربيّ الواحد؛ لذلك بحث ساطع في ما وراء هذا كلّه عن العنصر الحقيقيّ الموحِّد والجامع للشعوب العربيّة ووجده في اللغة.

    أراد ساطع أن تكون اللغة العربيّة أساس انتقال الوجود القوميّ العربيّ من مستوى النظريّة إلى مستوى تطبيقها. ولم يغب عن ساطع أنَّ اللغة العربيّة إذا أُعيد توظيفها بعد تفريغها من العناصر التراثيّة التي تقف وراء تقهقر العرب وتمزّقهم وانقسامهم، يمكن أن تكون وسيلة عُظمى لإعادة تأسيس الثقافة العربيّة على نحو يُنتج حركة حداثة أصيلة لا تكونُ محاكاةً للحداثة الأوروبيّة؛ بل حداثة تنبع من توتّر إيجابيّ داخل الحضارة العربيّة يمكن أن تُقدِّم أنساقاً ثقافيّة إبداعيّة في مجالات العلوم كافّةً.

    لقد فهم ساطع العروبة فهماً وجوديّاً عميقاً؛ ولم يكن طائفيّاً ولا متحزِّباً ولا إيديولوجيّاً، ويدلّ فكره على براءة كبيرة، أعني براءة التفكير الحرّ غير الَمشوب بأيّ نظرة مغلقة، فقد كان يعنيه الإنسان العربيّ، وهذا الإنسان عنده يكون عربيّاً إذا كان يتكلّم اللغة العربيّة، وليس مهماً هنا دين هذا الإنسان ولا عِرقه ولا تاريخه، بل فقط كونه ناطقاً بلغة عريقة تحمل في داخلها إمكانيّات هائلة لإعادة تأسيس معنى الوجود السياسيّ للنّاطقين بها، وهذا الوجود السياسيّ لن يتأسس إلا في أُفق ثقافيّ تضمنه اللغة العربيّة وحدها.

     فشل ساطع، وتلاشى حلمه بيوتوبيا القوميّة العربيّة المفقودة التي حلّ محلّها كلّ ما واجهه ساطع من إقليميّة وطائفيّة وانقسامات سوسيولوجيّة. لكن يبقى ساطع الحُصْري تجربة إنسانيّة فريدة داخل تراجيديا الثقافة العربيّة الباحثة عن جذورها المفقودة.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

ينتظر السوريون في الأسابيع المقبلة بفارغ الصبر وفق تصريحات حكومية انطلاق المشغل الخلوي الثالث "وفا تيليكوم" المرتبط بإيران التي ستدخل على خط الاستحواذ في قطاع الاتصالات الحساس والذي ظلّ حكراً على متنفذي السلطة لعقود. من خلال التواصل المباشر مع مصادر متعددة من داخل...

تدريباتنا