عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

by | Oct 20, 2024

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع أنصار العالم الافتراضي نقل إلا جزء يسير من الكتب المطبوعة ورقيا أو الصحف،  للأسف حتى المكتبات الضخمة  غير قادرة على جمع وعرض كل ما طبع.

من هنا كانت الأرصفة في دمشق المكمل الحقيقي لهذا العنصر المعرفي، ولا يمكن تجاهلها في أي مكان من العالم. فمن ناحية هناك تنوع كبير في ما تعرضه من كتب التي تشمل كافة ميادين الثقافة والعلوم والفنون، والأهم من ذلك هي أن بسطات الأرصفة هي المالك الوحيد للطبعات النافدة من السوق والإصدارات القديمة من دون أن تفعل ما تفعله بعض المكتبات إذ لا يوجد اصطفاف سياسي ولا قطيعة مع أي مؤلف، كما أنك تجد على الأرصفة كتباً خاصة بالجامعات وكتب الأطفال واليافعين وقصصهم التي قرأتها الأجيال السابقة من سوبرمان إلى تان تان، المواد التي لا تمكن مشاهدتها في المكتبات الأنيقة، لكنك تضطر لجمع أجزاء الكتب والمجلات من أكثر من مكان كما يحدث حين تريد اقتناء كتاب العقد الفريد. 

قرار محافظة دمشق الأخير (يوم الأربعاء 16 تشرين الأول 2024) والقاضي بإزالة بسطات الكتب المتواجدة منذ سنوات تحت جسر الرئيس، المنطقة الأشهر لبيع الكتب، بذريعة تجميل المكان أثار حفيظة شريحة كبيرة من المثقفين والعاملين في هذا المجال حتى أن البعض وجه عبر منصة فيس بوك دعوة للتوقيع بالاسم والصفة لتوجيه رسالة مفتوحة إلى السيدة وزيرة الثقافة السورية ومحافظ دمشق فحواها “أنه بهذا القرار سِدت آخر رئة لتنفس هواء المعرفة، الهواء الذي يميز كل عواصم العالم من باريس الى القاهرة وبغداد وبيروت، وكأن مثل هذا القرار الجائر قدر دمشق كي تحتضر أكثر فأكثر”. وأشاروا إلى بسطات الرصيف المشهورة في تلك العواصم ومن أبرز الأسماء التي وقعت على هذه الرسالة المخرج السينمائي محمد ملص، والروائي خليل صويلح، والكاتب والمخرج المسرحي سامر محمد إسماعيل والشاعر أوس أسعد وآخرون كثيرون.

 أبو طلال، المحارب القديم المتقاعد، الذي بحث عن عمل يحقق له دخلاً مادياً وسعادة لا يرى أن المقاطعة الثقافية التي صنعتها الحرب وغياب الإصدارات الجديدة مشكلة فمن وجهة نظره هناك الكثير من الكتب المهمة والقيّمة التي تستحق القراءة، والتي لم نطلع عليها بعد. وهناك كتب قيّمة، لا يمكن أن تجدها في أهم وأشهر المكتبات السورية، لكنها متوفرة في بسطته بأسعار زهيدة مقارنة بأسعار الكتب الجديدة التي صدرت خلال السنوات الماضية. أضاف بنبرة جازمة: “لا تمكن المقارنة بين أمهات الكتب وكتب التنفيعة التي تصدرها الجهات الرسمية أو بعض دور النشر الخاصة”، وهناك الكثير من الكتب التي يرفض شراءها، أو وضعها ضمن المجموعة التي يقتنيها، لكنه يعتب على بعض الأشخاص الذين ينظرون إلى مكتبة الرصيف بتعال خاصة من أطلق عليهم اسم (البروليتاريا الجديدة)، كما انتقد الحكومة التي رفضت ترخيص أكشاك خاصة لبيع الكتب مثلما فعلت مع أكشاك بائعي التبغ ومشروبات الطاقة. واعتبر قرار إزالة البسطات جائرا بحق باعة الكتب والمواطن غير القادر على اقتناء نسخة جديدة بسبب ارتفاع سعرها بينما بقيت بسطات حمالات الصدر الصينية والثياب المستعملة وورق اليانصيب التي لم يطالها قرار تجميل المكان.

عماد، بائع الكتب الرصيفية، يؤكد أنه كان يعيش وعائلته من مهنة بيع الكتب والصحف والمجلات لكن الحرب السورية دمرت بيته الذي كان مخزنا لما يزيد عن خمسة آلاف عنوان في منطقة دوما وهو اليوم يضع كمية محدودة من الكتب والمجلات القديمة ونادرا ما يجد طالبا لها. يقول: “المجلات القديمة أهم من المجلات المطبوعة حديثا، بالنسبة لي لا يمكن أن أقارن مجلة شعر أو الآداب  مع ما يأتينا اليوم. إن القيمة الثقافية مختلفة ومضمون النص أهم”. أما عن قلة الكتب لديه فقال: “كان عملنا خلال الحرب أشبه بعمل أي محل مجوهرات، يعرض علينا أن نشتري مجموعات من الكتب وموسوعات أكثر مما يطلب منا كتاب، مجموعات فاخرة، تجليد فني، وأسعار زهيدة، لكن لا أحد يسأل عنها (الجمل بليرة وما في ليرة). المهتمون بالقراءة والمثقفون مفلسون”. وفيما يخص القرار الأخير أعلن أن مورده المادي توقف بشكل كامل.

تحت جسر فكتوريا يفاجئك أبو مهيار (محمود بوكس) كما يسميه أصحاب البسطات المجاورة له فهو ليس مجرد بائع كتب مستعملة بل يمكن أن تطلق عليه اسم (غوغل) فما أن تسأله عن كتاب حتى يعطيك شرحا وافيا عن محتواه وعن مؤلفه ولمحة عن الكتب التي صدرت بخصوص هذا الموضوع، ويرشدك ماذا يجب أن تقرأ ولماذا،  لتكتشف بعدها أنه خريج كلية الآداب قسم اللغة العربية. وما يميزه عن أقرانه هو أن لديه خدمة التوصيل، واللافت أنه يتسوق كتبه من البسطات كأي مقتن للأشياء القيمة، ويواظب على حضور معارض الكتاب في سورية ولبنان. الأرشيف الذي يمتلكه يضم مجلات كروز اليوسف، والآداب، ومجلة شعر ومجلات أخرى مختصة في المسرح والسينما والصحف التي تعود لعام  ١٩٢٠. أما ثروته الحقيقية (مكتبة المنزل) التي كانت تحتوي على خمسة عشرة ألف كتاب فقد التهمتها الحرب مع ابنه ومنزله بالكامل. أبو مهيار متمسك بمهنته ويرفض الهجرة خارج البلاد. يضحك قائلاً: “صار بيع الكتب مثل الدعارة، أو بيع الدخان المهرب. يجب أن تتواصل مع القارئ على الهاتف وتعطيه موعد بالخفاء وتنتبه من أن يراك أحد فيصادرون الكتب”.

أكثر ما يثير شجونك عناوين الكتب التي لن تراها بعد اليوم فقرار الإزالة بدأ ومن لم يجمع كتبه ويرحل تقوم الجرافة بتجريفها كأية أنقاض أو قمامة. ولم يعد بإمكاننا لوم أبي حيان التوحيدي على حرقه لكتبه، ولا لوم الداراني الذي ألقى بمؤلفاته في التنور.

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

ينتظر السوريون في الأسابيع المقبلة بفارغ الصبر وفق تصريحات حكومية انطلاق المشغل الخلوي الثالث "وفا تيليكوم" المرتبط بإيران التي ستدخل على خط الاستحواذ في قطاع الاتصالات الحساس والذي ظلّ حكراً على متنفذي السلطة لعقود. من خلال التواصل المباشر مع مصادر متعددة من داخل...

جدَليّات أساليب وجود العولمة (ثقافيّاً وحضاريّاً) بينَ أنساق المُطابَقات وأنساق الاختلافات في قصّة “حكاية الرّوح التّائهة في أوربّا” للقاصّ السُّوريّ (مصطفى تاج الدّين الموسى)   

جدَليّات أساليب وجود العولمة (ثقافيّاً وحضاريّاً) بينَ أنساق المُطابَقات وأنساق الاختلافات في قصّة “حكاية الرّوح التّائهة في أوربّا” للقاصّ السُّوريّ (مصطفى تاج الدّين الموسى)   

يُشكِّلُ هذا البَحث الفصلَ الثَّالثَ من كتابي[1] المَوسوم بـِ "انزياح أساليب الوجود في الكتابة الإبداعيّة بينَ مُطابَقات العولمة واختلافاتِها"، والذي فازَ مَخطوطُهُ بـِ (جائزة الطَّيِّب صالح العالميّة للإبداع الكتابيّ)، مَجال الدِّراسات النَّقديّة (المركز الثَّاني)،...

مهن سوريّة تُبعث من رمادها

مهن سوريّة تُبعث من رمادها

للعمل الحرفي في سوريا - سيما العاصمة دمشق – مكانة خاصة وتاريخ قديم يذهب بنا عميقاً في ردهات الزمن، حِرف أصبحت مع الوقت وجهاً من وجوهِ دمشق، وسوراً من أسوارها، وعطراً لاذعاً تفوحُ مقتنياته من زوايا بيوتها الدافئة كما تفوح روائحُ التوابل من أسواق ساروجة ومدحت باشا، شأن...

تدريباتنا