أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...
“مؤلم”
الكلمة نفسها؛ تستخدم لوصف جرح بسيط في اليد أو لمخاض الولادة، يمكن ربطها بالصداع الطفيف أو بألم الأسنان الشديد، قد نستعملها لتجسيد حرق سطحي من الدرجة الأولى أو للنوبات القلبية الحادة!
كسوريين، ندخل عامنا الرابع عشر للحرب، نسأم من كلمة “مؤلم” التي لم تعد تُسعفنا لنعبّر عن مختلف أوجاعنا الجسديّة والنفسيّة، نستحضر تفاصيل ذاكرتنا المُتخمة، نطرق أبواب اللّغة بأيادٍ شققتها الحرب، لكن أجسادنا المنهكة تنقاد نحو أدبيات جديدة لتروي حكايتنا.
الأجساد تتكلم
“حاسة في هدير براسي، متل هدير الطيارات”، تتذكر نور (اسم مستعار) الكلمات بصورة مشوشة في عيادة طبيب الأمراض الداخلية في بلدة “زملكا” بريف دمشق الشرقي، حين تستحضر الأعراض التي تعاني منها.
تنشج بحرقة وألم فيما تغطي وجهها بكفيها، تتلعثم حين تتابع بكاءها، ثم ترفع رأسها وتتشاغل بتقليب منديل ورقي بين يديها، تسود برهة من الصمت قبل أن تنطق: “كنت خاف من الطيارات، صارت الطيارات جوا راسي”.
يؤكد الفحص السريريّ كما يقول الطبيب (ش. ن) أخصائي الأمراض الداخلية أن (نور) تعاني من صداع مترافق مع ارتفاع ضغط الدم، لكنها تصف الصداع الذي تعاني منه بعبارة “يشبه هدير الطائرات”، فيما يشير المرضى عادةً إلى هذا العرض بكلمة “طنين”.
خاضت (نور) كما الكثير من السوريين تجارب صادمة ومؤلمة تسبّبت بها الحرب الدائرة في البلاد، أثرّت بشكل مباشر على أدبيات لغتنا كضحايا حرب، وحوّرت طرقنا ومفرداتنا في التعبير عن الآلام والأوجاع.
يقول الطبيب (ش. ن) إن عمله كطبيب أخصائي مع جمعية أهلية سورية (نتحفظ عن ذكر اسمها بحسب رغبة الطبيب) في بلدتي “زملكا” و”سقبا” في غوطة دمشق الشرقية؛ قد جعله على احتكاك مباشر مع ضحايا الصراع العسكريّ الدائر على مدى أكثر من عقد من الزمن في هاتين المنطقتين اللتين شهدتا حصاراً عسكريّاً امتدَّ لنحو خمس سنوات.
يستعرض الطبيب ملاحظاته عن تغيير واضح في المفردات التي يستخدمها المرضى اليوم للتعبير عن الأعراض الجسديّة التي يعانون منها، واستخدامهم لمصطلحات مستوحاة من الحرب للتوصيف رغم انتهاء الصراع العسكريّ ميدانيّاً، مثل “حاسس راسي رح ينفجر”، “في صوت هدير طيارات براسي”، “في ألم حارق وكأنّ في شظايا اخترقت جسمي”، “كأنّ قنبلة عم تنفجر بداخل بطني”، وبالتحديد في المناطق التي عانى سكانها بشكل مباشر من مواجهات عسكريّة ميدانيّة مروّعة.
تضليل التشخيص
يشير الطبيب (ش. ن) إلى أنّ استخدام المرضى لهذه المصطلحات أثناء أخذ قصتهم السريرية قد يؤثر بشكل مباشر على تشخيص الطبيب، فمن المحتمل أن تبعد هذه المصطلحات الطبيب إلى حدّ ما عن التشخيص الصحيح للأمراض العضويّة كالضغط ونقص التروية وتوجهه أكثر نحو الاضطرابات النفسيّة، سيما مع إمكانية إغفال المريض عن ذكر بعض الأعراض المرافقة مثل تسرّع القلب أو اللّهاث أو ضيق التنفس.
ويؤكد الطبيب (ش. ن) على ضرورة قيام مقدمي الرعاية الطبيّة بشكل عام وفي المناطق التي تعرضت لمعارك عنيفة واشتباكات عسكريّة بالاستقصاءات الطبيّة اللّازمة كالتخطيط الكهربائيّ والإيكو والتحاليل للتشخيص، وبعد نفي هذه المشاكل العضويّة التوجه للاضطرابات النفسيّة، مع أخذ تأثير الحرب على سلوكيات المرضى ولغتهم وتوصيفهم بعين الاعتبار.
جغرافيا
من جانب آخر، يبدو أن هذا التغيير السلوكيّ يرتبط بشكل وثيق بجغرافيا البلاد، وتباين شدّة الصراع الدائر على اختلاف المناطق، حيث تنفي الطبيبة أخصائية الأمراض العينية، وفاء الحسن، مصادفتها لأيّ تبدل بمفردات الشكايات الطبيّة عند مرضاها في منطقتي “جرمانا” و”السيدة زينب” بريف العاصمة الجنوبيّ، واللتين لم تشهدا مواجهات عسكريّة ميدانيّة على الأرض.
توضح (د. وفاء) في حديثها معنا أن تعرض المريض لأهوال الحرب قد يدفعه ليسقط ألمه النفسيّ على ألمه العضويّ لكي يصف أوجاعه، بمعنى آخر يجسّد المريض ألمه النفسيّ جسدياً. وتشرح أكثر: “نقوم بأخذ القصة السريريّة للمريض للأعراض التي تهمنا في اختصاصنا، كالسوابق المرضيّة، الأدوية، العمليات الجراحيّة السابقة، العوامل التحسسية، الشكاية، والأعراض التي يعاني منها المريض، ثمَّ نقوم بجمع هذه المعلومات ونقاطعها مع كلّ من فحصنا السريريّ والاستقصاءات الطبيّة الإضافية كصور الأشعة والتحاليل وغيرها لنصل للتشخيص الصحيح وهذا ما يسمى بـ “دراسة الحالة”، ولا نكتفي فقط بأخذ القصة السريريّة”.
وعن تأثر التشخيص الطبيّ باستخدام المريض لهذه المصطلحات، ترى (د. وفاء) أن التشخيص الطبي لا يتأثر في حال قام الطبيب بالاستقصاءات الطبيّة المطلوبة، ومقارنة نتائج دراسة حالة المريض مع المصطلحات التي يستخدمها لوصف الألم، وبشكل عام من المهم جداً أن تتكامل القصة السريريّة مع الاستقصاءات والتشخيص من قبل مقدمي الرعاية الصحية.
“جسدنة الألم”
في كتابها “الحرب اليوميّة” الصادر عام 2023، تستعرض الباحثة (غريتا لين أولينج) اللّغة المتجسدة التي يستخدمها الأوكرانيين من ضحايا “الحرب الروسية الأوكرانية”، وتوضح أن ذكريات الضحايا لا تُفقد بالضرورة، بل في كثير من الأحيان تتجسد في شكل أحاسيس جسديّة، وقد يجد الناجون أنفسهم يلجأون، بوعي أو بغير وعي، إلى طرق مختلفة لوصف تجاربهم.
وبحسب (يولينغ) فإن الضحايا يروون قصصهم من خلال الإشارة إلى التغيرات الجسديّة التي مروا بها، ويسمّي علماء النفس هذا الأمر “الجسدنة”: عندما يعبر الضيق العقليّ والعاطفيّ عن نفسه جسديّاً.
اللغة تمتلك جسداً “لبيساً”!
يشير اختصاصيّ علم الاجتماع الإعلاميّ، ماهر الراعي، في حديثه معنا إلى أنّ هذه الظاهرة هي ظاهرة طبيعية جداً بل متوقعة بغض النظر عن الجغرافيا المحددة، فحتى المناطق التي لم تتلق ناراً مباشرة من الحريق السوريّ الكبير لم تنجو من تسرب لغة الحرب الى قاموس أفرادها.
يتابع الراعي حديثه: “اللّغة تملك جسداً لبّيساً، من السهل أن تحضر مفردات الحرب أو مفردات أي ظاهرة بمجرد عايشها البشر لفترة مهما قصرت فمثلاً كارثة الزلزال الذي ضرب سوريا مؤخراً وانتشار لغة التحليل العلميّ سربت عدة مفردات إلى لسان الناس يستخدمونها بمقامات ومواقف غير ذات صلة بقضية الزلازل والكوارث كأن يقول جاري لصديقه: (جايبلك دخان عربي تكتوتني)، أو شاب يصف صبية مرت بقربه: (هلا فهمت ليش “فرانك” بضل يتوقع زلازل تضرب منطقتنا…)، فما بالنا بسنوات طوال من العيش قرب تفاصيل الحرب والاقتتال السوريّ”.
ويردف: “عادة ما أراقب ملامح الأطفال حين يستمعون بقصد أو بغير قصد إلى أحاديث الأهل وأكاد أجزم أنّني كنت ألمح بدقة جهاز “الإيكو” كيف تستطيع مفردة “شهيد، أو فطيسة، أو شظية، أو جريح، أو انفجار، أو كمين أو أو”.. كيف كانت تتموضع في رؤوس الأطفال الصغيرة.. ولا بد أن هذا القاموس سيتم استخدامه لاحقاً فالانسان بالعموم كسول فيما يخصّ الاستخدام اللغويّ إذ عادة ما يستعير مفردات وينقلها بين الميادين ما إن يشعر أنّها صالحة للتعبير والإفصاح، لكن وعلى الرغم من كلّ هذا وعلى الرغم من الحضور الطاغي للغة الحرب إلا أنّني أظن أنّها لن تستمر طويلاً فيما لو خرجنا من الحرب -وهذا مجرد تخمين أستند فيه إلى اعتقادي بأن العقل يملك آلياته وأساليبه لنفض ما يؤذيه من الذاكرة كنوع من التعافي وبذلك سيلعب لعبته بتناسي هذه المفردات وإقصائها من الاستخدام بشكل لا شعوري”.
انتهت الحرب أم لم تنته، لا يهم، عالمنا الداخلي والخارجي قد تغير بالفعل، صبغتنا الحرب بالدم والبؤس، وأطبقت على لغتنا كما أعناقنا، صارت آلامنا قنابل تتفجر وطائرات تهدر وشظايا تتطاير عند أول منعطف!
مواضيع ذات صلة
مواضيع أخرى
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...