تدريباتنا

غزّة وأطفال سورية: حربٌ في الذاكرة

by | Dec 9, 2023

تتسمّر ليا ذات الاثنا عشر عاماً أمام التلفاز وتبكي رافضةً الطعام وهي تئن كأنّما جرحٌ بدأ ينخز عليها، تضع يدها على قدمها المبتورة وتتذكر ذلك اليوم جيداً عندما قُصف بيتهم في كفربطنا، تتذكر نفسها عندما كانت طفلة الثلاث سنوات، تلعب أمام منزلهم، وإذ بحجارةٍ تتكوّم عليها، دون أن تسمع أي صوت لثلاثة أيامٍ بعدها، يومها حملها عمّها وأسعفوا والدها الذي فارق الحياة بعد أيام، واستيقظت لترى نفسها دون قدم وآلام بقيت لشهور.  تذكر أمها ما حدث وتؤكّد أن ما يحدث في غزة اليوم يعيد إليهم أيام الحزن التي لم تلغها حياتهم الجديدة في مصر.

وتصف فاطمة وجوه أبنائها بعمر الستة عشر والرابعة عشر، وهم يطالبونها بالكفّ عن متابعة أخبار غزّة فهذه الصور قد رأوها سابقاً في باب عمرو، بل يسبقون الحدث ليكرروا مع المذيع دماء هنا وهناك وأصواتٌ لأنين يسمعونه إلى اليوم في مناماتهم، تعود مشاعر وقصص الحرب بكلّ تفاصيلها رغم مواظبتهم لدى الأخصائيين النفسيين في منظمة الهلال الأحمر في حمص بعد نزوحهم إلى مناطق أخرى وعودتهم إلى دارٍ أعادوا ترميمه لكنه لم يعد كما كان، كما لم يعودوا كما كانوا.

توقفت ليليان عن متابعة أخبار غزة من اليوم الرابع فهي لا تريد أبداً إعادة الذكرى أمام أبنائها الذين بالكاد توقفت آثار الحرب السورية عنهم، فهم من سكان جرمانا محيط دمشق، كانت القذائف تمطرهم وأكثر من مرة كادت القذيفة أن تنهي حياة أحد أفراد العائلة، ففي إحدى الليالِ وقعت القذيفة وهدمت جزء من البيت وهربوا ليلتجئوا عند أحد أقربائهم، ومن وقتها لم يتوقف طفلاها عن التبول اللاإرادي، جرّاء الهلع الذي أصابهم، إلى أن بلغا الخامسة عشر من العمر، وبعد مواظبتهم لدى أخصائيين في مركز الراعي الصالح بدمشق.

هذه الصور والمشاهد يتحدث عنا الآباء والأمهات، والشباب والشابات لتعود ذكرياتهم المؤلمة إليهم وإلى أبنائهم، مشاهد لم تفارقهم لكنها كانت مختبئة في مكان ما في الذاكرة، أعادتها الحرب في غزة.

الآثار النفسية للحروب والصراعات

“تمتدّ آلام الحرب لسنوات طويلة قد لا تنتهي بجيل واحد، فوقف الأعمال العسكرية لا يعني وقف الآثار النفسية لتلك العمليات”

هكذا تصف سماح القادري آثار الحرب على الأطفال لتؤكّد من خلال عملها لسنوات طويلة لدى مركز لحماية النساء والأطفال من العنف في دمشق، أن معاينتها لأطفال عاشوا الخوف والجزع حتى دون فقد أحد أفراد العائلة، سيؤثر حتماً لسنوات على حياتهم و طريقة تفكيرهم.

وما يحدث في غزّة اليوم يعيد تلك المشاهد بتفاصيلها المرعبة، ويؤثّر على الأطفال الذين سمعوا حكايات الكبار،والبالغين الذين عانوا تلك الحرب في طفولتهم، لترتكس بعض المشكلات، وقد تواصلت مع حالة تتحدث عنها القادري:”عادت نوبات الهلع لصبي عمره الآن أربعة عشر عاماً فقد والديه في الحرب السورية، وعاش وحيداً دون عائلة ومكث فترة في ميتم إلى أن توصّل إليه أحد أقربائه وضمه إلى أسرته، تلك السنوات لم تمحِ الحزن والألم وماكان مختبئاً في ذاكرته وجسده، واليوم يداوم في العيادة لتظهر حوادث قد شاهدها ولم يذكرها قبل الآن”

“إنّها الندوب التي لن نشفى منها أبداً وخاصّة من كان طفلاً وستعود دوماً إن لم نعيش بأمان ويعيش أبناؤنا دون هاجس عودة الحرب مرة أخرى” بهذه العبارة أيضاً عرّفت الأخصائية الاجتماعية بديعة دلول آثار الحرب على الأطفال والكبار، لتؤكّد أنّ آثارها على الأطفال أشدّ وطأةً وهذا ما عاينته بنفسها أثناء متابعتها لحالات مؤلمة من أطفال فقدوا أجزاء من جسدهم وأفراداً من عائلتهم وكثيراً من أمانهم.

“تترك الحرب جراحاً خفية لا تمحى بسهولة في قلوب ونفوس الأطفال الأبرياء، الذين ولدوا في رحم المعاناة وذاقوا أشكال القهر والفقر والرعب، علاوة عن الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم خلال الحرب، أو من تعرّضوا للاِعتداء والاِستغلال” تتابع بديعة وتؤكّد أن عدداً من الأطفال الذين لم يبلغوا الثمانية عشرة من العمر وبعضهم في الثالثة عشرة بدأوا يتوافدوا إلى مراكز متابعة الأطفال في الهلال الأحمر والمنظمات في الكنائس والأديرة في سرية.

الحقوق المهدورة في يوم الطفل العالمي

تعدد كاتي غيث وهي مرشدة تربوية في مدرسة خاصة: ” المشاكل النفسية التي يصاب بها الطفل إثر تداعيات الحرب وتقول عنها لا تحصى لكن يمكن ذكر بعضها من مثل: الشعور الدائم بالخوف والقلق والاِكتئاب، تأخّر النمو العقلي والبدني والعاطفي، صعوبة الاِندماج في المجتمع والعجز عن بناء روابط عاطفية مع الآخرين، الاِضطرابات السلوكية وردود الفعل العِدائية.

وعودة الحروب أوالخوف من عودتها تشكل هاجساً لدى البالغين والأهل والأطفال وخاصة ما يحدث في غزة من مثل اِضطرابات ما بعد الصدمة، اِضطرابات في الطعام والنوم والذاكرة، عودة الاِكتئاب والقلق واليأس من المستقبل.، اللجوء إلى التدخين أو المخدرات أو المشروبات الكحولية.

الشعور الدائم بالغضب وجلد الذات.

وهذا حديث الأطفال في المدرس مع هاجس وخوف من عودة الحرب إلى سورية.

أما عن حقوقهم فهي تذكرها بمناسة عيد الطفل العالمي ومصادقة سورية ومعظم دول العالم على اتفاقية حقوق الطفل وحمايته في النزاعات المسلّحة وتشدد على حاجتهم الأساسية إلى الرعاية والحماية والبيئة الآمنة وتقول:

” إنهم بعد الحرب ينتبهون إلى فقدهم كامل حقوقهم وللأمان والرعاية والصحة والتعليم، كلّ هذا يؤثر على حياتهم وعندما تعاد الصور ستعود مرةّ أخرى أمام أعينهم المأساة بكاملها بل قد تؤثر بشكل أقوى من السابق ارتكاسات أشد تأثيراً من الحدث المباشر نفسه، إعادة الذكريات المؤلمة والشعور بأن كل شيء قد يعود كما كان خلال الحرب، وخاصة مع مؤشرات يلتقطها الأطفال لدى الكبار بأنهم ليسوا بأمان. لذلك يجب التعامل مع الطفل بصراحة وتوضيح ما يحدث وتهيئته نفسياً لفهم الحرب وتأثيرها.

ويبقى السؤال الدائم، هل ستتحقق اتفاقية حقوق الطفل التي صادقت عليها سورية ومعظم دول العالم وتعاهدت على حماية الأطفال واللاجئين في النزاعات المسلّحة؟ وهل سيعيش أطفالنا بأمان كأطفال العالم، أم أننا سنبقى رهينة الصراعات وسيبقى أطفالنا في خطر كل الانتهاكات.

هذا ما يعيشه أطفال سورية وأطفال غزّة وفلسطين.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا