أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...
يمكن القول من دون مبالغة إنّنا بإزاء فيلسوف سوريّ عالميّ الرؤية لا يقلّ أهميّة عن مارتن هيدغر ولا عن برتراند رسل وغيرهما من أعلام الفلسفة الغربيّة المعاصرة؛ ولكن للأسف الشديد يبدو أنَّ هناك غياباً كبيراً لفكره الفلسفيّ النادر والفريد عن المشهد الثقافيّ العربيّ!
نشأ بديع الكسم في أسرة متديّنة في حيّ مئذنة الشحم بدمشق؛ لكن هذا الفتى الدمشقي أبدى ميلاً عجيباً إلى الفلسفة -وكأنه ترعرع وهو يجوب شوارع أثينا مع سقراط في القرن الخامس قبل الميلاد- غير مبالٍ بالمُناخ الثقافيّ المحيط به في ذلك العصر، ودفعه حبّ المعرفة ليسافر إلى مصر لينال الإجازة الجامعية في الفلسفة من جامعة فؤاد الأول عام 1947 ثم حصل على الدراسة العالية في الفلسفة عام 1948، وأخيراً ختم طور الطلب الأكاديميّ بأطروحته التي حصل بموجبها على شهادة الدكتوراه في الفلسفة بعد تقديمها إلى جامعة جنيف عام 1958، وعنوانها “البرهان في الفلسفة”، وكان عمرُهُ آنذاك أربعة وثلاثين عاماً.
ولم ينجز الكسم بعد أطروحته للدكتوراه أي مؤلَّف فلسفي على الإطلاق، بل توقف نهائيّاً عن الكتابة إلى حين وفاته يوم الأحد في 5 تشرين الثاني عام 2000.
إنَّ القراءة الحقيقية لأطروحة دكتوراه الكسم “البرهان في الفلسفة” التي كتبها أصلاً بالفرنسية ونقلها جورج صدقني إلى العربية وصدرت عن وزارة الثقافة السورية في كتاب يحمل العنوان نفسه عام 1991،-أقول: إنَّ قراءة هذه الأطروحة أشبه باكتشاف أبجدية ثانية في أوغاريت؛ ولكنها أبجديّة تدفعنا إلى إعادة قراءة تاريخ الفلسفة على نحو مغاير للقراءات السائدة، غرباً وشرقا، على نحوٍ تامّ؛ بل تجعلنا نكتشف عقلاً فلسفيّاً عبقريّاً حدّد على نحو حاسم ماهيّة التفكير الفلسفيّ.
لا يُعنى الكسم بالحقيقة التي يصل إليها الفيلسوف، سواء أكان ماديّاً أم مثاليّاً، وجوديّاً أم براغماتيّاً؛ بل يُعنى بصبوة الفيلسوف إلى الحقيقة واندفاعه نحوها وحماسته المشبوبة تجاهها، إذ ليست المذاهب ولا الأنساق ولا النظريات الفلسفيّة ما يعطي الفلسفة قيمتها؛ إذ إنَّ ما يعطيها هذه القيمة هو وجود أشخاص يتجهون بإخلاص كامل نحو كشف سرّ هذا الوجود الكونيّ العظيم.
لقد نأى الكسم بنفسه عن وضع أيّ فلسفة ميتافيزيقيّة، ورفض أن يُدْخِل تفكيره في متاهات دراسة وتحليل ونقد وتقييم الفلاسفة الآخرين، لا لأنه غير مكترث بالحكم على الآخر-الفيلسوف؛ بل لأنه يعتقد أنَّ هذ الحكم نفسه ممتنع على نحو تامّ أو ليس له معنى. وينبع الامتناع أو غياب المعنى هنا من أنَّ إطلاق أيّ حكم على فلسفة فيلسوف بعينه يعني أنَّ الفيلسوفَ مُطْلِقَ الحُكم يجب أن يكون قابضاً على الحقيقة النهائية لمعنى الوجود، وهذا يثبت أنه يُطلق حكمه استناداً إلى موقفٍ مذهبيٍّ-فلسفيٍّ، بدلالةِ ما حدث على امتداد تاريخ الفلسفة الغربيّة من صراعات وتناقضات بين الفلاسفة.
ويوضِّح الكسم أنَّ لكلِّ فيلسوف منطقه الخاص، ولا يوجد منطق صالح للاستخدام من قِبَلِ الفلاسفة كافةً، وبما أنَّ لكلِّ فيلسوفٍ منطقَه، فإنَّ فلسفات الفلاسفة هي عوالم مغلقة، أي أنَّ كلّ فيلسوف مُقيمٌ في شرنقته التي أراد أن يُغلِّف العالم بها، ففلسفات كلّ من أفلاطون وأرسطو وديكارت وسبينوزا وهيغل وهيدغر وسارتر وإلى ما هنالك تفتح أو تجترح عوالمَ؛ ولكنها عوالم تُسكننا في شرانقها، وتُبقينا في حالة كمون أبديّ!
ويقوِّض الكسم أيّ محاولة لإمكانيّة قيام منهج فلسفيّ، فبلوغ فكرة المنهج في الفلسفة أمر مستحيل، لأنَّ افتراض وجود المنهج ينبع من إعادة النظر في حركة تأملات الفيلسوف، وهذه التأملات غير ملزمة لأحد، ويفنّد الكسم صحة ادّعاء أنَّ الفيلسوف يحاول أن يكوِّن بتأملاته منهجاً عامّاً صالحاً للتفكير بالنسبة إلى الناس كافةً، بتبيانه أنّه لا يمكن لإنسان أيّاً كان أن يجعل من تفكيره الطريق الوحيد إلى الحقيقة، فما هو فرديّ-شخصيّ ونابع من تجربة ذاتيّة لا يمكن أن يرتفع ليصبح معياراً مطلقاً للعقل البشريّ.
وعليه، لم يجد الكسم أي أهميّة في القيم الميتافيزيقيّة للمفاهيم الفلسفيّة، من قبيل: لوغوس هيرقليطس أو مُثُل أفلاطون أو جوهر سبينوزا أو الروح المطلق عند هيغل وإلى ما هنالك. كما أنه لم يكتشف أي جدوى في الحدوس الفلسفيّة مثل حَدْس الأفكار الفطرية عند ديكارت أو الحَدْس الترنسندنتالي عند إدموند هُسِّرل أو حَدْس الديمومة عند هنري برغسون، إلخ. هذا، إلى أنّه رفض كلّ فلسفة تقوم على تجربة حسيّة أو عاطفة وجدانيّة أو منهج رياضيّ-هندسيّ، وبكلمة رفض كلّ زعم فلسفيّ يدّعي لنفسه الدّقة والإحكام. لم يقبل الكسم كلّ ما سبق؛ لأنه في رأيه يؤول بنا إلى قبول الحقائق ولا يكشف لنا آلية أو طريقة تكوُّنِها، أي أنَّ الكسم يرفض على نحو قاطع كلّ دوغمائيّة في الفلسفة، تحديداً في الفلسفة الغربيّة التي احتكرت تاريخ حقيقة الوجود.
أراد الكسم الذهاب إلى أبعد المطارح في المنطقة المحظورة في الفكر الفلسفي الغربيّ، واختار أنَّ يفهم الفلاسفة الغربيين من منطلق “صورة التوكيد الميتافيزيقي للحقيقة” عند كلّ فيلسوف منهم، وهَدَفَ الكسم من وراء ذلك أن يكشف كيف يتخذ الفيلسوف الغربيّ مواقفه الفكريّة الحاسمة ويُطلق أحكامه بصورة قضايا على نحو نهائيّ.
ينطلق الكسم في إيضاحه لمعنى التوكيد من فكرة مذهلة، وهي أنَّ توكيد الحقائق ليس أمراً منوطاً بالفلاسفة وحدهم، فهناك أشخاص يظهر أنهم يعيشون حياةً عادية وتافهة، ولكنهم لا يتوقفون عن توكيد معتقداتهم، ويمكن أن يعاني رجل في مستوى أينشتاين إذا حاول إقناع أحد هؤلاء الأشخاص بأنَّ توكيده مغلوط. ويعزو الكسم هذا الأمر إلى أنَّ كلّ إنسان في ماهيته العميقة – مهما بدت حياته لمعشر المثقفين فارغة – ينبني تكوينه الوجدانيّ على نزوع قويّ جداً نحو توكيد ما يعرفه. وينطبق هذا الأمر على الفلاسفة ففي دخيلة نفس كلّ واحد منهم نزوع كبير نحو توكيد معرفته، وينتج هنا أنَّ الفيلسوف الذي يقوم بتوكيد قضيّة معيّنة فإنّه يؤكدها بصفتها قضيّة صادقة، وهو لا يمكن له أن يؤكدها إلا بوساطة فعل الحكم، الذي هو في عمقه النهائيّ فعل يُعبِّر عن اعتقاد، ولا ريب في أنَّ الاعتقاد يُعَدّ في نهاية المطاف أمراً شخصيّاً. وهذا يؤول إلى أنَّ التوكيد لا يعني امتلاك الإنسان الحقيقة؛ بل يعني امتلاكه حقيقة توكيده. وعلى هذا الأساس ينفر الكسم نفوراً شديداً من توكيد حقائق فلسفيّة معيّنة، ثم الدفاع عنها في مواجهة حقائق أخرى مختلفة. ليست هذه هي مهمة الفلسفة في رأي الكسم، لأنَّ رسالة الفلسفة أعظم من ذلك بكثير، فمسألة وجود العالم مدعاة للتساؤل بالنسبة إلى النوع الإنسانيّ كلّه، ولا يوجد إنسان إلا طرح على نفسه سؤال الوجود في وقتٍ ما، ومن حقّ كلّ إنسان أن يقدّم إجابته الخاصّة عن هذا السؤال، إذ ليس من شيم الإنسان بما يمتلكه من إمكانيات أن يتقمّص توكيدَ غيره من البشر، وفي المقابل لا يمكن أن يوجد إنسان واحد قادر على امتلاك الحقيقة وفرض توكيده على الآخرين.
وينتهي الكسم إلى أنه لا يجب على أيّ إنسان مهما ارتفع في درجات المعرفة أن يثور ضد أي توكيد في فكر الآخرين يظنّ أنّه مغلوط، لأنَّ مهمة الفلسفة ليست الطعن في الآخرين، بل مهمتها هي تحريرنا من الظلمات التي تحيط بنا من كلّ جانب، ولن نتحرّر منها إلا إذا أسهم النوع الإنسانيّ كلّه بتنوّعه وتناقضاته واختلافاته بالمسير في طريق النور. وهذا يعني أنَّ الكم الهائل من الحقائق الذاتيّة التي يصل إليها أفراد النوع الإنسانيّ على مرّ الأزمنة هي التي يجب أن تكوِّن مفهومنا عن الحقيقة.
لقد استطاع الكسم تقويض منطق البرهان في تاريخ الميتافيزيقا الغربيّة، فما أراد قوله هو أنَّ حقيقة الوجود لا ترتبط على الإطلاق بنظريات الفلاسفة الغربيين وحدهم؛ بل يجب أن يسهم البشر كافةً في عملية كشف هذه الحقيقة بأن تتمازج في هذه العملية الأساطير القديمة وروحانية الشرق وتصورات الشعوب الناطقة بلغة البانتو وعواطف أفراد القبائل البدائيّة.
لقد حلّ الكسم مشكلة من أكثر المشكلات صعوبةً في تاريخ الثقافة الإنسانيّة، وهي أنَّ الإنسان الذي يحاول فرض الحقيقة التي يعتقد بصحتها على الآخرين، هو إنسان يعيش في عالم مغلق ولن يجني أي فائدة من محاولته؛ أما إذا فهم أنَّ الحقيقة التي وصل إليها مشروطة بتعايشها مع الحقائق التي وصل إليها الآخرون، فهنا سينفتح من دون أي شك على المجال الحيوي للحقيقة، فحتى على مستوى العلم لا توجد نظرية غير قابلة للتغيير، ولذلك لا يمكن أن توجد حقيقة مطلقة يبتكرها إنسان بعينه.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”
مواضيع ذات صلة
مواضيع أخرى
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...