تدريباتنا

في مهب الرقابة: العرض المسرحي في سورية 1988- 1997

by | Sep 19, 2019

نستعرض في هذا المقال كتاب «في مهب الرقابة: العرض المسرحي في سورية 1988- 1997 (قراءات نقدية)» للكاتب والناقد المسرحي والمترجم السوري ناصر ونوس، الصادر عن “دار إي – كتب” في لندن، في آب/ أغسطس الماضي.

جاء الكتاب في 220 صفحة، وهو بحسب ناشره، يمكن قراءته من ثلاثة وجوه، فهو من ناحية أولى قراءات نقدية ذات طبيعة منهجية، في عدد من أبرز الأعمال المسرحية التي عرضت على مسارح دمشق، لا غنى عنها لكل مؤلف أو مخرج أو ممثل مسرحي. وهو من ناحية ثانية، سجل لقراءات واحدٍ من أبرز النقاد المسرحيين العرب ترك من خلالها بصمة خاصّة به في نقد المسرح.

وهو من ناحية ثالثة، وثيقة تاريخية للأعمال المسرحية التي قام بعرضها وتحليلها، حتى لكأنّها وثيقة موجِبة، لا بد لمخرجي ومؤلفي وممثلي المسرح في المستقبل، أن يأخذوها بعين الاعتبار إذا ما أراد أحدٌ أن يعود لينهض بهذا الفن الرائع والذي يكاد يأفل في عالمنا العربي، مع أفول الدولة نفسها، وانقراض المجتمع.

  • تأسيس لاتّجاه أو تيار أو ظاهرة..

يتألف محتوى الكتاب على مقدّمةٍ وبابين رئيسيين، الأوّل: “من المسرح العالمي”، ونقرأ من عناوينه: (سكان الكهف: قراءة في شعرية العرض المسرحي، روميو وجولييت: السينوغرافيا وأساليب التمثيل، وكاليغولا في دمشق: الطاغية بين المسرح والتاريخ).

وحمل الباب الثاني عنوان: “من المسرح العربي والمحلي”، ونقرأ من عناوينه أيضًا: (“حكاية الملوك” ولعبة المسرح داخل المسرح، “سفر برلك” مسرحة الجوع والتاريخ، ويوم من زماننا وحداثة التخلف).

إضافة إلى ملحقين، جاء الأوّل بعنوان: “مهرجان دمشق الحادي عشر”، وحمل الثاني عنوان: “مهرجان القاهرة الثالث للمسرح التجريبي”.

ونقرأ في نهاية الكتاب نبذة عن سيرة المؤلف.

موضوع الكتاب، وفقًا لما جاء في مقدّمة ونوس، “ليس هو الرقابة على المسرح في سورية، كما قد يتبادر إلى ذهن القارئ في الوهلة الأولى، بل موضوعه العروض المسرحية التي أتيح لها أن ترى النور في ظلِّ الرقابة القائمة على المسرح. وهو مجموعة قراءات لأهم هذه العروض التي شهدتها العاصمة السورية دمشق بين عامي 1987 و1997”.

يتناول الكتاب بالنقد والتحليل العروض التي كانت محل اهتمام ونوس من حيث قيمتها الفنية والفكرية من جهة، ومن حيث أنّها تنطوي على إمكانية تأسيس لاتّجاه أو تيار أو ظاهرة في المسرح السوري من جهة ثانية.

في هذا السياق، يشير المؤلف إلى أنّ “هذا لا ينفي أنّه كانت هناك عروض مسرحية أخرى كان لها قدر من الأهمية لم نتناولها، والسبب ببساطة يعود إما لأنّنا لم نشاهدها أو لأنّنا لم نكتب عنها لسبب ما”. لافتًا إلى أنّ من هذه العروض على سبيل المثال أربعة عروض تم تقديمها بين عامي 1993 و1994 وحظيت بترحيب واسع ولم يشاهدها بسبب سفره خارج سورية حينها، وهي: “تقاسيم على العنبر” للمخرج العراقي جواد الأسدي، و”منمنمات تاريخية” لسعد الله ونوس الذي قدمته نائلة الأطرش، و”الآلية” لمانويل جيجي، والرابع بعنوان: “النو” وهو عرض ارتجالي لطلبة قسم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية بإشراف الفنان فايز قزق.

يخبرنا ناصر ونوس، في منشور له على جدار صفحته في موقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك)، إلى أنّ هذا الكتاب انتهى من كتابته قبل عشرين عامًا، وأنّ أسبابًا كثيرة حالت دون نشره حينها.

  • مسرح سوري في مهب الرقابة..

تحت عنوان عريض هو “في مهب الرقابة” يستهل ونوس كتابه بالقول: إنّه “عندما نجح رجال الدين في سورية عام 1884 في طرد الشيخ أحمد أبي خليل القباني من سورية بعد إحراق مسرحه، كانوا بذلك يضعون اللبنة الأولى في جدار ما سمي في ما بعد (أزمة المسرح السوري). فمع إحراق مسرح القباني انطفأت شعلة المسرح في سورية، ولم يكن قد مضى على إضرامها سوى سنوات عدّة، ولم تعد للاشتعال مرّة ثانية إلّا في عشرينات القرن العشرين”.

هنا يؤكد صاحب «المراجع المسرحية العربية والمعربة – ببليوغرافيا وشروحات»،أنّ “أزمة المسرح في سورية ظهرت بعد سنوات قليلة على انطلاقته، وتفاقمت بعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967، وكُتب عنها الكثير منذ مطلع سبعينات القرن الماضي وإلى الآن من دون جدوى، حيث لم يتم وضع الخطط والمشروعات للخروج منها، وذلك أسوة بجميع الأزمات التي تمر بها ثقافتنا ومجتمعنا، والتي لا نستطيع الخروج منها، بل إنّ أزمة المسرح هي الأكثر تعبيرًا عن بقية الأزمات التي يمر بها المجتمع بصورة عامة، ذلك لأنّ المسرح، من بين الفنون الأخرى، وكما هو معروف، هو الأكثر حساسية والأكثر عرضة للتأثر بأزمات المجتمع”.

يشدّد ونوس في سياق تحليله النقدي على أنّ أزمة المسرح في سورية لا تكمن في النصّ المسرحي وعدم توافره، كما يشاع، وليست في المخرجين ولا في الممثلين، بل إنّها تكمن في غياب حرية التعبير، ومنع المخرجين من معالجة القضايا والمشكلات التي يغرق فيها مجتمعهم، وبالتالي منع المسرح من القيام بلعب دور اجتماعي، وتجريده من وظائفه ومسؤولياته، وسجنه داخل جدرانه الأربعة، خوفًا من «خطره».

وقد غدا المسرح السوري أشبه بورقة مزعجة تتقاذفها الرقابة على هواها، ومن هنا يمكن القول عنه إنّه «مسرح في مهب الرقابة».

يقول ونوس: إنّه “خلال العقدين الأخيرين استطاع القائمون عليه قطع كل الروابط التي كانت تربطه بجمهوره، وقاموا بذلك بذكاء لا نعهده عند المسؤولين عادة، وتخطيط مدروس قلَّ نظيره، ولو كان هذا الذكاء والتخطيط موجهين لخدمة مسرحنا لكان هذا المسرح من أهم المسارح العربية الآن، لكنه، للأسف، موجه لتدمير هذا المسرح عبر تفريغه من محتواه وعزله عن جمهوره؛ فالجمهور يأتي عادة إلى المسرح لكي يتمتع بمشاهدة فن جميل، ولكي يرى من يضع مشكلاته على بساط البحث، ويسمع من يناقشها ويعالجها ويكشف أسبابها وسبل الخروج منها، لكن عندما يأتي إلى المسرح ويرى إخراجًا رديئًا وتمثيلًا متكلفًا، ويسمع أحاديث وحوارات لا معنى لها، فلن يكرر زيارته إلى المسرح، والخطر سيكون أكبر على المتفرج الجديد الذي يقدم له هذا النوع من المسرح على أنّه (هذا هو المسرح)، وبالتالي سيهجر المسرح إلى الأبد”.

  • قيود وافتقار لحرية التعبير..

يلفت الناقد المسرحي السوري إلى أنّه خلال عقدي الثمانينات والتسعينات لم يظهر كاتب مسرحي جديد؛ وهذا ما يعزز مقولة إنّ سبب أزمة المسرح في سورية هو الافتقار لحرية التعبير، فمن المعروف أنّ أوّل شروط ازدهار المسرح، وازدهار الإبداع على وجه العموم، هو وجود فضاء كافٍ من الحرية، يستطيع المبدع التحرك فيه، ويستطيع الكتابة في الموضوع الذي يشاء بعيدًا عن قيود الرقابة، ودون خوف، فضاء يتاح فيه لمختلف الأفكار والمواقف أن تعبر عن ذاتها، وتعلن اختلافها، وتدافع عن حقها في هذا الاختلاف، معتبرًا أنّ الافتقار إلى حرية التعبير أجبر بعض كتّاب المسرح على التوقف عن الكتابة، وأسطع مثال على ذلك هو المرحوم سعد الله ونوس الذي توقف عن الكتابة لمدة 15 عامًا لم يكتب خلالها سوى نصٍّ مسرحيٍ واحد هو «الاغتصاب»، الذي اقتبسه عن مسرحية «القصة المزدوجة للدكتور بالمي» للكاتب الإسباني أنطونيو بويرو باييخو، والذي نشره للمرّة الأولى عام 1989 في مجلة “الحرية” التي تصدر في دمشق عن “الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين”، وليس “الجبهة الشعبية” كما ذكر المؤلف، وأخرجه العراقي جواد الأسدي لصالح فرقة المسرح الوطني الفلسطيني.

يذكر ونوس في سياقِ سرده التاريخي للمسرح السوري المعاصر، أنّ الكاتب الراحل ممدوح عدوان أوّل من كتب المونودراما في سورية، وأنّ أوّل نصٍّ كتبه من هذا النوع هو “حال الدنيا”، وتبعه بـ “القيامة” ثم “الزبال”، وذلك في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي.

ومن النقاط الهامة التي توقف عندها ناصر ونوس حول “المخرجون والعروض”، هي أنّه “مع منتصف الثمانينات، ومع فورة الأعمال التلفزيونية، بدأت ظروف العمل المسرحي في سورية تتدهور؛ فقد أصبح اختيار وتجميع عدد من الممثلين وإجراء البروفات على عرض مسرحي لعدّة أشهرٍ متواصلة أمرًا بالغ الصعوبة، فقد غدت مسألة ترك الممثل للبروفات وانضمامه إلى مسلسل تلفزيوني أمرًا مألوفًا، مهما كان طول الفترة التي قضاها في هذه البروفات، خصوصًا في ظلِّ غياب أيّ عقد يُلزمه بمواصلة هذه البروفات حتى الخروج بالعرض المسرحي إلى العلن. فإغراء التلفزيون لا يقاس ببؤس الأجر الذي يتقاضاه عن عمله في المسرح، خصوصًا إذا علمنا أنّ معظم الممثلين ينحدرون من فئات اجتماعية فقيرة، أتوا من محافظات وأرياف مختلفة لدراسة التمثيل وعينهم على التلفزيون، حيث المال والشهرة والنجومية”.

من استخلاصات ونوس في قراءة نقدية فاحصة للمسرح المحلي السوري خلال عقدين قناعته بأنّ كل التحديات التي مرَّ على ذكرها لن تؤثّر في مسرح متقدم متطور فنيًا وفكريًا، مرتبط بقضايا المجتمع، يعالجها ويضعها على بساط البحث أمام الجمهور، ويفتح فضاءات للحوار الذي ينطلق من الخشبة إلى الصالة متغلغلًا في ثنايا المجتمع، ومن الطبيعي القول: إنّ مسرحًا كهذا لا يمكن أن يرى النور في ظلِّ استمرار سيطرة العقليات والمعايير الرقابية القائمة في سورية. مبرزًا أنّ الآليات التي اعتمدها الرقيب عملت على تفريغ المسرح من محتواه الفني والفكري، بحيث استطاعت أن تحوّل المسرح إلى وجبة باردة، عسيرة الهضم، تربك المعدة والأمعاء على حدٍّ سواء.
أخيرًا، يُشار إلى أنّ مؤلف الكتاب ناصر ونوس حاصل على شهادة البكالوريوس في النقد المسرحي من المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق 1988.

عمل صحافيًا مستقلًا لعدد من الصحف والمجلات العربية، كما عمل محررًا في قسم الأخبار في تلفزيون “روسيا اليوم” ثم في تلفزيون “العالم”.

وهو ناقد سينمائي ومسرحي وإعلامي ترجم وألف العديد من الكتب، ومن أعماله تأليفًا وترجمةً: «المراجع المسرحية العربية والمعربة – ببليوغرافيا وشروحات»، حمص 1992.

وله في الترجمة: «الباب المفتوح – أفكار في المسرح والتمثيل»، تأليف بيتر بروك، دمشق: دار كنعان 2007. «صناعة الأفلام الوثائقية، دليل عملي للتخطيط والتصوير والمونتاج»، تأليف بارى هامب، مشروع كلمة للترجمة في أبوظبي، 2011.و«الإخراج السينمائي، تقنياته وجمالياته»، تأليف مايكل رابيجر،مشروع كلمة للترجمة في أبوظبي، 2018.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

(1) في وقت فراغي كنتُ أملأ الأوراق البيضاء بالحقول كان يبدو الفجر أقرب و السحاب يمرّ فوق الطرقات بلا خسائر..  وكان الماضي  يمتلئ  بالألوان. لا شيء مثل اللحظة حين لا تجد المسافة الكافية لتخترع أجنحة تكاد تنمو كزهرة برية.  بدأتُ أجمع صوتي من الريح و أفسّر...

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

تدريباتنا